فصل: بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ:

قَالَ: (الْأُجَرَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَجِيرٌ خَاصٌّ.
فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا.
قَالَ (وَالْمَتَاعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ) لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُضَمِّنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ؛ وَلِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ، فَإِذَا هَلَكَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَضْمَنُهُ كَالْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا لَضَمِنَهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ، وَالْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهُ الْأَجْرُ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ بِأَجْرٍ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى يُقَابِلَهُ الْأَجْرُ.
قَالَ: (وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ، فَتَخْرِيقُ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلَقُ الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ الْمُكَارِي الْحِمْلَ وَغَرَقُ السَّفِينَةِ مِنْ مَدِّهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ).
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُهُ بِنَوْعَيْهِ الْمَعِيبِ وَالسَّلِيمِ وَصَارَ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ وَمُعِينِ الْقَصَّارِ.
وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنُ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْذُونًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُعِينِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُصْلِحِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ.
وَبِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَحْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ قَالَ: (إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِسَوْقِهِ وَقَوْدِهِ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ.
وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَضَمَانُ الْعُقُودِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْمِلُ لَهُ دَنًّا مِنْ الْفُرَاتِ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ) أَمَّا الضَّمَانُ فَلِمَا قُلْنَا، وَالسُّقُوطُ بِالْعِثَارِ أَوْ بِانْقِطَاعِ الْحَبْلِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ، وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّهُ إذَا انْكَسَرَ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحِمْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ تَعَدِّيًا مِنْ الِابْتِدَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا صَارَ تَعَدِّيًا عِنْدَ الْكَسْرِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى أَصْلًا.
الشَّرْحُ:
بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامٍ بَعْدَ الْإِجَارَةِ وَهِيَ الضَّمَانُ وَقَالَ (الْأُجَرَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ إلَخْ) الْأُجَرَاءُ جَمْعُ أَجِيرٍ.
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَجِيرٌ خَاصٌّ وَالسُّؤَالُ عَنْ وَجْهِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الْخَاصِّ دَوْرِيٌّ.
قِيلَ: وَتَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ أَيْضًا تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى يَعْلَمَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمُعَرِّفِ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرِّفِ وَهُوَ الدَّوْرُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فَلَمْ تَتَوَقَّفْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرِّفِ.
وَقِيلَ قَوْلُهُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مُفْرَدٌ وَالتَّعْرِيفُ بِالْمُفْرَدِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفٌ بِالْمِثَالِ وَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ عَلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَفِي كَوْنِهِ مُفْرَدًا لَا يَصِحُّ التَّعْرِيفُ بِهِ نَظَرٌ.
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ التَّعْرِيفَاتِ اللَّفْظِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ) بَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ يُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَخْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا، وَالْمَتَاعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَضْمَنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ) وَلَا حِفْظَ (فَإِذَا هَلَكَ الْمَتَاعُ بِسَبَبٍ كَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنًا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، وَتَرْكُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ تَقْصِيرٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ) فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّمَا تَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ فِي حَافِظِ الْأَمْتِعَةِ بِأَجْرٍ فَهَلَكَ الْأَمْتِعَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ الْعَيْنُ عِنْدَهُ أَمَانَةً (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ مَضْمُونًا لَضَمِنَهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ) فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِبَارُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ الْحِفْظُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ وَقَدْ فَاتَ بِمَا أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ وَالْغَصْبُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَارِدٌ عَلَى الْعَمَلِ لِكَوْنِهِ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا وَالْحِفْظُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ بَلْ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ فَكَانَ تَبَعًا (وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهُ الْأَجْرُ) وَإِذَا كَانَ تَبَعًا ثَبَتَ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْعَمَلِ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ (بِخِلَافِ الْمُودَعِ بِأَجْرٍ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى يُقَابِلَهُ الْأَجْرُ) قَالَ (وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ كَتَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ إلَخْ) وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَتَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلْقِ الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعِ الْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ الْمُكَارِي الْحَمْلَ وَغَرَقِ السَّفِينَةِ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ مَدِّهَا صَاحِبُهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَدُقَّ الثَّوْبَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى السَّلَامَةِ، وَالْمُطْلَقُ يَنْتَظِمُ الْفِعْلَ بِنَوْعَيْهِ السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ فَصَارَ كَالْأَجِيرِ الْوَحْدِ وَمُعِينِ الْقَصَّارِ.
وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ: أَيْ الْأَمْرِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إمَّا بِالْعَقْدِ أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ الْحَاصِلِ فِي الْعَيْنِ مِنْ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِفِعْلِ غَيْرِ الْأَجِيرِ وَجَبَ الْأَجْرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِالسَّلَامَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْمُورًا بِهِ، بِخِلَافِ مُعِينِ الْقَصَّارِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُ عَمَلِهِ بِالْمُصْلِحِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ، وَالْمُلْتَزِمُ أَنْ يَلْتَزِمَ جَوَازَ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّبَرُّعِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَضَرَّةُ لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ، وَلَوْ عُلِّلَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي السَّلَامَةَ كَانَ أَسْلَمَ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْوَحْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ) جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ: انْقِطَاعُ الْحَبْلِ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الْأَجِيرِ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ فَإِنَّهُ (مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِهِ) أَيْ بِفِعْلِهِ (بَنِي آدَمَ مِمَّنْ غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِسَوْقِهِ وَقَوْدِهِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ وَضَمَانُ الْآدَمِيِّ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ ضَمَانَ الْعُقُودِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْمِلُ لَهُ دَنًّا مِنْ الْفُرَاتِ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ) وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْفُرَاتِ لِأَنَّ الدِّنَانَ كَانَتْ تُبَاعُ هُنَاكَ (أَمَّا الضَّمَانُ فَلِمَا قُلْنَا) إنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِصُنْعِهِ كَمَا فِي تَخْرِيقِ الثَّوْبِ بِالدَّقِّ (فَإِنَّ السُّقُوطَ بِالْعِثَارِ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِانْقِطَاعِ الْحَبْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ) وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ (وَأَمَّا الْخِيَارُ) مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُخَيَّرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي انْكَسَرَ، لِأَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَإِذَا كَانَ أَمَانَةً وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ (فَلِأَنَّهُ إذَا انْكَسَرَ فِي الطَّرِيقِ وَالْحَمْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ تَعَدِّيًا مِنْ الِابْتِدَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا)، وَإِنَّمَا التَّعَدِّي عِنْدَ الْكَسْرِ فَيَخْتَارُ أَيَّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْعَمَلِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى أَصْلًا. قَالَ: (وَإِذَا فَصَدَ الْفَصَّادُ أَوْ بَزَغَ الْبَزَّاغُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: بَيْطَارٌ بَزَغَ دَابَّةً بِدَانِقٍ فَنَفَقَتْ أَوْ حَجَّامٌ حَجَمَ عَبْدًا بِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الطِّبَاعِ وَضَعْفِهَا فِي تَحَمُّلِ الْأَلَمِ فَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِالْمُصْلِحِ مِنْ الْعَمَلِ، وَلَا كَذَلِكَ دَقُّ الثَّوْبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الثَّوْبِ وَرِقَّتَهُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّقْيِيدِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا فَصَّدَ الْفَصَّادُ أَوْ بَزَّغَ الْبَزَّاغُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْطَارٌ بَزَّغَ إلَخْ) وَإِنَّمَا أَعَادَ رِوَايَتَهُ لِنَوْعِ بَيَانٍ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْبَيَانِ، أَمَّا فِي الْقُدُورِيِّ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَمَ التَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ، وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ ضَمِنَ.
وَأَمَّا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلِأَنَّهُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ وَكَوْنِ الْحِجَامَةِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى وَالْهَلَاكِ، وَيُفِيدُ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ ضَمِنَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ بِمُقَارِنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالسِّرَايَةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ أَيْ السِّرَايَةَ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الطِّبَاعِ وَضَعْفِهَا فِي تَحَمُّلِ الْأَلَمِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَجْهُولِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَلَمْ يُمْكِنْ التَّقْيِيدُ بِالْمُصْلِحِ مِنْ الْعَمَلِ لِئَلَّا يَتَقَاعَدَ النَّاسُ عَنْهُ مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ، وَلَا كَذَلِكَ دَقُّ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ مُقَارِنٌ بِالدَّقِّ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْعَمَلُ مِنْ ضَمَانِ الْقَصَّارِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ مُمْكِنٌ لِأَنَّ قُوَّةَ الثَّوْبِ وَرِقَّتَهُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّقْيِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ مِنْ رِوَايَةِ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ الْحَجَّامَ إذَا حَجَمَ الْعَبْدَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَتَجَاوَزَ الْمُعْتَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهَا قَدْرُ الضَّمَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ قَدْرِ التَّجَاوُزِ حَتَّى أَنَّ الْخِتَانَ إذَا خَتَنَ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ فَإِنْ بَرِئَ فَعَلَيْهِ ضَمَانٌ كَمَالِ الدِّيَةِ، وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ بَدَلِ نَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّيَاتِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ أَثَرُ جِنَايَتِهِ انْتَقَضَ ضَمَانُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي النَّوَادِرِ: أَنَّهُ لَمَّا بَرِئَ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ وَهِيَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لَا ثَانِيَ لَهُ فِي النَّفْسِ فَيَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَلِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ.
وَأَمَّا إذَا مَاتَ فَقَدْ حَصَلَ تَلَفُ النَّفْسِ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ فَكَانَ ضَامِنًا نِصْفَ بَدَلِ النَّفْسِ لِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: التَّنْصِيفُ فِي الْبَدَلِ يَعْتَمِدُ التَّسَاوِي فِي السَّبَبِ وَقَدْ انْتَفَى، لِأَنَّ قَطْعَ الْحَشَفَةِ أَشَدُّ إفْضَاءً إلَى التَّلَفِ مِنْ قَطْعِ الْجِلْدَةِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ كَقَطْعِ الْيَدِ مَعَ حَزِّ الرَّقَبَةِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ إتْلَافًا وَأَنْ لَا يَقَعَ إتْلَافًا، وَالتَّفَاوُتُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَكَانَ هَذَا هَدَرًا بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقَعَ إتْلَافًا. قَالَ: (وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَجِيرَ وَحْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي الْمُدَّةِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ وَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِالْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا يَبْقَى الْأَجْرُ مُسْتَحَقًّا، وَإِنْ نُقِضَ الْعَمَلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ إلَخْ) الْأَجِيرُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِخِدْمَةِ شَخْصَيْنِ أَوْ لِرَعْيِ غَنَمِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُرَدُّ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ فَعَلَيْك بِمِثْلِهِ هَاهُنَا، وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ (يَبْقَى الْأَجْرُ مُسْتَحَقًّا وَإِنْ نُقِضَ الْعَمَلُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ.
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي خَيَّاطٍ خَاطَ ثَوْبَ رَجُلٍ بِأَجْرٍ فَفَتَقَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لِلْخَيَّاطِ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ الْعَمَلَ إلَى رَبِّ الثَّوْبِ، وَلَا يُجْبَرُ الْخَيَّاطُ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ لَوْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ أُجْبِرَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ الْعَقْدُ قَدْ انْتَهَى بِتَمَامِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ هُوَ الَّذِي فَتَقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخَيَّاطَ لَمَّا فَتَقَ الثَّوْبَ فَقَدْ نَقَضَ عَمَلَهُ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَتَقَهُ أَجْنَبِيٌّ لِأَنَّهُ بِفَتْقِ الْأَجْنَبِيِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْخَيَّاطَ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَنَقَضَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ وَلَا مَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالْأَجِيرُ الْوَحْدُ لَا يَتَقَبَّلُ الْأَعْمَالَ فَتَكُونُ السَّلَامَةُ غَالِبَةً فَيُؤْخَذُ فِيهِ الْقِيَاسُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ) بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ أَوْ غَابَ أَوْ غَصَبَ (وَلَا مَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ) بِأَنْ انْكَسَرَ الْقَدُومُ فِي عَمَلِهِ أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ دَقِّهِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ إذَا تَعَدَّى (أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ مَا إذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ (فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِحُصُولِ الْقَبْضِ بِإِذْنِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عِنْدَهُمَا هُمَا، لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ) فَإِنَّهُ يَقْبَلُ أَعْيَانًا كَثِيرَةً رَغْبَةً فِي كَثْرَةِ الْأَجْرِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ الْحِفْظِ فِيهَا فَضَمِنَ حَتَّى لَا يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا وَلَا يَأْخُذَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ (وَالْأَجِيرُ الْوَحْدُ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ) بَلْ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ (فَتَكُونُ السَّلَامَةُ غَالِبَةً فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ (فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ) بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا، وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا (فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ وَيَصِيرُ الْمَأْمُورُ) أَيْ الْأَجِيرُ (نَائِبًا مَنَابَهُ فَصَارَ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُضَمِّنُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)

.بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ:

(وَإِذَا قَالَ لِلْخَيَّاطِ إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْته رُومِيًّا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ، وَأَيَّ عَمَلٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِهِ) وَكَذَا إذَا قَالَ لِلصَّبَّاغِ إنْ صَبَغْته بِعُصْفُرٍ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ صَبَغْتَهُ بِزَعْفَرَانٍ فَبِدِرْهَمَيْنِ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِأَنْ قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ بِكَذَا أَوْ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَإِنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يَجُزْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لابد مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ (وَلَوْ قَالَ: إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ) قَالَ: زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ ذُكِرَ بِمُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ، وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ.
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ.
وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ مَقْصُودٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ النَّوْعَيْنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً.
وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى التَّأْقِيتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ، فَيَصِحُّ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى، وَيَفْسُدُ الثَّانِي وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلُ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتُعْتَبَرُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ فَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ أَوْلَى (وَلَوْ قَالَ: إنْ سَكَّنْتَ فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ، وَإِنْ سَكَّنْتَهُ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ، وَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَّنَ فِيهِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سَكَّنَ فِيهِ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: لَا يَجُوزُ).
الشَّرْحُ:
بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْإِجَارَةَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ قَالَ (وَإِذَا قَالَ لِلْخَيَّاطِ إلَخْ) إذَا قَالَ رَجُلٌ لِلْخَيَّاطِ إنْ خِطْت هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطَّته رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ عُمِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّرْدِيدُ بَيْنَ الصَّبْغَيْنِ أَوْ الدَّارَيْنِ أَوْ الدَّابَّتَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَلَمْ يَجُزْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالْجَامِعِ دَفْعُ الْحَاجَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لابد مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ وَلَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ.
وَإِذَا قَالَ: إنْ خِطَّته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ وَإِنْ خِطَّته غَدًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ، فَإِنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، فَفِي أَيِّهِمَا خَاطَ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى فِيهِ.
وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ قُوبِلَ بِبَدَلَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّهُ حَالَ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْيَوْمِ بِقَوْلِهِ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ حَتَّى لَوْ خَاطَهُ فِي الْغَدِ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ لِأَنَّ حَالَ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْغَدِ بِقَوْلِهِ خِطْهُ غَدًا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّرْفِيهِ فَكَذَا هَاهُنَا إذْ لَيْسَ لِتَعْدَادِ الشَّرْطِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ، أَمَّا فِي الْيَوْمِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ إذَا كَانَ لِلتَّرْفِيهِ كَانَ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى غَدٍ ثَابِتًا الْيَوْمَ مَعَ عَقْدِ الْيَوْمِ، وَأَمَّا فِي الْغَدِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ فِي الْيَوْمِ بَاقٍ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضَافِ إلَى غَدٍ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَسْمِيَتَانِ لَزِمَ مُقَابَلَةُ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ بِبَدَلَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ خِطْهُ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْأَجْرِ مَجْهُولًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِوُقُوعِ الْعَمَلِ فَإِنَّ بِهِ يَتَعَيَّنُ الْأَجْرُ لِلُزُومِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّهُ حَقِيقَتُهُ فَكَانَ قَوْلُهُ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ مُقْتَصِرًا عَلَى الْيَوْمِ، فَبِانْقِضَاءِ الْيَوْمِ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ إلَى الْغَدِ بَلْ يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الْوَقْتِ، وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ: أَيْ لِلْإِضَافَةِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ لَكِنْ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَكُونُ مُرَادَةً لِكَوْنِهَا حَقِيقَةً، وَإِذَا كَانَ لِلْإِضَافَةِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ مَقْصُودٌ دَلِيلٌ آخَرُ لَهُمَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَمَلُ وَلَكِنْ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، فَيَكُونُ مُرَادُهُ التَّعْجِيلَ لِبَعْضِ أَغْرَاضِهِ فِي الْيَوْمِ مِنْ التَّجَمُّلِ وَالْبَيْعِ بِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ فَيَفُوتُ ذَلِكَ وَيَكُونُ التَّأْجِيلُ مَقْصُودًا فَصَارَ بِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ كَالنَّوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْخِيَاطَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً) أَيْ لِلْإِضَافَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَبَّرَ عَنْ الْإِضَافَةِ بِالتَّعْلِيقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ النِّصْفَ فِي الْغَدِ لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ جَدِيدَةٍ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَطِّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالتَّأْخِيرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ: أَيْ لِتَعْلِيقِ الْحَطِّ بِالتَّأْخِيرِ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْمَجَازِ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِضَافَةِ لَا تَجْتَمِعُ تَسْمِيَتَانِ فِي الْيَوْمِ (وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّأْقِيتُ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ) فَإِنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرَكًا، وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ كَانَ أَجِيرَ وَحْدٍ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ لِتَنَافِي لَوَازِمِهِمَا، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ عَدَمَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَذِكْرُ الْوَقْتِ يُوجِبُ وُجُوبَهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْمُدَّةِ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ، وَلِذَلِكَ عَدَلْنَا عَنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّأْقِيتُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ التَّعْجِيلُ (وَحِينَئِذٍ تَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ فَيَصِحُّ الْأَوَّلُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَفْسُدُ الثَّانِي وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي جَعْلِ الْيَوْمِ لِتَعْجِيلٍ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ الْأُولَى وَفَسَادَ الثَّانِيَةِ، وَفِي جَعْلِهِ لِلتَّوْقِيتِ فَسَادَ الْأُولَى وَصِحَّةَ الثَّانِيَةِ، وَلَا رُجْحَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ تَحَكُّمًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ فَسَادَ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ يَلْزَمُ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْأُولَى وَالضِّمْنِيَّاتُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْمَخَاتِيمِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ وَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، وَهَاهُنَا لِلتَّعْجِيلِ وَصَحَّحَهُ. وَأُجِيبَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ حَقِيقَةٌ لَا يُتْرَكُ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْ ذَلِكَ مَانِعٌ كَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَمَنَعْنَا ذَلِكَ عَنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ نُقْصَانُ الْأَجْرِ لِلتَّأْخِيرِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ ثَمَّةَ عَلَى الْمَجَازِ فَكَانَ التَّأْقِيتُ مُرَادًا وَفَسَدَ الْعَقْدُ.
وَرُدَّ بِأَنَّ دَلِيلَ الْمَجَازِ قَائِمٌ ثَمَّةَ وَهُوَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْجِيلِ فَيَكُونُ مُرَادًا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ نُقْصَانَ الْأَجْرِ دَلِيلٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَازِ بِظَاهِرِ الْحَالِ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَا عُلِمَ أَنَّ قِيَاسَ زُفَرَ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَإِذَا وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي.
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي.
قَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ الصَّحِيحَةُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ فَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ أَوْلَى) وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ.
قَالَ (وَلَوْ قَالَ: إنْ سَكَّنْت فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ إلَخْ) وَلَوْ قَالَ: إنْ سَكَّنْت فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سَكَّنْته حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ، وَكَذَا إنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَقَالَ إنْ سَكَّنْت فِيهِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سَكَّنْت فِيهِ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ، (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ جَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ حِنْطَةٍ فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لَا يَجُوزُ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَكَذَا الْأَجْرُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ، بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ.
أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ، وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَيَصِحُّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ يُخَالِفُ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي أَخَوَاتِهَا، وَالْإِجَارَةُ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ حِنْطَةٍ فَبِدِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ جَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ذُكِرَتْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ الْكُلِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً كَمَا فِي نَظَائِرِهَا.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْأَجْرُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالْجَهَالَةُ الْوَاحِدَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ فَكَيْفَ الْجَهَالَتَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَسْأَلَةُ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ فِيهَا جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَتْ صَحِيحَةً.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ لِأَنَّ الْأَجْرَ ثَمَّةَ يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ.
أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَالْأَجْرُ يَجِبُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي الدَّارِ وَالدُّكَّانِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الْعَبْدِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ.
وَهَذَا الْحَرْفُ: أَيْ قَوْلُهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ يُخَالِفُ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ لَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي أَخَوَاتِهَا (قَوْلُهُ وَالْإِجَارَةُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ إلَخْ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ (تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ) أَمَّا تَرْكُ الِانْتِفَاعِ مِنْ التَّمَكُّنِ فَنَادِرٌ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ (وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى إيجَابِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ) بِأَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ الْمَنْفَعَةَ (يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ).

.بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ:

قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ، وَلِهَذَا جُعِلَ السَّفَرُ عُذْرًا فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ كَإِسْكَانِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ لَا يَبْقَى غَيْرُهُ دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ): تَأْخِيرُ ذِكْرِ إجَارَةِ الْعَبْدِ عَنْ إجَارَةِ الْحُرِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ لِظُهُورِ وَجْهِهِ بِانْحِطَاطِ دَرَجَتِهِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِيَخْدُمَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ ذَلِكَ، لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ تَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ لَا مَحَالَةَ (فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مِلْكِهِ مَنَافِعَهُ كَالْمَوْلَى، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَكَذَا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُسَافِرُ بِعَبْدِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَنُوقِضَ بِمَنْ ادَّعَى دَارًا وَصَالَحَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً فَإِنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ إلَى السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِعَبْدِهِ يَلْزَمُ الْمُؤَجِّرَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ، وَرُبَّمَا يَرْبُو عَلَى الْأُجْرَةِ.
وَأَمَّا فِي الصُّلْحِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْمُدَّعِي بِالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَلَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا تَرَى انْقِطَاعٌ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضُمَّ إلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ قَيْدًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَيَلْزَمَهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ كَالْمَوْلَى، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَهُ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَنَوْعًا، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ كَذَلِكَ بَلْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ ضَرُورِيٍّ يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ الْمَوْلَى، وَالْعُرْفُ يُوجِبُهُ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الرَّدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يُوجِبُهُ (وَلِهَذَا جُعِلَ السَّفَرُ عُذْرًا) يَعْنِي إذَا اسْتَأْجَرَ غُلَامًا لِيَخْدُمَهُ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرَ السَّفَرَ فَهُوَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ مُنِعَ السَّفَرَ تَضَرَّرَ فَكَانَ عُذْرًا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ (وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ) فَصَارَ كَالِاخْتِلَافِ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِينَ (فَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ عُرْفًا لَا يَبْقَى غَيْرُهَا دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ) فَإِنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ رُكُوبِ الرَّاكِبِينَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ اسْتِحْسَانًا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْعِدَامِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ الْحَجْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ سَالِمًا ضَارٌّ عَلَى اعْتِبَارِ هَلَاكِ الْعَبْدِ، وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا) فَعَمِلَ (فَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْإِجَارَةُ لِانْعِدَامِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ الْحَجْرِ) فَيَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا بِالِاسْتِعْمَالِ وَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ (فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ) فَإِنَّهُ يَجِبُ لِلْمَوْلَى قِيمَتُهُ دُونَ الْأَجْرِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ بِالْغَصْبِ، وَالْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ سَالِمًا ضَارٍّ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَإِذَا جَازَ الدَّفْعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ) (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَجْرَ فَأَكَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ ضَامِنٌ)؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، إذْ الْإِجَارَةُ قَدْ صَحَّتْ عَلَى مَا مَرَّ.
وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالٍ مُحْرَزٍ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُحْرَزٍ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ مَا فِي يَدِهِ.
(وَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى الْأَجْرَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ (وَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْأَجْرَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ إلَخْ) وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَجْرَ فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، إذْ الْإِجَارَةُ قَدْ صَحَّتْ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ، وَالْمَحْجُورُ مَأْذُونٌ فِي الْمَنَافِعِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالٍ مُحْرَزٍ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ وَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ مُحْرَزٍ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ، إذْ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ مَا فِي يَدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْرَازَ إنَّمَا يَكُونُ بِيَدِ الْمَالِكِ أَوْ يَدِ نَائِبِهِ، وَيَدُ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ بِهِمَا وَيَدُ الْعَبْدِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْغَاصِبُ إذَا اسْتَهْلَكَ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ ضَمِنَهُ وَلَا إحْرَازَ فِيهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأُمِّ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا وَهِيَ مُحْرَزَةٌ، بِخِلَافِ الْأَجْرِ فَإِنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْمَنَافِعِ وَهِيَ غَيْرُ مُحْرَزَةٍ (وَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى الْأَجْرَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، وَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْأَجْرَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ عَلَى مَا مَرَّ) مِنْ قَوْلِهِ وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَإِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَهُوَ الْعَاقِدُ رَجَعَ الْحُقُوقُ إلَيْهِ فَكَانَ لَهُ الْقَبْضُ وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ خُرُوجِ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ عُهْدَةِ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا آجَرَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ، فَإِنْ آجَرَهُ الْغَاصِبُ كَانَ الْأَجْرُ لَهُ لَا لِلْمَالِكِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ آجَرَهُ الْمَوْلَى فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ إلَّا بِوَكَالَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ فَيَنْصَرِفُ الثَّانِي إلَى مَا يَلِي الْأَوَّلَ ضَرُورَةً.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّهْرُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ كَانَ مَجْهُولًا، وَالْإِجَارَةُ تَفْسُدُ بِالْجَهَالَةِ فَصَرَفْنَاهُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، كَمَا لَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ شَهْرًا وَسَكَتَ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ (أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ) فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الشَّيْءَ لِحَاجَةٍ تَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُهَا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِذَا انْصَرَفَ الْأَوَّلُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ وَالثَّانِي مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْأَوَّلَ ضَرُورَةً.
قِيلَ مَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ مُنْكَرًا مَجْهُولًا، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ لَمَّا كَانَ فِي كَلَامِ الْمُؤَجِّرِ مِنْ الْمُنْكَرِ، فَكَأَنَّ الْمُؤَجِّرَ قَالَ آجَرْت عَبْدِي هَذَا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْته هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الشَّهْرِ، وَهُوَ آبِقٌ أَوْ مَرِيضٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَبَقَ أَوْ مَرِضَ حِينَ أَخَذْته وَقَالَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِسَاعَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ)؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ فَيَتَرَجَّحُ بِحُكْمِ الْحَالِ، إذْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِهِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ.
أَصْلُهُ الِاخْتِلَافُ فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَانْقِطَاعِهِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ إلَخْ) ظَاهِرٌ خَلَا قَوْلِهِ فَيَتَرَجَّحُ بِحُكْمِ الْحَالِ فَإِنَّهُ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْحَالَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ لَوْ جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَبْدِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ لِلْمُؤَجِّرِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْعَقْدُ مَعَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّ تَعَارُضَ كَلَامِهِمَا فِي اعْتِرَاضِ مَا يُوجِبُ السُّقُوطَ فَجُعِلَ الْحَالُ مُرَجِّحًا لِكَلَامِ الْمُؤَجِّرِ لَا مُوجِبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ دَافِعَةً لِاسْتِحْقَاقِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لَا مُوجِبَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.