الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الأم ***
وَلَيْسَ فِي التَّرَاجِمِ وَتَرْجَمَ فِيهِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: أَصْلُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ شَيْئَانِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقَانِ فَيَكُونُ مِنْهَا شَيْءٌ مُحَرَّمٌ نَصًّا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَيْءٌ مُحَرَّمٌ فِي جُمْلَةِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَارِجٌ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَمِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وَيَقُولُ: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} فَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} فَأَهْلُ التَّفْسِيرِ أَوْ مَنْ سَمِعْت مِنْهُ مِنْهُمْ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} يَعْنِي مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْخَبَائِثِ وَتُحِلُّ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَأُحِلَّتْ لَهُمْ الطَّيِّبَاتُ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْهَا وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثُ عِنْدَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ}. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ لاَ يَجُوزُ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ إلَّا مَا وَصَفْت مِنْ أَنْ تَكُونَ الْخَبَائِثُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ مَنْ خُوطِبَ بِهَا وَالطَّيِّبَاتُ كَذَلِكَ إمَّا فِي لِسَانِهَا وَإِمَّا فِي خَبَرٍ يَلْزَمُهَا وَلَوْ ذَهَبَ إلَى أَنْ يَقُولَ كُلُّ مَا حَرُمَ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ وَمَا لَمْ يَنُصَّ بِتَحْرِيمٍ فَهُوَ حَلاَلٌ أَحَلَّ أَكْلَ الْعَذِرَةِ وَالدُّودِ وَشُرْبِ الْبَوْلِ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُنَصَّ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَكِنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمُوا فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِمْ وَكَانَ هَذَا فِي شَرٍّ مِنْ حَالِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمُحَرَّمَيْنِ لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ يُنَجِّسَانِ مَا مَاسَّا وَقَدْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ غَيْرَ نَجِسَةٍ فَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ اللَّذَانِ لَمْ يَكُونَا قَطُّ إلَّا نَجِسَيْنِ أَوْلَى أَنْ يَحْرُمَا أَنْ يُؤْكَلاَ أَوْ يُشْرَبَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَفِيهِ كِفَايَةٌ مَعَ أَنَّ ثَمَّ دَلاَلَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ دَلَّ هَذَا عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ مَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ الطَّائِرِ وَالدَّوَابِّ كَمَا وَصَفْت دَلَّ هَذَا عَلَى أَنْ أَنْظُرَ إلَى كُلِّ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ فَيَكُونُ حَلاَلاً وَإِلَى مَا لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ فَيَكُونُ حَرَامًا فَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَأْكُلُ كَلْبًا وَلاَ ذِئْبًا وَلاَ أَسَدًا وَلاَ نَمِرًا وَتَأْكُلُ الضَّبُعَ فَالضَّبُعُ حَلاَلٌ وَيُجْزِيهَا الْمُحَرَّمُ بِخَبَرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا صَيْدٌ وَتُؤْكَلُ، وَلَمْ تَأْكُلْ الْفَأْرَ وَلاَ الْعَقَارِبَ وَلاَ الْحَيَّاتِ وَلاَ الْحِدَأَ وَلاَ الْغِرْبَانَ فَجَاءَتْ السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا وَإِحْلاَلِ مَا أَحَلُّوا وَإِبَاحَةِ أَنْ يُقْتَلَ فِي الْإِحْرَامِ مَا كَانَ غَيْرَ حَلاَلٍ أَنْ يُؤْكَلَ ثُمَّ هَذَا أَصْلُهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْكَلَ الرَّخَمُ وَلاَ الْبُغَاثُ وَلاَ الصُّقُورُ وَلاَ الصَّوَائِدُ مِنْ الطَّائِرِ كُلِّهِ مِثْلُ الشَّوَاهِينِ وَالْبُزَاةِ وَالْبَوَاشِقِ وَلاَ تُؤْكَلُ الْخَنَافِسُ وَلاَ الْجُعْلاَن وَلاَ الْعَظَاءُ وَلاَ اللُّحَكَاءُ وَلاَ الْعَنْكَبُوتُ وَلاَ الزَّنَابِيرُ وَلاَ كُلُّ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ لاَ تَأْكُلُهُ. وَيُؤْكَلُ الضَّبُّ وَالْأَرْنَبُ وَالْوَبْرُ وَحِمَارُ الْوَحْشِ وَكُلُّ مَا أَكَلَتْهُ الْعَرَبُ أَوْ فَدَاهُ الْمُحْرِمُ فِي سُنَّةٍ أَوْ أَثَرٍ، وَتُؤْكَلُ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ وَعَبْدُ الْمَجِيدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الضَّبُعِ: أَصَيْدٌ هِيَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قُلْت أَتُؤْكَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا يُبَاعُ لَحْمُ الضِّبَاعِ بِمَكَّةَ إلَّا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ لاَ يَكُونُ إلَّا مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إلَّا فِي ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ مِنْ السِّبَاعِ الْأَسَدُ وَالذِّئَابُ وَالنُّمُورُ فَأَمَّا الضَّبُعُ فَلاَ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبُ وَيُؤْكَلُ الْيَرْبُوعُ وَالْقُنْفُذُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ عَلَى أُصُولِهَا، فَمَا كَانَ مِنْهَا أَصْلُهُ وَحْشِيًّا وَاسْتُؤْنِسَ فَهُوَ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَيَحْرُمُ كَالْوَحْشِ وَذَلِكَ مِثْلُ حِمَارِ الْوَحْشِ وَالظَّبْيِ يُسْتَأْنَسَانِ وَالْحِمَارُ يُسْتَأْنَسُ فَلاَ يَكُونُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَيَحِلُّ أَنْ يَذْبَحَ حِمَارَ الْوَحْشِ الْمُسْتَأْنَسِ فَيُؤْكَلُ وَمَا كَانَ لاَ أَصْلَ لَهُ فِي الْوَحْشِ، مِثْلُ الدَّجَاجِ، وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ. فَتَوَحَّشَتْ فَقَتَلَهَا الْمُحْرِمُ، لَمْ يُجِزْهَا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِلْمَالِكِ، إنْ كَانَ لَهَا، لِأَنَّا صَيَّرْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى أُصُولِهَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فِي الْوَحْشِ بَقَرٌ وَظِبَاءٌ مِثْلُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، تُخْلَقُ غَيْرَ خَلْقِ الْأَهْلِيَّةِ، شَبَهًا لَهَا مَعْرُوفَةً مِنْهَا. وَلَوْ أَنَّا زَعَمْنَا أَنَّ حِمَارَ الْوَحْشِ إذَا تَأَهَّلَ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ، دَخَلَ عَلَيْنَا أَنْ لَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ لَمْ يُجِزْهُ. كَمَا لَوْ قَتَلَ حِمَارًا أَهْلِيًّا لَمْ يُجِزْهُ، وَدَخَلَ عَلَيْنَا فِي الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ أَنْ لَوْ تَوَحَّشَ كَانَ حَلاَلاً، وَكُلُّ مَا تَوَحَّشَ مِنْ الْأَهْلِيِّ، فِي حُكْمِ الْوَحْشِيِّ، وَمَا اُسْتُؤْنِسَ مِنْ الْوَحْشِيِّ، فِي حُكْمِ الْإِنْسِيِّ: فَأَمَّا الْإِبِلُ الَّتِي أَكْثَرُ عَلَفِهَا الْعَذِرَةُ الْيَابِسَةُ، فَكُلُّ مَا صَنَعَ هَذَا مِنْ الدَّوَابِّ الَّتِي تُؤْكَلُ، فَهِيَ جَلَّالَةٌ، وَأَرْوَاحُ الْعَذِرَةِ تُوجَدُ فِي عِرْقِهَا وَجِرَارِهَا، لِأَنَّ لُحُومَهَا تَغْتَذِي بِهَا فَتَقْلِبُهَا. وَمَا كَانَ مِنْ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، أَكْثَرُ عَلَفِهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا، وَكَانَ يَنَالُ هَذَا قَلِيلاً، فَلاَ يَبِينُ فِي عِرْقِهِ وَلاَ جُرُرِهِ، لِأَنَّ اغْتِذَاءَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ بِجَلَّالٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَالْجَلَّالَةُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُحُومِهَا حَتَّى تُعْلَفَ عَلَفًا غَيْرَهُ مَا تَصِيرُ بِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ عِرْقُهَا وَجُرُرُهَا مُنْقَلِبًا عَمَّا كَانَتْ تَكُونُ عَلَيْهِ فَيُعْلَمُ أَنَّ اغْتِذَاءَهَا قَدْ انْقَلَبَ، فَانْقَلَبَ عِرْقُهَا وَجُرُرُهَا فَتُؤْكَلُ إذَا كَانَتْ هَكَذَا. وَلاَ تَجِدُ شَيْئًا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَجِدَهُ فِيهَا كُلِّهَا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ الْبَعِيرَ يُعْلَفُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَالشَّاةُ عَدَدًا أَقَلَّ مِنْ هَذَا، وَالدَّجَاجَةُ سَبْعًا. وَكُلُّهُمْ فِيمَا يُرَى إنَّمَا أَرَادَ الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْت، مِنْ تَغَيُّرِهَا مِنْ الطِّبَاعِ الْمَكْرُوهَةِ، إلَى الطِّبَاعِ غَيْرِ الْمَكْرُوهَةِ، الَّتِي هِيَ فِي فِطْرَةِ الدَّوَابِّ.
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} الآيَةَ. وَقَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إلَى قَوْلِهِ لَصَادِقُونَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَوَايَا مَا حَوَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي الْبَطْنِ، فَلَمْ يَزَلْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ- الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَغَيْرِهِمْ عَامَّةً- مُحَرَّمًا مِنْ حِينِ حَرَّمَهُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَضَ الْإِيمَانَ بِهِ، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَأَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَتُهُ، وَأَنَّ دِينَهُ الْإِسْلاَمُ الَّذِي نَسَخَ بِهِ كُلَّ دِينٍ كَانَ قَبْلَهُ. وَجَعَلَ مَنْ أَدْرَكَهُ وَعَلِمَ دِينَهُ فَلَمْ يَتَّبِعْهُ كَافِرًا بِهِ فَقَالَ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ} فَكَانَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَنْزَلَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {مُسْلِمُونَ} وَأُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فَقِيلَ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَوْزَارَهُمْ وَمَا مَنَعُوا بِمَا أَحْدَثُوا قَبْلَ مَا شُرِعَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَبْقَ خَلْقٌ يَعْقِلُ- مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابِيٌّ وَلاَ وَثَنِيٌّ وَلاَ حَيٌّ ذُو رُوحٍ، مِنْ جِنٍّ وَلاَ إنْسٍ- بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ دِينِهِ، وَكَانَ مُؤْمِنًا بِاتِّبَاعِهِ وَكَافِرًا بِتَرْكِ اتِّبَاعِهِ، وَلَزِمَ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ آمَنَ بِهِ أَوْ كَفَرَ، تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمِلَلِ وَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ وَصَفَ ذَبَائِحَهُمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا شَيْئًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَحْرُمَ مِنْهَا ذَبِيحَةُ كِتَابِيٍّ وَفِي الذَّبِيحَةِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مِمَّا كَانَ حَرُمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى مِنْ شَحْمِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَهَا كِتَابِيٌّ لِنَفْسِهِ وَأَبَاحَهَا لِمُسْلِمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ شَحْمِ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ مِنْهَا شَيْءٌ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَلاَلاً مِنْ جِهَةِ الذَّكَاةِ لِأَحَدٍ، حَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبَاحَ مَا ذَكَرَ عَامًّا لاَ خَاصًّا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يَحْرُمُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الشُّحُومِ وَغَيْرِهَا إذَا لَمْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ نُسِخَ مَا خَالَفَ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينِهِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ، إنْ كَانَتْ الْخَمْرُ حَلاَلاً لَهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ، إذْ حُرِّمَتْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَشْيَاءَ أَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ. كَانُوا يَتْرُكُونَهَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَالْعِتْقِ، فَيُحَرِّمُونَ أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا وَمِلْكَهَا، وَقَدْ فَسَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} وَقَالَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يَذْكُرُ مَا حَرَّمُوا: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الآيَةَ. وَقَالَ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الآيَةَ. وَالْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَنَّهُ لاَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمُوا. وَيُقَالُ: نَزَلَتْ فِيهِمْ: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} فَرَدَّ إلَيْهِمْ مَا أَخْرَجُوا مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمُوا بِتَحْرِيمِهِمْ. وَقَالَ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْمَيْتَةِ. وَيُقَالُ: أُنْزِلَ فِي ذَلِكَ: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قِيلَ يَعْنِي: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} أَيْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إلَّا مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ ذَبِيحَةُ كَافِرٍ. وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ مَعَهَا وَقَدْ قِيلَ: مَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ إلَّا كَذَا. وَقَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مِثْلِ مَعْنَى الآيَةِ قَبْلَهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} فَيُقَالُ يُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ عِنْدَهُمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ عِنْدَهُمْ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} وَكَانَ الصَّيْدُ مَا امْتَنَعَ بِالتَّوَحُّشِ كُلُّهُ، وَكَانَتْ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ صَيْدٍ، وَهُوَ يُجْزِي بَعْضَ الصَّيْدِ دُونَ بَعْضٍ. فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مِنْ الصَّيْدِ شَيْئًا لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ كُلُّ مَا يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّيْدِ شَيْءٌ يَتَفَرَّقُ إلَّا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إمَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ أَكْلُهُ وَلاَ يَفْدِيَ مَا لاَ يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَهَذَا أَوْلَى مَعْنَيَيْهِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصِيدُونَ لِيَأْكُلُوا، لاَ لِيَقْتُلُوا، وَهُوَ يُشْبِهُ دَلاَلَةَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَقَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إبَاحَةَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ وَمَتَاعًا لَهُ، يَعْنِي طَعَامًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ حَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ فَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ مَا كَانَ أَكْلُهُ مُبَاحًا لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ الْغُرَابَ، وَالْحِدَأَةَ. وَالْفَأْرَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْأَسَدَ، وَالنَّمِرَ، وَالذِّئْبَ الَّذِي يَعْدُو عَلَى النَّاسِ، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَكْلِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، فَكَانَ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ مَعَهَا، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ لِإِبَاحَتِهِ مَعَهَا، وَأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ ضَرَرُهَا، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَ الضَّبُعِ، وَهُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالْفَأْرَةِ أَضْعَافًا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ مَا ضَرَّ، وَلاَ يَقْتُلَ مَا لاَ يَضُرُّ، وَيَفْدِيهِ إنْ قَتَلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَاهُ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَلَّ أَكْلَ لَحْمِ الضَّبُعِ، وَأَنَّ السَّلَفَ وَالْعَامَّةَ عِنْدَهُمْ فَدَوْهَا. وَهِيَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالْفَأْرِ. وَكُلُّ مَا لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَكَانَتْ تَدَعُهُ عَلَى التَّقَذُّرِ بِهِ مُحَرَّمٌ وَذَلِكَ مِثْلُ الْحِدَأِ. وَالْبُغَاثِ. وَالْعُقْبَانِ. وَالْبُزَاةِ. وَالرَّخَمِ. وَالْفَأْرَةِ. وَاللُّحَكَاءِ. وَالْخَنَافِسِ. وَالْجِعْلاَنِ. وَالْعَظَاءِ. وَالْعَقَارِبِ. وَالْحَيَّاتِ. وَالذَّرِّ. وَالذِّبَّانِ. وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. وَكُلُّ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا نَصَّ تَحْرِيمَهُ. أَوْ يَكُونُ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلاَلَةٌ. فَهُوَ حَلاَلٌ. كَالْيَرْبُوعِ. وَالضَّبُعِ. وَالثَّعْلَبِ. وَالضَّبِّ وَمَا كَانَتْ لاَ تَأْكُلُهُ. وَلَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهُ مِثْلُ الْبَوْلِ. وَالْخَمْرِ. وَالدُّودِ. وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَعِلْمُ هَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَهَا إلَى الْيَوْمِ. وَكُلُّ مَا قُلْت: حَلاَلٌ. حَلَّ ثَمَنُهُ. وَيَحِلُّ بِالذَّكَاةِ. وَكُلُّ مَا قُلْت حَرَامٌ. حَرُمَ ثَمَنُهُ وَلَمْ يَحِلَّ بِالذَّكَاةِ وَلاَ يَجُوزُ أَكْلُ التِّرْيَاقِ الْمَعْمُولِ بِلُحُومِ الْحَيَّاتِ. إلَّا أَنْ يَجُوزَ فِي حَالِ ضَرُورَةٍ. وَحَيْثُ تَجُوزُ الْمَيْتَةُ. وَلاَ تَجُوزُ مَيْتَةٌ بِحَالٍ.
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَالَ الْمَرْأَةِ مَمْنُوعٌ مِنْ زَوْجِهَا الْوَاجِبُ الْحَقُّ عَلَيْهَا إلَّا بِطِيبِ نَفْسِهَا وَأَبَاحَهُ بِطِيبِ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِمَالِهَا، مَمْنُوعٌ بِمِلْكِهَا، مُبَاحٌ بِطِيبِ نَفْسِهَا كَمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ، وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَالِكًا فَمَالُهُ مَمْنُوعٌ بِهِ مُحَرَّمٌ إلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ بِإِبَاحَتِهِ، فَيَكُونُ مُبَاحًا بِإِبَاحَةِ مَالِكِهِ لَهُ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ سُلْطَانَ الْمَرْأَةِ عَلَى مَالِهَا، كَسُلْطَانِ الرَّجُلِ عَلَى مَالِهِ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ وَجَمَعَتْ الرُّشْدَ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} يَدُلُّ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- إذَا لَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الْيَتَامَى، عَلَى أَنَّ طِيبَ نَفْسِ الْيَتِيمِ لاَ يُحِلُّ أَكْلَ مَالِهِ، وَالْيَتِيمُ وَالْيَتِيمَةُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ، مُخَلًّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، فَمَا حَلَّ لَهُ فَأُحِلُّهُ لِغَيْرِهِ، حِلٌّ، أَوْ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ، فَمَا أَبَاحَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ أَبَاحَهُ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى إبَاحَتِهِ لَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ لِلْحَجْرِ فِي الْقُرْآنِ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} الآيَةَ. أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَحْلُبَن أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ فَيُنْتَقَلَ مَتَاعُهُ؟» وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ لاَ يَثْبُتُ مِثْلُهُ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْحَائِطَ فَلْيَأْكُلْ وَلاَ يَتَّخِذْ خُبْنَةً». وَمَا لاَ يَثْبُتُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَلَبَنُ الْمَاشِيَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا. فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ هَكَذَا مِنْ ثَمَرِ الْحَائِطِ، لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّبَنَ يُسْتَخْلَفُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَاَلَّذِي يَعْرِفُ النَّاسُ أَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ مِنْهُ وَيُوجِبُونَ مِنْ بَذْلِهِ مَا لاَ يَبْذُلُونَ مِنْ الثَّمَرِ، وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا بِهِ، وَلَمْ نُخَالِفْهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَصْلُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَالِكٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ. أَوْ أَحَلَّهُ مَالِكُهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، حَلاَلٌ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُحَرَّمَ وَيُحَرَّمَ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَكَانَ فِي مَعْنَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ يَحْرُمُ بِمَالِكِهِ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهِ مَالِكُهُ؟ فَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآيَةَ. وَقَالَ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} إلَى قَوْلِهِ: {هَنِيئًا مَرِيئًا} مَعَ آيٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَظَرَ فِيهَا أَمْوَالَ النَّاسِ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، إلَّا بِمَا فُرِضَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَتْ بِهِ حُجَّةٌ. قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يَحْلُبَن أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ؟» فَأَبَانَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَا كَانَ مِلْكًا لِآدَمِيٍّ لَمْ يَحِلَّ بِحَالٍ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَبَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْحَلاَلَ حَلاَلاً بِوَجْهٍ، حَرَامًا بِوَجْهٍ آخَرَ، وَأَبَانَتْهُ السُّنَّةُ، فَإِذَا مَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالَ الْمَرْأَةِ إلَّا بِطِيبِ نَفْسِهَا، وَاسْمُ الْمَالِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَفِي ذَلِكَ مَعْنَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّبَنِ الَّذِي تَخِفُّ مُؤْنَتُهُ عَلَى مَالِكِهِ، وَيُسْتَخْلَفُ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَحَرُمَ الْأَقَلُّ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ كَانَ الْأَكْثَرُ مِثْلَ الْأَقَلِّ أَوْ أَعْظَمَ تَحْرِيمًا بِقَدْرِ عِظَمِهِ، عَلَى مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ. وَمِثْلُ هَذَا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَوَارِيثِ بَعْدَ مَوْتِ مَالِكِ الْمَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِقَرِيبٍ أَنْ يَرِثَ الْمَالَ الَّذِي قَدْ صَارَ مَالِكُهُ غَيْرَ مَالِكٍ إلَّا بِمَا مَلَكَ، كَانَ لاََنْ يَأْخُذَ مَالَ حَيٍّ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ، أَوْ مَيِّتٍ بِغَيْرِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ، أَبْعَدَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالْأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ بِمَالِكِهَا، مَمْنُوعَةٌ إلَّا بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَلَزِمَ خَلْقَهُ بِفَرْضِهِ، طَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ مِمَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، طَاعَةٌ بِمَا أَوْجَبَ فِي أَمْوَالِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَطِبْ، مِنْ الزَّكَاةِ وَمَا لَزِمَهُمْ بِإِحْدَاثِهِمْ وَإِحْدَاثِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ سَنَّ مِنْهُمْ أَخْذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَزِمٌ بِفَرْضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ مِثْلُ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ، فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ تَطِبْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَوْضُوعٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ، وَلَوْلاَ الِاسْتِغْنَاءُ بِعِلْمِ الْعَامَّةِ بِمَا وَصَفْنَا فِي هَذَا لاََوْضَحْنَا مِنْ تَفْسِيرِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَتَبْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَنْ أَمَرَ لِرَجُلٍ بِزَرْعٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ كِتَابٌ وَلاَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِإِبَاحَتِهِ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ بِمَالِكِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قِيلَ مَنْ مَرَّ بِحَائِطٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلاَ يَتَّخِذَ خُبْنَةً، وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ، لَوْ كَانَ يَثْبُتُ مِثْلُهُ عِنْدَنَا، لَمْ نُخَالِفْهُ. وَالْكِتَابُ وَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَكْلُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَلَوْ اُضْطُرَّ رَجُلٌ فَخَافَ الْمَوْتَ ثُمَّ مَرَّ بِطَعَامٍ لِرَجُلٍ، لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، مَا يَرُدُّ مِنْ جُوعِهِ، وَيَغْرَمُ لَهُ ثَمَنَهُ، وَلَمْ أَرَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَضْلاً مِنْ طَعَامٍ عِنْدَهُ، وَخِفْت أَنْ يَضِيقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، إذَا خَافَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ الْقَتْلَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَصْلُ مَا يَمْلِكُ النَّاسُ مِمَّا يَكُونُ مَأْكُولاً وَمَشْرُوبًا، شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا، مَا فِيهِ رُوحٌ، وَذَلِكَ الَّذِي فِيهِ مُحَرَّمٌ وَحَلاَلٌ، وَمِنْهُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حَلاَلٌ، إذَا كَانَ بِحَالِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ الْآدَمِيُّونَ لَمْ يُحْدِثُوا فِيهِ صَنْعَةً خَلَطُوهُ بِمُحَرَّمٍ، أَوْ اتَّخَذُوهُ مُسْكِرًا، فَإِنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَمَا كَانَ مِنْهُ سُمًّا يَقْتُلُ رَأَيْته مُحَرَّمًا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، حَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ. ثُمَّ قَتْلَهُمْ أَنْفُسَهُمْ خَاصَّةً، وَمَا كَانَ مِنْهُ خَبِيثًا قَذِرًا فَقَدْ تَرَكَتْهُ الْعَرَبُ تَحْرِيمًا لَهُ بِقَذَرِهِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، مَا كَانَ نَجِسًا. وَمَا عَرَفَهُ النَّاسُ سُمًّا يَقْتُلُ، خِفْت أَنْ لاَ يَكُونَ لِأَحَدٍ رُخْصَةٌ فِي شُرْبِهِ، لِدَوَاءٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَأَكْرَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، خَلَطَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَخْلِطْهُ. وَأَخَافُ مِنْهُ عَلَى شَارِبِهِ وَسَاقِيهِ، أَنْ يَكُونَ قَاتِلاً نَفْسَهُ وَمَنْ سَقَاهُ. وَقَدْ قِيلَ: يَحْرُمُ الْكَثِيرُ الْبَحْتُ مِنْهُ، وَيَحِلُّ الْقَلِيلُ الَّذِي الْأَغْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَنْفَعَ وَلاَ يَبْلُغَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلاً، وَقَدْ سَمِعْت بِمَنْ مَاتَ مِنْ قَلِيلٍ، قَدْ بَرَأَ مِنْهُ غَيْرُهُ، فَلاَ أُحِبُّهُ، وَلاَ أُرَخِّصُ فِيهِ بِحَالٍ، وَقَدْ يُقَاسُ بِكَثِيرِ السُّمِّ، وَلاَ يَمْنَعُ هَذَا أَنْ يَكُونَ يَحْرُمُ شُرْبُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَاحْتَمَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} إحْلاَلَهَا دُونَ مَا سِوَاهَا، وَاحْتَمَلَ إحْلاَلَهَا بِغَيْرِ حَظْرِ مَا سِوَاهَا. وَاحْتَمَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَقَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَمَا أَشْبَهَ هَؤُلاَءِ الْآيَاتِ، أَنْ يَكُونَ أَبَاحَ كُلَّ مَأْكُولٍ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهُ فِي كِتَابِهِ نَصًّا، وَاحْتَمَلَ كُلَّ مَأْكُولٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهُ بِعَيْنِهِ نَصًّا أَوْ تَحْرِيمُهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْرُمُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَتَحْلِيلُ الْكِتَابِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالِانْتِهَاءِ إلَى أَمْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ إنَّمَا حَرُمَ بِالْكِتَابِ فِي الْوَجْهَيْنِ. فَلَمَّا احْتَمَلَ أَمْرَ هَذِهِ الْمَعَانِي، كَانَ أَوْلاَهَا بِنَا، الِاسْتِدْلاَلَ عَلَى مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ سُنَّةٍ تُعْرِبُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَمْرٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ أَنْ يَجْهَلُوا لِلَّهِ حَرَامًا وَلاَ حَلاَلاً إنَّمَا يُمْكِنُ فِي بَعْضِهِمْ، وَأَمَّا فِي عَامَّتِهِمْ فَلاَ، وَقَدْ وَضَعْنَا هَذَا مَوَاضِعَهُ عَلَى التَّصْنِيفِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَصْلُ التَّحْرِيمِ، نَصُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ جُمْلَةُ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الآيَةَ. وَإِنَّمَا تَكُونُ الطَّيِّبَاتُ وَالْخَبَائِثُ عِنْدَ الْآكِلِينَ كَانُوا لَهَا، وَهُمْ الْعَرَبُ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ هَذَا، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْأَحْكَامُ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ مِنْ خَبِيثِ الْمَآكِلِ مَا لاَ يَكْرَهُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَسَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآيَةَ يَعْنِي مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ. فِي الْآيِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْت. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ: أَرَأَيْت لَوْ زَعَمْنَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُبَاحَةٌ إلَّا مَا جَاءَ فِيهِ نَصُّ خَبَرٍ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَمَّا زَعْمُنَا أَنَّ أَكْلَ الدُّودِ وَالذِّبَّانِ وَالْمُخَاطِ وَالنُّخَامَةِ وَالْخَنَافِسِ وَاللُّحَكَاءِ وَالْعَظَاءِ وَالْجِعْلاَنِ وَخُشَاشِ الْأَرْضِ وَالرَّخَمِ وَالْعُقْبَانِ وَالْبُغَاثِ وَالْغِرْبَانِ وَالْحِدَأِ وَالْفَأْرِ، وَمَا فِي مِثْلِ حَالِهَا، حَلاَلٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا؟ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَكَانَ شَيْئَانِ حَلاَلَيْنِ، فَأَثْبَتَ تَحْلِيلَ أَحَدِهِمَا؟ وَهُوَ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ؟ وَطَعَامُهُ مَالِحُهُ. وَكُلُّ مَا فِيهِ مَتَاعٌ لَهُمْ يَسْتَمْتِعُونَ بِأَكْلِهِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدُ الْبَرِّ أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِأَكْلِهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا مَا كَانَ حَلاَلاً لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَقَتْلِ الْحَيَّاتِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُحُومَ هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَاخِلاً فِي جُمْلَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قَتَلَهُ مِنْ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، لَمْ يُحِلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ، وَدَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لاَ تَأْكُلُ مِمَّا أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ فِي الْإِحْرَامِ شَيْئًا. قال: فَكُلُّ مَا سُئِلْتَ عَنْهُ، مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ تَحْرِيمٍ وَلاَ تَحْلِيلٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ فَانْظُرْ هَلْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ، فَإِنْ كَانَتْ تَأْكُلُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصُّ تَحْرِيمٍ، فَأَحِلَّهُ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْحَلاَلِ وَالطَّيِّبَاتِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحِلُّونَ مَا يَسْتَطِيبُونَ. وَمَا لَمْ تَكُنْ تَأْكُلُهُ، تَحْرِيمًا لَهُ بِاسْتِقْذَارِهِ فَحَرِّمْهُ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ، خَارِجٌ مِنْ مَعْنَى مَا أُحِلَّ لَهُمْ، مِمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ، وَدَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَأَثْبَتَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَسْت أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ سَأَلْته مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْمَكِّيِّينَ خِلاَفًا. وَجُمْلَةُ هَذَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ مِمَّا حَرَّمَتْ الْعَرَبُ عَلَى أَنْفُسِهَا مِمَّا لَيْسَ دَاخِلاً فِي مَعْنَى الطَّيِّبَاتِ، وَإِنْ كُنْت لاَ أَحْفَظُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ. وَفِي تَتَابُعِ مَنْ حَفِظْت عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حُجَّةٌ. وَلَوْلاَ الِاخْتِصَارُ لاََوْضَحْته بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَسَيَمُرُّ فِي تَفَارِيقِ الْأَبْوَابِ إيضَاحٌ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الرَّبِيعُ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ». قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَقُولُ. قَالَ الرَّبِيعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّمَا يَحْرُمُ كُلُّ ذِي نَابٍ يَعْدُو بِنَابِهِ. الْخِلاَفُ وَالْمُوَافَقَةُ فِي أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَتَفْسِيرُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: قَالَ لِي بَعْضُ مَنْ يُوَافِقُنَا فِي تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ مَا لِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ لاَ تُحَرِّمُهُ دُونَ مَا خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ؟ قُلْت لَهُ الْعِلْمُ يُحِيطُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَصَدَ قَصَدَ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْ السِّبَاعِ مَوْصُوفًا. فَإِنَّمَا قَصَدَ قَصْدَ تَحْرِيمِ بَعْضِ السِّبَاعِ دُونَ بَعْضِ السِّبَاعِ، كَمَا لَوْ قُلْت قَدْ أَوْصَيْت لِكُلِّ شَابٍّ بِمَكَّةَ أَوْ لِكُلِّ شَيْخٍ بِمَكَّةَ. أَوْ لِكُلِّ حَسَنِ الْوَجْهِ بِمَكَّةَ، كُنْت قَدْ قَصَدْت بِالْوَصِيَّةِ قَصْدَ صِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ. وَأَخْرَجْت مِنْ الْوَصِيَّةِ مَنْ لَمْ تَصِفْ أَنَّ لَهُ وَصِيَّتَك. قَالَ: أَجَلْ. وَلَوْلاَ أَنَّهُ خَصَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ. لَكَانَ أَجْمَعَ وَأَقْرَبَ. وَلَكِنَّهُ خَصَّ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ بِالتَّحْرِيمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْت لَهُ: هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ الْأُولَى مِنْ عِلْمِ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ. فَسَلْ عَنْ الثَّانِيَةِ. قَالَ: هَلْ مِنْهَا شَيْءٌ مَخْلُوقٌ لَهُ نَابٌ وَشَيْءٌ مَخْلُوقٌ لاَ نَابَ لَهُ؟ قُلْت: مَا عَلِمْته، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَخْتَلِفُ. فَتَكُونُ الْأَنْيَابُ لِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهَا؟ قُلْت: لاَ مَعْنَى فِي خَلْقِ الْأَنْيَابِ فِي تَحْلِيلٍ وَلاَ تَحْرِيمٍ. لِأَنِّي لاَ أَجِدُ إذَا كَانَتْ فِي خَلْقِ الْأَنْيَابِ سَوَاءً شَيْئًا أَنْفِيه خَارِجًا مِنْ التَّحْرِيمِ. وَلاَ بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ بَعْضِهَا مِنْ التَّحْرِيمِ إذَا كَانَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخْرَاجُهُ. قَالَ: أَجَلْ. هَذَا كَمَا وَصَفْت. وَلَكِنْ مَا أَرَدْت بِهَذَا؟ قُلْت: أَرَدْت أَنْ يَذْهَبَ غَلَطُك إلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ فِي خَلْقِ الْأَنْيَابِ. قَالَ: فَفِيمَ؟ قُلْت: فِي مَعْنَاهُ دُونَ خَلْقِهِ. فَسَلْ عَنْ النَّابِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ عِلْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ. قَالَ: فَاذْكُرْهُ أَنْتَ، قُلْت: كُلُّ مَا كَانَ يَعْدُو مِنْهَا عَلَى النَّاسِ بِقُوَّةٍ وَمُكَابَرَةٍ فِي نَفْسِهِ بِنَابِهِ. دُونَ مَا لاَ يَعْدُو. قَالَ: وَمِنْهَا مَا لاَ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ بِمُكَابَرَةٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْهَا؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَاذْكُرْ مَا يَعْدُو. قُلْت: يَعْدُو الْأَسَدُ وَالنَّمِرُ وَالذِّئْبُ. قَالَ: فَاذْكُرْ مَا لاَ يَعْدُو مُكَابَرَةً عَلَى النَّاسِ. قُلْت الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ: فَلاَ مَعْنَى لَهُ غَيْرُ مَا وَصَفْت؟ قُلْت: وَهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَخْلُوقٌ لَهُ نَابٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْت لَهُ: سَأَزِيدُك فِي تَبْيِينِهِ. قَالَ: مَا أَحْتَاجُ بَعْدَمَا وَصَفْت إلَى زِيَادَةٍ. وَلَقَلَّمَا يُمْكِنُ إيضَاحُ شَيْءٍ إمْكَانَ هَذَا قُلْت: أُوَضِّحُهُ لَك وَلِغَيْرِك مِمَّنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ مَا فَهِمْت أَوْ أُفْهِمُهُ فَذَهَبَ إلَى غَيْرِهِ. قَالَ: فَاذْكُرْهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلُحُومُ الضِّبَاعِ تُبَاعُ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لاَ أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلاَفًا فِي إحْلاَلِهَا وَفِي مَسْأَلَةِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ جَابِرًا، أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَسَأَلْته أَتُؤْكَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلْته: أَسَمِعْته مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِهِ، مَا كَانَ يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ الصَّيْدِ. وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَقْتُلُونَ الصَّيْدَ لِيَأْكُلُوهُ، لاَ عَبَثًا بِقَتْلِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَلِذَلِكَ أَشْبَاهٌ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} أَنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ أَكْلَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، لَمْ يَحِلَّ الذَّبِيحَةُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبُعِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا، مِنْ أَنْ كَانَ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ مُكَابَرَةً. وَإِذَا حَلَّ أَكْلُ الضَّبُعِ، وَهِيَ سَبُعٌ، لَكِنَّهَا لاَ تَعْدُو مُكَابَرَةً عَلَى النَّاسِ، وَهِيَ أَضَرُّ عَلَى مَوَاشِيهِمْ مِنْ جَمِيعِ السِّبَاعِ، فَأُحِلَّتْ أَنَّهَا لاَ تَعْدُو عَلَى النَّاسِ خَاصَّةً مُكَابَرَةً. وَفِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى إحْلاَلِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُ مِمَّا لَمْ يُنَصُّ فِيهِ خَبَرٌ وَتَحْرِيمُ مَا كَانَتْ تُحَرِّمُهُ مِمَّا يَعْدُو، مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ إلَى الْيَوْمِ تَأْكُلُ الضَّبُعَ، وَلَمْ تَزَلْ تَدَعْ أَكْلَ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ تَحْرِيمًا بِالتَّقَذُّرِ، فَوَافَقَتْ السُّنَّةُ فِيمَا أَحَلُّوا وَحَرَّمُوا مَعَ الْكِتَابِ، مَا وَصَفْت، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إنَّمَا يُجْزِي مَا أُحِلَّ أَكْلُهُ مِنْ الصَّيْدِ دُونَ مَا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ لاَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَا لاَ يَحِلُّ قَتْلُهُ، وَيَضْمَنُ صَاحِبُهُ بِقَتْلِهِ شَيْئًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهُ فِي الْإِحْرَامِ، مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَا وَصَفْت. وَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ سَبُعٍ لاَ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ، مِثْلُ الثَّعْلَبِ وَغَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى الضَّبُعِ. وَمَا سِوَى السَّبُعِ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ كُلِّهَا تُؤْكَلُ مِنْ مَعْنَيَيْنِ، مَا كَانَ سَبُعًا لاَ يَعْدُو. فَحَلاَلٌ أَنْ يُؤْكَلَ. وَمَا كَانَ غَيْرَ سَبُعٍ، فَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الآيَةِ. خَارِجٌ مِنْ الْخَبَائِثِ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَمَا كَانَتْ تَدَعُهُ عَلَى مَعْنَى تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ خَبِيثُ اللَّحْمِ، فَلاَ يُؤْكَلُ بِحَالٍ. وَكُلُّ مَا أُمِرَ بِأَكْلِهِ فَدَاهُ الْمُحْرِمُ إذَا قَتَلَهُ. وَمِثْلُ الضَّبُعِ مَا خَلاَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ، وَقَدْ فَسَّرْته قَبْلَ هَذَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَالْأَصْلُ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ الطَّائِرِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ، مِنْهُ مَا لاَ يُؤْكَلُ، لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلُهُ لِيَأْكُلَهُ. وَالْعِلْمُ يَكَادُ يُحِيطُ أَنَّهُ إنَّمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ الَّذِي كَانَ حَلاَلاً لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ بَعْضِ الصَّيْدِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَنْ يَأْكُلَهُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَحِلُّ قَتْلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». فَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ مِمَّا أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ لِلْمُحْرِمِ. فَمَا كَانَ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُمَا مِنْ الطَّائِرِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَنْ لاَ يَجُوزَ أَكْلُ لَحْمِهِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَكْلُ لَحْمِهِمَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ تَكُنْ تَأْكُلُ الْعَرَبُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ضَرَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ مِنْ سَبُعٍ وَطَائِرٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْعُقَابِ وَالنَّسْرِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْبَوَاشِقِ، وَمَا أَشْبَهَهَا، مَا دَامَ يَأْخُذُ حَمَامَ النَّاسِ وَغَيْرَهُ مِنْ طَائِرِهِمْ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الطَّائِرِ فَلاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْت مِنْ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ، وَدَاخِلٌ فِي مَعْنَى مَا لاَ تَأْكُلُ الْعَرَبُ. وَكُلُّ مَا كَانَ لاَ يَبْلُغُ أَنْ يَتَنَاوَلَ لِلنَّاسِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ الطَّائِرِ، فَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تُحَرِّمُهُ إقْذَارًا لَهُ، فَكُلُّهُ مُبَاحٌ أَنْ يُؤْكَلَ، فَعَلَى هَذَا، هَذَا الْبَابُ كُلُّهُ وَقِيَاسُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: نَرَاك فَرَّقْت بَيْنَ مَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَا نَابٍ مِنْ السَّبُعِ، مِثْلُ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ، فَأَحْلَلْت أَكْلَهَا، وَهِيَ تَضُرُّ بِأَمْوَالِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ ضَرَرِ مَا حَرَّمْت مِنْ الطَّائِرِ. قُلْت إنِّي وَإِنْ حَرَّمْته فَلَيْسَ لِلضَّرَرِ فَقَطْ حَرَّمْته، وَلاَ لِخُرُوجِ الثَّعْلَبِ وَالضَّبُعِ مِنْ الضَّرَرِ أَبَحْتهَا، إنَّمَا أَبَحْتهَا بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، فَفِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ مَا كَانَ غَيْرَ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَأَنَّهُ أَحَلَّ الضَّبُعَ نَصًّا، وَأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَزَلْ تَأْكُلُهَا، وَالثَّعْلَبَ. وَتَتْرُكُ الذِّئْبَ وَالنَّمِرَ وَالْأَسَدَ فَلاَ تَأْكُلُهُ وَأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَزَلْ تَتْرُكُ أَكْلَ النَّسْرِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَهِيَ ضِرَارٌ، وَتَتْرُكُ مَا لاَ يَضُرُّ مِنْ الطَّائِرِ فَلَمْ أُجِزْ أَكْلَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّخَمَةِ وَالنَّعَامَةِ، وَهُمَا لاَ يَضُرَّانِ، وَأَكْلُهُمَا لاَ يَجُوزُ، لِأَنَّهُمَا مِنْ الْخَبَائِثِ وَخَارِجَانِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَقَدْ قُلْت مِثْلَ هَذَا فِي الدُّودِ، فَلَمْ أُجِزْ أَكْلَ اللُّحَكَاءِ وَلاَ الْعَظَاءِ وَلاَ الْخَنَافِسِ، وَلَيْسَتْ بِضَارَّةٍ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَدَعُ أَكْلَهَا، فَكَانَ خَارِجًا مِنْ مَعْنَى الطَّيِّبَاتِ، دَاخِلاً فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ عِنْدَهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رَوَيْتُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: «لَسْت آكُلُهُ وَلاَ مُحَرِّمُهُ». قِيلَ لَهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ لَمْ يَرْوِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبِّ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَتَحْلِيلُهُ أَكْلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَابِتٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: «لَسْت آكُلُهُ وَلاَ مُحَرِّمُهُ» دَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَكْلَهُ لاَ مِنْ جِهَةِ تَحْرِيمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّمَا تَرَكَ مُبَاحًا عَافَهُ وَلَمْ يَشْتَهِهِ. وَلَوْ عَافَ خُبْزًا أَوْ لَحْمًا أَوْ تَمْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الطِّبَاعِ، لاَ مُحَرِّمًا لِمَا عَافَ فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: أَرَأَيْت إنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَحْتَمِلُ مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي زَعَمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ؟ فَزَعَمْت أَنَّهُ بَيِّنٌ لاَ يَحْتَمِلُ مَعْنًى غَيْرَهُ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: وَإِذَا قُلْت مَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعْصُومًا، قُلْت لَهُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ التَّحْلِيلِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ تَحْلِيلٍ وَلاَ تَحْرِيمٍ فَيُجِيبَ فِيهِ إلَّا أَحَلَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ. وَلَيْسَ هَكَذَا أَحَدٌ بَعْدَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَيَجْهَلُ، وَيَقِفُ وَيُجِيبُ، ثُمَّ لاَ يَقُومُ جَوَابُهُ مَقَامَ جَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْت قَدْ بَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِهِ؟ قُلْت: قُرِّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَبٌّ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ، وَلَكِنْ أَعَافُهَا لَمْ تَكُنْ بِبَلَدِ قَوْمِي». فَاجْتَرَّهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَكَلَهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ، وَإِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ حَرَامًا فَهِيَ حَلاَلٌ، وَإِذَا أَقَرَّ خَالِدًا بِأَكْلِهَا، فَلاَ يَدَعُهُ يَأْكُلُ حَرَامًا، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ إيَّاهَا أَنَّهُ عَافَهَا. لاَ حَرَّمَهَا.
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ. أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: أَكَلْت فَرَسًا عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَوَجَدْته حُلْوًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا لَزِمَهُ اسْمُ الْخَيْلِ مِنْ الْعِرَابِ وَالْمَقَارِيفِ وَالْبَرَاذِينِ، فَأَكْلُهَا حَلاَلٌ.
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْت سُفْيَانَ يُحَدِّثُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ ابْنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ الْحَسَنُ أَرْضَاهُمَا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلاَلَتَانِ. إحْدَاهُمَا تَحْرِيمُ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأُخْرَى، إبَاحَةُ لُحُومِ حُمُرِ الْوَحْشِ، لِأَنَّهُ لاَ صِنْفَ مِنْ الْحُمُرِ إلَّا الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ، فَإِذَا قَصَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيمِ قَصَدَ الْأَهْلِيَّ، ثُمَّ وَصْفُهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْرَجَ الْوَحْشِيَّ مِنْ التَّحْرِيمِ وَهَذَا مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. فَقَصَدَ بِالنَّهْيِ. قَصْدَ عَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ. فَحَرَّمَ مَا نَهَى عَنْهُ. وَحَلَّ مَا خَرَجَ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ سِوَاهُ. مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبَاحَةُ أَكْلِ حُمُرِ الْوَحْشِ. أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْ يَقْسِمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا قَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ بَيْنَ الرُّفْقَةِ. وَحَدِيثُ طَلْحَةَ أَنَّهُمْ أَكَلُوا مَعَهُ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَخَلْقُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يُبَايِنُ خَلْقَ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ مُبَايَنَةً يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا. فَلَوْ تَوَحَّشَ أَهْلِيٌّ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. وَكَانَ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلَوْ اسْتَأْهَلَ وَحْشِيٌّ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ وَكَانَ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّحْلِيلِ. وَلاَ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ وَإِنْ اسْتَأْهَلَ. وَلَوْ نَزَا حِمَارٌ أَهْلِيٌّ عَلَى فَرَسٍ أَوْ فَرَسٌ عَلَى أَتَانٍ أَهْلِيَّةٍ، لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا نَتَجَ بَيْنَهُمَا. لَسْت أَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَيِّهِمَا النَّازِي. لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا. فَلاَ يَحِلُّ حَتَّى يَكُونَ لَحْمُهُمَا مَعًا حَلاَلاً. وَكُلُّ مَا عُرِفَ فِيهِ حِمَارٌ أَهْلِيٌّ مِنْ قِبَلِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ. لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِحَالٍ أَبَدًا. وَلاَ أَكْلُ نَسْلِهِ. وَلَوْ نَزَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَلَى فَرَسٍ. أَوْ فَرَسٌ عَلَى أَتَانٍ وَحْشِيٍّ حَلَّ أَكْلُ مَا وُلِدَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا مُبَاحَانِ مَعًا. وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ غُرَابًا أَوْ ذَكَرَ حِدَأٍ أَوْ بُغَاثًا تَجَثَّمَ حُبَارَى. أَوْ ذَكَرُ حُبَارَى أَوْ طَائِرٌ يَحِلُّ لَحْمُهُ تَجَثَّمَ غُرَابًا أَوْ حِدَأً أَوْ صَقْرًا أَوْ ثِيرَان فَبَاضَتْ وَأَفْرَخَتْ. لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ فِرَاخِهَا مِنْ ذَلِكَ التَّجَثُّمِ. لِاخْتِلاَطِ الْمُحَرَّمِ وَالْحَلاَلِ فِيهِ. أَلاَ تَرَى أَنَّ خَمْرًا لَوْ اخْتَلَطَتْ بِلَبَنٍ. أَوْ وَدَكَ خِنْزِيرٍ بِسَمْنٍ. أَوْ مُحَرَّمًا بِحَلاَلٍ فَصَارَا لاَ يُزِيلُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ حَرُمَ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولاً. وَلَوْ أَنَّ صَيْدًا أُصِيبَ أَوْ بَيْضَ صَيْدٍ. فَأُشْكِلَتْ خِلْقَتُهُ. فَلَمْ يُدْرَ لَعَلَّ أَحَدَ أَبَوَيْهِ مِمَّا لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ وَالْآخَرُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، كَانَ الِاحْتِيَاطُ. الْكَفَّ عَنْ أَكْلِهِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى خِلْقَتِهِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَوْلَى بِخِلْقَتِهِ جُعِلَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ. إنْ كَانَ الَّذِي يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْلَى بِخِلْقَتِهِ أَكَلَهُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحْرُمْ أَكْلُهُ أَوْلَى بِخِلْقَتِهِ لَمْ يَأْكُلْهُ. وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَنْزُوَ حِمَارٌ إنْسِيٌّ أَتَانًا وَحْشِيَّةً أَوْ أَتَانًا إنْسِيَّةً. وَلَوْ نَزَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ فَرَسًا أَوْ فَرَسٌ أَتَانًا وَحْشِيًّا لَمْ يَكُنْ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ. لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَإِذَا تَوَحَّشَ وَاصْطِيدَ، أُكِلَ بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الصَّيْدُ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي صِغَارِ أَوْلاَدِهِ وَفِرَاخِهِ وَبَيْضِهِ، لاَ يَخْتَلِفُ. وَمَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ صَيْدٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَدَاهُ وَكَذَلِكَ يَفْدِي مَا أَصَابَ مِنْ بَيْضِهِ. وَمَا قَتَلَ مِنْ صَيْدٍ لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. أَوْ أَصَابَ مِنْ بَيْضِهِ لَمْ يَفْدِهِ. وَلَوْ أَنَّ ذِئْبًا نَزَا عَلَى ضَبُعٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِوَلَدٍ لاَ يُشْبِهُهَا مَحْضًا وَلاَ الذِّئْبَ مَحْضًا يُقَالُ لَهُ السَّبُعُ، لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ لِمَا وَصَفْت مِنْ اخْتِلاَطِ الْمُحَرَّمِ وَالْحَلاَلِ، وَأَنَّهُمَا لاَ يَتَمَيَّزَانِ فِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا حَرُمَ وَلَمْ يَحِلَّ بِالذَّكَاةِ: {وَمَا لَكُمْ أَنْ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ: {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} إلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ فِي ذِكْرِ مَا حَرَّمَ: {فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيَحِلُّ مَا حَرُمَ مِنْ مَيْتَةٍ وَدَمٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ وَكُلِّ مَا حَرُمَ مِمَّا لاَ يُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ الْخَمْرِ لِلْمُضْطَرِّ. وَالْمُضْطَرُّ الرَّجُلُ يَكُونُ بِالْمَوْضِعِ لاَ طَعَامَ فِيهِ مَعَهُ وَلاَ شَيْءَ يَسُدُّ فَوْرَةَ جُوعِهِ مِنْ لَبَنٍ وَمَا أَشْبَهَهُ وَيُبْلِغُهُ الْجُوعُ مَا يَخَافُ مِنْهُ الْمَوْتَ أَوْ الْمَرَضَ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الْمَوْتَ أَوْ يُضْعِفُهُ وَيَضُرُّهُ أَوْ يَعْتَلُّ أَوْ يَكُونُ مَاشِيًا فَيَضْعُفُ عَنْ بُلُوغِ حَيْثُ يُرِيدُ أَوْ رَاكِبًا فَيَضْعُفُ عَنْ رُكُوبِ دَابَّتِهِ، أَوْ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ، فَأَيُّ هَذَا نَالَهُ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمُحَرَّمِ. وَكَذَلِكَ يَشْرَبُ مِنْ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ الْمُسْكِرِ، مِثْلَ الْمَاءِ تَقَعُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ آكِلُهُ إنْ أُكِلَ وَشَارِبُهُ إنْ شُرِبَ أَوْ جَمْعُهُمَا فَعَلَى مَا يَقْطَعُ عَنْهُ الْخَوْفَ وَيَبْلُغُ بِهِ بَعْضَ الْقُوَّةِ وَلاَ يُبَيِّنُ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْبَعَ وَيُرْوَى، وَإِنْ أَجْزَأَهُ دُونَهُ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالضَّرُورَةِ. وَإِذَا بَلَغَ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ فَلَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَتُهُ، لِأَنَّ مُجَاوَزَتَهُ حِينَئِذٍ إلَى الضَّرَرِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى النَّفْعِ. وَمَنْ بَلَغَ إلَى الشِّبَعِ فَقَدْ خَرَجَ فِي بُلُوغِهِ مِنْ حَدِّ الضَّرُورَةِ وَكَذَلِكَ الرِّيُّ. وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّدَ مَعَهُ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ. فَإِذَا وَجَدَ الْغِنَى عَنْهُ طَرَحَهُ. وَلَوْ تَزَوَّدَ مَعَهُ مَيْتَةً فَلَقِيَ مُضْطَرًّا أَرَادَ شِرَاءَهَا مِنْهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ ثَمَنُهَا، إنَّمَا حَلَّ لَهُ مِنْهَا مَنْعُ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ عَلَى بَدَنِهِ لاَ ثَمَنُهَا، وَلَوْ اُضْطُرَّ، وَوَجَدَ طَعَامًا، لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْلُ الطَّعَامِ، وَكَانَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَلَوْ اُضْطُرَّ، وَمَعَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ مَا يَحِلُّ، فَإِنْ بَاعَهُ بِثَمَنِهِ فِي مَوْضِعِهِ أَوْ بِثَمَنِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، كَانَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُغَالِيَ بِهِ وَيَدَعَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ. وَلَيْسَ لَهُ، بِحَالٍ، أَنْ يُكَابِرَ رَجُلاً عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَهُوَ يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ عَنْهُ مِنْ شَرَابٍ فِيهِ مَيْتَةٌ أَوْ مَيْتَةٌ، وَإِنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَجِدْ مَيْتَةً وَلاَ شَرَابًا فِيهِ مَيْتَةٌ، وَمَعَ رَجُلٍ شَيْءٌ، كَانَ لَهُ أَنْ يُكَابِرَهُ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَهُ. وَإِذَا كَابَرَهُ، أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ وَافِيًا، فَإِنْ كَانَ إذَا أَخَذَ شَيْئًا خَافَ مَالِكُ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُكَابَرَتُهُ. وَإِنْ اُضْطُرَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ إلَى صَيْدٍ أَوْ مَيْتَةٍ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ وَتَرَكَ الصَّيْدَ، فَإِنْ أَكَلَ الصَّيْدَ فَدَاهُ، إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ. وَإِنْ اُضْطُرَّ فَوَجَدَ مَنْ يُطْعِمُهُ أَوْ يُسْقِيهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ. وَإِذَا وَجَدَ فَقَدْ ذَهَبَتْ عَنْهُ الضَّرُورَةُ إلَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ يَخَافَ إنْ أَطْعَمَهُ أَوْ سَقَاهُ، أَنْ يَسُمَّهُ فِيهِ فَيَقْتُلَهُ، فَلَهُ تَرْكُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَوَجَدَ مَعَ رَجُلٍ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا، يَعْلَمُهُ يَضُرُّهُ وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، كَانَ لَهُ تَرْكُهُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ الْمَيْتَةُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مِنْ الضَّرُورَةِ وَجْهًا ثَانِيًا، أَنْ يَمْرَضَ الرَّجُلُ الْمَرَضَ يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ يَكُونُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ: قَلَّمَا يَبْرَأُ مَنْ كَانَ بِهِ مِثْلُ هَذَا إلَّا أَنْ يَأْكُلَ كَذَا، أَوْ يَشْرَبَ كَذَا، أَوْ يُقَالُ لَهُ: إنَّ أَعْجَلَ مَا يُبْرِئُك أَكْلُ كَذَا أَوْ شُرْبُ كَذَا، فَيَكُونُ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ خَمْرًا إذَا بَلَغَ ذَلِكَ مِنْهَا أَسْكَرَتْهُ، أَوْ شَيْئًا يُذْهِبُ الْعَقْلَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّ إذْهَابَ الْعَقْلِ مُحَرَّمٌ. وَمَنْ قَالَ هَذَا، قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابَ أَنْ يَشْرَبُوا أَلْبَانَ الْإِبِلِ وَأَبْوَالَهَا وَقَدْ يَذْهَبُ الْوَبَاءُ بِغَيْرِ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، إلَّا أَنَّهُ أَقْرَبُ مَا هُنَالِكَ أَنْ يُذْهِبَهُ عَنْ الْأَعْرَابِ لِإِصْلاَحِهِ لِأَبْدَانِهِمْ، وَالْأَبْوَالُ كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ، لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ خَمْرًا، لِأَنَّهَا تُعْطِشُ وَتُجِيعُ. وَلاَ لِدَوَاءٍ لِأَنَّهَا تُذْهِبُ بِالْعَقْلِ. وَذَهَابُ الْعَقْلِ مَنْعُ الْفَرَائِضِ، وَتُؤَدِّي إلَى إتْيَانِ الْمَحَارِمِ. وَكَذَلِكَ مَا أَذْهَبَ الْعَقْلَ غَيْرُهَا. وَمَنْ خَرَجَ مُسَافِرًا فَأَصَابَتْهُ ضَرُورَةٌ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِمَّا نَصِفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنْ خَرَجَ عَاصِيًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِالضَّرُورَةِ، عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُضْطَرُّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ وَلاَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ. وَلَوْ خَرَجَ عَاصِيًا ثُمَّ تَابَ فَأَصَابَتْهُ الضَّرُورَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ رَجَوْت أَنْ يَسَعَهُ أَكْلُ الْمُحَرَّمِ وَشُرْبُهُ. وَلَوْ خَرَجَ غَيْرَ عَاصٍ، ثُمَّ نَوَى الْمَعْصِيَةَ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ الضَّرُورَةُ وَنِيَّتُهُ الْمَعْصِيَةُ، خَشِيت أَنْ لاَ يَسَعَهُ الْمُحَرَّمُ، لِأَنِّي أَنْظُرُ إلَى نِيَّتِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، لاَ فِي حَالِ تَقَدُّمَتِهَا وَلاَ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلاَ نَذْرَ وَلاَ كَفَّارَةَ، لِأَنَّ النَّذْرَ مَعْنَاهُ مَعْنَى عَلَيَّ أَنْ أَبَرَّ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى أَنِّي أَثِمْت وَلاَ حَلَفْت، فَلَمْ أَفْعَلْ وَإِذَا نَوَى بِالنَّذْرِ شَيْئًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَهُوَ مَا نَوَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّا نَقُولُ فِيمَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أُكَلِّمَ فُلاَنًا، يُرِيدُ هِجْرَتَهُ، أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَأَنَّهُ إنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَهْجُرَهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ نَذْرَ هِجْرَتِهِ نَفْسِهَا، لاَ يَعْنِي قَوْلَهُ أَنْ أَهْجُرَهُ أَوْ لَمْ أَهْجُرْهُ. فَإِنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلِيُكَلِّمَهُ، لِأَنَّهُ نَذْرٌ فِي مَعْصِيَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ فُلاَنًا أَوْ لاَ يَصِلَ فُلاَنًا، فَهَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ خَيْرٌ لَك مِنْ الْبِرِّ فَكَفِّرْ وَاحْنَثْ، لِأَنَّك تَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي هِجْرَتِهِ، وَتَتْرُكُ الْفَضْلَ فِي مَوْضِعِ صِلَتِهِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ». وَهَكَذَا كُلُّ مَعْصِيَةٍ حَلَفَ عَلَيْهَا أَمَرْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَعْصِيَةَ وَيَحْنَثَ وَيَأْتِيَ الطَّاعَةَ. وَإِذَا حَلَفَ عَلَى بِرٍّ، أَمَرْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ الْبِرَّ وَلاَ يَحْنَثُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لاََصُومَن الْيَوْمَ، وَاَللَّهِ لِأُصَلِّيَن كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً نَافِلَةً. فَنَقُولُ لَهُ: بِرَّ يَمِينَك وَأَطِعْ رَبَّك، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، حَنِثَ وَكَفَّرَ. وَأَصْلُ مَا نَذْهَبُ إلَيْهِ، أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَطَاعَهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ سِوَى الْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ مِنْ قَوْلِهِ: مَالِي هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ دَارِي هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَمْلِكُ صَدَقَةً أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذَا كَانَ عَلَى مَعَانِي الْأَيْمَانِ فَاَلَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ عَطَاءٌ أَنَّهُ يُجْزِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ فِي كُلِّ مَا حَنِثَ فِيهِ سِوَى عِتْقٍ أَوْ طَلاَقٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَالْقِيَاسُ وَمَذْهَبُ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَيَحْبِسُ قَدْرَ مَا يَقُوتُهُ، فَإِذَا أَيْسَرَ تَصَدَّقَ بِاَلَّذِي حَبَسَ. وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ قَالَ صَدَقَةٌ أَوْ قَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذَا كَانَتْ عَلَى مَعَانِي الْأَيْمَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ فَحَنِثَ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ تَبَرُّرًا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي كُلِّهِ، تَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُطِعْهُ».
وَلَيْسَ فِي التَّرَاجِمِ وَفِيهَا مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَمَنْ نَذَرَ تَبَرُّرًا أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَمْشِيَ إنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا نَذَرَ كَمَا نَذَرَ وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ دَمٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُطِقْ شَيْئًا سَقَطَ عَنْهُ كَمَا لاَ يُطِيقُ الْقِيَامَ فِي الصَّلاَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا وَلاَ يُطِيقُ الْقُعُودَ فَيُصَلِّي مُضْطَجِعًا. وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلاَةِ أَنَّ النَّاسَ أَصْلَحُوا أَمْرَ الْحَجِّ بِالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ وَلَمْ يُصْلِحُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ إلَّا بِالصَّلاَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلاَ يَمْشِي أَحَدٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إلَّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا إلَّا بِذِلَّةٍ مِنْهُ. قَالَ الرَّبِيعُ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَحَنِثَ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ تُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْيَمِينَ. قَالَ الرَّبِيعُ وَسَمِعْت الشَّافِعِيَّ أَفْتَى بِذَلِكَ رَجُلاً فَقَالَ: هَذَا قَوْلُك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ هَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَفِيهَا قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا مَعْقُولُ مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ النُّسُكِ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ حَجٌّ وَلاَ عُمْرَةٌ وَلاَ صَوْمٌ وَمَذْهَبُهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ لِلَّهِ لاَ تَكُونُ إلَّا بِفَرْضٍ يُؤَدِّيهِ مِنْ فُرُوضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَوْ تَبَرُّرًا يُرِيدُ اللَّهَ بِهِ فَأَمَّا مَا عَلاَ عُلُوَّ الْإِيمَانِ فَلاَ يَكُونُ تَبَرُّرًا وَإِنَّمَا يَعْمَلُ التَّبَرُّرَ لِغَيْرِ الْعُلُوِّ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ عَطَاءٍ: عَلَيْهِ الْمَشْيُ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ إذَا نَذَرَهُ مُتَبَرِّرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالتَّبَرُّرُ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَى اللَّهُ فُلاَنًا أَوْ قَدِمَ فُلاَنٌ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ قَضَى عَنِّي دَيْنًا أَوْ كَانَ كَذَا أَنْ أَحُجَّ لَهُ نَذْرًا فَهُوَ التَّبَرُّرُ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ لَمْ أَقْضِك حَقَّك فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَهَذَا مِنْ مَعَانِي الْأَيْمَانِ لاَ مَعَانِي النُّذُورِ وَأَصْلُ مَعْقُولِ قَوْلِ عَطَاءٍ فِي مَعَانِي النُّذُورِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَلاَ كَفَّارَةٌ فَهَذَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي أَوْ شَفَى فُلاَنًا أَنْ أَنْحَرَ ابْنِي أَوْ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَمَنْ قَالَ هَذَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ وَفِي السَّائِبَةِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّذْرَ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةً وَكَانَ فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يَفِيَ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَيْلِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِيهِ». أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ كَانَتْ بَنُو عَقِيلٍ حُلَفَاءَ لِثَقِيفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ أَسَرَتْ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ وَكَانَتْ نَاقَتُهُ قَدْ سَبَقَتْ الْحَاجَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً، وَكَانَتْ النَّاقَةُ إذَا سَبَقَتْ الْحَاجَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تُمْنَعْ مِنْ كَلاٍَ تَرْتَعُ فِيهِ وَلَمْ تُمْنَعْ مِنْ حَوْضٍ تَشْرَبُ مِنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ أَخَذْتنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ». قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحُبِسَ حَيْثُ يَمُرُّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك كُنْت قَدْ أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلاَحِ». قَالَ: ثُمَّ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَظَمْآنُ فَاسْقِنِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ حَاجَتُك». ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَا لَهُ فَفَادَى بِهِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْ ثَقِيفٌ وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ، ثُمَّ إنَّهُ أَغَارَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَدُوٌّ فَأَخَذُوا سَرْحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدُوا النَّاقَةَ فِيهَا قَالَ وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَسَرُوهَا وَكَانُوا يُرِيحُونَ النَّعَمَ عِشَاءً فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إلَى النَّعَمِ فَجَعَلَتْ لاَ تَجِيءُ إلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى انْتَهَتْ إلَيْهَا فَلَمْ تَرْغُ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا فَنَجَتْ فَلَمَّا قَدِمَتْ الْمَدِينَةَ قَالَ النَّاسُ الْعَضْبَاءُ الْعَضْبَاءُ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنِّي نَذَرْت إنْ اللَّهُ أَنْجَانِي عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَمَا جَزَيْتهَا لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَتَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهَا أَنْ تَنْحَرَ مِثْلَهَا أَوْ تَنْحَرَهَا وَلاَ تُكَفِّرَ. قال: وَكَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ مَنْ نَذَرَ تَبَرُّرًا أَنْ يَنْحَرَ مَالَ غَيْرِهِ فَهَذَا نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَالنَّذْرُ سَاقِطٌ عَنْهُ وَبِذَلِكَ نَقُولُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَذَرَ مَا لاَ يُطِيقُ أَنْ يَعْمَلَهُ بِحَالٍ سَقَطَ النَّذْرُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَعْمَلَهُ فَهُوَ كَمَا لاَ يَمْلِكُ مِمَّا سِوَاهُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». وَكَانَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ نَذَرَتْ وَهَرَبَتْ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ لَتَنْحَرَنهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِأَنْ تَنْحَرَ مِثْلَهَا وَلاَ تُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ مَنْ نَذَرَ تَبَرُّرًا أَنْ يَنْحَرَ مَالَ غَيْرِهِ فَهَذَا نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَالنَّذْرُ سَاقِطٌ عَنْهُ وَكَذَلِكَ نَقُولُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَذَرَ مَا لاَ يُطِيقُ أَنْ يَعْمَلَهُ بِحَالٍ سَقَطَ النَّذْرُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَعْمَلَهُ فَهُوَ كَمَا لاَ يَمْلِكُ مِمَّا سِوَاهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا مَشَى حَتَّى يَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ثُمَّ يَرْكَبَ بَعْدُ، وَذَلِكَ كَمَالُ حَجِّ هَذَا، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا مَشَى حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَذَلِكَ كَمَالُ عُمْرَةِ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَمَشَى فَفَاتَهُ الْحَجُّ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَاشِيًا حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ مَاشِيًا كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ إذَا فَاتَهُ هَذَا الْحَجُّ أَلاَ تَرَى أَنَّ حُكْمَهُ لَوْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْحَجِّ أَوْ نَاذِرًا لَهُ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلاَمِ وَعُمْرَتُهُ أَلَّا يُجْزِي هَذَا الْحَجُّ مِنْ حَجٍّ وَلاَ عُمْرَةٍ؟ فَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ أَنْ يَسْقُطَ وَلاَ يُجْزِي مِنْ حَجٍّ وَلاَ عُمْرَةٍ فَكَيْفَ لاَ يَسْقُطُ الْمَشْيُ الَّذِي إنَّمَا هُوَ هَيْئَةٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَحُجَّ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ وَلَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَإِنْ كَانَ نَذَرَ ذَلِكَ مَاشِيًا فَلاَ يَمْشِي لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا حَجَّةُ الْإِسْلاَمِ وَعُمْرَتُهُ فَإِنْ مَشَى فَإِنَّمَا مَشَى حَجَّةَ الْإِسْلاَمِ وَعُمْرَتَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ مَاشِيًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَوَّلَ مَا يَعْمَلُ الرَّجُلُ مِنْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِرْ وَيَحُجَّ فَإِنَّمَا هُوَ حَجَّةُ الْإِسْلاَمِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَجَّةَ الْإِسْلاَمِ وَنَوَى بِهِ نَذْرًا أَوْ حَجًّا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ تَطَوُّعًا فَهُوَ كُلُّهُ حَجَّةُ الْإِسْلاَمِ وَعُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِنَذْرِهِ فَيُوفِيَهُ كَمَا نَذَرَ مَاشِيًا أَوْ غَيْرَ مَاشٍ. قَالَ الرَّبِيعُ هَذَا إذَا كَانَ الْمَشْيُ لاَ يَضُرُّ بِمَنْ يَمْشِي فَإِذَا كَانَ مُضِرًّا بِهِ فَيَرْكَبُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى مِثْلِ مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا إسْرَائِيلَ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَتَنَحَّى عَنْ الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ بِاَلَّذِي فِيهِ الْبِرُّ وَلاَ يَضُرُّ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْ تَعْذِيبِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لاَ حَاجَةَ لِلَّهِ فِي تَعْذِيبِهِ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَمْشِي إذَا كَانَ الْمَشْيُ تَعْذِيبًا لَهُ يَضُرُّ بِهِ تَرَكَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ فُلاَنًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَشْيٌ حَتَّى يَكُونَ نَوَى شَيْئًا يَكُونُ مِثْلُهُ بِرًّا، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَشْيِ إلَى غَيْرِ مَوَاضِعِ الْبِرِّ بِرٌّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ نَذَرَ فَقَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى إفْرِيقِيَّةَ أَوْ الْعِرَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْبُلْدَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ طَاعَةٌ فِي الْمَشْيِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَشْيُ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْتَجَى فِيهَا الْبِرُّ وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَأَحَبُّ إلَيَّ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَمْشِيَ وَإِلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ يَمْشِيَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ». وَلاَ يُبَيِّنُ لِي أَنْ أُوجِبَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا يُبَيِّنُ لِي أَنْ أُوجِبَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْبِرَّ بِإِتْيَانِ بَيْتِ اللَّهِ فَرْضٌ وَالْبِرُّ بِإِتْيَانِ هَذَيْنِ نَافِلَتَيْنِ وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلاَ نِيَّةَ لَهُ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ وَهُوَ إذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَسْجِدِ مِصْرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْهِ وَلَوْ نَذَرَ بِرًّا أَمَرْنَاهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ هَذَا كَمَا يُؤْخَذُ لِلْآدَمِيِّينَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ هَذَا عَمَلٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَلْزَمُهُ إلَّا بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِهِ وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ وَذَلِكَ أَنَّ النَّحْرَ بِمَكَّةَ بِرٌّ. وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ بِغَيْرِهَا لِيَتَصَدَّقَ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَنْحَرَ إلَّا حَيْثُ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ. وَإِنَّمَا أَوْجَبْته وَلَيْسَ فِي النَّحْرِ فِي غَيْرِهَا بِرٌّ لِأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى مَسَاكِينِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى مَسَاكِينِ بَلَدٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ. وَفِي تَرْجَمَةِ الْهَدْيِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَرَاجُمِ مُخْتَصَرِ الْحَجِّ الْمُتَوَسِّطِ نُصُوصٌ تَتَعَلَّقُ بِالْهَدْيِ الْمَنْذُورِ فَمِنْهَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: الْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَسَوَاءٌ الْبُخْتُ وَالْعِرَابُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَمَنْ نَذَرَ هَدْيًا فَسَمَّى شَيْئًا لَزِمَهُ الشَّيْءُ الَّذِي سَمَّى، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَمَنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَزِمَهُ هَدْيٌ لَيْسَ بِجَزَاءٍ مِنْ صَيْدٍ، فَيَكُونُ عَدْلَهُ. فَلاَ يُجْزِيهِ مِنْ الْإِبِلِ وَلاَ الْبَقَرِ وَلاَ الْمَعْزِ، إلَّا ثَنِيٌّ فَصَاعِدًا وَيُجْزِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَيُجْزِي مِنْ الضَّأْنِ وَحْدَهُ الْجَذَعُ: وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَرَمُ، لاَ مَحِلَّ لِلْهَدْيِ دُونَهُ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ مَوْضِعًا مِنْ الْأَرْضِ، فَيَنْحَرَ فِيهِ هَدْيًا، أَوْ يُحْصَرَ رَجُلٌ بِعَدُوٍّ، فَيَنْحَرَ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَلاَ هَدْيَ إلَّا فِي الْحَرَمِ لاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَذُكِرَ هُنَا التَّقْلِيدُ وَالْإِشْعَارُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْهَدْيِ آخِرَ الْحَجِّ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْذُورِ وَالتَّطَوُّعِ. قال: وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. وَإِذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ، رَكِبَهُ رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلَ الْمُعْيَا وَالْمُضْطَرَّ عَلَى هَدْيِهِ. وَإِذَا كَانَ الْهَدْيُ أُنْثَى فَنَتَجَتْ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَصِيلُهَا سَاقَهُ وَإِنْ لَمْ يَتْبَعْهَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا بَعْدَ رِيِّ فَصِيلِهَا، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَحَدًا. وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ فَصِيلَهَا. وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَعْجَفَهَا، غَرِمَ قِيمَةَ مَا نَقَصَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ شَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا مَا يُنْهِكُ فَصِيلَهَا، غَرِمَ قِيمَةَ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبَ. وَإِنْ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَوَجَّهَهَا إلَى الْبَيْتِ، أَوْ وَجَّهَهَا بِكَلاَمٍ فَقِيلَ هَذِهِ هَدْيِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَلاَ يُبَدِّلُهَا بِخَيْرٍ وَلاَ بِشَرٍّ مِنْهَا، كَانَتْ زَاكِيَةً أَوْ غَيْرَ زَاكِيَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرِثُوهَا، وَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي الْهَدْيِ إلَى يَوْمِ يُوجِبُ، فَإِنْ كَانَ وَافِيًا، ثُمَّ أَصَابَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَوَرٌ أَوْ عَرَجٌ، أَوْ مَا لاَ يَكُونُ بِهِ وَافِيًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، لَمْ يَضُرَّهُ إذَا بَلَغَ الْمَنْسَكَ. وَإِنْ كَانَ يَوْمَ وَجَبَ لَيْسَ بِوَافٍ ثُمَّ صَحَّ حَتَّى يَصِيرَ وَافِيًا قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ لَمْ يَجُزْ عَنْهُ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِإِبْدَالِهِ مَعَ نَحْرِهِ، أَوْ يَكُونَ أَصْلُهُ وَاجِبًا، فَلاَ يُجْزِي عَنْهُ فِيهِ إلَّا وَافٍ. قال: وَالْهَدْيُ هَدْيَانِ، هَدْيٌ أَصْلُهُ تَطَوُّعٌ، فَذَكَرَ فِي عَطَبِهِ وَإِطْعَامِهِ مَا سَبَقَ فِي بَابِ الْهَدْيِ. قال: وَهَدْيٌ وَاجِبٌ فَذَلِكَ إذَا عَطِبَ دُونَ الْحَرَمِ صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَإِمْسَاكٍ وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى مَسَاكِينَ، كَانَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا حِينَ عَطِبَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَذَكَرَ هُنَا دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْهَدْيِ. قال: وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا هَدْيَانِ وَاجِبَانِ، فَأَخْطَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَدْيِ صَاحِبِهِ فَذَبَحَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَ نَفْسِهِ، وَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِقِيمَةِ مَا بَيْنَ الْهَدْيَيْنِ حَيَّيْنِ وَمَنْحُورَيْنِ وَأَجْزَأَ عَنْهُمَا وَتَصَدَّقَا بِكُلِّ مَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكَاهُ حَتَّى فَاتَ بِصَدَقَةٍ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ الْهَدْيِ حَيًّا، وَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَدَلُ وَلاَ أُحِبُّ أَنْ يُبَدِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِجَمِيعِ ثَمَنِ هَدْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِثَمَنِ هَدْيِهِ هَدْيًا زَادَ حَتَّى يُبَدِّلَهُ هَدْيًا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً نَحَرَ هَدْيًا فَمَنَعَ الْمَسَاكِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَوْ نَحَرَهُ بِنَاحِيَةٍ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَهُ حَتَّى يُنْتِنَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ. وَالنَّحْرُ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهَا فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ. فَلاَ يَجُوزُ إلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَاجِبٌ نَحَرَهُ وَأَعْطَاهُ مَسَاكِينَ الْحَرَمِ قَضَاءً. وَيَذْبَحُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَإِنَّمَا أَكْرَهُ ذَبْحَ اللَّيْلِ لِئَلَّا يُخْطِئَ رَجُلٌ فِي الذَّبْحِ أَوْ لاَ يُوجَدُ مَسَاكِينُ حَاضِرُونَ. فَأَمَّا إذَا أَصَابَ الذَّبْحَ فَوَجَدَ مَسَاكِينَ حَاضِرِينَ فَسَوَاءٌ وَفِي أَيِّ الْحَرَمِ ذَبَحَهُ ثُمَّ أَبْلَغَهُ مَسَاكِينَ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ ذَبْحُهُ إيَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ نَاسٍ. وَيَنْحَرُ الْإِبِلَ قِيَامًا غَيْرَ مَعْقُولَةٍ وَإِنْ أَحَبَّ عَقْلَ إحْدَى قَوَائِمِهَا. وَإِنْ نَحَرَهَا بَارِكَةً أَوْ مُطْلَقَةً أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَيَنْحَرُ الْإِبِلَ وَيَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ. وَإِنْ نَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ أَوْ ذَبَحَ الْإِبِلَ كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ. وَمَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ أَجْزَأَ أَنْ يَذْبَحَ النَّسِيكَةَ وَهَكَذَا مَنْ حَلَّتْ ذَكَاتُهُ إلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَ النَّسِيكَةَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَإِنْ فَعَلَ فَلاَ إعَادَةَ عَلَى صَاحِبِهِ. وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَذْبَحَ النَّسِيكَةَ صَاحِبُهَا أَوْ يَحْضُرَ الذَّبْحَ فَإِنَّهُ يُرْجَى عِنْدَ سُفُوحِ الدَّمِ الْمَغْفِرَةُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا سَمَّى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّسِيكَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ عَنِّي أَوْ تَقَبَّلْ عَنْ فُلاَنٍ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ فَلاَ بَأْسَ ثُمَّ ذَكَرَ الْأَكْلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْهَدْيِ. قال: وَالْهَدْيُ هَدْيَانِ وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ. فَكُلُّ مَا كَانَ أَصْلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْإِنْسَانِ لَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ فَلاَ يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا وَذَلِكَ مِثْلُ هَدْيِ الْفَسَادِ وَالطِّيبِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنُّذُورِ وَالْمُتْعَةِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ مَا أَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّطَوُّعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ» وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ هَدْيَهُ وَلَمْ يُشْعِرْهُ، قَارِنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، أَجْزَأَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ هَدْيًا مِنْ مِنًى أَوْ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ يَذْبَحُهُ مَكَانَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْهَدْيِ عَمَلٌ إنَّمَا الْعَمَلُ عَلَى الْآدَمِيِّينَ وَالنُّسُكُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: غُلاَمِي حُرٌّ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي فِي سَاعَتِي هَذِهِ أَوْ فِي يَوْمِي هَذَا أَوْ شَاءَ أَوْ يَشَاءُ فُلاَنٌ أَنْ لاَ يَكُونَ حُرًّا أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَّا أَنْ أَشَاءَ أَنْ لاَ تَكُونَ طَالِقًا فِي يَوْمِي هَذَا، أَوْ يَشَاءُ فُلاَنٌ فَشَاءَ أَوْ شَاءَ الَّذِي اسْتَثْنَى مَشِيئَتَهُ. لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ حُرًّا وَلاَ الْمَرْأَةُ طَالِقًا. قال: وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا أُهْدِي هَذِهِ الشَّاةَ نَذْرًا أَوْ أَمْشِي نَذْرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ: إنِّي سَأُحْدِثُ نَذْرًا أَوْ إنِّي سَأُهْدِيهَا. فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَهُوَ كَمَا قَالَهُ لِغَيْرِ إيجَابٍ. فَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَأْتِيَ مَوْضِعًا مِنْ الْحَرَمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَرَمَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَةَ أَوْ مَرًّا أَوْ مَوْضِعًا قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ لَيْسَ بِحَرَمٍ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ هَذَا نَذْرٌ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ، وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ حَجًّا وَلَمْ يُسَمِّ وَقْتًا فَعَلَيْهِ حَجٌّ، يُحْرِمُ بِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَتَى شَاءَ. وَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرُ حَجٍّ إنْ شَاءَ فُلاَنٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ شَاءَ فُلاَنٌ. إنَّمَا النَّذْرُ مَا أُرِيدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، لَيْسَ عَلَى مَعَانِي الْعُلُوِّ وَلاَ مَشِيئَةِ غَيْرِ النَّاذِرِ. وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُهْدِيَ شَيْئًا مِنْ النَّعَمِ، لَمْ يُجْزِهِ إلَّا أَنْ يُهْدِيَهُ. وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ مَتَاعًا لَمْ يُجْزِهِ، إلَّا أَنْ يُهْدِيَهُ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فِي هَذِهِ أَنْ يَعْقِلَهُ عَلَى الْبَيْتِ أَوْ يَجْعَلَ فِي طِيبٍ لِلْبَيْتِ. جَعَلَهُ حَيْثُ نَوَى، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ مَا لاَ يُحْمَلُ، مِثْلَ الْأَرَضِينَ وَالدُّورِ، بَاعَ ذَلِكَ فَأَهْدَى ثَمَنَهُ. وَيَلِي الَّذِي نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ وَتَعْلِيقُهُ عَلَى الْبَيْتِ وَتَطْيِيبُهُ بِهِ، أَوْ يُوَكِّلُ بِهِ ثِقَةً يَلِي ذَلِكَ بِهِ. وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً، لَمْ يُجْزِهِ مِنْهَا إلَّا ثَنِيٌّ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ ثَنِيَّةٌ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْخَصِيُّ، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا أَحَبُّهَا إلَيَّ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً أَهْدَى بَقَرَةً ثَنِيَّةً فَصَاعِدًا. وَإِذَا لَمْ يَجِدْ بَقَرَةً، أَهْدَى سَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ ثَنِيًّا فَصَاعِدًا، إنْ كُنَّ مِعْزَى، أَوْ جَذَعًا فَصَاعِدًا، إنْ كُنَّ ضَأْنًا. وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ عَلَى بَدَنَةٍ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْبَقَرِ، فَلاَ يُجْزِيهِ أَنْ يُهْدِيَ مَكَانَهَا إلَّا بِقِيمَتِهَا. وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ هَدْيًا لَمْ يُسَمِّ الْهَدْيَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُهْدِيَ شَاةً وَمَا أَهْدَى مِنْ مُدِّ حِنْطَةٍ أَوْ مَا قُوتُهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ كُلَّ هَذَا هَدْيٌ، وَلَوْ أَهْدَى إنَّمَا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، لِأَنَّ كُلَّ هَذَا هَدْيٌ. أَلاَ تَرَى إلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} فَقَدْ يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَهُوَ صَغِيرٌ أَعْرَجُ وَأَعْمَى، وَإِنَّمَا يُجْزِيهِ بِمِثْلِهِ. أَوَلاَ تَرَى أَنَّهُ يَقْتُلُ الْجَرَادَةَ وَالْعُصْفُورَ، وَهُمَا مِنْ الصَّيْدِ فَيُجْزِي الْجَرَادَةَ بِتَمْرَةٍ وَالْعُصْفُورَ بِقِيمَتِهِ؟ وَلَعَلَّهُ قَبْضَةٌ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا كُلَّهُ هَدْيًا. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: شَاتِي هَذِهِ هَدْيٌ إلَى الْحَرَمِ، أَوْ بُقْعَةٌ مِنْ الْحَرَمِ، أَهْدَى. وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ بَدَنَةً لَمْ تُجْزِئْهُ إلَّا بِمَكَّةَ، فَإِنْ سَمَّى مَوْضِعًا مِنْ الْأَرْضِ يَنْحَرُهَا فِيهِ أَجْزَأَتْهُ. وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ عَدَدَ صَوْمٍ صَامَهُ إنْ شَاءَ مُتَفَرِّقًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَتَابِعًا. قال: وَإِذَا نَذَرَ صِيَامَ أَشْهُرٍ، فَمَا صَامَ مِنْهَا بِالْأَهِلَّةِ صَامَهُ، عَدَدًا مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، إنْ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلاَثِينَ. فَإِنْ صَامَهُ بِالْعَدَدِ، صَامَ عَنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. وَإِذَا نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا، صَامَهَا كُلَّهَا إلَّا رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَصُومُ لِرَمَضَانَ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ قَصَدَ بِنَذْرٍ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَذْرٌ وَلاَ قَضَاءٌ، فَإِنْ نَذَرَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا، قَضَى هَذِهِ الْأَيَّامَ كُلَّهَا حَتَّى يُوفِيَ صَوْمَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ، وَإِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَرَضٌ أَوْ خَطَأُ عَدَدٍ أَوْ نِسْيَانٌ أَوْ تَوَانٍ، قَضَاهُ إذَا زَعَمْت أَنَّهُ يُهِلُّ بِالْحَجِّ فَيُحْصَرُ بِعَدُوٍّ فَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، كَانَ مَنْ نَذَرَ حَجًّا بِعَيْنِهِ مِثْلَهُ، وَمَا زَعَمْت أَنَّهُ إذَا أُحْصِرَ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ أَمَرْته أَنْ يَقْضِيَهُ إنْ نَذَرَهُ فَأُحْصِرَ. وَهَكَذَا إنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ سَنَةً بِعَيْنِهَا فَمَرِضَ، قَضَاهَا إلَّا الْأَيَّامَ الَّتِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَلِمَ تَأْمُرُ الْمُحْصَرَ إذَا أُحْصِرَ بِالْهَدْيِ وَلاَ تَأْمُرُ بِهِ هَذَا؟ قُلْت: آمُرُهُ بِهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا لَمْ يُحْرِمْ فَآمُرُهُ بِالْهَدْيِ. قَالَ وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ فِي رَمَضَانَ أَوْ نَذْرٍ أَوْ صَوْمِ كَفَّارَةٍ أَوْ وَاجِبٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَوْ تَطَوُّعٍ نَاسِيًا، فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَإِذَا تَسَحَّرَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، أَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ اللَّيْلِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَلَيْسَ بِصَائِمٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ. فَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ. وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدُمُ فِيهِ فُلاَنٌ، فَقَدِمَ لَيْلاً فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ قَدِمَ فِي اللَّيْلِ وَلَمْ يَقْدُمْ فِي النَّهَارِ، وَأَحَبُّ إلَيَّ لَوْ صَامَهُ. وَلَوْ قَدِمَ الرَّجُلُ نَهَارًا، وَقَدْ أَفْطَرَ الَّذِي نَذَرَ الصَّوْمَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ لِأَنَّهُ نَذْرٌ، وَالنَّذْرُ لاَ يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ صِيَامَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْقِيَاسَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا عَنْ نَذْرِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ أَنَّ جَائِزًا أَنْ يَصُومَ، وَلَيْسَ هُوَ كَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ بَعْدَ مَقْدِمِ فُلاَنٍ فَقُلْنَا: عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ الْأَوَّلِ. وَلَوْ أَصْبَحَ فِيهِ صَائِمًا مَنْ نَذْرٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ أَحْبَبْت أَنْ يَعُودَ لِصَوْمِ نَذْرِهِ وَقَضَائِهِ وَيَعُودُ لِصَوْمِهِ لِمَقْدِمِ فُلاَنٍ. وَلَوْ أَنَّ فُلاَنًا قَدِمَ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ التَّشْرِيقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلاَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَاعَةٌ فَلاَ يَقْضِي مَا لاَ طَاعَةَ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْم الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلاَنٌ أَبَدًا، فَقَدِمَ فُلاَنٌ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ وَصَوْمَ الِاثْنَيْنِ كُلَّمَا اسْتَقْبَلَهُ. فَإِنْ تَرَكَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ قَضَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَلاَ يَصُومُ وَلاَ يَقْضِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ وَصَامَهُ فِي رَمَضَانَ. كَمَا لَوْ أَنَّ رَجُلاً نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ صَامَ رَمَضَانَ بِالْفَرِيضَةِ وَلَمْ يَصُمْهُ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يَقْضِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ الْأَضْحَى أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَقَدِمَ فُلاَنٌ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ صَامَهُمَا، وَقَضَى كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا وَلاَ يُشْبِهُ هَذَا شَهْرَ رَمَضَانَ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَمَا أُوجِبَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ شَيْءٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ لاَ شَيْءَ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ النَّاذِرُ امْرَأَةً فَكَالرَّجُلِ وَتَقْضِي كُلَّ مَا مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ حَيْضِهَا. وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كُلَّمَا حِضْت أَوْ أَيَّامَ حَيْضِي، فَلَيْسَ عَلَيْهَا صَوْمٌ وَلاَ قَضَاءٌ، لِأَنَّهَا لاَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ حَائِضٌ. وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا، فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّلاَةِ رَكْعَتَانِ، وَمِنْ الصَّوْمِ يَوْمٌ لِأَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنْ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ لاَ الْوِتْرُ. قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ يُجْزِيهِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ تَنَفَّلَ بِرَكْعَةٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ بَعْدَ عَشْرِ رَكَعَاتٍ، وَأَنَّ عُثْمَانَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ. قَالَ الرَّبِيعُ فَلَمَّا كَانَتْ رَكْعَةٌ صَلاَةً وَنَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَصَلَّى رَكْعَةً، كَانَتْ رَكْعَةٌ صَلاَةً بِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَأَيُّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَ أَجْزَأَ.
|