فصل: فَصْلٌ: في تَغَيَّر الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ: في تَغَيَّر الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ:

قَالَ (وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا، كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً) وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمَالِكِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضَمِّنُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطُحِنَتْ.
وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَصَارَ كَمَا إذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ أَصْلًا وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا.
وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَحَقُّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إحْدَاثُ الصَّنْعَةِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْمَلُ الْفُصُولَ الْمَذْكُورَةَ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَاحْفَظْهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا) اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَوَجْهُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَاءِ صَاحِبِهَا أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» أَفَادَ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فَتْحُ بَابِ الْغَصْبِ فَيَحْرُمُ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَنَفَاذِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ مَعَ الْحُرْمَةِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ.
وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِهِ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ فِيهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ.
وَفِي الْحِنْطَةِ يَزْرَعُهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْغَصْبِ وَحُكْمُهُ مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ عَارِضٌ وَحَقُّهُ الْفَصْلُ عَمَّا قَبْلَهُ (وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمِ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا) قَوْلُهُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، مِثْلُ أَنْ صَارَ الْعِنَبُ زَبِيبًا بِنَفْسِهِ أَوْ خَلًّا أَوْ الرُّطَبُ تَمْرًا فَإِنَّ الْمَالِكَ فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمِنَهُ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى زَالَ اسْمُهَا) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِالذَّبْحِ الْمُجَرَّدِ مِلْكُ مَالِكِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ اسْمُهَا يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ وَشَاةٌ حَيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعِظَمِ مَنَافِعِهَا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ إذَا غَصَبَهَا وَطَحَنَهَا)، فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِعَيْنِ الْحِنْطَةِ كَجَعْلِهَا هَرِيسَةً وَكِشْكًا وَنَشَاءً وَبَذْرًا وَغَيْرَهَا يَزُولُ بِالطَّحْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَالَ اسْمُهَا يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهَا إذَا طَحَنَتْ صَارَتْ تُسَمَّى دَقِيقًا لَا حِنْطَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الذَّبْحَ وَحْدَهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، بَلْ الذَّبْحُ وَالطَّبْخُ بِمَنْزِلَةِ طَحْنِ الْحِنْطَةِ.
وَالْأَمْثِلَةُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لابد لِلْغَاصِبِ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ (قَوْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ) يَعْنِي زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ وَتَمَلُّكَ الْغَاصِبِ وَضَمَانَهُ (عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا) إذْ الدَّقِيقُ عَيْنُ الْحِنْطَةِ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي إحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَتَفْرِيقُ الْأَجْزَاءِ لَا يُبَدِّلُ الْعَيْنَ كَالْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْرِي الرِّبَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ جَائِزٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ) وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّهُ (لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ) قَوْلُهُ (وَلِلشَّافِعِيِّ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ يُوجِبُ بَقَاءَهُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ، وَلَوْلَا بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْعَيْنُ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ (وَتُتْبِعُهُ الصَّنْعَةَ) الْحَادِثَةَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ (كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطَحَنَتْ) فَإِنَّ الدَّقِيقَ يَكُونُ لِمَالِكِ الْحِنْطَةِ كَذَلِكَ هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: تَمْثِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فِعْلُ الْغَاصِبِ دُونَ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَحْظُورَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَصَارَ كَمَا إذَا عُدِمَ الْفِعْلُ أَصْلًا) وَحِينَئِذٍ صَارَتْ صُورَةُ النِّزَاعِ كَالْمُسْتَشْهَدِ بِهِ لَا مَحَالَةَ (وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَأَرَّبَهَا) أَيْ جَعَلَهَا عُضْوًا عُضْوًا، فَإِنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهِ مَحْظُورًا (وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً) لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّاةِ تَزْدَادُ بِطَبْخِهَا وَشَيِّهَا، وَكَذَلِكَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ تَزْدَادُ بِجَعْلِهَا دَقِيقًا (وَإِحْدَاثُهَا صَيَّرَ) جِنْسَ (حَقِّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ (وَحَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْغَاصِبِ (فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) وَمَا هُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُرَجَّحٌ عَلَى الْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إذَا تَعَارَضَ ضَرْبًا بِالتَّرْجِيحِ كَانَ الرُّجْحَانُ فِي الذَّاتِ أَحَقَّ مِنْهُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ تَابِعَةٌ لَهُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالشَّيِّ وَالطَّبْخِ، لِأَنَّ الصَّنْعَةَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْعَيْنُ هَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ (قَوْلُهُ وَلَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَحْظُورٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ لِهَذَا الْفِعْلِ جِهَتَيْنِ: جِهَةُ تَفْوِيتِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَحَلِّ وَهُوَ مَحْظُورٌ، وَجِهَةُ إحْدَاثِ صَنْعَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ حَيْثُ هَذِهِ الْجِهَةُ لَا الْجِهَةُ الْأُولَى.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الشَّاةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ حُدُوثُ الْفِعْلِ مِنْ الْغَاصِبِ عَلَى وَجْهٍ يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ، وَاسْمُ الشَّاةِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ بَاقٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ مَسْلُوخَةٌ كَمَا يُقَالُ شَاةٌ حَيَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ فِيهَا بَعْدَ التَّأْرِيبِ وَلَا يُقَالُ شَاةٌ مَأْرُوبَةٌ بَلْ يُقَالُ لَحْمٌ مَأْرُوبٌ فَقَدْ حَصَلَ الْفِعْلُ وَتَبَدَّلَ الِاسْمُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهَا فَقَدْ أَبْقَى اسْمَ الشَّاةِ فِيهَا مَعَ تَرْجِيحِ جَانِبِ اللَّحْمِيَّةِ فِيهَا، إذْ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا اللَّحْمُ ثُمَّ السَّلْخُ، وَالتَّأْرِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ بَلْ يُحَقِّقُهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلُ تَبْدِيلِ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الطَّبْخِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَا هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِاللَّحْمِ كَمَا كَانَ فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا (قَوْلُهُ وَهَذَا الْوَجْهُ) أَيْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِبَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى عَدَمِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْمَالِكِ، وَبِفَوَاتِ الِاسْمِ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْمِلْكِ شَامِلٌ لِعَامَّةِ فُصُولِ مَسَائِلِ الْغَصْبِ، فَإِنَّهُ إذَا غَصَبَ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ.
وَأَمَّا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ قَائِمٌ لَمْ يَتَبَدَّلْ اسْمُهُ.
وَقَوْلُهُ (لَا يَحِلُّ لَهُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُهُ) أَيْ وَجْهُ الْقِيَاسِ (أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ) يَعْنِي أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ لِلْغَاصِبِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الْمَالِكُ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ) وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ضِيَافَةِ أَنْصَارِيٍّ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَاةً صَلِيَّةً: أَيْ مَشْوِيَّةً فَأَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَجَعَلَ يَلُوكُهَا وَلَا يَسِيغُهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
إنَّهَا تُخْبِرُنِي أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: كَانَتْ شَاةَ أَخِي، وَلَوْ كَانَتْ أَعَزَّ مِنْ هَذَا لَمْ يُنَفِّسْ عَلَيَّ بِهَا وَسَأُرْضِيهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا إذَا رَجَعَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى»
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي الْمُحْبَسِينَ فَأَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ مَعَ كَوْنِ الْمَالِكِ مَعْلُومًا. بَيَانُ أَنَّ الْغَاصِبَ قَدْ مَلَكَهَا لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يَحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ إذَا أَمْكَنَ وَثَمَنُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ عَيْنِهِ، وَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهَا وَعَلَى حُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَنَفَاذُ بَيْعِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ نَفَاذَ ذَلِكَ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبَاحَةَ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) أَشَارَ إلَى قَوْلِهِ كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا.
وَقَوْلُهُ (وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ تَعْلِيلِ مَسْأَلَةٍ: وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ. قَالَ (وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ، وَقَالَا: يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا)؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمَضْرُوبُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ.
وَلَهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَمَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا وَأَنَّهُ بَاقٍ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَكَذَا الصَّنْعَةُ فِيهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا) إذَا غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ.
وَقَالَا: يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ إحْدَاثَهَا حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ تِبْرًا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَبَعْدَمَا ضَرَبَهُ صَلُحَ لِذَلِكَ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَغَايُرِهِمَا مَعْنًى وَاسْمًا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الضَّرْبِ كَانَ يُسَمَّى تِبْرًا وَفِضَّةً وَذَهَبًا وَبَعْدَهُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَالْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهِيَ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا وَجَرَيَانُ الرِّبَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ (قَوْلُهُ وَصَلَاحِيَّتُهُ لِرَأْسِ الْمَالِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ إلَخْ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الصَّلَاحِيَّةَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ يَحْدُثُ بِالصَّنْعَةِ لَا أَنَّهُ هَلَكَ الْعَيْنُ بِهَا مِنْ وَجْهٍ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الصَّنْعَةُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً مُتَقَوِّمَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ كَمَنْ اسْتَهْلَكَ قَلْبَ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا عِنْدَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَدَّى إلَى الرِّبَا، وَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ وَزْنِهَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْجَوْدَةِ وَالصَّنْعَةِ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَالِكِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا قُلْنَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا، وَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ مَكْسُورًا فَرَضِيَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ مَا بَيْنَ الْمَكْسُورِ وَالصَّحِيحِ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ فَبَقِيَتْ الصَّنْعَةُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الصَّنْعَةُ مُتَقَوِّمَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَالَ (وَمِنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ.
وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ: إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالِي السَّاجَةِ، مَا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ.
وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ غَصَبَ سَاجَةً) بِالْجِيمِ وَهِيَ الْخَشَبَةُ الْعَظِيمَةُ، لِأَنَّ السَّاحَةَ بِالْحَاءِ سَتَأْتِي بَعْدَ هَذَا (فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا) وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السَّاجَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا، وَسَيَظْهَرُ لَك وَجْهُ ذَلِكَ إنْ تَأَمَّلْت فِي قَوْلِهِ وَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ إلَخْ (وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ) أَيْ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ) الشَّافِعِيُّ (إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ، فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ) وَالسَّفِينَةُ مَعَ مَنْ عَلَيْهَا فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَنْزِعَ لَوْحَهُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِذَلِكَ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ وَاقِفَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ عِنْدَهُ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ جَوَازِ نَزْعِ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ عِنْدَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ تَلَفَ النَّاسِ لَا لِأَنَّ الْمَالِكَ مَلَكَ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ.
قُلْنَا: ثَبَتَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمَالِكِ وَغَيْرُهُ، وَجَعَلَ حَقَّ غَيْرِهِ أَوْلَى لِأَنَّ بِإِبْطَالِهِ زِيَادَةَ ضَرَرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى ضَرَرِ الْمَالِكِ فَكَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ (ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالَيْ السَّاجَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ، وَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى السَّاجَةِ يُنْقَضُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَجَوَابُ الْكِتَابِ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَبَنَى عَلَيْهَا (يُرَدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ) قِيلَ: لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السَّاجَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا تَصْلُحُ لِلْإِحْرَاقِ تَحْتَ الْقُدُورِ وَلِأَبْوَابِ الدُّورِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْضِ، وَالتَّغْيِيرُ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ. قَالَ (وَمِنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَّهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا، وَكَذَا الْجَزُورُ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا) هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَجْهُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ حَيْثُ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ) وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا وَكَذَلِكَ الْجَزُورُ وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ مِنْ الْجَزْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ غَاصِبَهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لِجِزَارَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهِ لَا نُقْصَانًا حَيْثُ أُعِدَّ لِلْجَزْرِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ مِنْهُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ إزَالَةِ الْحَيَاةِ عَنْ الْحَيَوَانِ نُقْصَانٌ فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَاهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الِاسْمَانِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا: أَيْ يَدَ الشَّاةِ وَالْجَزُورِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، بِخِلَافِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ لَا يُضَمِّنَهُ شَيْئًا: يَعْنِي فِي ذَبْحِ الشَّاةِ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالسَّلْخَ فِي الشَّاةِ زِيَادَةً عَلَى مَا مَرَّ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَبَقَاءُ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ وَلَكِنَّهُ لَا يَعُمُّ الْجَزُورَ بِظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَعُمُّهُ مِنْ قَوْلِهِ فَوَّتَ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ إذَا لَمْ يَجْعَلْ الْبَيَانَ مُنْحَصِرًا فِيهَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
قِيلَ: لَيْسَ لِتَقْيِيدِهِ بِغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ حُكْمَ مَأْكُولِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَطَفَ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ.
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ: هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ فِيهِمَا: يَعْنِي فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ فَكَانَ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ رَدَّ ذَلِكَ الظَّاهِرِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَفَى أَنْ يَقُولَ: وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.
وَالثَّانِي أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَطْعِ طَرَفِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَفِي الثَّانِي لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ نَفْيُ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ بَيْنَ تَضْمِينِ قِيمَتِهَا وَبَيْنَ إمْسَاكِ الْجُثَّةِ وَتَضْمِينِ نُقْصَانِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الْكُتُبِ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي فَقَالَ: وَفِي الْمُنْتَقَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ حِمَارٍ أَوْ رِجْلَهُ وَكَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْآدَمِيَّ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ (وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ (وَإِنْ خَرَقَ خَرْقًا كَبِيرًا يُبْطِلَ عَامَّةَ مَنَافِعِهِ فَلِمَالِكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ أَحْرَقَهُ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَاهُ يَتْرُكُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ: وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ، ثُمَّ إشَارَةُ الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا وَالْفَائِتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْخَرْقِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ رُبُعِ الْقِيمَةِ فَهُوَ فَاحِشٌ، وَمَا أَوْجَبَ دُونَهُ فَهُوَ يَسِيرٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ فَاحِشٌ، وَمَا أَوْجَبَ دُونَهُ فَهُوَ يَسِيرٌ.
وَأَشَارَ فِي الْقُدُورِيِّ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ.
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَبْقَى لِلْبَاقِي مَنْفَعَةُ الثِّيَابِ بِأَنْ لَا يَصْلُحَ لِثَوْبٍ مَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ) قِيلَ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْغَالِبُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الثَّوْبَ إذَا قُطِعَ يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ (وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ) يَعْنِي أَنْ لَا يَبْقَى جَمِيعُ مَنَافِعِهِ بَلْ يَفُوتُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ (وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْجَوْدَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا دُونَ غَيْرِهِ (لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا) فَقَالَ: وَإِذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَلَمْ يَخِطْهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ.
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَائِتَ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا قُطِعَ قَمِيصًا يَصْلُحُ لِلْقَمِيصِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِلْقَبَاءِ وَأَمْثَالِهِ، وَالسَّاقِطُ مِنْ الْقِيمَةِ أَقَلُّ مِنْ الرُّبُعِ، وَمَعَ هَذَا اعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَاحِشًا.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ، وَإِنْ خَرَقَهُ خَرْقًا كَبِيرًا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَيَتْرُكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَطْعِ كَانَ صَالِحًا لِاِتِّخَاذِ الْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ فَيَمِيلُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَضَمَّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، أَوْ إلَى جَانِبِ الْبَقَاءِ وَأَخْذِ الْعَيْنِ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْقَطْعِ، وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظِ الثَّوْبِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِي الَّذِي يُلْبَسُ كَالْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ وَفِيمَا لَمْ يُلْبَسْ كَالْكِرْبَاسِ. قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى قِيلَ لَهُ اقْلَعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا، وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَيُؤْمَرُ الشَّاغِلُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا إذَا شَغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ (فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونَانِ لَهُ)؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدُفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا) مَعْنَاهُ قِيمَةُ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ، إذْ لَا قَرَارَ لَهُ فِيهِ فَتَقُومُ الْأَرْضُ بِدُونِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَتَقُومُ وَبِهَا شَجَرٌ أَوْ بِنَاءٌ، لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا) كَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، لَكِنْ كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ يَحْكِي عَنْ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَتْ قِيمَةُ السَّاحَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ السَّاحَةِ أَكْثَرَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا.
قَالُوا: هَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ فِي لُؤْلُؤَةٍ سَقَطَتْ مِنْ يَدِ إنْسَانٍ فَابْتَلَعَتْهَا دَجَاجَةُ إنْسَانٍ، يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الدَّجَاجَةِ وَاللُّؤْلُؤَةِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الدَّجَاجَةِ أَقَلَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ اللُّؤْلُؤَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدَّجَاجَةَ وَضَمِنَ قِيمَتَهَا لِمَالِكِهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ اللُّؤْلُؤَةَ وَضَمِنَ صَاحِبُ الدَّجَاجَةِ قِيمَةَ اللُّؤْلُؤَةِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ قَرْنُ الشَّاةِ فِي قِدْرِ الْبَاقِلَّائِيِّ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ، يُنْظَرُ أَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً فَيُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِدَفْعِ قِيمَةِ الْآخَرِ إلَى صَاحِبِهِ وَيَتَمَلَّكُ مَالَ صَاحِبِهِ وَيَتَخَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَلَفِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَهُ أَمْثَالٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ») صَحَّحَهُ فِي الْمُغْرِبِ بِتَنْوِينِ عِرْقٍ: أَيْ لِذَوِي عِرْقٍ ظَالِمٍ، وَهُوَ الَّذِي يُغْرَسُ فِي الْأَرْضِ غَرْسًا عَلَى وَجْهِ الِاغْتِصَابِ لِيَسْتَوْجِبَهَا وَصَفَ الْعِرْقَ بِالظُّلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ صَاحِبِهِ مَجَازًا، وَقَدْ رُوِيَ بِالْإِضَافَةِ أَيْ لَيْسَ لِعِرْقِ غَاصِبٍ ثُبُوتٌ بَلْ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ إلَخْ) يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّجَرِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ مَثَلًا وَمَعَ الشَّجَرِ الْمُسْتَحَقِّ قَلْعُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْأَرْضِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ لِلْغَاصِبِ فَيُسَلِّمُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَكَذَا الْبِنَاءُ قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الثَّوْبِ: لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الصَّبْغِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ، بِخِلَافِ السَّمْنِ فِي السَّوِيقِ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ.
وَلَنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَالْخِيَرَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لَهُ بَعْدَ النَّقْضِ؛ أَمَّا الصِّبْغُ فَيَتَلَاشَى، وَبِخِلَافِ مَا إذَا انْصَبَغَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ لِيَضْمَنَ الثَّوْبَ فَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَصْلِ الصِّبْغَ.
قَالَ أَبُو عِصْمَةَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَهُ وَيَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِمَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ الصَّبْغَ بِالْقِيمَةِ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ تَعَيَّنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَيَتَأَتَّى، هَذَا فِيمَا إذَا انْصَبَغَ الثَّوْبُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا لِوَجْهٍ فِي السَّوِيقِ، غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ.
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا.
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَالصُّفْرَةُ كَالْحُمْرَةِ.
وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَهُوَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ.
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ.
وَقِيلَ إنْ كَانَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ السَّوَادُ فَهُوَ نُقْصَانٌ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يُزِيدُ فِيهِ السَّوَادُ فَهُوَ كَالْحُمْرَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا تُنْقِصُهُ الْحُمْرَةُ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَرَاجَعَتْ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى ثَوْبٍ تُزِيدُ فِيهِ الْحُمْرَةُ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْخَمْسَتَيْنِ جُبِرَتْ بِالصَّبْغِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاحَةِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ فِي فَصْلِ السَّاحَةِ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ إذَا لَمْ تَتَضَرَّرْ الْأَرْضُ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا شَغْلَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ) يَعْنِي بِالْعَصْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ بِالْجِيمِ بِقَوْلِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا.
وَقَوْلُهُ (وَالْخَيْرُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَ لَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ: يَعْنِي إنْ شَاءَ سَلَّمَ الثَّوْبَ إلَى مَالِكِهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ صَبْغِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ تَخْيِيرَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِجَوَازِ وُقُوعِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا، وَتَخْيِيرُ الْمَالِكِ أَوْلَى لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصَّبْغَ صِفَةٌ فَيَكُونُ كَالتَّابِعِ لَهُ، وَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ (قَالَ أَبُو عِصْمَةَ الْمَرْوَزِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ (فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ، وَاحْتُرِزَ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ مُتَّصِلٌ بِمَا يَلِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الِانْصِبَاغِ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الِانْصِبَاغِ كَذَلِكَ، لَكِنْ وَقَعَ مِنْ أَبِي عِصْمَةَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ تَصْحِيحًا لِلنَّقْلِ (وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا) فِي مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ وَالِانْصِبَاغِ (الْوَجْهُ) يَعْنِي جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ وَتَعْلِيلَهَا (فِي السَّوِيقِ) مِنْ حَيْثُ الْخَلْطُ وَالِاخْتِلَاطُ بِغَيْرِ فِعْلٍ (غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ، وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ.
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا.
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْقِيمَةِ (الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ) أَيْ سَمَّى الْمِثْلَ بِالْقِيمَةِ (لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ) أَيْ لِقِيَامِ الْمِثْلِ مَقَامَ الْمَغْصُوبِ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُ وَبِهِ بِتَأْوِيلِ مَا يُقَوَّمُ (قَوْلُهُ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَخْ) مَعْنَاهُ إنْ نَظَرَ إلَى ثَوْبٍ تَزِيدُ فِيهِ الْحُمْرَةُ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً مَثَلًا يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ اسْتَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّوْبِ عَشْرَةً وَاسْتَوْجَبَ الصَّبَّاغُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصَّبْغِ خَمْسَةً، فَالْخَمْسَةُ بِالْخَمْسَةِ قِصَاصٌ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ النُّقْصَانِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَهَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

.فصل: فيمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا:

وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ، وَالْمُبَدَّلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ، نَعَمْ قَدْ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ يُصَادِفُ الْقِنَّ.
قَالَ (وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ (إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ بِالْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ.
قَالَ (فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ وَقَدْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ وَهُوَ الْغَاصِبُ)؛ لِأَنَّهُ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِهِ رِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَيْثُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَأَخَذَهُ دُونَهَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ.
وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلَ مَا ضَمَّنَهُ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ حَيْثُ لَمْ يُعْطِ لَهُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْخِيَارُ لِفَوَاتِ الرِّضَا.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): لَمَّا فَرَغَ مِنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَسَائِلَ تَتَّصِلُ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ.
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا) فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ صَبَرَ إلَى أَنْ تُوجَدَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ فَضَمِنَهَا الْغَاصِبُ مَلَكَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ (الْغَصْبُ عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ) كَمَا لَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا وَغَيَّبَهُ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ (وَلَنَا الْمَالِكُ مَلَكَ الْبَدَلَ وَهُوَ الْقِيمَةُ بِكَمَالِهِ) يَعْنِي يَدًا وَرَقَبَةً، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ بَدَلَ شَيْءٍ خَرَجَ الْمُبْدَلُ عَنْ مِلْكِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَدَخَلَ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْبَدَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ مَالِكِ الْبَدَلِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَالْمُدَبَّرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ مُنَاسِبًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأَسْرَارِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: الْغَصْبُ يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ أَوْ التَّرَاضِي.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا وَهْمٌ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ الْوَلَدُ، وَلَوْ كَانَ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ لَكَانَ إذَا تَمَّ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ يَمْلِكُ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ وَمَعَ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَعْضُ الشُّنْعَةِ، فَالْغَصْبُ عُدْوَانٌ مَحْضٌ وَالْمِلْكُ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، فَيَكُونُ سَبَبُهُ مَشْرُوعًا مَرْغُوبًا فِيهِ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ سَبَبًا لَهُ، فَإِنَّهُ تَرْغِيبٌ لِلنَّاسِ فِيهِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ مَرْغُوبٌ لَهُمْ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ مِثْلِهِ إلَى الشَّرْعِ.
وَقِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِكَوْنِ الْغَصْبِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ أَنَّهُ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا بَلْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، وَالثَّابِتُ بِهِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثُبُوتِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَقَوْلُهُ (نَعَمْ قَدْ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ بِالْقَضَاءِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ، فَإِنَّ مَوْلَاهُ لَوْ بَاعَهُ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ الْبَيْعُ وَفُسِخَ التَّدْبِيرُ.
وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ: يَعْنِي نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ هُوَ فِي ضِمْنِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْفَصْلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ فَحِينَئِذٍ كَانَ مُصَادِفًا لِلْقِنِّ لَا لِلْمُدَبَّرِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِمُصَادَفَتِهِ الْقِنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَمْ يَنْفَسِخْ التَّدْبِيرُ وَالْكَلَامُ فِيهِ.
قَالَ (وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ) إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ (إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) فَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ بَلْ يَكُونُ لِلْمَالِكِ (لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ بِالْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ) فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ يَمِينَ الْغَاصِبِ وَلِلْغَاصِبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ، بَلْ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَنْفِي الزِّيَادَةَ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ.
وَكَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عُدَّتْ مُشْكِلَةً.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمُودَعَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَسْقَطَهَا وَارْتَفَعَتْ الْخُصُومَةُ.
وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَعَلَيْهِ هَاهُنَا الْيَمِينُ وَالْقِيمَةُ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا الْيَمِينُ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْوَدِيعَةِ.
وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: ذِكْرُ أَوْصَافِ الْمَغْصُوبِ فِي دَعْوَى الْغَصْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ جَارِيَةً لَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ بِهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَنْبَغِي أَنْ تُحْفَظَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ غَصَبَ جَارِيَةً لَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ جِنْسَهَا وَصِفَتَهَا وَقِيمَتَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَصَحَّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَمْتَنِعُ عَنْ إحْضَارِ الْمَغْصُوبِ عَادَةً، وَحِينَ يُغْصَبُ إنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ الشُّهُودِ مُعَايَنَةُ فِعْلِ الْغَصْبِ دُونَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَغْصُوبِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عِلْمِهِمْ بِالْأَوْصَافِ لِأَجْلِ التَّعَذُّرِ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ فِعْلُ الْغَصْبِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَصَارَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ مَا قَالَ: تَأْوِيلُهَا أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْغَصْبِ فَلَا تُقْبَلُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَغْصُوبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَغْصُوبِ وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ (فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَ بَعْدَ تَمَامِ الرِّضَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا الْمَالِكُ أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ وَالْعَيْنُ لِلْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِهِ رِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَيْثُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، فَإِنْ قِيلَ: أَخْذُهُ الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الرِّضَا فَكَانَتْ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَأَخْذُهُ دُونَهَا) أَيْ أَخْذُ الْمَالِكِ مَا دُونَ الزِّيَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الرِّضَا، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ عَدَمُ الْحُجَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ كَانَتْ بِاخْتِيَارِهِ (وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلُ مَا ضَمِنَهُ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ) يَعْنِي مَا إذَا ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ (فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ) أَيْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَقَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْدَادِهَا لِأَنَّهُ تَوَفَّرَ عَلَيْهِ بَدَلُ مِلْكِهِ بِكَمَالِهِ (وَهُوَ) أَيْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ (الْأَصَحُّ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِزَوَالِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ حَيْثُ لَمْ يُعْطِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ، وَمَا لَمْ يَتِمَّ الرِّضَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ. قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ فَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ) لِأَنَّ مِلْكَهُ الثَّابِتَ فِيهِ نَاقِصٌ لِثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا أَوْ ضَرُورَةً، وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ دُونَ الْأَوْلَادِ، وَالنَّاقِصُ يَكْفِي لِنُقُودِ الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ كَمِلْكِ الْمُكَاتَبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ إلَخْ) وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ فَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْغَاصِبُ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ لِأَنَّ مِلْكَهُ الثَّابِتَ فِيهِ نَاقِصٌ لِثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا أَوْ ضَرُورَةَ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ دُونَ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَالنَّاقِصُ يَكْفِي لِنُفُوذِ الْبَيْعِ دُونَ الْإِعْتَاقِ بِالنَّصِّ كَمِلْكِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ، وَقُيِّدَ بِإِعْتَاقِ الْغَاصِبِ ثُمَّ بِتَضْمِينِهِ احْتِرَازٌ عَنْ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ ثُمَّ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قِيَاسًا عَلَى الْوَقْفِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَصِحُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ قَالَ (وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا، وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يَطْلُبَهَا مَالِكُهَا فَيَمْنَعُهَا إيَّاهُ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً لِوُجُودِ الْغَصْبِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا فِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا، إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ، حَتَّى لَوْ مَنَعَ الْوَلَدَ بَعْدَ طَلَبِهِ يَضْمَنُهُ، وَكَذَا إذَا تَعَدَّى فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ، وَفِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ لَا يَضْمَنُ وَلَدَهَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ لِعَدَمِ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ إذَا هَلَكَ بَعْدَهُ لِوُجُودِ الْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّرْعُ، عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا.
وَلَوْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ، وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، وَيَجِبُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ، فَلَأَنْ يَجِبَ بِمَا هُوَ فَوْقَهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَمْنِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الشَّرْحُ:
(وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا) كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ (وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالتَّعَدِّي أَوْ بِالْجُحُودِ عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ) وَالْأَكْسَابُ الْحَاصِلَةُ بِاسْتِغْلَالِ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ مِنْ نَمَائِهِ فِي شَيْءٍ حَتَّى تُضْمَنَ بِالتَّعَدِّي لِمَا أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ، وَمَنَافِعُهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا فَكَذَا بَدَلُهَا.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً) بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَكَانَ كَالظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنِعَ مِنْ الْمَخْرَجِ (وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا) فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْغَصْبِ، وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَضْمَنَ الْوَلَدَ إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا، لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَوَلَدَتْ، وَالرِّوَايَةُ فِي الْأَسْرَارِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ يُعَدُّ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا إزَالَةَ ثَمَّةَ ظَاهِرًا، إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ الطَّلَبِ، حَتَّى لَوْ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ أَوْ تَعَدَّى فِيهِ قُلْنَا بِالضَّمَانِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّسْلِيمَ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ لَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ بَلْ بِالتَّسْلِيمِ بَعْدَهُ فَإِنَّ تَفْوِيتَ يَدِهِ يَحْصُلُ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْغَاصِبِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْأُمَّ مَضْمُونَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَالْأَوْصَافُ الْقَارَّةُ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِي الشِّرَاءِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِصِفَةٍ قَارَّةٍ فِي الْأُمِّ بَلْ هُوَ لُزُومُ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ وُصِفَ بِهِ الْمَالُ كَانَ مَجَازًا.
فَإِنْ قِيلَ: وَقَدْ وُجِدَ الضَّمَانُ فِي مَوَاضِعَ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا فَكَانَ أَمَارَةَ زَيْفِهَا، وَذَلِكَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ أَزَالَ يَدَ الْغَاصِبِ، وَالْمُلْتَقِطُ إذَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِشْهَادِ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا، وَالْمَغْرُورُ إذَا مَنَعَ الْوَلَدَ يَضْمَنُ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَيَضْمَنُ الْأَمْوَالَ بِالْإِتْلَافِ تَسَبُّبًا كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ إزَالَةُ يَدِ أَحَدٍ وَلَا إثْبَاتُهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا قُلْنَا إنَّ الْغَصْبَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يُوجِبُ الضَّمَانَ مُطَّرِدٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَانَ غَصْبًا فَلَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ حُكْمًا نَوْعِيًّا يَثْبُتُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهُ بِشَخْصٍ مِنْ الْعِلَّةِ مِمَّا يَكُونُ تَعَدِّيًا (قَوْلُهُ وَفِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إنْ قَاسَ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ فَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْمَنْعِ، وَإِنْ قَاسَ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّرْعُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأُمَّ مَضْمُونَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا (وَإِذَا أَطْلَقَ) يَعْنِي لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ سَوَاءٌ هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ أَوْ بَعْدَهُ (فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ) أَيْ إتْلَافٍ لِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ وَزَوَائِدَهُ كَانَ آمِنًا فِي الْحَرَمِ صَيْدًا، وَذَلِكَ فِي بُعْدِهِ عَنْ أَيْدِينَا، فَالْوُقُوعُ فِي أَيْدِينَا تَلَفٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَيَضْمَنُ لِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِينَا (وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ) الْجَزَاءُ (بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ) فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِسَبَبِ إخْرَاجِ الصَّيْدِ عَنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَجَبَ جَزَاءٌ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحَرَمِ (قَوْلُهُ وَيَجِبُ) يَعْنِي الضَّمَانَ (بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ بِالنَّصِّ فَلَأَنْ يَجِبَ بِمَا هُوَ فَوْقَهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مُسْتَحَقِّ الْأَمْنِ أَوْلَى) قَالَ (وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِهِ انْجَبَرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ).
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُهُ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ، وَكَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَزَّ صُوفَ شَاةِ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرِ غَيْرِهِ أَوْ خَصَى عَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ عَلَّمَهُ الْحِرْفَةَ فَأَضْنَاهُ التَّعْلِيمُ.
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ أَوْ الْعُلُوقُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا، وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ أَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ وَأَخَذَ أَرْشَهَا وَأَدَّاهُ مَعَ الْعَبْدِ يُحْتَسَبُ عَنْ نُقْصَانِ الْقَطْعِ، وَوَلَدُ الظَّبْيَةِ مَمْنُوعٌ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ.
وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ، إذْ الْوِلَادَةُ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ رَدِّ أَصْلِهِ لِلْبَرَاءَةِ، فَكَذَا لابد مِنْ رَدِّ خَلَفِهِ، وَالْخِصَاءُ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً؛ لِأَنَّهُ غَرَضُ بَعْضِ الْفَسَقَةِ، وَلَا اتِّحَادَ فِي السَّبَبِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ الْقَطْعُ وَالْجَزُّ، وَسَبَبَ الزِّيَادَةِ النُّمُوُّ، وَسَبَبَ النُّقْصَانِ التَّعْلِيمُ، وَالزِّيَادَةُ سَبَبَهَا الْفَهْمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ إلَخْ) مَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَلَوْ غَصَبَهَا فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَمَاتَ الْوَلَدُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الْجَارِيَةِ وَرَدُّ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِاَلَّذِي ثَبَتَ فِيهَا بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ بِالْغَصْبِ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ فَاتَ جُزْءٌ مَضْمُونٌ مِنْهَا فَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ كَمَا لَوْ فَاتَ كُلُّهَا، فَإِنْ رُدَّتْ الْجَارِيَةُ وَالْوَلَدُ وَقَدْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَابِرَةً لِذَلِكَ النُّقْصَانِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَلَكَهُ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ.
كَمَا فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا تُسَاوِي ذَلِكَ النُّقْصَانَ فَإِنَّهُ لَا يَنْجَبِرُ بِهَا، بَلْ يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ مَعَ وُجُوبِ رَدِّهِمَا إلَى الْحَرَمِ، وَكَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ، وَكَمَا إذَا جَزَّ صُوفَ شَاةِ غَيْرِهِ فَنَبَتَ مَكَانَهُ آخَرُ، أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرِ الْغَيْرِ فَنَبَتَتْ قَوَائِمُ أُخْرَى مَكَانَهَا.
أَوْ خُصِيَ عَبْدُ غَيْرِهِ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ بِسَبَبِ الْخِصَاءِ، أَوْ عَلَّمَهُ الْحِرْفَةَ فَأَضْنَاهُ التَّعْلِيمُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجَبِرُ الصُّوفُ بِالصُّوفِ، وَالْقَوَائِمُ بِالْقَوَائِمِ، وَلَا مَا نَقَصَ مِنْ الْجُزْءِ بِالْخِصَاءِ وَالتَّعْلِيمِ بِمَا زَادَ مِنْ الْقِيمَةِ فِيهِ.
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ عِنْدَهُمَا وَالْعُلُوقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا عُرِفَ ذَلِكَ يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ.
وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً وَزَنَى بِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ النُّقْصَانُ نُقْصَانًا لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَمَّا أَثَّرَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ، كَالْبَيْعِ لَمَّا أَزَالَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ أَدْخَلَ الثَّمَنَ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ خَلَفًا عَنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ حَتَّى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَوَاتٍ، وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً ثُمَّ هَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ أَوْ قَطَعَتْ يَدَ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ وَأَخَذَ أَرْشَهَا وَأَدَّاهُ مَعَ الْعَبْدِ يُحْتَسَبُ عَنْ نُقْصَانِ الْقَطْعِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ النُّقْصَانُ لِكَوْنِهِ إلَى خَلَفٍ (قَوْلُهُ وَوَلَدُ الظَّبْيَةِ مَمْنُوعٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا، وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نُقْصَانَ الظَّبْيَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا يَنْجَبِرُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَكَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأُمَّ إذَا مَاتَتْ لَا تَنْجَبِرُ قِيمَتُهَا بِقِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ، وَهَذَا الْمَنْعُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُهَا عَلَى الظَّاهِرِ فَهُوَ أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِلزِّيَادَةِ وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ إذْ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوِلَادَةِ قَدْرُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ وَيَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تُوجِبُ الْمَوْتَ فَالنُّقْصَانُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ دُونَ مَوْتِ الْأُمِّ وَرَدُّ الْقِيمَةِ كَرَدِّ الْعَيْنِ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَ الْجَارِيَةِ كَانَ النُّقْصَانُ مَجْبُورًا بِالْوَلَدِ فَكَذَا إذَا رَدَّ قِيمَتَهَا (وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا رَدَّ الْأُمَّ بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ هَلْ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِرَدِّ الْوَلَدِ، وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ هَالِكًا كَيْفَ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِهِ، وَالْخِصَاءُ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً لِأَنَّهُ غَرَضُ بَعْضِ الْفَسَقَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الشَّرْعِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمَسَائِلِ فَلَيْسَ فِيهِ اتِّحَادُ السَّبَبِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَذْكُورُ جَوَابُ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا، وَأَصْلُ نُكَتِهِ الْخَصْمِ وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَابِرًا لِنُقْصَانٍ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ، فَإِطْلَاقُ الْجَابِرِ عَلَيْهِ تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْوَلَدُ خَلَفًا وَبَدَلًا عَنْ النُّقْصَانِ لَمَا بَقِيَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ بِضَمَانِ الْغَاصِبِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مَالِكٍ وَاحِدٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْمَوْلَى لَا مَحَالَةَ، وَمِنْ حَيْثُ الْمِلْكُ لَيْسَ بِبَدَلٍ بَلْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، فَإِذَا ارْتَفَعَ النُّقْصَانُ بَطَلَتْ الْخَلْفِيَّةُ بَقِيَ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: الْوَلَدُ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ خَلَفًا عَنْ الْمَضْمُونِ؟ فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ عَدَمِ عَدِّهِ نُقْصَانًا لَا تَضْمِينُهُ، هَذَا الْجَوَابُ صَالِحٌ لِلدَّفْعِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي أَيْضًا.
فَلِلَّهِ دَرُّ الْمُصَنِّفِ مَا أَلْطَفَهُ ذِهْنًا، جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا. قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَحَبِلَتْ ثُمَّ رَدَّهَا وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ عَلِقَتْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ فِي الْأَمَةِ أَيْضًا) لَهُمَا أَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ.
كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ.
أَوْ زَنَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ، وَكَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ.
وَلَهُ أَنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرُدَّتْ وَفِيهَا ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً فَقُتِلَتْ بِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ دُفِعَتْ بِهَا بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ.
كَذَا هَذَا.
بِخِلَافِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ لِيَبْقَى ضَمَانُ الْغَصْبِ بَعْدَ فَسَادِ الرَّدِّ.
وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءِ التَّسْلِيمِ.
مَا ذَكَرْنَا شَرْطُ صِحَّةِ الرَّدِّ وَالزِّنَا سَبَبٌ لِجَلْدٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا) قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَغْصِبُ الْجَارِيَةَ فَيَزْنِي بِهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَتَحْمِلُ فَتَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا، قَالَ.
هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يَوْمَ عَلِقَتْ.
وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ ضَمَانٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَمَةِ أَيْضًا إذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا بَعْدَمَا يَرُدُّهَا، وَتَابَعَهُ الْمُصَنِّفُ فِي قَوْلٍ ثُمَّ يَرُدُّهَا فَتَحْبَلُ بِتَقْدِيمِ الرَّدِّ عَلَى الْحَبَلِ، وَوَقَعَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ بِتَقْدِيمِ الْحَبَلِ عَلَى الرَّدِّ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَبَلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرَّدِّ، قَالَ: الرَّدُّ قَدْ صَحَّ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَصِحَّتُهُ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّتَهُ حَيْثُ هَلَكَتْ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَهُ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ) لَا بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَالْهَلَاكُ بِذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ أَوْ زَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ، وَكَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِالْحَبَلِ (فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ) فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا لَكِنْ يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْحَبَلِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرَدُّهَا وَفِيهَا ذَلِكَ (فَصَارَ كَمَا إذَا جَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَقُتِلَتْ بِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ دَفَعَتْ بِهَا بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ كَذَا هَذَا.
بِخِلَافِ الْحُرَّةِ) إذَا زَنَى بِهَا رَجُلٌ مُكْرَهَةً فَحَبِلَتْ وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا (لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ) وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ فَلَا يَبْقَى ضَمَانُ الْغَصْبِ بَعْدَ فَسَادِ الرَّدِّ بِكَوْنِهَا حُبْلَى (قَوْلُهُ وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ بِطَرِيقِ الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ فَصْلَ الشِّرَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْبَائِعِ ابْتِدَاءُ التَّسْلِيمِ: أَيْ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمَوْتُهَا بِالنِّفَاسِ لَا يَعْدَمُ التَّسْلِيمَ (وَمَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ (شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّدِّ) وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ تَمْثِيلُ مَا لَمْ يُوجَدْ بِشَرْطِهِ عَلَى مَا وُجِدَ بِشَرْطٍ وَهُوَ تَمْثِيلٌ فَاسِدٌ، قِيلَ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْعَيْنَ إذْ الْأَوْصَافُ لَا تَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ وُجِدَ، فَلَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَالْأَوْصَافُ دَاخِلَةٌ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَرَدَّهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ، وَإِذَا دَخَلَتْ الْأَوْصَافُ فِيهِ كَانَ الرَّدُّ بِدُونِهَا رَدًّا فَاسِدًا.
وَأَمَّا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَا بِهَا مِنْ الْحُمَّى وَالضَّعْفِ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مَادَّةً كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ حَدَثَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُرَكَّبَةً مِنْهُمَا فَلَا يُضَافُ إلَى سَبَبٍ قَائِمٍ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالشَّكِّ (قَوْلُهُ وَالزِّنَا سَبَبٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ زَيْتٌ فِي يَدِهِ إلَخْ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الزِّنَا الَّذِي وُجِدَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنَّمَا يُوجِبُ الْجَلْدَ الْمُؤْلِمَ لَا الْجَارِحَ وَلَا الْمُتْلِفَ، وَلَمَّا جُلِدَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِجَلْدٍ مُتْلِفٍ كَانَ غَيْرَ مَا وَجَبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَضْمَنُ. قَالَ (وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ بِاسْتِعْمَالِهِ فَيَغْرَمُ النُّقْصَانَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُهَا، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بَيْنَ مَا إذَا عَطَّلَهَا أَوْ سَكَنَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ سَكَنَهَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ عَطَّلَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَتَّى تُضْمَنَ بِالْعُقُودِ فَكَذَا بِالْغُصُوبِ.
وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِحُدُوثِهَا فِي إمْكَانِهِ إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَيَمْلِكُهَا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا، وَلِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ فِي الْمُخْتَلِفِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا، بَلْ تُقَوَّمُ ضَرُورَةً عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ، إلَّا أَنَّ مَا اُنْتُقِصَ بِاسْتِعْمَالِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَخْ) مَنَافِعُ الْغَصْبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، لَكِنْ إنْ نَقَصَ بِاسْتِعْمَالِهِ غَرِمَ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَضْمُونَةٌ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَلَا فَرْقَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَرُبَّمَا سَمَّى الْأَوَّلَ غَصْبًا وَالثَّانِي إتْلَافًا فِي شُمُولِ الْعَدَمِ عِنْدَنَا وَشُمُولِ الْوُجُودِ عِنْدَهُ.
وَفَصَّلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إنْ سَكَنَهَا فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ عَطَّلَهَا فَكَانَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ) لِكَوْنِهَا غَيْرَ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ (وَيَضْمَنُ بِالْعُقُودِ) صَحِيحَةً كَانَتْ أَوْ فَاسِدَةً بِالْإِجْمَاعِ (فَكَذَا بِالْغُصُوبِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجْعَلُ غَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ مُتَقَوِّمًا كَمَا لَوْ وَرَدَ عَلَى الْمَيْتَةِ (وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي إمْكَانِهِ) أَيْ تَصَرُّفِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَسْبِهِ (إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى) وَمَا حَدَثَ فِي إمْكَانِ الرَّجُلِ فَهُوَ فِي مِلْكِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْعَبْدِ إلَّا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ إلَى إقَامَةِ التَّكَالِيفِ، فَالْمَنَافِعُ حَاصِلَةٌ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا حُدُوثَهَا عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ لَكِنْ لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبَهَا وَإِتْلَافَهَا وَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا تَحْقِيقَ غَصْبِهَا وَإِتْلَافَهَا لَكِنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمَنَافِعُ لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ.
وَاعْتُرِضَ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يَسْرُعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي تَبْقَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ حَيْثُ الْفِنَاءُ وَالْبَقَاءُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَبِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا جَازَ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ إلَى مَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ مَا تَكُونُ بَيْنَ بَاقٍ وَبَاقٍ لَا بَيْنَ بَاقٍ وَأَبْقَى، فَكَانَ السُّؤَالُ غَيْرَ وَارِدٍ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بَيْنَ جَوْهَرَيْنِ لَا بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَبْلَى دُونَ الْآخَرِ، وَعَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شِرَاءَ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ جَائِزٌ لِلْوَصِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ كَمَا ذَكَرْنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ الْأَحْسَنَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هُوَ مَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ أَيْ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، أَوْ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ، وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ إنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا، وَثَالِثًا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ إلَى آخِرِهِ (وَفِي الْمُخْتَلِفِ) يَعْنِي فِي مُخْتَلِفِ أَبِي اللَّيْثِ، وَقَوْلُهُ (وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْمَنَافِعُ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا لِأَنَّ التَّقَوُّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَالْإِحْرَازَ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَبْقَى غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ بَلْ يَتَقَوَّمُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ (عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ) عَلَيْهَا بِالتَّرَاضِي، وَلَا عَقْدَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ (إلَّا أَنَّ) أَيْ لَكِنَّ (مَا يَنْقُصُ بِاسْتِعْمَالِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.