الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة الحديث هل يؤخذ به دون أن ينظر فيه: قال محمد بن رشد: قوله إن من حدث بحديث أسنده إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس في سعة من الأخذ به حتى يصيب الحق في ذلك، يريد بأن يعلم أن العمل على ظاهر الحديث، إذ قد يكون منسوخا بحديث غيره أو يكون ظاهره مخالفا للأصول فيتأول على ما يوافق الأصول، أو يعارضه القياس أو يخالفه العمل المتصل، إذ لا يمكن أن يتصل العمل من السلف بخلاف الحديث المرفوع إلا وقد علموا النسخ فيه وقامت عندهم الحجة بتركه. وأما قوله ما الحق إلا واحد إلى آخر قوله، فيحتمل أن يعاد إلى ما سأله عنه من الأخذ بالحديث المروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أن ينظر فيه إذا كان العلماء قد قالوا بخلافه، فيكون قوله صحيحا لا اختلاف فيه، إذ لا يجوز لأحد أن يقول أنا آخذ بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان العلماء قد خالفوه ولم يأخذوا به؛ لأنهم لن يتركوه إلا لما هو أولى منه. وأما إن اختلف العلماء في الأخذ به لتقديمه على القياس وعمل أهل المدينة وفي تركه لتقديم القياس وعمل أهل المدينة عليه فاختلافهم فيه كاختلافهم من جهة النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه ولا إجماع. وقد اختلف هل كلهم مصيب عند الله؟ أو لا يدرى هل أصاب أحدهم الحق عند الله أو أخطؤوه جميعا. وقد تؤول القولان جميعا على مذهب مالك ورويا أيضا عن أبي حنيفة وعن أبي الحسن الأشعري، والصحيح عنه أن كل مجتهد مصيب، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، وعليه أصحاب الشافعي، وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم يعلم قطعا أنه متعبد بما أداه اجتهاده إليه من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمر الله تعالى بشيء وبتعبده به وهو خطأ عنده، وبالله التوفيق. .مسألة ما توقعه الأنصار من إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة: » قال محمد بن رشد: إنما لم يقم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة؛ لأنها الأرض التي هاجر منها لله عز وجل، فلم يكن ليرجع فيما قد تركه لله تعالى. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار،» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع: «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث» وبالله التوفيق. انتهى الجزء السابع والحمد لله. .كتاب الجامع الثامن: .ما روي أنه من أشراط الساعة: صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله كتاب الجامع الثامن فيما روي أنه من أشراط الساعة قال مالك: وحدثني عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال: سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس. قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله. .مسألة العبد يسأل الرجل ألا يشتريه: قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه يستحب ذلك له ولا يحكم عليه، كما أن العبد إذا سأل سيده أن يبيعه يستحب له أن يجيبه إلى ما سأله من بيعه إياه ولا يحكم عليه بذلك إذا لم يضر به في ملكه إياه، وبالله التوفيق. .مسألة وصية عمر من كان له رزق في شيء أن يلزمه: في وصية عمر من كان له رزق في شيء أن يلزمه قال: وقال مالك، قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذا كان لرجل في شيء رزق فليلزمه. قال مالك: يريد التجارات. قال محمد بن رشد: ما حض عمر على هذا، والله أعلم، إلا وقد خشي على من هيأ الله له رزقا في شيء فلم يعرف حق الله تعالى فيما هيأ له منه فتركه إلى غيره أن لا يجار له في ذلك. وما خشيه عمر فينبغي لكل مسلم أن يخشاه، فإنه كان ينطق بالحكمة. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه». وقد مضى هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة لدهن والمشط للعجائز: قال محمد بن رشد: إنما كان طاوس يفعل ذلك ويأمر العجائز به لئلا يظن أن ذلك لا يجوز لهن إذ قد انقطعت حاجة الرجال منهن، والنظافة من الدين، وإصلاح الشعر ودهنه من السنة. ذكر مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لي جمة أفأرجلها؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم وأكرمها» فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين لما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم وأكرمها. وعن عطاء بن يسار قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان». وبالله التوفيق. .مسألة ما أوصى به عمر بن عبد العزيز: قال محمد بن رشد: هذا، والله أعلم؛ لأنه قد كانت تقدمت وصيته بما كان أوصى به، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:- «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة» إذ لم يكن ممن يفرط فيما حض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه. وبالله التوفيق. .مسألة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قتلا في شهر واحد: قال محمد بن رشد: إعلام مالك بأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قتلا في شهر واحد يدل على أن معرفة سير الصحابة ومناقبهم وأسنانهم ووقت وفاتهم مما يستحب معرفته من العلوم. ولما كانا على وتيرة واحدة من الخير والدين والعدل والفضل اتفق قتلهما شهيدين في شهر واحد، فقتل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، وقيل لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر؟ وقتل عثمان بن عفان رَحِمَهُ اللَّهُ يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذي الحجة يوم التروية، وقيل لسبع عشرة ليلة خلت منه أو ثمان عشرة ليلة خلت منه، وقيل لليلتين بقيتا منه، سنة خمس وثلاثين، وبويع يوم السبت غرة المحرم سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بثلاثة أيام بإجماع الناس عليه، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياما. واختلف في سنه يوم قتل، فقيل كان ابن تسعين سنة، وقيل ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل ابن ست وثمانين سنة، وقيل ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل ابن ثمانين سنة، والله أعلم وبه التوفيق. .مسألة أثرة الأنصار بالتولية: قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصى بهم أن يعرف لهم حقهم فيحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وبالله التوفيق. .مسألة إتيان الأمراء: قال محمد بن رشد: إنما كان يرده إذا وافقه في شغل لا يقدر معه على ما يريد من الانفراد به وإكرامه، لا أنه كان يرده من غير عذر لقلة اهتباله به، بل لا شك في أنه كان عارفا بحقه. وقوله من يأت أبواب السلاطين يقم ويقعد، معناه أن هذا يعتريه لكثرة اشتغال السلاطين بما عصب بهم من أشغال المسلمين، وبالله التوفيق. .مسألة كراهية حلية الحديد للصبيان: قال محمد بن رشد: هذا منهي عنه؛ لأن الحديد حلية أهل النار في النار، وبالله التوفيق. .مسألة جواز تعليق الحرز عليهم: قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من إجازة تعليق الحرز وشبهه من الأحراز على أعناق الصبيان للزينة. وإنما اختلف في جواز تعليق الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله عز وجل وما هو معروف من ذكره وأسمائه للاستشفاء بها من المرض، أو في حال الصحة لدفع ما يتوقع من المرض والعين. فظاهر قول مالك في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال لا بأس بذلك للمرضى، وكرهه مخافة العين وما يتقى من المرض للأصحاء. وأما التمائم بغير أسماء الله عز وجل وبالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجوز بحال للمريض ولا للصحيح، لما جاء من أن من تعلق شيئا وكل إليه ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له. ومن أهل العلم من كره التمائم ولم يجز شيئا منها بحال ولا على حال، لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض ومنعها في خال الصحة لما يتقى منه أو من العين على ما روي عن عائشة أنها قالت: ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة، وبالله التوفيق. .مسألة تفقد عمر بن الخطاب لإبل الصدقة: قال محمد بن رشد: الناقة العشراء هي الناقة الحامل التي قد أتى على حملها عشرة أشهر، وهي لا تؤخذ في الصدقة، فالمعنى فيها أن أهلها طاعوا بها في الزكاة. ويحتمل أن تكون بقيت في إبل الصدقة حتى حملت، فقد مر على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم، فقال عمر ما هذه الشاة؟ فقالوا شاة من الصدقة، فقال عمر ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام. ولما كان أسلم يقوم على الصدقة ويتفقدها ويسير معها كان له أن يرتحل بعيرا منها، فنهى عمر بن الخطاب أن يرتحل خيارها، وأمره بارتحال الدون منها؛ لأن ذلك يكفيه، فليس له أكثر من ذلك، وبالله التوفيق. .مسألة الناس يستقيمون باستقامة أئمتهم: قال محمد بن رشد: هذا بين؛ لأن الأئمة إذا كانت مستقيمة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فاستقام الناس باستقامتهم؟ وإذا لم تكن مستقيمة لم تأمر بمعروف ولا نهت عن منكر، فعم الناس الفساد. وقد قال ابن مسعود: ما من عام إلا والذي بعده شر منه ولم تؤتوا إلا من قبل أمرائكم، وليس عبد الله أنا إن كذبت. وقال الله عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وبالله التوفيق. .مسألة ما يلزم الرجل من التثبت في أمره بأن يسأل من تثق به نفسه: قال محمد بن رشد: في المدونة أنه قال للذي سأله فقال له إن السلطان قد استشارني، أفترى أن أفعل؟: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل، وهي زيادة صحيحة بينة؛ لأنه هو أعرف بنفسه، فإذا لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رآه الناس أهلا لذلك. وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رأى هو نفسه أهلا للفتوى؛ لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك. وقد مضى هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة كراهة الشدة في الأمور والغلظة فيها: قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله. .مسألة ما يلزم الإمام من تفقد من يمر عليه: قال محمد بن رشد: في بعض الكتب: ورآه يقتله، والمعنى في هذا بين؛ لأنه يكره له أن يثقله لما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف». وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله». ولا يجوز له أن يثقل عليه تثقيلا يقتله به، وهو آثم إن فعله، وبالله التوفيق. .مسألة الشيء لا يستقيم على أصل غير مستقيم: قال محمد بن رشد: هذا أصل صحيح يصحب في كل شيء: من قاس على أصل فاسد لم يصح قياسه. ومن عمل على غير نية لم ينتفع بعمله، ومن نظر على غير اعتقاد صحيح لم يصح نظره، وبالله التوفيق. .مسألة اشتغال الإمام بأمور المسلمين عن التفقه: قال محمد بن رشد: معنى قول عمر هذا أنه أشفق من الاشتغال بأمور المسلمين عن التفقه، وخشي التقصير فيما اشتغل به من ذلك، فاستغفر الله تعالى منه، وبالله التوفيق. .مسألة كراهة الرفع في الأنساب: قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين، إذ لا يعلم شيء من هذه الأنساب البعيدة من وجه يوقن بصحته، فلا يأمن من حدث بشيء من ذلك من أن يحدث بكذب، وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن عمر بن عبد العزيز: قال محمد بن رشد: في هذا ما هو معلوم من ورع عمر وفضله وخوفه لله عز وجل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وبه التوفيق. .مسألة حلف ألا يشارك رجلا: قال محمد بن رشد: خشي عليه الحنث إذا كان أراد أن لا يعاونه مخافة أن يكون عمل عبيده له في اليوم الثاني أكثر من عمل عبيده له في اليوم الأول فقال لا أحب ذلك ولم يحققه عليه، إذ لم يعنه إلا بعدد ما أعانه به من العبيد، ولو أعانه بأكثر من عبيده لحقق عليه الحنث والله أعلم. ولو لم تكن له نية لم يجب عليه حنث، إذ ليس ما فعل بمشاركة، ولو شاركه في غير الشيء الذي حلف ألا يشاركه فيه لم يحنث أيضا إذا لم تكن له نية، وبالله التوفيق. .مسألة تواضع عمر بن الخطاب وسيرته وورعه: قال محمد بن رشد: لما كان الحمى إنما حماه لجميع المسلمين لم ير أن يسوغ ابنه شيئا منه دون جميع المسلمين امتثالا لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وبالله التوفيق. .مسألة للقاضي حقا على الناس كما لهم عليه حق: قال محمد بن رشد: هذا كما قال: فحق الناس على القاضي أن يعدل فيهم ولا يشح بذلك عليهم حتى يسألوه إياه، وحقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه فيما أمرهم به من الحق ويشكروه على ذلك، وبالله التوفيق. .مسألة قلة الإنصاف في الناس: قال محمد بن رشد: قال مالك: هذا لما اختبره من أخلاق الناس. وفائدة الإخبار به التنبيه على الذم له لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق حقه، وبالله التوفيق. .مسألة التثبت في الاجتهاد: قال محمد بن رشد: ما حض عمر عليه من هذا يلزم امتثاله، فلا ينبغي لمن استشير في شيء من أمور الدنيا أو سئل الجواب في نازلة من الفقه تحتاج إلى نظر أن يجيب في ذلك إلا بعد روية وتثبت، وإن أمكنه تبييت ذلك حتى يفكر في ذلك بالليل على فراشه إذا خلا سره فهو أحسن، وبالله التوفيق. .مسألة معنى النهي عن إضاعة المال: قال محمد بن رشد: الحديث بكراهة إضاعة المال هو حديث المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «إن الله يكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال». ومن إضاعة المال منعه من حقه ووضعه في غير حقه كما قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنه إذا حبسه ولم يؤد منه حقا ولا فعل فيه خيرا فقد أضاعه، إذ لا منفعة فيه على هذا الوجه في دنيا ولا أخرى، فكان كالعدم سواء، بل يزيد على العدم بالإثم في منعه من حقه. وكذلك إذا وضعه في غير حقه فقد أضاعه إذ أهلكه فيما لا أجر له فيه إن كان وضعه في سرف أو سفه، أو فيما عليه فيه وزر إن كان وضعه في فساد أو حرام. ونفقة المال على ستة أوجه، الثلاثة منها إضاعة له: أحدها نفقته في السرف، والثاني نفقته في السفه، والثالث نفقته في الحرام؛ والثلاثة منها ليست بإضاعة له، وهي نفقته في الواجب، ونفقته لوجه الله فيما ليس بواجب، ونفقته لوجوه الناس رغبة في اكتساب الثناء والمجد والشرف. فقد قال بعض الحكماء: وقد قيل في معنى كراهة إضاعته في الحديث أنه إهماله وترك المعاهدة له بالقيام عليه والإصلاح له حتى يضيع، كدار يتركها حتى تنهدم، أو كرم يتركه حتى يبطل أو حق له على رجل ملي بينه وبينه فيه حساب فيهمله حتى يضيع وما أشبه ذلك، وهذا أظهر ما قيل في معنى الحديث. ويحتمل أن يحمل على عمومه في هذا وفي إمساكه عن النفقة التي يؤجر في فعلها ولا يأثم في تركها، كصلة الرحم والصدقة المتطوع بها، وفي نفقته في الوجوه المكروهة كالسرف وشبهه. ويحمل قول مالك في تفسير الحديث: وهو منعه من حقه، أي من حقه الواجب عليه في مكارم الأخلاق كصلة الرحم وشبه ذلك؛ لأن منعه من الواجب لا يقال بأنه مكروه كما جاء في الحديث، وإنما هو محظور. وكذلك يحمل قوله: ووضعه في غير حقه أي في غير حقه من وجوه السرف والسفه، لا من الفساد والحرام؛ لأن وضع المال في الفساد والحرام لا يقال فيه إنه مكروه كما جاء في الحديث، وإنما هو محظور. وقيل في معنى النهي عن إضاعة المال إنه فيما ملكت يمينه من الرقيق والدواب أن ينفق عليهم ويحسن إليهم ولا يتركهم فيضيعون. والصواب أن ذلك ليس مما جاء في الحديث؛ لأن الحديث إنما جاء بلفظ الكراهة، والمكروه ما تركه خير من فعله، فيؤجر في تركه ولا يأثم في فعله. وترك الرجل النفقة على رقيقه ودوابه حتى يهلكوا ويضيعوا محظور وليس بمكروه؛ لأنه مسؤول عنهم، وبالله التوفيق.
|