فصل: فَصْلٌ: في العوارض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ: في العوارض:

(وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي رَمَضَانَ فَخَافَ إنْ صَامَ ازْدَادَ مَرَضُهُ أَفْطَرَ وَقَضَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُفْطِرُ، هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ (وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ) لِأَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ) لِوُجُودِ الْإِدْرَاكِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ.
وَفَائِدَتُهُ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ.
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فَيَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا ذَكَرَ مَسَائِلَ الصَّوْمِ شَرَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ لِتَنَوُّعِهِ إلَى مَا يَزْدَادُ بِالصَّوْمِ إلَى مَا يَخِفُّ بِهِ، وَمَا يَخِفُّ بِهِ لَا يَكُونُ مُرَخَّصًا لَا مَحَالَةَ، فَجَعَلْنَا مَا يَزْدَادُ بِهِ مُرَخِّصًا كَخَوْفِ الْهَلَاكِ لِوُجُودِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ فِيهِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِاجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ حُمَّاهُ زَادَ شِدَّةً أَوْ عَيْنَهُ وَجَعًا وَإِمَّا بِقَوْلِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ.
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا السَّفَرُ بِنَفْسِهِ فَمُرَخِّصٌ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ، فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لَهُ، هَكَذَا نُقِلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَتْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الصَّوْمَ أَحَبُّ فِي السَّفَرِ مِنْ الْإِفْطَارِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ.
اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ» الْحَدِيثَ (وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ) لِأَنَّ «عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» كَالْخَلَفِ عَنْ رَمَضَانَ، وَالْخَلَفُ لَا يُسَاوِي الْأَصْلَ بِحَالٍ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَدِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ: أَيْ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِهِ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا) أَيْ مِنْ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ (لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْقَضَاءُ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ (لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وَقَوْلُهُ (وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَتُهُ) أَيْ فَائِدَةُ لُزُومِ الْقَضَاءِ (وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ) بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ فَإِذَا أَوْصَى يُؤَدِّي الْوَصِيُّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا بِقَدْرِ مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَا يَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بَلْ يَسْقُطُ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا (وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ (خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ) فَقَالَ: وَلَوْ زَالَ عَنْهُ الْعُذْرُ وَقَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ قَضَى فِيمَا قَدَرَ وَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ قَضَائِهِ إلَّا قَدْرَ مَا قَضَى، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْكُلِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ مَا قَدَرَ يَصْلُحُ فِيهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْبَعْضِ فَكَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْكُلِّ وَلَمْ يَصُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ لِأَنَّهُ بِالصَّوْمِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَصْلُحَ فِيهِ قَضَاءُ يَوْمٍ آخَرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إلَّا مِقْدَارَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أَدْرَكَ إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ) يَعْنِي أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ قَوْلَهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ (وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ الشَّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ فَصَارَ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ (وَالْفَرْقُ لَهُمَا) بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ) وَقَدْ وَجَدَ، الْمَانِعَ وَهُوَ عَدَمُ الذِّمَّةِ فِي الْتِزَامِ أَدَائِهِ قَدْ زَالَ بِالْبُرْءِ، وَإِذَا وُجِدَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي وَزَالَ الْمَانِعُ يَظْهَرُ الْوُجُوبُ لَا مَحَالَةَ، وَصَارَ كَصَحِيحٍ نَذَرَ فَمَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَإِذَا ظَهَرَ الْوُجُوبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْأَدَاءُ يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ (وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ) وَإِدْرَاكُهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ بَلْ بَعْضُهَا تَحَقَّقَ (فَيَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهِ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَسَبَبُ الْأَدَاءِ شُهُودُ الشَّهْرِ فَكَذَا سَبَبُ الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِ السَّبَبِ أَثَرٌ فِي بَعْضِ الْحُكْمِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُ الْوُجُوبِ، بَلْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَسْلِيمُ الْوُجُوبِ أَوْ مِثْلُهُ وَهُوَ الْخِطَابُ، وَهَذَا مِنْ مَزَالِّ الْأَقْدَامِ فَلَا تُغْفَلُ.
وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي كُلِّ الْحُكْمِ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ فَمَا فَرَضْنَاهُ جُزْءًا لَا يَكُونُ جُزْءًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا لِسَبَبِ عِلَّةٍ تَامَّةٍ لِبَعْضِ الْحُكْمِ فَلَا مَانِعَ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يَحْرُمُ الْفَضْلُ وَالنَّسِيئَةُ، وَأَحَدُهُمَا يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى. (وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ (وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِيَ) لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ (وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ) لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ) الصَّوْمُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُتَتَابِعَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ صَاحِبُهَا فِيهَا بِالْخِيَارِ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ فَصَوْمُ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَضَاءُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ وَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ ضَبَطَهُ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِعَ فِيهِ الْعِتْقُ كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ وَاجِبًا، وَمَا لَا فَلَا فَيَكُونُ قَضَاءُ رَمَضَانَ مِمَّا فِيهِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ، وَلِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، وَالتَّتَابُعُ وَاجِبٌ فِي الْأَدَاءِ، فَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ تَقْيِيدِ نَصِّ الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ} فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ قِرَاءَتَهُ مُقَيَّدَةً كَمَا فَعَلْتُمْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ذَلِكَ إلَيْك، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ قَضَاءً قَالَ: نَعَمْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَغْفِرَ» فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ.
وَعَنْ الثَّانِي: مَا قِيلَ إنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ تَشْتَهِرْ اشْتِهَارَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَكَانَ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُزَادُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ) أَيْ التَّتَابُعُ (مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِي لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّهُ يُوجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَيَقُولُ: الْقَضَاءُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ، مُسْتَدِلًّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى شَعْبَانَ- وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهَا لِآخِرِ وَقْتٍ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَيْهِ.
ثُمَّ يَجْعَلُ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ، وَتَأْخِيرُ الْأَدَاءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَكَذَا تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا الْقَضَاءَ إلَى شَعْبَانَ قَدْ يَكُونُ اتِّفَاقِيًّا، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَإِيجَابُ الْفِدْيَةِ لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالتَّأْخِيرِ لَمْ يَثْبُتْ الْعَجْزُ.
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بَلْ عَلَى التَّرَاخِي، وَلِهَذَا لَوْ تَطَوَّعَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا) دَفْعًا لِلْحَرَجِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي.
وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَالْفِطْرَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَالْوَلَدُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْمُرَادُ بِالْمُرْضِعِ هَهُنَا الظِّئْرُ، لِأَنَّ الْأُمَّ لَا تُفْطِرُ إذَا كَانَ لِلْوَلَدِ أَبٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فَرْضٌ عَلَيْهَا دُونَ الْإِرْضَاعِ، وَقَالَ شَيْخُ شَيْخِي عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ يَسَارَ الْأَبِ أَوْ عَدَمَ أَخْذِ الْوَلَدِ ضَرْعَ غَيْرِ الْأُمِّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ) قِيلَ: نَعَمْ هُوَ عُذْرٌ، وَلَكِنْ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِمِ بَلْ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ بِقَتْلِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الشُّرْبُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ مَأْمُورَةٌ بِصِيَانَةِ الْوَلَدِ مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ لَا تَتَأَتَّى بِدُونِ الْإِفْطَارِ عِنْدَ الْخَوْفِ فَكَانَتْ مَأْمُورَةً بِالْإِفْطَارِ وَالْأَمْرُ بِالْإِفْطَارِ مَعَ الْكَفَّارَةِ الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى الْوُجُوبِ عَنْ الْإِفْطَارِ لَا يَجْتَمِعَانِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورًا قَصْدًا بِصِيَانَةِ غَيْرِهِ بَلْ نَشَأَ الْأَمْرُ هُنَاكَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَالْحُكْمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمْرِ قَصْدًا وَضِمْنًا.
وَقَوْلُهُ (فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ إلَخْ) يَعْنِي إذَا خَافَتْ الْحَامِلُ أَوْ الْمُرْضِعُ عَلَى نَفْسِهَا لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَأَفْطَرَتْ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى أَصَحِّ أَقْوَالِهِ عِنْدَهُمْ (هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي) فَإِنَّ الْفِطْرَ حَصَلَ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ عَنْ الصَّوْمِ خِلْقَةً لَا عِلَّةً فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ كَفِطْرِ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهَا وَوَلَدِهَا، فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَبِالنَّظَرِ إلَى مَنْفَعَةِ وَلَدِهَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ (وَالْفِطْرُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَالْوَلَدَ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ تَجِبُ عَلَى مَالِهِ، وَلَمْ تَتَضَاعَفْ بِتَضَاعُفِ الْوَلَدِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً أَيْضًا، (وَالشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا يُطْعِمُ فِي الْكَفَّارَاتِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُطِيقُونَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفِدَاءِ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالشَّيْخُ الْفَانِي) وَصْفٌ بِمَا بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهِ بِقَوْلِهِ (الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ) وَسُمِّيَ فَانِيًا إمَّا لِقُرْبِهِ إلَى الْفَنَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ فَنِيَتْ قُوَّتُهُ، وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ خَلَفُهُ وَقُلْنَا: السَّبَبُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ تَنَاوَلَهُ حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَصَامَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرٍ لَيْسَ بِعَرَضِ الزَّوَالِ حَتَّى يُصَارَ إلَى الْقَضَاءِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ, وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ (مَعْنَاهُ لَا يُطِيقُونَهُ) فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} كَانَ الْأَغْنِيَاءُ يُفْطِرُونَ وَيَفِدُونَ وَالْفُقَرَاءُ يَصُومُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَالْمَنْسُوخُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ إنْ وَرَدَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ، فَبَقِيَ الشَّيْخُ الْفَانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ) يَعْنِي بَعْدَمَا فَدَى (بَطَلَ حُكْمُ الْفِدَاءِ) وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا تُبْطِلُ الْخَلْفَ، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَمَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَهَهُنَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ.
أُجِيبَ: بِأَنَّ الْقُدْرَةَ هَهُنَا عَلَى الْأَصْلِ إنَّمَا هِيَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ، لِأَنَّ دَوَامَ هَذَا الْعَجْزِ إلَى الْمَوْتِ شَرْطُ صِحَّةِ هَذَا الْخَلْفِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ هُوَ الَّذِي يَزْدَادُ ضَعْفُهُ كُلَّ وَقْتٍ إلَى مَوْتِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ) (وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَوْصَى بِهِ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، ثُمَّ لابد مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ.
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ.
وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ.
وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ وَلَا يُصَلِّي) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ) أَيْ قَرُبَ مِنْهُ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ) اسْتَعْمَلَ الْأَدَاءَ فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى فِي مَعْنَى الشَّيْخِ الْفَانِي، فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، لِأَنَّ عَجْزَ الْمَيِّتِ أَلْزَمُ (ثُمَّ لابد مِنْ الْإِيصَاءِ) لِإِلْزَامِ الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يُخْرِجَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ، وَإِذَا أَوْصَى أَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ مِقْدَارَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ (عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ أَمَّا خِلَافُهُ فِي الْمِقْدَارِ فَلِأَنَّ الْمِقْدَارَ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ مُدٌّ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِي فَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ هَذَا الدَّيْنُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، فَكَمَا أَنَّ دُيُونَ الْعِبَادِ تَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَكَذَلِكَ هَذَا (وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لابد فِيهِ مِنْ الْإِخْبَارِ وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً) لِأَنَّ الصَّوْمَ فِعْلُ مُكَلَّفٍ بِهِ وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ تَبَرُّعًا، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّةَ هُوَ الْمَالُ وَالْفِعْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالزَّكَاةِ، وَإِذَا كَانَ تَبَرُّعًا (يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ) وَإِنَّمَا قَالَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ تَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ (وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ) فَإِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِالْفِدَاءِ فِي الصَّوْمِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْقِلُهُ، وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ بَلْ أَهَمُّ، فَأَمَرَ الْمَشَايِخُ بِالْفِدَاءِ فِيهَا احْتِيَاطًا وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَوَّلًا: إنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ لِصَلَاةِ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كُلُّ صَلَاةِ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ أَحْوَطُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِعْلُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّوْمِ مِنْ الْإِطْعَامِ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ. (وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُؤَدَّى فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى قُرْبَةٌ وَعَمَلٌ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ بِالْمُضِيِّ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ.
ثُمَّ عِنْدَنَا لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ فِيهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُبَاحُ بِعُذْرٍ، وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ) ذَكَرْنَاهُ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَنَا) كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَبْنَى الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِفْطَارَ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مُبَاحٌ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ كَانَ بِالْإِفْطَارِ جَانِبًا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ جَانِبًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ.
وَقَوْلُهُ (وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ) يَعْنِي عَلَى الْأَظْهَرِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِيُصَلِّ: أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ».
وَوَجْهُ الْأَظْهَرِ مَا رُوِيَ «عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَامْتَنَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَكْلِ وَقَالَ إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّمَا دَعَاك أَخُوك لِتُكْرِمَهُ فَأَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ وَلَا يَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى يُفْطِرُ وَيَقْضِي.
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْإِفْطَارُ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إلَّا إذَا كَانَ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. (وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ (وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ (وَصَامَا مَا بَعْدَهُ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ (وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا وَلَا مَا مَضَى) لِعَدَمِ الْخِطَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَوُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَالْأَهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ النِّيَّةِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْعَدِمَةٌ فِي أَوَّلِهِ إلَّا أَنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْكَافِرِ عَلَى مَا قَالُوا، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ أَيْضًا، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِهِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ يَطْهُرَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ وَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ الْأَكْلِ، وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
ثُمَّ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إذْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ، أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الصَّفَّارُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ «فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَقَالَ فِي الْحَائِضِ: إذَا طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَلْتَدَعْ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَهَذَا أَمْرٌ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ، لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَائِضِ: طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَا يَحْسُنُ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ.
وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِي.
بِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الصَّوْمِ حَتَّى يُنَافِيَ الْإِفْطَارَ الْمُتَقَدِّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْسُنُ لَهَا يَقْبُحُ مِنْهَا، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ شَرْعًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ) أَيْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِمَا (لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ) بَلْ الْإِمْسَاكُ هُوَ الْوَاجِبُ وَلَا قَضَاءَ إلَّا لِلصَّوْمِ (وَصَامَا مَا بَعْدَهُ) مِنْ الْأَيَّامِ (لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ) وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ (وَالْأَهْلِيَّةُ) بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ (وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا) يَعْنِي إذَا أَمْسَكَا بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا قُلْت هَذَا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ مَعَ قَوْلِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، وَقَوْلُهُ (وَلَا مَا مَضَى) أَيْ لَمْ يَقْضِيَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيَّامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ (لِعَدَمِ الْخِطَابِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأَهْلِيَّةِ وَكَانَتْ مُنْتَفِيَةً قَبْلَهُمَا: فَإِنْ قِيلَ: انْتِفَاءُ الْأَهْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ إذَا أَفَاقَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ وَنَوَى الصَّوْمَ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
أُجِيبَ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلْ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ كَانَ ثَابِتًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ عِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ ظَهَرَ أَثَرُ الْوُجُوبِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ فِيهِ الْكَافِرُ (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ) حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ وَاضِحٌ (وَ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ (عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلْفِطْرِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَنْ يَصُومَ أَجْزَأَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نِيَّةَ الْفِطْرِ مُنَافِيَةٌ لِلصَّوْمِ لَكِنَّهَا مُنَافِيَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَلَا تَمْنَعُ نِيَّةَ الصَّوْمِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَكَذَا الْكُفْرُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، وَخَلَلُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ فِيهِ مُسَاوَاةَ الْأَهْلِ لِغَيْرِ الْأَهْلِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَمَبْنَاهُ كَمَا تَرَى عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ وَفَاقِدِهَا.
وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْلِ أَيْضًا فَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَوَى صَوْمَ النَّفْلِ صَحَّ.
وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَنَوَى ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُمَا فِي صِحَّةِ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ سَوَاءٌ.
فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي النَّفْلِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْفَرْضِ. (وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ (وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ) لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمُبِيحِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ) لِأَنَّهَا بِالذِّمَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ (وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ) لِأَنَّهُ لَوْ صَامَ صَحَّ (وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ) يَعْنِي الْمُسَافِرَ الَّذِي نَوَى الْإِفْطَارَ (فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ) وَهُوَ السَّفَرُ (فِي وَقْتِ النِّيَّةِ) لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَدِمَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، قِيلَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فِي مُسَافِرٍ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رَمَضَانَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الثُّبُوتِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَبِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحُ، وَالصَّوْمُ هُوَ أَنْ يَكُونَ نَذْرًا مُعَيَّنًا.
وَصُورَتُهُ: نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَنَذَرَ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَنَوَاهُ أَجْزَأَهُ، فَكَانَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِيَةُ فِيهِ فَلَا تَكْرَارَ.
وَقَوْلُهُ (فَهَذَا أَوْلَى) قِيلَ فِي وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ إنَّ الْمُرَخِّصَ وَهُوَ السَّفَرُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِفْطَارِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْإِفْطَارُ، فَلَأَنْ لَا يُبَاحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِيهِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) يَعْنِي مُسَافِرًا أَقَامَ وَمُقِيمًا سَافَرَ. (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِ الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ) لِوُجُودِ الصَّوْمِ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ إذْ الظَّاهِرُ وُجُودُهَا مِنْهُ (وَقَضَى مَا بَعْدَهُ) لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ (وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ غَيْرَ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ) لِمَا قُلْنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِنْدَهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِكَافِ، وَعِنْدَنَا لابد مِنْ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِزَمَانٍ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ.
بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا فَيَصِيرُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ) الْإِغْمَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَا يَقْضِي صَوْمَ ذَلِكَ النَّهَارِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ الْإِغْمَاءُ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَا النِّيَّةُ ظَاهِرًا، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ النِّيَّةِ، وَالْأَوَّلُ يَقْضِيهِ كُلُّهُ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ إلَخْ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. (وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ لَمْ يَقْضِهِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ، وَالْجُنُونُ يَسْتَوْعِبُهُ فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ (وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِهِ قَضَى مَا مَضَى) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْقَضَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعَبِ.
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ وَالْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ فِي أَدَائِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَوْعَبِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ، قِيلَ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا الْتَحَقَ بِالصَّبِيِّ فَانْعَدَمَ الْخِطَابُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ مَا يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ فِيهِ ابْتِدَاءً، حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ فِيهِ كَاللَّيْلِ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجُنُونَ مَرَضٌ يُخِلُّ الْعَقْلَ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ كَمَا فِي الْإِغْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ) أَيْ أَدَاءُ ذَلِكَ الْبَعْضِ (لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ) وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ (وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعِبِ) فَإِنَّ الْمُسْتَوْعِبَ مِنْهُ مَنَعَ الْقَضَاءَ فِي الْكُلِّ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْبَعْضِ مَنَعَ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ (وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ) أَيْ بَعْضُهُ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَوْ كَانَ كُلُّهُ لَوَقَعَ الصَّوْمُ فِي شَوَّالٍ فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ الشَّهْرَ كُلَّهُ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ دُونَ الْمُضْمَرِ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ قَدْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَيَصُومُ كُلَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ.
وَهُوَ عَدَمُ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا مَضَى.
أَجَابَ بِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْوُجُوبِ بِالذِّمَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّهَا بِالْآدَمِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْتَغْرِقِ أَيْضًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ) أَيْ الْفَائِدَةُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ (صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْرِجُ فِي أَدَائِهِ، وَالْمُسْتَوْعِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْرِجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ) فِي الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَسَقَطَ بِسَبَبِ الْحَرَجِ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَصَارَ كَالصِّبَا لِأَنَّ الصِّبَا لَمَّا كَانَ مُمْتَدًّا كَانَ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَهُوَ مُسْقِطٌ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ، إلَّا أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يَطُولُ عَادَةً فَلَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالصِّبَا يَطُولُ فَيُسْقِطُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْجُنُونُ يَطُولُ وَيَقْصُرُ، فَإِذَا طَالَ اُلْتُحِقَ بِالصِّبَا، وَإِذَا لَمْ يَطُلْ اُلْتُحِقَ بِالْإِغْمَاءِ، وَالطَّوِيلُ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَفِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ) الْجُنُونِ (الْأَصْلِيِّ) وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا (وَالْعَارِضِيِّ) وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ عَاقِلًا ثُمَّ يُجَنَّ (قِيلَ هَذَا) أَيْ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُنُونَيْنِ (ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا) فَقَالَ: إنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْآنَ فَصَارَ كَصَبِيٍّ بَلَغَ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقِيَاسِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْعَارِضِيَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا) أَيْ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ (مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، وَالْإِمَامُ الرُّسْتُغْفَنِيُّ، وَالزَّاهِدُ الصَّفَّارُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. (وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَتَأَدَّى صَوْمُ رَمَضَانَ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُؤَدِّيهِ يَقَعُ عَنْهُ، كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكُ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ وُجِدَ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ (وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ إذْ لَا صَوْمَ إلَّا بِالنِّيَّةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ) يَعْنِي أَمْسَكَ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْوِ (صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) قَالُوا: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِيهِ كَافِيَةٌ لِوُجُودِ النِّيَّةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ يُجْعَلُ صَائِمًا يَوْمَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ النِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ، وَأَوَّلُوا بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مُتَهَتِّكًا اعْتَادَ الْأَكْلَ فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يَصْلُحْ حَالُهُ دَلِيلًا عَلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَأَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَلِيلٌ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْفَرْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا بِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ، وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ (وَقَالَ زُفَرُ: يَكُونُ صَائِمًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَدَّاهُ يَقَعُ عَنْهُ كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ) وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبًا لِزُفَرَ، وَقَالَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ كُلِّهِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ: هَذَا قَوْلٌ لِزُفَرَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ نَفْيًا لِمَا يَجُوزُ بِهِ صَرْفُ الْإِمْسَاكِ إلَى غَيْرِهِ لِتَعَيُّنِ الْجِهَةِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هِبَةَ النِّصَابِ فَقِيرًا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ فَمَا وَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَذْهَبِكُمْ، وَبِأَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَإِنَّ دَفْعَ النِّصَابِ إلَيْهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ بِالْفَقِيرِ الْجِنْسَ فَكَانَ الدَّفْعُ مُتَفَرِّقًا (وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عِبَادَةً وَلَا إمْسَاكَ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ قَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ كَمَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ، وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ) قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى عِنْدَهُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ) وَقَدْ أَفْسَدَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ نَوَى.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً (إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ) لِكَوْنِهِ وَقْتَ النِّيَّةِ (فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ) فَإِنَّ الْمَالِكَ إذَا ضَمِنَهُ فَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ لِتَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الشَّيْءِ كَتَفْوِيتِهِ، لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّضْمِينَ لِتَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ لِمَ لَا يَكُونُ لِلِاسْتِهْلَاكِ أَوْ لِلْغَضَبِ نَفْسِهِ مِنْ الْغَاصِبِ، لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ شَرْطُ التَّفْوِيتِ، وَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ مَعَ قِيَامِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ يَدًا مُحِقَّةً فَلَمْ يَكُنْ إلَّا لِلتَّفْوِيتِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، وَأَمَّا مَا قَالَا مِنْ تَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي غَيْرِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ. (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ) بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّلَاةِ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ.
هُوَ يَقُولُ: التَّشْبِيهُ خَلَفٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا.
وَلَنَا أَنَّهُ وَجَبَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ لَا خَلَفًا لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَالَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْ التَّشْبِيهِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ عَنْ الصَّوْمِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نُفِسَتْ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ صَارَتْ نُفَسَاءَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ) قَدْ قَدَّمْنَا الْأَصْلَ الْجَامِعَ لِهَذِهِ الْفُرُوعِ، وَكَلَامُهُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِهِ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ.
فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: بِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّشَبُّهَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا.
وَالْمُخْطِئِ، يَعْنِي الَّذِي أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْلٌ وَكَانَ الْفَجْرُ طَالِعًا لَا الَّذِي أَخْطَأَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَنَزَلَ الْمَاءُ فِي جَوْفِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ عِنْدَهُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّشَبُّهَ خَلْفٌ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ خَلْفًا عَنْ الْكُلِّ بَلْ وَجَبَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْوَقْتِ أَصْلًا لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُعَظَّمٌ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُفْطِرِ فِيهِ عَمْدًا دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ» وَإِذَا كَانَ مُعَظَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ إنْ كَانَ أَهْلًا، وَبِالْإِمْسَاكِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَلْفًا لَا يَكُونُ وُجُوبُهُ مَبْنِيًّا عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ (بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ) الْإِمْسَاكُ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْهُ وَهُوَ قِيَامُ هَذِهِ الْأَعْذَارِ، فَإِنَّهَا كَمَا تَمْنَعُ عَنْ الصَّوْمِ تَمْنَعُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِ، أَمَّا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْهِمَا حَرَامٌ وَالتَّشَبُّهَ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِمَا بِاعْتِبَارِ الْحَرَجِ فَلَوْ أَلْزَمْنَا التَّشَبُّهَ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ. قَالَ (وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ أَوْ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ (وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يُظَنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ) وَمَنْ أَخْطَأَ فِي الْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَلَزِمَهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يَأْثَمُ بِهِ، أَمَّا فَسَادُ صَوْمِهِ فَلِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ بِغَلَطٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ.
وَأَمَّا إمْسَاكُ الْبَقِيَّةِ فَلِقَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَوْ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ وَلَا عُذْرَ بِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَاجِبٌ بِالْحَدِيثِ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا فَإِذَا فَوَّتَهُ قَضَاهُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ فِي رَحْبَةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ مِنْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَلَمَّا رَقَى الْمِئْذَنَةَ رَأَى الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ فَقَالَ: الشَّمْسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا (مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِ الْإِثْمِ.
وَإِنْ جَعَلْت الْمَوْضِعَ مَوْضِعَ بَيَانِ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْكَفَّارَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ.
وَالْجَنَفُ الْمَيْلُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ هُوَ مَا يَكُونُ ظَنًّا فَمَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَتْ.
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ مَتَى.
شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَفْطَرَ فَقَدْ كَمَّلَ الْفِطْرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالنَّهَارِ شَاكًّا بِاللَّيْلِ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَفِي طُلُوعِ الْفَجْرِ بِالْعَكْسِ.
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ) ظَاهِرٌ. (ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَالسِّوَاكُ» (إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ) وَمَعْنَاهُ تَسَاوِي الظَّنَّيْنِ (الْأَفْضَلُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ) تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَكَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اللَّيْلُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً أَوْ مُتَغَيِّمَةً.
أَوْ كَانَ بِبَصَرِهِ عِلَّةٌ وَهُوَ يَشُكُّ لَا يَأْكُلُ، وَلَوْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ.
وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ (وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النَّهَارُ (وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّهَارُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ التَّسَحُّرُ) السَّحَرُ آخِرُ اللَّيْلِ، عَنْ اللَّيْثِ قَالُوا: هُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ، وَالسَّحُورُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً») أَيْ فِي أَكْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ زِيَادَةُ الْقُوَّةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَيْلُ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ تَأْخِيرُ أَكْلَ السُّحُورِ مُسْتَحَبٌّ فِي مُسْتَحَبٍّ، فَإِنَّ نَفْسَ التَّسَحُّرِ مُسْتَحَبٌّ.
وَتَأْخِيرَهُ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا، فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا فِي مُسْتَحَبٍّ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَالسِّوَاكُ» فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ جَعْلِ تَأْخِيرِ السُّحُورِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السَّحُورِ».
أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى السُّحُورِ فِي حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ.
وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانَ لَهُمْ سُحُورٌ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يَتَسَحَّرُونَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اللَّيْلَ هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (رِوَايَةً وَاحِدَةً) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا قَالَ: رِوَايَةً وَاحِدَةً احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ، لِأَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. (وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَعَلِمَهُ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ، وَكَذَا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فَلَا شُبْهَةَ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا) ظَاهِرٌ (لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ) لِأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الصَّوْمُ بِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا، فَإِذَا أَكَلَ بَعْدَهُ عَامِدًا لَمْ يُلَاقِ فِعْلَهُ الصَّوْمَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ) يَعْنِي إذَا عُلِمَ الْحَدِيثُ عُلِمَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ، وَالْمَتْرُوكُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فَلَا شُبْهَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي عَدَمَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ (قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ) وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ هِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، وَهِيَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ قَائِمٌ يَنْفِي حُرْمَةَ الْأَكْلِ الثَّانِي سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَوْ لَا. (وَلَوْ احْتَجَمَ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ) لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ بِالْفَسَادِ لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ.
(وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ) لِأَنَّ الْفِطْرَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ احْتَجَمَ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) فَإِنَّ الْحِجَامَةَ كَالْفَصْدِ فِي خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الْعُرُوقِ وَالْفَصْدُ لَا يُفْسِدُ، فَكَذَا الْحِجَامَةُ.
لَا يُقَالُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وُصُولُ شَيْءٍ إلَى بَاطِنِهِ وَلَا قَضَاءُ شَهْوَةٍ.
وَمَعَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَالِاسْتِقَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلْتَكُنْ الْحِجَامَةُ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».
أُجِيبَ «بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَرَوَى أَيْضًا «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ» فَكَانَ الْحَدِيثُ مُعَارَضًا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ.
لَا يُقَالُ: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِكَايَةُ فِعْلٍ وَالْقَوْلُ رَاجِحٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا يَكُونُ رَاجِحًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَوَّلًا وَهَذَا مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ) يَعْنِي حِينَئِذٍ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ فَقِيهٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفِقْهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ فِي الْبَلَدِ، هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ (لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ) فَتَصِيرُ شُبْهَةً (وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رُوِيَ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهِ بِنَصْبِ الْمَحْجُومِ (وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُ ذَلِكَ) يَعْنِي لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ (لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَنْسُوخًا (وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ) وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ مَعَ حَاجِمِهِ وَهُمَا يَغْتَابَانِ آخَرَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ ذَهَبَ بِثَوَابِ صَوْمِهِمَا الْغِيبَةُ.
وَقِيلَ: «إنَّهُ غُشِيَ عَلَى الْمَحْجُومِ فَصَبَّ الْحَاجِمُ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ الْمَحْجُومَ» أَيْ فَطَّرَهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ الرَّاوِي أَنَّهُ قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» (تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ) لِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَقَدْ زَالَ بِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ ذَلِكَ وَحْدَهُ بَلْ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ بِذَلِكَ مُنْشَأٌ لَهَا أَيْضًا.
أَجَابَ: بِأَنَّ قَوْلَ الْأَوْزَاعِيِّ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ، فَإِنَّ الْفِطْرَ مِمَّا يَدْخُلُ لَا مِمَّا يَخْرُجُ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي أَكْلِ النَّاسِي.
لَا يُقَالُ فِي عِبَارَتِهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَالَ: إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ، وَفَتْوَاهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَوْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ: لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَأَيْضًا الْفَتْوَى فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَكُونُ إلَّا مُخَالَفَةً لِلْقِيَامِ فَكَيْفَ تَكُونُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ الْأَوْزَاعِيِّ دُونِهِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ عَرَفَ التَّأْوِيلَ (وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ) أَيْ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، عَرَفَ تَأْوِيلَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ، أَفْتَاهُ مُفْتٍ أَوْ لَمْ يُفْتِ (لِأَنَّ الْفِطْرَ بِهَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْحَدِيثَ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْغِيبَةُ تُفَطِّرُ الصَّائِمَ» (مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ) بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَهَابُ الثَّوَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الدَّلِيلُ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ شُبْهَةً، بِخِلَافِ حَدِيثِ الْحِجَامَةِ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. (وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ.
وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ) أَمَّا صَوْمُ النَّائِمَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي صِحَّةِ صَوْمِهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَامِعُ الْجُنُونَ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَمَّا قَرَأَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قُلْت لَهُ: كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ؟ فَقَالَ لِي: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ.
فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: كَأَنَّهُ كُتِبَ فِي الْأَصْلِ مَجْبُورَةٌ فَظَنَّ الْكَاتِبُ مَجْنُونَةً، وَلِهَذَا قَالَ: دَعْ فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ، وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّتْ فَجَامَعَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَفَاقَتْ وَعَلِمَتْ بِمَا فَعَلَ بِهَا الزَّوْجُ (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا إلْحَاقًا بِالنَّاسِي، لِأَنَّ الْعُذْرَ فِيهِمَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ) وَلَنَا أَنَّ الْإِلْحَاقَ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيُفْضِي إلَى الْحَرَجِ (وَهَذَا) جِمَاعُ الْمَجْنُونَةِ وَالنَّائِمَةِ (نَادِرٌ) فَالْقَضَاءُ لَا يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ (وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ) لِعَدَمِ الْقَصْدِ.