الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
{وما كنت متخذ المضلين عضداً} فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضداً؟وتعالى الله الغني عن العالمين، ذو القوة المتين.. إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين لتتبعها واستئصالها. فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله، إنما يسلكون هذا المسلك توهماً منهم أن للشيطان علماً خفياً، وقوة خارقة. والشيطان مضل، والله يكره الضلال والمضلين. فلو أنه على سبيل الفرض والجدل كان متخذاً له مساعدين، لما اختارهم من المضلين!وهذا هو الظل الذي يراد أن يلقيه التعبير..ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين:{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً}.إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان. والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا.. وإنهم لفي ذهول ينسون انها الآخرة، فينادون. لكن الشركاء لا يجيبون! وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً في الموقف المرهوب. وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء.. إنها النار {وجعلنا بينهم موبقاً}.ويتطلع المجرمون، فتمتلئ نفوسهم بالخوف والهلع، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها. وما أشق توقع العذاب وهو حاضر، وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص:{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً}.ولقد كان لهم عنها مصرف، لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به، وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جيمع الأحوال:{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}..ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بانه {شيء} وأنه أكثر شيء جدلا. ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه، ويقلل من غروره، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة. وأنه أكثر هذه الخلائق جدلاً. بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل.ثم يعرض الشبهة التي تعلق بها من لم يؤمنوا وهم كثرة الناس على مدار الزمان والرسالات:{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً}..فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء.. ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك استبعاداً لوقوعه واستهزاء أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم. وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون!وليس هذا أو ذاك من شأن الرسل. فأخذ المكذبين بالهلاك كما جرت سنة الله في الأولين بعد مجيء الخوارق وتكذيبهم بها أو إرسال العذاب.. كله من أمر الله. أما الرسل فهم مبشرون ومنذرون:{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا}.والحق واضح. ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه. وهم حين يبطلون الخوارق، ويستعجلون بالعذاب لا يبتغون اقتناعاً، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر ويسخرون.{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً}..فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن، ولا أن ينتفعوا به.لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه. وقدر عليهم الضلال بسبب استهزائهم وإعراضهم فلن يهتدوا إذن ابداً. فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي.{وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب}..ولكن الله يمهلهم رحمة بهم، ويؤخر عنهم الهلاك الذي يستعجلون به، ولكنه لن يهملهم:{بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً}..موعد في الدنيا يحل بهم فيه شيء من العذاب. وموعد في الآخرة يوفون فيه الحساب.ولقد ظلموا فكانوا مستحقين للعذاب أو الهلاك كالقرى قبلهم. لولا أن الله قدر إمهالهم إلى موعدهم، لحكمة اقتضتها إرادته فيهم، فلم يأخذهم أخذ القرى؛ بل جعل لهم موعداً آخر لا يخلفونه:{وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً}..فلا يغرنهم إمهال الله لهم، فإن موعدهم بعد ذلك آت. وسنة الله لا تتخلف. والله لا يخلف الميعاد..
|