الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
.تفسير الآيات (8- 16): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا}: صدّقنا بالله {وباليوم الآخر}: أي يوم القيامة.قال الله تعالى: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} والناس: هم جماعة من الحيوان المتميّز بالصورة الإنسانية، وهو جمع إنسان، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنساناً؛ الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت: أنيسيان، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم: فقال ابن عباس: سمي إنساناً لأنه عُهِدَ إليه فنسي. قال الله تعالى {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]، وقال الشاعر:وقال بعض أهل المعاني: سُمّي إنساناً لظهوره وقدس البصير أياه من قولك: آنست كذا: أي أبصرت. فقال الله تعالى {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] وقيل: لأنه استانس به، وقيل: لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمّي إنساناً.{يُخَادِعُونَ الله}: أي يخالفون الله ويُكذّبونه، وأصل الخدع في اللغة: الإخفاء، ومنه قيل للبيت الذي يُحيا فيه المتاع مُخدع، والمخادع يظهر خلاف ما يُضمر، وقال بعضهم: أصل الخداع في لغة: الفساد، قال الشاعر: أي فسد.فيكون معناه: ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم، وقيل معناه: يخادعون الله بزعمهم وفي ظنّهم، يعني إنهم اجترؤوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون، وهذا كقوله تعالى: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] يعني بظنّك وعلى زعمك.وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل: معناه يخادعون رسوله، كقوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] أي أسخطونا، وقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] أي أولياء الله؛ لأن الله سبحانه لا يؤذي ولا يخادع، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبياً من أنبيائه وولياً من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه الخبر المروي: إن الله تعالى يقول: من آذى ولياً من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة.وقيل: إنّ ذكر الله سبحانه في قوله: {يُخَادِعُونَ الله} تحسين وتزيين لسامع الكلام، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة، وقد يكون أيضاً من واحد كقولك: طارقت النعل، وعاقبت اللصّ، وعافاك الله، قال الله عزّ وجلّ: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] وقال: {قَاتَلَهُمُ الله} [التوبة: 30] والمخادعة هاهنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع.{والذين آمَنُوا} أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنا، وهم غير مؤمنين، وقال بعضهم: من خداعهم المؤمنين: هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم.قال الله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ونفاقهم، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى.قال أهل الإشارة: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فإنّ مَنْ خادعه فإنما يخدع نفسه.واختلف القرّاء في قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ} فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء: {يخادعون} بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول، وقوله: {يُخَادِعُونَ الله} لم يختلفوا فيه إلاّ ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ: {يخدعون الله} وقرأ الباقون {وما يخدعون} على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد.{وَمَا يَشْعُرُونَ} وما يعلمون إنها كذلك.{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق، ومنه يُقال: فلان يمرض في الوعد إذا لم يُصححّه، وأصل المرض: الضّعف والفتور. فسمّي الشك في الدّين والنفاق مرض به يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت.{فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} شكّاً ونفاقاً وهلاكاً.{وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب: أي المسمع: يعني خيالها.{بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: (ما) مصدرية، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السرّ.وقرأ أهل الكوفة: بفتح الياء وتخفيف الذال، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.{وَإِذَا}: حرف توقيت بمعنى حينئذ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء، {قِيلَ}: فعل ماض مجهول، وكان في الأصل قول مثل قيل، فآستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياءاً لكسرة ما قبلها، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد.وقرأ الكسائي ويعقوب: قُيل، وغُيض، وحُيل، وسُيق، وجُيء، وشُيء وشُيت بإشمام الضمّة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة، وفاصلة بين الصّدر والمصدر.{لَهُمْ}: يعني المنافقين، وقيل: اليهود. قال لهم المؤمنون: {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن، وقال الضحّاك: تبديل الملّة وتغيير السّنة وتحريف كتاب الله.{قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {ألا}: كلمة تنبيه {إِنَّهُمْ}: هم عماد وتأكيد {المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ}: ما أُعدّ لهم من العذاب.{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يعني: قال المؤمنون لليهود: {آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس} وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.{قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء} الجهّال. قال الله: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} بأنهم كذلك، وقيل: لا يؤدون العلم حقّه، وقال المؤرّخ: السفيه: البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم.قُطْرُب: السفيه: العجول الظلوم يعمل خلاف الحق.واختلف القرّاء في قوله: {السفهآء ألا} فحقّق بعضهم الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم.وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية؛ طلباً للخفّة، واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز الثانية، واحتج بأن ما يستأنف أي بالهمزة مما يسكت عليه.{وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ}.قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أُبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقى سعداً قال: نعم الدينُ دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا: هل نكفر؟ قال: سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية.وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ محتجاً به، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عبد الله بن أُبيّ لأصحابه: أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السُّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والباذل نفسه وماله له. ثمَّ أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمَّ أخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: كف لله واتق الله ولا تنافق، فإنّ المنافقين شر خليقة الله، فقال له عبد الله: مهلا أبا الحسن إليّ تقول هذا، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصدّيقنا كتصديقكم ثمَّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلتُ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيراً، وقالوا: لانزال معك ما عشت، فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، فأنزل الله {وَإِذَا لَقُواْ} أي رأوا، يعني المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه، كان (لَقوا) في الأصل (لُقيوا) فإستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لإجتماعهما.وقرأ محمد بن السميقع: وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد.{الذين آمَنُواْ}: يعني أبا بكر وأصحابه {قالوا آمَنَّا} كأيمانكم. {وَإِذَا خَلَوْا} رجعوا، ويجوز أن تكون من الخلوة، تقول: خلوتُ به وخلوتُ إليه، وخلوتُ معهُ، كلها بمعنى واحد.وقال النضر بن شميل: {إلى} ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187]: أي مع نسائكم، وقوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وقوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52] النابغة: أي مع الناس.وقال آخر: أي مع جؤجؤ. {إلى شَيَاطِينِهِمْ}: أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم.قال ابن عباس: هم خمسة نفر من اليهود، ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان تابع له: كعب ابن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الله في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السَّوداء بالشام.والشيطان: المتمرد العاصي من الجن والإنس، ومن كل شيء، ومنه قيل: للحيّة النضناض: الشيطان، قال الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 65] أي الحيات، وتقول العرب: إتّق تلك الدابة فإنّها شيطان.وفي الحديث: «إذا مرَّ الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان».وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه نظر إلى رجل يتبع حماماً طائراً فقال: «شيطان يتبع شيطاناً».أراد الراعي الخبيث الداعي.ويُحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه: وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له: وأي الشياطين ركبك؟ قال: الغضب.وقال أبو النجم: {قالوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي على دينكم وأنصاركم.{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بمحمد وأصحابه.{الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء استهزائهم، فسُمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثلهُ في الصورة كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] فسُمّي جزاء السيئة سيئة.وقال عمرو بن كلثوم: وقال آخر: فسمّى الجزاء ظلماً.وقيل: معناه: الله يوبّخهم ويعرضهم ويُخطّيء فعلهم؛ لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل، كما يُقال: إنّ فلاناً يُستهزأ به منذ اليوم، أي يُعاب. قال الله {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء: 140] أي تُعاب، وقال أخباراً عن نوح عليه السلام: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].وقال الحسن: معناه: الله يُظهر المؤمنين على نفاقهم.وقال ابن عباس: هو أن الله يُطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبّون أن تدخلوا الجنة، فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم باب من الجنة، ويُقال لهم: ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سُدّ عليهم، وردّوا إلى النار ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى قوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34].الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدَّ الله فيها لأهلها من الكرامة، نودوا: أن اصرفوهم عنها. قال: ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون: يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله: هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أُذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي».وقيل: هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية.وهو قوله فيما بعد: {وَيَمُدُّهُمْ} يتركهم، ويمهلهم ويُطيل لهم، وأصله: الزيادة، ويُقال: مدّ النهر، ومدّة: زمن آخر.وقرأ ابن محيصن وشبل: {وَيُمِدُّهُمْ} بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عزّ وجلّ في المد: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79]، وقال في الإمداد: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55]، وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12].{فِي طُغْيَانِهِمْ} كفرهم وضلالتهم وجهالتهم، وأصل الطغيان: مجاوزة القدر، يُقال: ميزان فيه طغيان، أي مجاوزة للقدر في الإستواء. قال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء} [الحاقة: 11] أي جاوز حدّه الذي قدّر له، وقال لفرعون: {إِنَّهُ طغى} [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حينما قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24].{يَعْمَهُونَ} يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين.يُقال: عمه يعمه عمهاً وعموهاً، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائراً عن الحق. قال رؤبة: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}:قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهُدى، ومعناه: إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان، وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى والتجارة توسّعاً؛ لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الإستبدال والإختيار؛ وذلك أنّ كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، وقال الشاعر: أي اختار النصرانية على الإسلام.وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: {اشتروا الضلالة} بكسر الواو؛ لأنّ الجزم يُحرّك إلى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف الحركات.{فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ}: أي فما ربحوا في تجارتهم.تقول العرب: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك، ونمت في ليلك.قال الله عزّ وجلّ: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} [محمد: 21]، وقال: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33].قال الشاعر: وقال آخر: وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة: {فما ربحت تجاراتهم} بالجمع. {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}: من الضلالة، وقال: مصيبين في تجاراتهم.قال سفيان الثوري: كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} وقال: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].
|