فصل: (كِتَابُ الْكَفَالَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(كِتَابُ الْكَفَالَةِ):

الْكَفَالَةُ: هِيَ الضَّمُّ لُغَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ثُمَّ قِيلَ: هِيَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْكَفَالَةِ:
عَقَّبَ الْبُيُوعَ بِذِكْرِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي الْبِيَاعَاتِ غَالِبًا، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرٍ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ انْتِهَاءً فَنَاسَبَ ذِكْرُهَا عَقِيبَ الْبُيُوعِ الَّتِي هِيَ مُعَاوَضَةٌ وَالْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الضَّمُّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أَيْ ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَنَصْبِ زَكَرِيَّا: أَيْ جَعَلَهُ كَافِلًا لَهَا وَضَامِنًا لِمَصَالِحِهَا (وَفِي الشَّرِيعَةِ: ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ)؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَالِ تَصِحُّ بِالنَّفْسِ وَلَا دَيْنَ ثَمَّةَ وَكَمَا تَصِحُّ بِالدَّيْنِ تَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ لِنَفْسِهَا كَمَا سَيَجِيءُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَلَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ صَارَ الدَّيْنُ الْوَاحِدُ دَيْنَيْنِ، وَعُورِضَ بِمَا إذَا وَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ دَيْنَهُ لِلْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَمَا مَلَكَ كَمَا قَبْلَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَمَّا وَهَبَهُ لِلْكَفِيلِ صَحَّ فَجَعَلْنَا الدَّيْنَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ وَجَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ دَيْنَيْنِ قَالَ (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ.
فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَهَذَا يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِطَرِيقِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ الطَّالِبُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحَقُّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ إلَخْ) الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ، فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ كِفْلٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ لَا يَنْقَادُ لَهُ لِيُسَلِّمَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْعًا.
أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فِي نَفْسِهِ لِيُسَلِّمَهُ، كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَا يُثْبِتُ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً لِيُؤَدِّيَ الْمَالَ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ وَلَنَا قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهَا.
لَا يُقَالُ: هُوَ مُشْتَرَكٌ الْإِلْزَامُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُكِمَ فِيهِ بِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْغُرْمُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِ مَا يَضُرُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْإِحْضَارُ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ بِهِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ كِفْلٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ (قَوْلُهُ: إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ) مَمْنُوعٌ فَإِنَّ قُدْرَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يُعْلِمَ الطَّالِبَ مَكَانَهُ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْعًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهُ (قَوْلُهُ: وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ) اسْتِظْهَارٌ بَعْدَ مَنْعِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْحَاجَةُ وَهِيَ إحْيَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَاسَّةٌ فَلَمْ يَبْقَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا تَعَنُّتًا وَعِنَادًا. قَالَ (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ وَكَذَا بِبَدَنِهِ وَبِوَجْهِهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْبَدَنِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا عَلَى مَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، كَذَا إذَا قَالَ بِنِصْفِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْتُ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَصِحُّ (وَكَذَا إذَا قَالَ ضَمِنْته) لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُوجِبِهِ (أَوْ قَالَ) هُوَ (عَلَيَّ) لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ (أَوْ قَالَ إلَيَّ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ («وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ») (وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ أَوْ قَبِيلٌ بِهِ) لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ.
وَالْقَبِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قَبَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَفَالَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا، وَهِيَ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْبَدَنِ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ، وَقِسْمٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ عُرْفًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَبِرَقَبَتِهِ.
فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا مَخْصُوصٌ بِعُضْوٍ خَاصٍّ فَلَا يَشْمَلُ الْكُلَّ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ، وَكَذَا إذَا عَبَّرَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ، فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ مِنْ صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا، وَكَذَا تَنْعَقِدُ إذَا قَالَ ضَمِنْته؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ، وَكَذَا إذَا قَالَ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ، فِي هَذَا الْمَقَامِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» وَالْكَلُّ: الْيَتِيمُ، وَالْعِيَالُ: مَنْ يَعُولُ: أَيْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمَا الْعِيَالَ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ أَوْ قَبِيلٌ؛ لِأَنَّ الْقَبِيلَ هُوَ الْكَفِيلُ وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قُبَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ فَهُوَ كَفَالَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ النَّاسِ. قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَاذَا يَدَّعِي.
وَلَوْ غَابَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ يَحْبِسُهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ.
قَالَ (وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ كَاَلَّذِي أُعْسِرَ، وَلَوْ سَلَّمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَرِئَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.
قَالَ (وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً.
قَالَ (وَإِذَا كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا: لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا (وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ.
وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ يَسْتَعْجِلُ فِي حَبْسِهِ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَا يَدَّعِي) فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزٍ أَوْ مَعَ قُدْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالطَّالِبُ إمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ الْكَفِيلِ لِلْحَالِ حَتَّى يُعْرَفَ مَكَانُهُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَالَ الْكَفِيلُ لَا أَعْرِفُ مَكَانَهُ وَقَالَ الطَّالِبُ تَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُرْجَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَخْرُجُ مَعَهَا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلتِّجَارَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَيُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالْمَكَانِ وَمُنْكِرٌ لُزُومَ الْمُطَالَبَةِ إيَّاهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقُولُ، فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا أَمَرَ الْكَفِيلَ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ وَإِحْضَارِهِ اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ مُعَايَنَةً.
قَالَ (وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان إلَخْ) إذَا أَحْضَرَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِنَفْسِهِ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِيءَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هُوَ الْمُحَاكَمَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِذَا سَلَّمَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَبَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا هَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
أَمَّا فِي زَمَانِنَا إذَا شَرَطَ التَّسْلِيمَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ وَالتَّقَيُّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي مُفِيدٌ، وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ فَالتَّسْلِيمُ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ شُهُودَهُ كَمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَيَّنَهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَلَّمَهُ فِيهِ، فَتَعَارَضَ الْمَوْهُومَانِ وَبَقِيَ التَّسْلِيمُ مُتَحَقِّقًا مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ فَيَبْرَأُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي إمَّا لِيَثْبُتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا وَقَدْ حَصَلَ.
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَأَوَانٍ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِهِ بِالصِّدْقِ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْقُضَاةُ لَا يَرْغَبُونَ إلَى الرِّشْوَةِ، وَعَامِلُ كُلِّ مِصْرٍ مُنْقَادٌ لِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ فَلَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مِصْرٍ آخَرَ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَهَرَ الْفَسَادُ وَالْمَيْلُ مِنْ الْقُضَاةِ إلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ، فَقَيَّدَ التَّسْلِيمَ بِالْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ.
وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ، فَإِنْ كَانَ الْحَابِسُ هُوَ الطَّالِبَ بَرِئَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهِ.
وَذَكَرَ فِي الْوَاقِعَاتِ: رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْكَفِيلُ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ، وَلَوْ كَفَلَ بِهِ وَهُوَ مُطْلَقٌ ثُمَّ حُبِسَ حُبِسَ الْكَفِيلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ مَا كَفَلَ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ. قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ) بَقَاءُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِبَقَاءِ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ وَمَوْتُهُمَا أَوْ مَوْتُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطٌ لَهَا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَلِأَنَّ الْكَفِيلَ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ فَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسَلُّمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِيُؤَدِّ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، أَجَابَ بِأَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ وَهُوَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ لَا أَصَالَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْمَالَ، وَلَا نِيَابَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْ النَّفْسِ، بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ نَائِبًا، إذْ الْمَقْصُودُ إيفَاءُ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالْمَالِ وَمَالُ الْكَفِيلِ صَالِحٌ لِذَلِكَ فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ ثُمَّ تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ.
وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ لَهُ وَصِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِقِيَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامَ الْمَيِّتِ. قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ فَيَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَكِيلُ الْكَفِيلِ أَوْ رَسُولُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ إلَخْ) وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ بِالْإِضَافَةِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي الْبَرَاءَةَ وَذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ، وَمَعْنَاهُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مُوجِبُهَا الْبَرَاءَةُ عِنْدَ التَّسْلِيمِ وَقَدْ وُجِدَ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْمُوجِبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُوجِبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِلَا شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ، وَكَحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِكَوْنِهِ مُوجِبَهُ وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمُوجِبَاتِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ:؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ: أَيْ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ مُوجِبُ تَصَرُّفِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَالْمُوجِبَاتُ تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ بِدُونِ ذِكْرِهَا صَرِيحًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُلُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ لَا دَفْعِ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا النَّفْيُ الِاشْتِبَاهَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ حَقُّهُ، فَلَعَلَّ الطَّالِبَ يَقُولُ مَا لَمْ أَسْتَوْفِ حَقِّي مِنْ الْمَطْلُوبِ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّسْلِيمَ وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْرَارَ إذَا وُجِدَ التَّسْلِيمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ بِإِيفَاءِ عَيْنِ مَا الْتَزَمَ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ صَاحِبِهِ، فَلَوْ تَوَقَّفَ لَرُبَّمَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ إبْقَاءً لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْكَفِيلُ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْأَصِيلُ نَفْسَهُ عَنْ كَفَالَتِهِ: أَيْ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَقَالَ دَفَعْت إلَيْك نَفْسِي مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَصَارَ كَتَسْلِيمِهِ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْحُضُورِ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ إذَا طُولِبَ بِهِ فَهُوَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا التَّسْلِيمِ، لَكِنْ إذَا قَالَ دَفَعْت نَفْسِي مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ وَاجِبٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِقَوْلِهِ مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ لَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ فَلَا يَبْرَأُ، وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ: أَيْ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مُطَالَبٌ بِالْحُضُورِ فَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ مُتَبَرِّعًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ التَّبَرُّعِ وُقُوعُهُ عَنْ الْكَفِيلِ لِيَبْرَأَ بِهِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ جِهَةً أُخْرَى كَمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَسْلِيمُ وَكِيلِ الْكَفِيلِ وَرَسُولِهِ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ كَتَسْلِيمِهِ. قَالَ (فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَالِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحٌ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ (وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.
وَلَنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامٌ.
فَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ.
وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ إنْ لَمْ أُوَافِ بِفُلَانٍ إلَى شَهْرٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ ضَمِنَ الْمَالَ وَافَاهُ: أَيْ آتَاهُ مِنْ الْوَفَاءِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ لِمَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقُلْهُ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ أَلْفٌ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فَعَلَى مَالِكٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْكَمِّيَّةَ جَازَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى التَّوَسُّعِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك بِمَا أَدْرَكَك فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ صَحَّتْ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالشَّجَّةِ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُعْلَمْ هَلْ تَبْلُغُ النَّفْسَ أَوْ لَا.
ثُمَّ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا صِحَّةُ الْكَفَالَةِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالثَّانِي عَدَمُ بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ أَدَاءِ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ: يَعْنِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِتَصْرِيحِهِ بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشَّرْطِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ يُرِيدُ بِهِ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ.
وَسَنَذْكُرُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ صَحِيحٌ، فَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ.
وَعَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَمَّا تَحَقَّقَتْ حَقًّا لِلْمَكْفُولِ لَهُ لَا تَبْطُلُ إلَّا بِمَا يُنَافِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ أَوْ إبْرَاءٍ أَوْ مَوْتٍ.
وَلَيْسَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ مُنَافِيَةً لَهُمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا؛ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ فَلَا تُبْطِلُهَا وَكَيْفَ تُبْطِلُهَا وَقَدْ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَاتٌ أُخْرَى وَإِبْطَالُهَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ تَثْبُتُ بَدَلًا عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَوُجُوبُ الْبَدَلِ يُنَافِي وُجُوبُ الْمُبْدِلِ مِنْهُ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَدَلِيَّتَهَا مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوعٌ لِلتَّوَثُّقِ كَمَا مَرَّ كَكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بَعْدَ مِثْلِهَا وَبِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا صَحِيحٌ وَالْوَفَاءُ بِهِمَا إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذِهِ الْكَفَالَةُ: أَيْ الْمُعَلَّقَةُ بِالشَّرْطِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَيْ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ فِي لُزُومِ الْمَالِ بِالْعِوَضِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ وَتَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا.
الْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ تَعْلِيقَ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَنَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ لَا الْتِزَامُ الْمَالِ.
سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنْ أَشْبَهَ الْبَيْعَ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهٍ كَمَا مَرَّ، وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ الِالْتِزَامُ، فَشَبَهُ الْبَيْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ كُلِّهَا، وَشَبَهُ النَّذْرِ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ وَإِعْمَالُ الشَّبَهَيْنِ أَوْلَى، فَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ، وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِهِمَا، وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ رَغْبَتِهِمْ فِي مُجَرَّدِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ. قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ إلَخْ) وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَهِيَ وَإِنْ وَافَقَتْ مَسْأَلَةَ الْقُدُورِيِّ الْمَذْكُورَةَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَالُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالشَّرْطِ لَكِنَّهُ عَدِمَهَا هَاهُنَا بِالْمَوْتِ وَفِيمَا تَقَدَّمَتْ بِغَيْرِهِ فَذَكَرَهَا بَيَانًا لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالْمَوْتِ وَبِغَيْرِهِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إذَا سَقَطَتْ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِكَوْنِهَا كَالتَّأْكِيدِ لَهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً، وَلِهَذَا إذَا وَافَى بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ وَقَدْ سَقَطَتْ إذَا سَقَطَتْ الْأُولَى بِالْإِبْرَاءِ فَيَجِبُ أَنْ تَسْقُطَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى سَقَطَتْ بِالْمَوْتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ إلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ تَأْكِيدًا لِلْغَيْرِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ وَذَلِكَ خُلْفٌ بَاطِلٌ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَوَائِدِهِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ وُضِعَ لِفَسْخِ الْكَفَالَةِ وَالْمَوْتُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ، فَبِالْإِبْرَاءِ تَنْفَسِخُ الْكَفَالَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِالْمَوْتِ تَنْفَسِخُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ ضَرُورَةَ عَجْزِ الْكَفِيلِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ تَسْلِيمٌ يَقَعُ ذَرِيعَةً إلَى الْخِصَامِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّسْلِيمِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْقَوْلِ بِانْفِسَاخِهَا فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُوَافَاةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ يَتَحَقَّقُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَلْزَمُ ضَرُورَةَ التَّأْكِيدِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَكَّدَ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ كَمَا كَانَ، فَإِنْ قِيلَ: إذَنْ يَتَضَرَّرُ الْكَفِيلُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ.
قُلْنَا: الِالْتِزَامُ مِنْهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ، وَقَدْ اُلْتُزِمَ حَيْثُ تُيُقِّنَ بِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ بِالْمَوْتِ تَنْفَسِخُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَكَذَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا.
قُلْنَا: دَعْوَى مِنْهُ عَلَى خِلَافِ إطْلَاقِ لَفْظِهِ فِي إنْ لَمْ يُوَافِ فَلَا يُفِيدُهُ فِي إضْرَارِ غَيْرِهِ. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ بَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالًا مُطْلَقًا بِخَطَرٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَا يَجِبُ إحْضَارُ النَّفْسِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا تَصِحُّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ إلَخْ) وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ وَبَيَّنَهَا بِأَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ هِنْدِيَّةٌ أَوْ مِصْرِيَّةٌ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَطَلَبَهُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ الْكَفَالَةِ مِائَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَةٍ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ فَلَا يَقْدِرُ الْمُدَّعِي عَلَى مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِالْكَفَالَةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكَفِيلَ عَلَّقَ فِي كَفَالَتِهِ مَالًا مُطْلَقًا عَنْ النِّسْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَدًا، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْمَالَ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّشْوَةِ لِيَتْرُكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ وَإِنْ بَيَّنَ الْمَالَ وَبِهِ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ.
وَالثَّانِي أَنَّ الدَّعْوَى بِلَا بَيَانٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ إحْضَارُ النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا يَصِحُّ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهَذَا مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ إذَا كَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا عِنْدَ الدَّعْوَى.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذَكَرَهُ مُعَرَّفًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيَّ الْمِائَةُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ النِّسْبَةُ مَوْجُودَةً فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رِشْوَةً، فَكَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا وَالدَّعْوَى صَحِيحَةً فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْأُولَى.
وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي مُقَابَلَةِ النُّكْتَةِ الْأُولَى لِمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُ: وَالْعَادَةُ جَرَتْ فِي مُقَابَلَةِ الثَّانِيَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ دَفْعًا لِحِيَلِ الْخُصُومِ وَالْبَيَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ اُلْتُحِقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمِائَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ الْمِائَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا وَبَيَّنَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَعَلَى هَذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْكَفَالَةِ. قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) مَعْنَاهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَلِيقُ بِهِمَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ.
قَالَ (وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي) لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ هَاهُنَا، وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ: إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ إلَخْ) مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ الْقِصَاصُ إذَا طَالَبَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يُحْضِرَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ عَنْ إعْطَائِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لَا يَجُوزُ إجْبَارُ الْكَفَالَةِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِسْنَادِ الْجَوَازِ إلَى الْكَفَالَةِ مَجَازٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِهِمْ وَفِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ: أَيْ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُلُوصِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ، وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْجَبْرِ هَاهُنَا الْحَبْسَ بَلْ الْأَمْرُ بِالْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَدُورَ الطَّالِبُ مَعَ الْمَطْلُوبِ أَيْنَمَا دَارَ كَيْ لَا يَتَغَيَّبَ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَأَرَادَ الدُّخُولَ يَسْتَأْذِنُهُ الطَّالِبُ فِي الدُّخُولِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ يَدْخُلُ مَعَهُ وَيَسْكُنُ حَيْثُ سَكَنَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ يُجْلِسُهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْكَفِيلِ بِهِ سَوَاءٌ أَعْطَاهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا.
أَمَّا قَبْلَ إقَامَتِهَا فَلِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ حُضُورَ مَجْلِسٍ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدٍ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَهَذَا لَمْ يَكْفُلْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصْلِ؛ وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يُحْبَسُ وَبِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِيثَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ) يَعْنِي بَيْنَ مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ، قِيلَ هَذَا مِنْ كَلَامِ شُرَيْحٍ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي عَنْ شُرَيْحٍ.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالتَّكْفِيلِ) فَإِنْ قِيلَ: حُبِسَ بِإِقَامَةِ شَاهِدٍ عَدْلٍ وَمَعْنَى الِاسْتِيثَاقِ فِي الْحَبْسِ أَتَمُّ مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ لَا لِلِاسْتِيثَاقِ (بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ) فَإِنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَيَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَيَحْلِفُ فِيهِ فَيُجْبَرُ الْمَطْلُوبُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ) أَيْ لَوْ تَبَرَّعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ لِلطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ (وَحَدُّ الْقَذْفِ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ وَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ) وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ حَدَّ السَّرِقَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ.
قَالَ (وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ إلَخْ) لَا يَحْبِسُ الْحَاكِمُ فِي الْحُدُودِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيهِمَا: أَيْ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ: أَيْ يَعْرِفُ الْحَاكِمُ كَوْنَهُ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ هَاهُنَا لِلتُّهْمَةِ: أَيْ لِتُهْمَةِ الْفَسَادِ لَا لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حُجَّةٍ كَامِلَةٍ وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةِ،؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الدِّيَانَاتِ وَالدِّيَانَاتُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْهَا.
وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ مَا كَانَ الْحَبْسُ فِيهِ أَقْصَى عُقُوبَةٍ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ إذَا ثَبَتَتْ وَعَدَمُ مُوجِبَاتِ السُّقُوطِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْإِيفَاءِ لَا يُحْبَسُ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَمَا كَانَ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْأَقْصَى فِيهَا الْقَتْلُ أَوْ الْقَطْعُ أَوْ الْجَلْدُ حَازَ الْحَبْسُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ لِلتُّهْمَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَبْسُ لِلتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِالْحُجَّةِ يُنَافِي الدَّرْءَ بِالشُّبُهَاتِ، وَالدَّرْءُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْتَفِي الْحَبْسُ لِلتُّهْمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ لِلتُّهْمَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اتِّهَامُ الْحَاكِمِ أَيْضًا بِالتَّهَاوُنِ فِيهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّرْءَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالتَّرْكَ وَالتَّهَاوُنَ حَرَامٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى فَسَادِ الْعَالَمِ الَّذِي شُرِعَ الْحُدُودُ لِدَفْعِهِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَحْبِسْهُ الْحَاكِمُ اُتُّهِمَ بِأَنَّهُ مُتَهَاوِنٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَادِحٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَالْإِيفَاءُ مِنْ أَمْثَالِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَيُحْبَسُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشِّهَادِ إذَا اتَّهَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْفَسَادِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ الْحَاكِمِ، وَالْحَبْسُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَقَعَ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَتَّهِمُ بِذَلِكَ، ثُمَّ إذَا سَمِعَ الْحُجَّةَ الْكَامِلَةَ تُحِيلُ لِلدَّرْءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لَمَّا جَازَ عِنْدَهُمَا جَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِهِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ الْحَبْسِ.
وَقِيلَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ فِي الْحَبْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَنْهُمَا رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ يُحْبَسُ وَلَا يُكْفَلُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَكْسُهُ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي دَلَالَةِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ خَفَاءٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ (وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ فَيُمْكِنُ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهِمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ إلَخْ) أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هَاهُنَا دَفْعًا لِمَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَخَذَ الْكَفِيلِ عَنْ الْخَرَاجِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ دُونَ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ تَقْتَضِي دَيْنًا مُطَالَبًا بِهِ مُطْلَقًا وَالْخَرَاجُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَيُمْنَعُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَيُلَازَمُ مَنْ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قِيلَ مُطْلَقًا يَعْنِي فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ احْتِرَازًا عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا، أَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْمُطَالِبُ هُوَ الْإِمَامُ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنَةِ فَمُلَّاكُهَا لِكَوْنِهِمْ نُوَّابَ الْإِمَامِ، وَالْكَفَالَةُ بِهَا لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ تَوْثِيقًا كَالْكَفَالَةِ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِهِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ، فَقَوْلُهُ:؛ (لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ كُلَّ دَيْنٍ صَحِيحٍ تَصِحُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْمَمَاتِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَلِوُجُودِ مَا شُرِعَ الْكَفَالَةُ لِأَجْلِهِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: (مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ) إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ فَإِنَّهَا تَعْتَمِدُ إمْكَانَ الِاسْتِيفَاءِ لِكَوْنِهِ تَوْثِيقًا بِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَتَرَتَّبُ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ عَلَيْهِ.
قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ وَلَا بُعْدَ فِي قَصْدِهِ ذَلِكَ. قَالَ (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ فَهُمَا كَفِيلَانِ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمَقْصُودُ التَّوَثُّقُ، وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ فَلَا يَتَنَافَيَانِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَخْ) تَعَدُّدُ الْكُفَلَاءِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ صَحِيحٌ كَفَلُوا جُمْلَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ: أَيْ أَنْ يَلْتَزِمَ الْكَفِيلُ ضَمَّ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ لِرُجُوعِهِ إلَى إلْزَامِ مَنْ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى الطَّلَبِ وَهُوَ خُلْفٌ بَاطِلٌ، وَالْمَقْصُودُ بِشَرْعِ الْكَفَالَةِ التَّوَثُّقُ وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ، وَمَا يُزَادُ بِهِ الشَّيْءُ لَا يُنَافِيهِ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا، فَالْقَوْلُ بِامْتِنَاعِهِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَإِذَا صَحَّتْ الثَّانِيَةُ لَمْ يَبْرَأْ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا صَحَّحْنَاهَا لِيَزْدَادَ التَّوَثُّقُ، فَلَوْ بَرِئَ الْأَوَّلُ مَا زَادَ إلَّا مَا نَقَصَ فَمَا فَرَضْنَاهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَكُنْ زِيَادَةٌ هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الثَّانِي فَلَوْ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ وَاجِبًا فِي مَوْضِعَيْنِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكَفِيلَ إذَا كَفَلَ بِالدَّيْنِ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ وَالْأَصْلُ مُوَافَقَتُهَا وَيُفْضِي إلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ نَفْسَ الْأَصِيلِ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ دُونَ صَاحِبِهِ. (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ مَعْلُومًا كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ أَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ أَوْ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ) لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ إجْمَاعٌ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ لِشَجَّةٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَتْ السِّرَايَةُ وَالِاقْتِصَارُ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَسَيَأْتِيك فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ، أَوْ مَجْهُولًا كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ: يَعْنِي مِنْ الضَّمَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً فَيُتَحَمَّلُ فِيهَا جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ يَسِيرَةً وَغَيْرَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَارَفَةً.
وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا وَهُوَ التَّبِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الضَّمَانَ بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَالٍ فَلَا يَصِحُّ مَجْهُولًا كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ.
وَقُلْنَا الضَّمَانُ بِالدَّرَكِ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ ضَمَانٌ بِالْمَجْهُولِ، وَصَارَ الْكَفَالَةُ بِمَالِ مَجْهُولٍ كَالْكَفَالَةِ بِشَجَّةٍ أَيِّ شَجَّةٍ كَانَتْ إذَا كَانَتْ خَطَأً فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لِاحْتِمَالِ السِّرَايَةِ وَالِاقْتِصَارِ.
وَإِنَّمَا قِيلَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَمْدًا وَقَدْ سَرَتْ وَكَانَتْ الشَّجَّةُ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ.
وَلَمَّا مَرَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ (وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ دَيْنًا صَحِيحًا) وَفَسَّرَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ، إذْ الدَّيْنُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَالْمَطْلُوبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِهِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاقْتِدَارِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يُسْقِطَ الْبَدَلَ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ.
وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْءٌ فَيُطَالِبُهُ بِهِ. قَالَ (وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ كَفِيلَهُ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهُ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَرَاءَةَ فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِدُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ بِهَا الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً (وَلَوْ طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا) لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ الضَّمُّ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّمْلِيكُ مِنْ الثَّانِي، أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إلَخْ) الْمَكْفُولُ لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ: أَيْ الدَّيْنُ وَيُسَمَّى الدَّيْنُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ دَيْنٍ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ فَرْعًا، وَهَذَا التَّخْيِيرُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهَا إلَّا إذَا شُرِطَتْ الْبَرَاءَةُ فَتَصِيرُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا جُمْلَةً وَمُتَعَاقِبًا، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْغَاصِبَيْنِ: أَيْ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَضْمِينِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْ الثَّانِي.
أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ فَلَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ. قَالَ (وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَوْ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ فَعَلَيَّ أَوْ مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا، إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ إلَخْ) يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا أَوْ إذَا حَلَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَلَمْ يُوَفِّ بِهِ فَعَلَيَّ.
وَلَا يَجُوزُ بِشَرْطٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْمُلَاءَمَةِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ، وَقَيَّدَ بِكَوْنِ زَيْدٍ مَكْفُولًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا كَانَ التَّعْلِيقُ بِهِ كَمَا فِي هُبُوبِ الرِّيحِ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فَإِنَّ مُنَادِيَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّقَ الِالْتِزَامَ بِالْكَفَالَةِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ هُوَ الْمَجِيءُ بِصُوَاعِ الْمِلْكِ، وَكَانَ نِدَاؤُهُ بِأَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى بَيَانِ الْعِمَالَةِ لِمَنْ يَأْتِي بِهِ لَا لِبَيَانِ الْكَفَالَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِ مَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ عَشَرَةٌ فَلَا يَكُونُ كَفَالَةً؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَكُونُ إذَا الْتَزَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَهَاهُنَا قَدْ الْتَزَمَ عَنْ نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَهِيَ تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّعِيمَ حَقِيقَةً فِي الْكَفَالَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ فَكَانَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ الْمُنَادِي لِلْغَيْرِ: إنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} بِذَلِكَ فَيَكُونُ ضَامِنًا عَنْ الْمِلْكِ لَا عَنْ نَفْسِهِ فَتَتَحَقَّقُ حَقِيقَةُ الْكَفَالَةِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فِي الْآيَةِ أَمْرَيْنِ: ذِكْرُ الْكَفَالَةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَإِضَافَتُهَا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَعَدَمُ جَوَازِ أَحَدِهِمَا بِدَلِيلٍ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ الْآخَرِ.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ وَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ أَصْلًا، وَالثَّانِيَةُ تَمْنَعُهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُضَافَةً كَقَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِمَا بَايَعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ، وَالثَّالِثَةُ تَمْنَعُهُ مُطْلَقًا.
؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأُولَى مَنْصُوصٌ عَلَى جَوَازِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى حِمْلُ بَعِيرٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَعِيرِ فَلَمْ تُمْنَعْ مُطْلَقًا، وَالثَّانِيَةُ إنَّمَا تَمْنَعُهُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ لَا لِلْجَهَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ، وَالتَّعَامُلُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ مِنْهُ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَالثَّالِثَةُ إنَّمَا تَمْنَعُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي حَقِّ الطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الطَّالِبِ، وَفِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَتَّى تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ كَمَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَصْلًا وَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الطَّالِبِ كَانَتْ جَهَالَةُ الطَّالِبِ مَانِعَةً جَوَازَهَا كَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُشْتَرِي مَانِعَةٌ مِنْ الْبَيْعِ بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ جَهَالَتَهُ لَا تَمْنَعُ كَمَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمُعْتَقِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعِتْقِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا عَلَى مَا يَأْتِي (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا) أَيْ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ كَذَا لَا يَصِحُّ جَعْلُهُمَا أَجَلًا لِلْكَفَالَةِ وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ يَقْتَضِي نَفْيَ جَوَازِ التَّعْلِيقِ لَا نَفْيَ جَوَازِ الْكَفَالَةِ مَعَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَجُوزُ.
الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا لَا يَصِحُّ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَكَذَا لَا يَصِحُّ إذَا جَعَلَ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ يَصِحُّ هُوَ التَّعْلِيقَ أَوْ الْكَفَالَةَ إذَا لَمْ يَذْكُرْ ثَالِثًا.
وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ إذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَكَذَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا.
وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ بُطْلَانُ الْأَجَلِ مَعَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وَالدَّلِيلُ صِحَّةُ تَعْلِيقِهَا بِالشَّرْطِ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ نَفْيُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِهِمَا، وَالْمَجْمُوعُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ.
لَا يُقَالُ: نَفْيُ الْكَفَالَةِ الْمُؤَجَّلَةِ كَنَفْيِ الْمُعَلَّقَةِ وَلَا تَنْتَفِي الْكَفَالَةُ بِانْتِفَاءِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْمُعَلَّقَ نَوْعٌ، إذْ التَّعْلِيقُ يُخْرِجُ الْعِلَّةَ عَنْ الْعَلِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ مَعْرُوضِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّرْفِ مَا يُقَارِبُهُ إنْ كَانَ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فَاعِلَ يَصِحُّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْأَجَلُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَكَمَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ لَا يَصِحُّ الْأَجَلُ إذَا جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَلًا.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الْأَجَلُ مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًا) وَتَقْدِيرُهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَأْجِيلُهَا بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ لَمْ تَبْطُلْ بِالْآجَالِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَيُجَوِّزُ الْمَجَازُ عَدَمَ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ مَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ بِهِ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ (وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً) وَلَوْ عَايَنَ مَا عَلَيْهِ وَكَفَلَ عَنْهُ لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَصَحَّ الضَّمَانُ بِهِ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ) وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَجْهُولٌ لَزِمَهُ بِقَوْلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا كَانَ هُوَ خَصْمًا فِيهِ وَالشَّيْءُ مِمَّا يَصِحُّ بَذْلُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا) كَالْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ دُيُونِ الصِّحَّةِ حَيْثُ يُقَدَّمُونَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ. قَالَ (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ إذْ هُوَ عِنْدَ أَمْرِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ (وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُؤَدِّيهِ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَقَوْلُهُ (رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ) إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ، أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ، كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْإِرْثِ، وَكَمَا إذَا مَلَكَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْلِكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَصَارَ كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَخْ) الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي أَوْ تَكَفَّلْ عَنِّي وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ سِيَّانِ فِي الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَأَمْثَالُهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِهَا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ أَنْ يُطَالَبَ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ فَهُوَ لَازِمٌ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ، وَغَيْرُ الْمُتَصَرِّفِ هُنَا هُوَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَقَطْ وَالطَّالِبُ غَيْرُ مُتَضَرِّرٍ بَلْ مُنْتَفِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَطْلُوبُ إنْ تَضَرَّرَ فَإِنَّمَا يَتَضَرَّرُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْأَمْرِ، فَمَا لَمْ يَأْمُرْ لَمْ يَتَضَرَّرْ، وَإِنْ أَمَرَ فَقَدْ رَضِيَ، وَالضَّرَرُ الْمَرَضُ غَيْرُ ضَائِرٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِنَوْعَيْهَا مِمَّا يَقْتَضِيهَا الْمُقْتَضِي مَعَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِهِ وَاجِبٌ.
ثُمَّ إنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، وَمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا كَذَلِكَ وَأَمَرَ الْكَفِيلَ فَإِنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَبْدِ مَا دَامَ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا بِمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ أَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَفَعَلَ فَقَدْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ الْآمِرُ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّيْنِ هُوَ الدَّيْنُ الصَّحِيحُ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَرْجِعُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْكَفِيلُ إذَا أَدَّى رَجَعَ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالِاسْتِيفَاءِ مَلَكَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَبِنَفْسِ الْكَفَالَةِ؛ كَمَا يَجِبُ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَائِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ عِنْدَ كَفَالَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ (قَوْلُهُ: رَجَعَ بِمَا أَدَّى) اعْلَمْ أَنَّ الْكَفِيلَ يَمْلِكُ الْمَكْفُولَ بِهِ فِي فُصُولٍ: مِنْهَا الْأَدَاءُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَمِنْهَا هِبَتُهُ إيَّاهُ، وَمِنْهَا إرْثُهُ لَهُ، وَمِنْهَا صُلْحُهُ إيَّاهُ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَعَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَدَّى مَا ضَمِنَ وَفِيهِ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مِثْلَ مَا ضَمِنَ.
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ أَدَّى خِلَافَ مَا ضَمِنَ كَمَا إذَا أَدَّى زُيُوفًا بَدَلَ مَا ضَمِنَ مِنْ الْجِيَادِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ الرُّجُوعُ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ؛ (لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ) وَالطَّالِبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَا مَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى فَصْلِ الْهِبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَهَبَ الْمَكْفُولَ لَهُ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِلْكَفِيلِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَمْلِكُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا ضَمِنَ، وَعَلَى فَصْلِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْمَكْفُولُ لَهُ وَيَرِثُهُ الْكَفِيلُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ وَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الطَّالِبِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِلْكَفِيلِ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذْ الْكَفَالَةُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فِي الدَّيْنِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ الْمَمْلُوكَ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ مَا ضَمِنَ، وَأَمَّا فِي الْأَدَاءِ بِخِلَافِ مَا ضَمِنَ فَقَدْ تَعَدَّدَ الْأَمْرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فِيمَا تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِهِ فِيمَا تَعَدَّدَ: أَعْنِي مَا أَدَّى وَمَا ضَمِنَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا إذَا وَهَبَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَإِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ صَارَ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ وَوَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الدَّيْنِ وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ حَتَّى يَتَمَلَّكَ مَا عَلَيْهِ لَا مَا عَلَى غَيْرِهِ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ نَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ بِإِحَالَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا، وَهَذَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ إبْرَاءِ الدَّيْنِ وَهِبَتِهِ لَهُ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةَ تَرْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ يَكْفِي مُؤْنَتُهُ بِوُجُوبِ الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْهِبَةُ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكًا اقْتَضَتْ مِلْكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ الدَّيْنِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَكَمَا لَوْ وُهِبَ الدَّيْنُ مِنْ الْأَصِيلِ صَحَّ الرَّدُّ فَكَذَا مِنْ الْكَفِيلِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّشْبِيهَ إنَّمَا هُوَ فِي نُزُولِ الْكَفِيلِ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَمِيعِ ثُمَّ إذَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَالطَّالِبُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ إلَّا مَا ضَمِنَ لَهُ فَكَذَا مَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى صُورَةِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ أَنْ يُحِيلَ الْمَدْيُونُ طَالِبَهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَأَدَّى الْمُحَالُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا ضَمِنَ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ.
(قَوْلُهُ: بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ) قِيلَ يُرِيدُ بِهِ حَوَالَةَ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ) جَوَابُ دَخَلَ تَقْرِيرُهُ: الْكَفِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَّا إذَا أَدَّى بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمَأْمُورُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ الْمَأْمُورُ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزَمْ بِالْكَفَالَةِ فَلَا يُمْلَكُ الدَّيْنُ بِالْأَدَاءِ حَتَّى يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ فَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِمَا، فَلَوْ أَدَّى الزُّيُوفَ عَلَى الْجِيَادِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ بِهَا دُونَ الْجِيَادِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ عَكَسَ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: رَجَعَ بِمَا أَدَّى بِإِطْلَاقِهِ فِيهِ تَسَامُحٌ، وَأَمَّا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهَا أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَفِيهِ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى لَا بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَكَانَ إبْرَاءً فِيمَا وَرَاءَ بَدَلِ الصُّلْحِ، وَفِيهِ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ.
وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جِنْسٍ لِآخَرَ وَفِيهِ تَمَلُّكُ الدَّيْنِ فَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ وَسَيَأْتِي. قَالَ (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ.
قَالَ (فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ) وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ) الْكَفِيلُ بِالْمَالِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ بِهِ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمُطَالَبَةِ هُوَ التَّمْلِيكُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَانْتَفَى الْمُوجِبُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ حَيْثُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا: أَيْ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ مُبَادَلَةً حُكْمِيَّةً، وَلِهَذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَلِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ حَبْسِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمُوَكِّلِ لِأَجْلِ الثَّمَنِ كَالْبَائِعِ، وَالْمُبَادَلَةُ تُوجِبُ الْمِلْكَ الْمُوجِبَ لِجَوَازِ الْمُطَالَبَةِ.
قَالَ (فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ إلَخْ) إذَا لُوزِمَ الْكَفِيلُ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ، وَكَذَا إذَا حَبَسَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ حَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ.
وَقُلْنَا هُوَ مُوَرِّطٌ فَعَلَيْهِ الْخَلَاصُ. (وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ (وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ وَبَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِهِ جَائِزٌ (وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الدَّيْنُ حَالَ وُجُودِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ الْأَجَلُ دَاخِلًا فِيهِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ.
الشَّرْحُ:
فَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ، وَإِبْرَاءُ الْأَصِيلِ يَسْتَلْزِمُ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِوُجُودِ الدَّيْنِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ فَلَمْ تَبْقَ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْمُطَالَبَةُ وَقَدْ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ بِوُجُوبِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَيُعَلَّلُ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ، وَقَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْأَصِيلِ بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْكَفِيلِ فَرْعُ وُجُوبِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُمْ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا شُرِطَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ وَلَمْ تُوجِبْ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ.
قُلْنَا: لَا نَقْضَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّا قُلْنَا إنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَإِذَا شُرِطَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ كَفِيلٌ، بَلْ الْبَاقِي إذْ ذَاكَ مُحَالٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَقُلْ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ (وَإِنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ)؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ، وَسُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ أَصْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِ الطَّلَبِ أَوْ بِدُونِ الْكَفِيلِ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ مَا سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ الْأَصِيلِ (وَإِنْ أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ كَفِيلِهِ، وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ كَفِيلِهِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ) لِإِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ إلَى غَايَةٍ (فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ) وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ مَعَ عَدَمِ التَّسَاوِي وَهُوَ بَاطِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفِيلَ لَوْ رَدَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ بَلْ يَثْبُتُ الْإِبْرَاءُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ، وَلَوْ رَدَّ الْإِبْرَاءَ الْمُوَقَّتَ ارْتَدَّ بِالرَّدِّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا ضَمِنَهُ حَالًّا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ شَيْءٍ بِغَيْرِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِيَ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِلَّا لَا يَبْقَى الِاعْتِبَارُ.
نِعْمَ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ فَارِقٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ بَيْنَ قَبُولِ أَحَدِهِمَا الرَّدَّ دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا تَمْلِيكَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ، وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ كَإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الْمُوَقَّتُ فَهُوَ تَأْخِيرُ مُطَالَبَةٍ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطٌ وَلِهَذَا يَعُودُ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَالتَّأْخِيرُ قَابِلٌ لِلرَّدِّ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ دَخَلَ.
تَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَأْخِيرٍ عَنْ الْكَفِيلِ بَلْ هُوَ تَأْخِيرٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ التَّأْجِيلَ فِي ابْتِدَاءِ الْكَفَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حَقٌّ لِلطَّالِبِ سِوَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْكَفَالَةِ لَمْ تَثْبُتْ بَعْدَ تَعَيُّنِ تَأْخِيرِهِ، وَإِذَا كَانَ تَأْخِيرُ أَصْلِ الدَّيْنِ وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَعَنْ الْكَفِيلِ جَمِيعًا.
(أَمَّا هَاهُنَا) أَيْ فِيمَا إذَا حَلَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّمَا كَانَ لِلتَّأْخِيرِ الْمُطَالَبَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْخِيرُ أَصْلِ الدَّيْنِ. قَالَ (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهِيَ عَلَى الْأَصِيلِ فَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَمَلَكَهُ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ إلَخْ) مُصَالَحَةُ الْكَفِيلِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ بِجِنْسِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: هُوَ أَنْ يُشْتَرَطَ بَرَاءَتُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ بَرَاءَةُ الْمَطْلُوبِ خَاصَّةً، أَوْ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ خَاصَّةً، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَفِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بَرِئَا جَمِيعًا، وَفِي الثَّالِثِ بَرِئَ الْكَفِيلُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لَا غَيْرُ وَالْأَلْفُ بِحَالِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَخَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كَانَ الصُّلْحُ وَالْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ.
وَفِي الرَّابِعِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الصُّلْحِ إلَى الْأَلْفِ إضَافَةٌ إلَى مَا عَلَى الْأَصِيلِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ سِوَى الْمُطَالَبَةِ فَيَبْرَأُ الْأَصِيلُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى هَذَا الْقَدْرَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ قَالَ صَالَحْتُك عَمَّا اُسْتُوْجِبَ بِالْكَفَالَةِ كَانَ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ لَا إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ فَيَأْخُذُ الطَّالِبُ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ شَاءَ وَالْبَاقِيَ مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى وَمُصَالَحَتُهُ إيَّاهُ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ تَمْلِيكٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ مِنْهُ بِالْمُبَادَلَةِ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لِتَصِيرَ الدَّنَانِيرُ بَدَلًا مِنْ الدَّيْنِ وَيَكُونَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَتَكُونَ الْبَرَاءَةُ مَشْرُوطَةً لِلْكَفِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَمْسُمِائَةٍ بَدَلًا عَنْ الْأَلْفِ لِكَوْنِهِ رِبًا فَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَالْبَرَاءَةُ مَشْرُوطَةٌ لَهُ، وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَيَبْرَآنِ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) مَعْنَاهُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ (وَإِنْ قَالَ أَبْرَأْتُك لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ.
وَلَوْ قَالَ بَرِئْت قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مِثْلُ الثَّانِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَالْإِبْرَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى إذْ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَإِلَيْهِ الْإِيفَاءُ دُونَ الْإِبْرَاءِ.
وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا إلَخْ) ذَكَرَ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِبْرَاءِ: إحْدَاهَا مَا ذُكِرَ فِيهِ ابْتِدَاءُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُذْكَرَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الطَّالِبِ، وَالثَّالِثَةُ بِالْعَكْسِ.
فَالْأُولَى أَنْ يَقُولَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ، وَفِيهَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ: أَيْ الْكَفِيلِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ دَفَعْت إلَيَّ الْمَالِ أَوْ قَبَضْته مِنْك وَهُوَ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الدَّيْنِ مُطَالَبَةٌ مِنْ الْكَفِيلِ وَلَا مِنْ الْأَصِيلِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُك وَفِيهَا لَا رُجُوعَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنْ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَطْلُبَ مَالَهُ مِنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ وَهَاتَانِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُك؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ وَالْبَرَاءَةَ بِالْإِبْرَاءِ، وَالثَّانِيَةُ أَدْنَاهُمَا فَتَثْبُتُ (قَوْلُهُ: وَلَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا آخَرَ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ وَشَكَكْنَا فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إنْ كَانَتْ بِالْأَدَاءِ رَجَعَ الْكَفِيلُ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يَرْجِعُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بَرِئْت إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ الْخِطَابِ وَهُوَ التَّاءُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلٍ يُضَافُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا إذَا قِيلَ قُمْت وَقَعَدْت مَثَلًا وَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْإِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَالِ فَتَقَعُ الْبَرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الطَّالِبِ صُنْعٌ؛ فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ فَمِمَّا لَا يُوجَدُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ لَا مَحَالَةَ.
وَقِيلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَهُ فَأَخَّرَهُ وَهُوَ أَقْرَبُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَائِبًا فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا هُوَ أَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِبَيَانِ الْمُجْمِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُمْكِنٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْمُجْمَلِ التَّوَقُّفُ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَهَاهُنَا قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَعَ انْتِفَاءِ لَازِمِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ بَرِئْت إلَيَّ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي حَقِّ إيفَاءٍ لِلْكَفِيلِ وَقَبْضِ الطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ بَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلِاسْتِعَارَةِ بِأَنْ يُقَالَ بَرِئْت إلَيَّ؛ لِأَنِّي أَبْرَأْتُك، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الِاسْتِعْمَالِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْلِيلِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ اسْتِدْلَالِيٌّ لَا صَرِيحٌ فِي الْإِيفَاءِ وَغَيْرِ الْإِيفَاءِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ، فَلَمَّا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِصَرِيحِ الْبَيَانِ مِنْ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ سَقَطَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُرَادِ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي الْإِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْمُجْمَلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ الطَّالِبِ صَرِيحًا وَقْتَ حُضُورِهِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهَذَا تَطْوِيلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُجْمَلِ الْمُجْمَلَ الِاصْطِلَاحِيَّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُجْمَلَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ إبْهَامٌ فَالْخَطْبُ إذًا يَهُونُ هَوْنًا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَكَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ إلَخْ) تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِإِسْقَاطٍ مَحْضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ، وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ.
وَرُدَّ بِمَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وَبِالنَّفْسِ وَقَالَ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَاهُ مِنْ الْغَدِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَقَدْ جُوِّزَ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِمُوَافَاةِ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْإِيضَاحِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ.
وَقِيلَ فِي وَجْهِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ إنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَرْطًا مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ لِلطَّالِبِ فِيهِ أَصْلًا كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ غَدٌ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَهُ تَعَامُلٌ فَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِهِ صَحِيحٌ كَالْمَسْأَلَةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ الْإِيضَاحِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْرَاءِ بَعْضٍ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ مُتَعَامَلٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا قَالَ عَجِّلْ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنِّي أَبْرَأْتُك مِنْ الْبَاقِي كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْبَعْضِ بِتَعْجِيلِ الْبَعْضِ فَرِوَايَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَرْطًا مَحْضًا غَيْرَ مُتَعَامَلٍ وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ. قَالَ (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) مَعْنَاهُ بِنَفْسِ الْحَدِّ لَا بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ إلَخْ) ذَكَرَ ضَابِطًا لِمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُمْكِنُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الضَّرْبِ أَوْ حَزِّ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِمُنْتَفٍ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ آخَرَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَمْ تَصِحَّ كَفَالَتُهُ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَعْتَمِدُ الْإِيجَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ.
إذْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصَالَةً وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ، أَوْ نِيَابَةً وَهِيَ لَا تَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ.
قَالُوا:؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ وَهُوَ بِالْإِقَامَةِ عَلَى النَّائِبِ لَا يَحْصُلُ وَفِيهِ تَشْكِيكٌ، وَهُوَ أَنَّ الزَّجْرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَانِي بِأَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِ مَا فَعَلَ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ كَمَا تَرَى بَعْضَ الْمُتَهَتِّكِينَ يَعُودُونَ إلَى الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى النَّائِبِ هَذَا فِي الْحُدُودِ وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ قَطْعًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَصْلًا لَا مَحَالَةَ.
وَالثَّانِي كَمَا فِي الْحَدِّ وَلَعَلَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ خِلَافٌ فِي جَرَيَانِهَا فِي الْعُقُوبَاتِ فَيَكُونُ التَّشْكِيكُ حِينَئِذٍ تَشْكِيكًا فِي الْمُسَلَّمَاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ. قَالَ (وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنْ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ، لَا بِمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ، وَلَا بِمَا كَانَ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ.
وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ إلَخْ) الْكَفَالَةُ بِالثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ صَحِيحٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُهُ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْكَفَالَةِ بِالْمَبِيعِ وَالْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَعْيَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِهَا تَنْقَسِمُ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ إلَى مَا هُوَ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَإِلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ.
ثُمَّ الْمَضْمُونُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ، وَإِلَى مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبُ وَالْكَفَالَةُ بِهَا كُلِّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ بِذَوَاتِهَا أَوْ بِتَسْلِيمِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيمَا يَكُونُ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونًا بِالْغَيْرِ، وَتَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْمَبِيعِ عَنْ الْبَائِعِ بِأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلْمُشْتَرِي إنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ، وَلَا بِالْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ، وَلَا الْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ.
وَتَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَادَامَ قَائِمًا، وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مَضْمُونَةٌ بِعَيْنِهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَجِبَ قِيمَتُهَا عِنْدَ الْهَلَاكِ، وَمَا لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَمَا مَرَّ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَفَالَةَ بِالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ مَحَلُّهَا الدُّيُونَ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهَا قُدْرَةُ الْكَفِيلِ عَلَى الْإِيفَاءِ مِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ.
وَقُلْنَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَالْمُطَالَبَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ لَا مَحَالَةَ، وَالْأَمَانَاتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَالْمَضْمُونُ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ الْمَضْمُونِ بِالثَّمَنِ، وَالْمَرْهُونُ الْمَضْمُونُ بِالدَّيْنِ وَالْقِيمَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ وَلَا تَلْزَمُهُ مُطَالَبَتُهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ الْكَفَالَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: أَعْنِي الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ إذَا كَفَلَ بِتَسْلِيمِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَالْمَرْهُونُ إذَا كَفَلَ عَنْ الْمُرْتَهِنِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ الدَّيْنَ جَازَ.
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ لَا تَصِحُّ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْكَفَالَةُ بِعَيْنِ الرَّهْنِ أَوْ بِرَدِّهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ، وَلَعَلَّ مَحْمَلَهُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ، وَالْكَفِيلُ لَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ إنْ كَانَ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا ضَمَانَ فِيهَا.
وَمَا كَانَ أَمَانَةً فَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ الطَّلَبِ لَا التَّسْلِيمِ، وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ، كَمَا لَا تَجُوزُ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ كَالْمُسْتَأْجَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ إذَا ضَمِنَ رَجُلٌ تَسْلِيمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً وَعَجَّلَ الْأَجْرَ وَلَمْ يَقْبِضْهَا وَكَفَلَ لَهُ بِذَلِكَ كَفِيلٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَالْكَفِيلُ مُؤَاخَذٌ بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً فَإِنْ هَلَكَتْ فَلَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ انْفَسَخَتْ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَدُّ الْأَجْرِ وَالْكَفِيلِ مَا كَفَلَ بِهِ، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذِكْرَ الْمُسْتَعَارِ كَمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْوَدِيعَةِ إشَارَةً إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَأَظُنُّهُ تَابَعَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةُ بَاطِلَةٌ، قِيلَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَوَابٍ، فَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ صَحِيحَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَيْسَ مِمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْجَامِعِ بَلْ لَعَلَّهُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَاخْتَارَهَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا) دَلِيلٌ لِمَا ذَكَرَهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَكُونُ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ وَمَا لَا يَكُونُ.
كَمَا فَصَّلْنَاهُ. قَالَ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ (وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ) عُلِمَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ بِتَسْلِيمِهَا رَجُلٌ صَحَّتْ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْحَمْلُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ بِالْحَمْلِ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مُعَيَّنَةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ بِالْحَمْلِ لَمْ يَصِحَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (عَاجِزٌ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ، وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَمْلٍ عَلَى تِلْكَ الدَّابَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَوْ مَنَعَ صِحَّتَهَا لَمَا صَحَّتْ بِالْأَعْيَانِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِي الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا، وَمَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ جَوَابًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَسْلِيمُ مَا الْتَزَمَهُ مُتَصَوَّرٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَصَحَّ الْتِزَامُهُ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِعَقْدِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّصَوُّرُ غَيْرَ دَافِعٍ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ مَا الْتَزَمَهُ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ صِحَّتَهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا (وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ لَمْ تَصِحَّ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا كَفَلَ بِهِ. قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا: يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ أَجَازَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا.
لَهُ أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ، وَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ.
وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ شَطْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ جَازَ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ إلَخْ) لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا: تَجُوزُ إذَا أَجَازَ حِينَ بَلَغَهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ.
قِيلَ: أَيْ نُسَخِ كَفَالَةِ الْمَبْسُوطِ.
وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِأَنَّ نُسَخَ كَفَالَةِ الْمَبْسُوطِ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَإِنَّمَا هِيَ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْمَوْجُودُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِهِ فِي بَعْضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ فِي آخَرَ، وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَشَرَطَ الْإِجَازَةَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ نُسَخِ الْمَبْسُوطِ، وَهَذَا الْخِلَافُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمْ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا.
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَرِطْ الْإِجَازَةَ فِيهَا أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ كَالْإِقْرَارِ وَالنَّذْرِ فَهَذَا يَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ وَمُنِعَ كَوْنُهُ الْتِزَامًا فَقَطْ، وَبِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَتِمُّ بِالْمُخْبَرِ وَالنَّذْرُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَمَنْ لَهُ الْعِبَادَاتُ لَا يَشْتَرِطُ قَبُولَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَلَهُ فِي وَجْهٍ رِوَايَةُ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُ الْوَاحِدِ كَالْعَقْدِ التَّامِّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ عَلَى أَحَدٍ، وَمَنْعُ عَدَمِ الضَّرَرِ بِجَوَازِ رَفْعِ الْأَمْرِ إلَى قَاضٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْكَفَالَةَ إذَا صَحَّتْ بَرِئَ الْأَصِيلُ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الطَّالِبِ.
وَلَهُمَا أَنَّ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الْمُطَالَبَةِ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يَتِمُّ بَعْدَ الْإِيجَابِ إلَّا بِالْقَبُولِ، وَالْمَوْجُودُ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبِلَهُ عَنْ الطَّالِبِ فُضُولِيٌّ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ لِوُجُودِ شَطْرَيْهِ.
قَالَ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَخْ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ عَدَمُهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ الطَّالِبَ غَيْرُ حَاضِرٍ فَلَا يَتِمُّ الضَّمَانُ إلَّا بِقَبُولِهِ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَا الْمَرِيضُ.
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوْفِ عَنِّي دَيْنِي وَذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تُفْسِدُ الْكَفَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: إنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ عِنْدَ الْمَوْتِ تَصْحِيحًا لِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا لَا يَكُونُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطًا.
قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لَا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ فِيمَا إذَا دَلَّ لَفْظٌ بِظَاهِرِهِ عَلَى مَعْنًى وَإِذَا نَظَرَ فِي مَعْنَاهُ يَئُولُ إلَى مَعْنًى آخَرَ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ أَوْ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَرِيضَ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ: أَيْ إلَى قِيَامِهِ مَقَامَهُ لِوُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ نَفْعِ الْمَرِيضِ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ بِوُجُودِ مَا يُنَافِيهِ مِنْ نَفْعِ الطَّالِبِ فَصَارَ كَأَنَّ الطَّالِبَ قَدْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ لِلْوَارِثِ تَكَفَّلْ عَنْ أَبِيك لِي.
فَإِنْ قِيلَ: قِيَامُهُ مَقَامَ الطَّالِبِ وَحُضُورُهُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ هَاهُنَا.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ) أَيْ الْمَرِيضُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي تَحْقِيقَ الْكَفَالَةِ لَا الْمُسَاوَمَةَ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَةٍ زَوِّجِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ زَوَّجْت فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمَا زَوَّجْت وَقَبِلْت، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ صَرِيحُ الْقَبُولِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَتَمْثِيلُهُ بِالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ لَفْظٍ وَاحِدٍ مَقَامَهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَسْلَكَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ (وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ إلَخْ) إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِأَجْنَبِيٍّ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَفَعَلَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ الِالْتِزَامِ فَكَانَ الْمَرِيضُ وَالصَّحِيحُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً، وَلَوْ قَالَ الصَّحِيحُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَكَذَا الْمَرِيضُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ قَصَدَ بِهِ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ فِي تَرِكَتِهِ فَيَصِحُّ هَذَا مِنْ الْمَرِيضِ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ قَائِمًا مَقَامَ الطَّالِبِ لِتَضَيُّقِ الْحَالِ عَلَيْهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ مِنْ الصَّحِيحِ فَتَرَكْنَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ كَمَا هُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، وَلِهَذَا جَازَ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ لِلضَّرُورَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ مِنْ الصَّحِيحِ لِعَدَمِهَا. قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَكَفَّلَ عَنْهُ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: تَصِحُّ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ وَلِهَذَا يَبْقَى فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ يَصِحُّ، وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ مَالٌ.
وَلَهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ.
لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ مَالٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ فَفَاتَ عَاقِبَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَخَلَفَهُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إلَخْ) إذَا مَاتَ الْمَدْيُونُ مُفْلِسًا وَلَمْ يَكُنْ عَنْهُ كَفِيلٌ فَكَفَلَ عَنْهُ بِدَيْنِهِ إنْسَانٌ وَارِثًا كَانَ أَوْ أَجْنَبِيًّا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: هِيَ صَحِيحَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفِيلَ قَدْ كَفَلَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَكُلُّ كَفَالَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَهِيَ صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذِهِ صَحِيحَةٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا كَفَلَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَيْنًا صَحِيحًا هُوَ الْمَفْرُوضُ، وَثُبُوتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ.
لَا كَلَامَ فِي ثُبُوتِهِ وَبَقَائِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهُوَ ثَابِتٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ، وَمَا وَجَبَ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِإِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ أَوْ بِفَسْخِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْمَفْرُوضُ عَدَمُ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَدَعْوَى سُقُوطِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنْ الدَّلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ، وَلَوْ بَرِئَ الْمُفْلِسُ بِالْمَوْتِ عَنْ الدَّيْنِ لَمَا حَلَّ لِصَاحِبِهِ الْأَخْذُ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُغَيِّرُ وَصْفَ الثُّبُوتِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ؛ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا لَبَطَلَ الْعَقْدُ كَمَنْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ، وَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ هَاهُنَا عُلِمَ أَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدَّيْنَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَكُلُّ فِعْلٍ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ، وَالْقُدْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَلَفِهِ وَقَدْ انْتَفَتْ بِانْتِفَائِهِمَا فَانْتَفَى الدَّيْنُ ضَرُورَةً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ الدَّيْنُ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً أَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهُ هُوَ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ، يُقَالُ دَيْنٌ وَاجِبٌ كَمَا يُقَالُ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ، وَالْوَصْفُ بِالْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنْ قُلْت: لَزِمَ حِينَئِذٍ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلَيْك بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي التَّقْرِيرِ فِي بَابِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ قُلْت فَقَدْ يُقَالُ الْمَالُ وَاجِبٌ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ الدَّيْنَ (فِي الْحُكْمِ مَالٌ)؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ إلَّا بِتَمْلِيكِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ، فَوَصْفُ الْمَالِ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ الْمَوْصُوفَ بِهِ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَالِ فَكَانَ وَصْفًا مَجَازِيًّا، فَإِنْ قُلْت: الْعَجْزُ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ يَدُلُّ عَلَى تَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الدَّيْنِ فِي نَفْسِهِ كَمَنْ كَفَلَ عَنْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّهَا تَصِحُّ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُطَالَبَةُ فِي حَالَةِ الرِّقِّ.
قُلْنَا: غَلِطَ بِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهَا ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ وَبَيْنَ ذِمَّةٍ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ وَلَمْ تَبْقَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَلَوْ أَخْرَجَهُ إلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ بَلْ هُوَ سَاقِطٌ، وَسَيَذْكُرُ السَّنَدَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ كَانَ أَحَذَقَ فِي وُجُوهِ النَّظَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ وَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَاسْتَغْنِ عَنْ إعَادَتِهَا فِيمَا هُوَ نَظِيرُهُ فِيمَا سَيَأْتِي.
(قَوْلُهُ: وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ صَحَّ يَعْنِي أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدَّيْنُ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ بُطْلَانَ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لَا الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يُخْرِجُ مَنْ قَامَ بِهِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدَيْنِهِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْغَيْرُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا لِبَقَائِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، فَإِنَّ السُّقُوطَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِضَرُورَةِ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ (قَوْلُهُ: وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ الْفِعْلِ إمَّا بِنَفْسِ الْقَادِرِ أَوْ بِخَلَفِهِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ انْتَفَى الْقَادِرُ فَخَلَفُهُ وَهُوَ الْوَكِيلُ أَوْ الْمَالُ فِي حَقِّ بَقَاءِ الدَّيْنِ بَاقٍ (قَوْلُهُ: أَوْ الْإِفْضَاءُ) عَلَى مَا هُوَ السَّمَاعُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ تُنَزَّلُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ الْكَفِيلُ وَالْمَالُ إنْ لَمْ يَكُونَا خَلَفَيْنِ فَالْإِفْضَاءُ (إلَى الْأَدَاءِ) بِوُجُودِهِمَا (بَاقٍ) بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ لَفٌّ وَنَشْرٌ.
وَتَقْدِيرُهُ فَخَلَفُهُ وَهُوَ الْوَكِيلُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى مَا يُفْضِي إلَى الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَالُ بَاقٍ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُدْرَةِ، إمَّا نَفْسُ الْقَادِرِ أَوْ خَلَفُهُ أَوْ مَا يُفْضِي إلَى الْأَدَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إذْ الْإِفْضَاءُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ فَخَلَفُهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَخَلَفُهُ بَاقٍ حَذَفَهُ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَك رَاضٍ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ وَمَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْمَالِ خَلَفٌ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا بَاقٍ، فَإِنَّ الْخَلَفَ مَا بِهِ يَحْصُلُ كِفَايَةُ أَمْرِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهُمَا كَذَلِكَ فَكَانَا خَلَفَيْنِ، وَفِيهِ مَا تَرَى مِنْ التَّكَلُّفِ مَعَ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِالْأُولَى.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فَإِنَّهُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِجِنَازَةِ أَنْصَارِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَهَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ، فَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَامَ عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا كَمَا امْتَنَعَ قَبْلَهَا فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفِيلَ يَغْرَمُ مَا كَفَلَ بِهِ، وَالْكَلَامُ فِي كَفِيلِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ هَلْ هُوَ زَعِيمٌ أَوْ لَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَلِيٍّ أَوْ أَبِي قَتَادَةَ إقْرَارًا بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ، فَإِنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلَا عُمُومَ لِحِكَايَةِ الْحَالِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِالتَّبَرُّعِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِجَوَازِهِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟ حَتَّى قَالَ يَوْمًا قَضَيْتهمَا فَقَالَ: الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ» وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَلَوْ كَانَ كَفَالَةً لَأَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لِعَدَمِ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ وَجَاحِدُهُ مُتَسَاهِلٌ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ جَعْلُ الذِّمَّةِ الْمَعْدُومَةِ مَوْجُودَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَم. قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، كَمَنْ عَجَّلَ زَكَاتَهُ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ (وَإِنْ رَبِحَ الْكَفِيلُ فِيهِ فَهُوَ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ، أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ أُخِّرَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ يَصِحُّ، فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ نُبَيِّنُهُ فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ إلَخْ) رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ فَقَضَى الْأَصِيلُ الْكَفِيلَ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ صَاحِبَ الْمَالِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ وَقَالَ إنِّي لَا آمَنُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِبُ مِنْك حَقَّهُ فَخُذْهَا قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ فَقَبَضَهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْأَصِيلُ لِلْكَفِيلِ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَادْفَعْ إلَى الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا: أَيْ فِي الْأَلْفِ الْمَدْفُوعِ، وَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ، وَهُوَ الْكَفِيلُ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَمَا لَمْ يَبْطُلْ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِأَدَاءِ الْأَصِيلِ بِنَفْسِهِ حَقَّ الطَّالِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كَانَ لِغَرَضٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِرْدَادُ فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا لِئَلَّا يَكُونَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ، وَهَذَا كَمَنْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ لِغَرَضٍ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ، فَمَا دَامَ الِاحْتِمَالُ بَاقِيًا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمُؤَدَّى حَقُّ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبُ يُبْطِلُ ذَلِكَ بِاسْتِرْدَادِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْكَفِيلُ فِيمَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ وَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ، وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْ مِلْكِهِ طَيِّبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا وَجَبَ لَهُ فَيَمْلِكُهُ مِنْ حِينِ قَبَضَهُ كَمَنْ قَبَضَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ مُعَجَّلًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ دَيْنَيْنِ: دَيْنًا لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَدِينًا لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، لَكِنَّ دَيْنَ الطَّالِبِ حَالٌّ وَدَيْنَ الْكَفِيلِ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ مُطَالَبَتِهِ بِمَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْ الْأَصِيلِ رَهْنًا بِهَذَا الْمَالِ صَحَّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَ رَهْنًا بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ.
وَقَالَ: كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِبَعْضِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ ظَاهِرًا، وَالْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا، وَلَكِنْ لَا يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ، إلَّا أَنَّ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ حَالَّةٌ وَمُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ أُخِّرَتْ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، فَنُزِّلَ مَا وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِهَذَا: أَيْ لِكَوْنِهِ نَازِلًا مَنْزِلَتَهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ صَحَّ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ رَهْنًا أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ وَجَعَلَ ضَمِيرَ عَلَيْهِ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْكَفِيلِ وَالْمَعْنَى بِحَالِهِ: أَيْ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِثْلَ مَا تُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ، وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الْمُطَالَبَةِ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَتَمَلُّكُهُ مَا قَبَضَ بِمُجَرَّدِ مَا لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ مِنْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمِلْكَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَوْ الْقَبْضِ فَإِنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ وَلَا يَمْلِكُ مَا قَبَضَ.
وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يَكُونَ تَوْجِيهُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لَا عَلَى الْكَفِيلِ، وَحِينَئِذٍ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّالِبِ لَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا الْمُطَالَبَةُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَفِيلِ دَيْنٌ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ دَيْنِ الطَّالِبِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْكَفَالَةِ دَيْنَيْنِ وَثَلَاثَ مُطَالَبَاتٍ: دَيْنٌ وَمُطَالَبَةٌ حَالَّيْنِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ، وَمُطَالَبَةٌ فَقَطْ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَدَيْنٌ وَمُطَالَبَةٌ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ دَيْنُ الْكَفِيلِ مُؤَجَّلًا، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ فَنُزِّلَ هَذَا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ مَنْزِلَةَ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَكُنْ بِالْكَفَالَةِ، وَفِي ذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ مُعَجَّلًا مَلَكَهُ، فَكَذَا هُنَا، هَذَا مَا سَنَحَ لِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ إلَّا أَنَّ فِيهِ: أَيْ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لِلْكَفِيلِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ وَقَدْ أَدَّى الْأَصِيلُ الدَّيْنَ نَوْعُ خُبْثٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيَّنَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْكُرِّ وَالْخُبْثُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ؛ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فِي آخِرِ فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَأَمَّا إذَا قَضَاهُ الْكَفِيلُ فَلَا خُبْثَ فِيهِ أَصْلًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَإِذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَالرِّبْحُ لَا يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ أَصْلُهُ الْمُودَعُ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ فَإِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ. (وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَبَضَهَا الْكَفِيلُ فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْحُكْمِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ (قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ لَهُ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.
لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَيُسَلِّمُ لَهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ، إمَّا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقْضِيَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ) مَا مَرَّ كَانَ فِي حُكْمِ الرِّبْحِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ كَكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ قَبَضَهَا الْكَفِيلُ مِنْ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الطَّالِبِ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ: يَعْنِي الْمَكْفُولَ عَنْهُ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْهُ: الرِّبْحُ لَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهُوَ دَلِيلُهُمَا أَنَّهُ رِبْحٌ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَمَنْ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ يُسَلَّمُ لَهُ الرِّبْحُ.
وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَقْضِيَ الْكُرَّ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الرِّبْحُ حَاصِلًا فِي مِلْكٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَنْ يُقِرَّ وَأَنْ لَا يُقِرَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِلْكٌ قَاصِرٌ وَلَوْ عَدِمَ الْمِلْكُ أَصْلًا كَانَ خَبِيثًا، فَإِذَا كَانَ قَاصِرًا تَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ.
وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لِلْكَفِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَائِهِ فَإِذَا قَضَاهُ الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ الْخُبْثُ، وَهَذَا الْخُبْثُ: أَيْ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَتَقْرِيرُهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ وَكُلُّ خُبْثٍ تَمَكَّنَ مَعَ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ، فَهَذَا الْخُبْثُ يَعْمَلُ فِي الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ وَالْخُبْثُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ: أَيْ لَحِقَ الَّذِي قَضَاهُ، فَإِذَا رَدَّ إلَيْهِ وَصَلَ الْحَقُّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ؛ فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا طَابَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَطِيبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رُدَّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقُّهُ، هَذَا إذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِذَا قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْكَفِيلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَطِيبُ. قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ الْأَصِيلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا فَفَعَلَ فَالشِّرَاءُ لِلْكَفِيلِ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَيْهِ) وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِبَيْعِ الْعِينَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعَ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً؛ سُمِّيَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِمَذْمُومِ الْبُخْلِ.
ثُمَّ قِيلَ: هَذَا ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَكَذَا الثَّمَنُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِجَهَالَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ: أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ إلَخْ) إذَا أَمَرَ الْأَصِيلُ الْكَفِيلَ أَنْ يُعَامِلَ إنْسَانًا بِطَرِيقِ الْعِينَةِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعُ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي الْمُسْتَقْرِضَ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلُ خَمْسَةً فَفَعَلَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ فَالشِّرَاءُ وَاقِعٌ لَهُ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَصِيلِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْبَيْعُ عِينَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِعْرَاضَ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِلْبُخْلِ الَّذِي هُوَ مَذْمُومٌ، وَكَأَنَّ الْكُرْهَ حَصَلَ مِنْ الْمَجْمُوعِ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْإِقْرَاضِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَالْبُخْلُ الْحَاصِلُ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَاتِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَتْ الْمُرَابَحَةُ مَكْرُوهَةً، وَإِلَّا لَزِمَ الرِّبْحُ لِلْكَفِيلِ دُونَ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا كَفَالَةٌ فَاسِدَةٌ عَلَى مَا قِيلَ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ فَإِنَّهُ كَلِمَةُ ضَمَانٍ لَكِنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالضَّمَانَ إنَّمَا يَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْخُسْرَانُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، كَرَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ بِعْ مَتَاعَك فِي هَذَا السُّوقِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَضَيْعَةٍ وَخُسْرَانٍ يُصِيبُك فَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ لَك فَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَمَّا وَكَالَةٌ فَاسِدَةٌ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ تَعَيَّنَ: يَعْنِي اشْتَرِ لِي حَرِيرًا يُعَيِّنُهُ ثُمَّ بِعْهُ بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْهُ وَاقْضِ دَيْنِي، وَفَسَادُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ: أَيْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الدَّيْنُ مَعْلُومٌ وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ مِقْدَارُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ الْجَهَالَةُ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا فَسَدَتْ الْكَفَالَةُ أَوْ الْوَكَالَةُ كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ: أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَى الدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ صَوَّرَ لِلْعِينَةِ صُورَةً أُخْرَى وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُقْرِضَ وَالْمُسْتَقْرِضَ بَيْنَهُمَا ثَالِثًا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ فَيَبِيعَ صَاحِبُ الثَّوْبِ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَبِيعُهُ مِنْ الثَّالِثِ بِعَشَرَةٍ وَيُسْلِمُ الثَّوْبَ إلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعُ الثَّالِثَ الثَّوْبَ مِنْ الْمُقْرِضِ بِعَشَرَةٍ وَيَأْخُذُ مِنْهُ عَشَرَةً وَيَدْفَعُهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَتَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ، وَإِنَّمَا تَوَسَّطَا بِثَالِثٍ احْتِرَازًا عَنْ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْمُومٌ اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا، وَقَدْ ذَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» وَقِيلَ: إيَّاكَ وَالْعِينَةَ فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ. قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ وَهُوَ بِالْقَضَاءِ أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَأْنَفُ كَقَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ إلَخْ) رَجُلٌ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قُضِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الدَّعْوَى، وَدَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ مُطَابِقَتِهَا بِالْمَكْفُولِ بِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَكْفُولَ بِهِ إمَّا مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لِدَلَالَةِ مَا قَضَى بِصَرَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَدَلَالَةِ مَا ذَابَ بِاسْتِلْزَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ، وَالتَّقَرُّرُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَضَاءِ وَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا مَالٌ يُقْضَى بِهِ يُجْعَلُ لَفْظُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا؛ لِأَنَّ إرَادَةَ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ لَفْظِ الْمَاضِي خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِنُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْبَلَاغَةِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِدَعْوَاهُ لِإِطْلَاقِهَا وَتُفِيدُ الْمَكْفُولَ بِهِ، حَتَّى قِيلَ إنْ ادَّعَى عَلَى الْكَفِيلُ أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِوُجُودِ الْمُطَابَقَةِ حِينَئِذٍ، وَالشَّارِحُونَ ذَهَبُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ قُضِيَ أَوْ يُقْضَى بِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَبَعْدَهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا كَمَا تَرَى، وَالتَّعْلِيلُ بِدُونِ ذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ إمَّا مَالٌ مَقْضِيٌّ وَلَمْ يَدَّعِهِ، أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَمَعَ غَيْبَةِ الْأَصِيلِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى صَحِيحَةً فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ. (وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يُقْضَى عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً) وَإِنَّمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ، فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ لِأَنَّهُ تَعْتَمِدُ صِحَّتُهَا قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ قُضِيَ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، وَإِنْ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ قُضِيَ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِ خَاصَّةً وَهَاهُنَا يُحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ فُرُوقٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ هَاهُنَا دُونَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ هَاهُنَا مَالٌ مُطْلَقٌ عَنْ التَّوْصِيفِ لِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا بِهِ أَوْ يُقْضَى بِهِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى مُطَابِقَةً لِلْمُدَّعَى بِهِ فَصَحَّتْ وَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِابْتِنَائِهَا عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ.
وَمِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ لَوْ صَدَّقَهُ فَقَالَ قَدْ كَفَلْت لَك بِمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ: أَيْ بِمَا قُضِيَ لَك عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَك عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ كَفَلْت لَك عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنْ لَيْسَ لَك شَيْءٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ.
وَالثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي أَنْ لَا يَكُونَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْ الْأَصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَكُلُّ مَا كَانَا كَذَلِكَ فَهُمَا غَيْرَانِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَقْضِي بِالسَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ الْمِلْكُ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ وَقَضَى بِالْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ بِبَيِّنَةٍ ثَبَتَ أَمْرُهُ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ، وَالْأَمْرُ بِالْكَفَالَةِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، فَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهَا لَا تَمَسُّ جَانِبَ الْغَائِبِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وُجُوبُهُ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ: أَيْ الشَّأْنَ أَنَّ هِمَّةَ الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرٍ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَدَّى الدَّيْنُ عَنْ الْكَفِيلِ إلَى الْأَصِيلِ.
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَبْهَمَ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ عَنْ فُلَانٍ بِكُلِّ مَالٍ لَهُ قَبْلَهُ وَلَمْ يُفَسِّرْ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ سَوَاءٌ ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِإِثْبَاتِ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ، وَالْكَفَالَةُ إذَا كَانَتْ بِمَعْلُومٍ أَمْكَنَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَعْرُوفٌ بِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَا تَصِحُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ يَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ، وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا كَانَ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ مَالٌ فَأَنَا كَفِيلٌ فَأَثْبَتَهُ الْمُدَّعِي، وَسَيَأْتِي تَمَامُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ عَلَيْهَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَلَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ عِيَانًا رَجَعَ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَمَّا أَنْكَرَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الطَّالِبَ ظَلَمَهُ وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ.
وَقُلْنَا: لَمَّا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ؛ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَأَقَرَّ بِأَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَاسْتَحَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ.
وَنُوقِضَ بِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَاعَهُ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ بِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ حَيْثُ لَمْ يَبْطُلْ زَعْمُهُ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا عَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ لِلْعَيْبِ فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْقَاضِي إنَّمَا كَذَّبَهُ فِي قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلرَّدِّ عَلَى الثَّانِي فَافْتَرَقَا. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُولِهِ، ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ.
قَالَ (وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَرَّةً يُوجَدُ مِنْ الْمَالِكِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، قَالُوا: إذَا كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا وَهُوَ كَتَبَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَهُوَ تَسْلِيمٌ، إلَّا إذَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ إلَخْ) وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ وَهُوَ التَّبِعَةُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْمُرَادُ قَبُولُ رَدِّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ: أَيْ تَصْدِيقٌ مِنْ الْكَفِيلِ بِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَلَوْ ادَّعَى الدَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ إذْ الدَّرَكُ يَثْبُتُ بِلَا شَرْطِ كَفَالَةٍ وَالشَّرْطُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً فَتَمَامُ الْبَيْعِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَقْدِ، فَالدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْكَفِيلُ شَفِيعًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَبُطْلَانُ السَّعْيِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ مُسَلَّمَاتِ هَذَا الْفَنِّ لَا يُقْبَلُ التَّشْكِيكُ بِالْإِقَالَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَ طَلَبُهَا سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّقْضِ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَالْإِقَالَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ فَسْخٌ لَا نَقْضٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَرْغَبَ الْمُشْتَرِي فِي شِرَاءِ الْمَبِيعِ مَخَافَةَ الِاسْتِحْقَاقِ فَتَكَفَّلَ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ هَذَا الدَّارَ وَلَا تُبَالِ فَإِنَّهَا مِلْكُ الْبَائِعِ، فَإِنْ أَدْرَكَك دَرَكٌ فَأَنَا ضَامِنٌ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَعْنَى.
قَالَ (وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ إلَخْ) لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدُ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ وَخَتَمَ شَهَادَتَهُ بِأَنْ كَتَبَ اسْمَهُ فِي الصَّكِّ وَجَعَلَ اسْمَهُ تَحْتَ رَصَاصٍ مَكْتُوبًا وَوَضَعَ عَلَيْهِ نَقْشَ خَاتَمِهِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ وَالتَّبْدِيلُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ قَبْلَ قَوْلِهِ وَخَتَمَ وَقَعَ اتِّفَاقًا بِاعْتِبَارِ عُرْفٍ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَتْمٌ أَوْ لَا، فَإِنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَارَةً يُوجَدُ مِنْ الْمِلْكِ وَأُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّهُ بَاعَ لَا تَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِ الدَّرَكِ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِمَا تَقَدَّمَ، قَالَ مَشَايِخُنَا: مَا ذُكِرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْبَيْعِ لَا تَكُونُ تَسْلِيمًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكْتُبْ فِي الصَّكِّ مَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَنَفَاذَهُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ بَاعَ أَوْ جَرَى الْبَيْعُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ شَهِدَ فُلَانٌ الْبَيْعَ أَوْ جَرَى الْبَيْعُ بِمَشْهَدِي، وَأَمَّا إذَا كَتَبَ فِيهِ مَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَنَفَاذَهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا وَهُوَ يَمْلِكُهُ، وَكَتَبَ الشَّاهِدُ شَهِدَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي الصَّكِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ.