فصل: (كِتَابُ الْحَوَالَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(كِتَابُ الْحَوَالَةِ):

الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْحَوَالَةِ:
الْحَوَالَةُ تُنَاسِبُ الْكَفَالَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا الْتِزَامًا بِمَا عَلَى الْأَصِيلُ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِعَارَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ إذَا اشْتَرَطَ مُوجِبَ إحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأُخْرَى، لَكِنَّهُ أَخَّرَ الْحَوَالَةَ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ، وَالْبَرَاءَةُ تَقْفُو الْكَفَالَةَ فَكَذَا مَا يَتَضَمَّنُهَا.
وَالْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النَّقْلُ وَحُرُوفُهَا كَيْفَمَا تَرَكَّبَتْ دَارَتْ عَلَى مَعْنَى النَّقْلِ وَالزَّوَالِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَثُّقِ بِهِ.
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَسَنَذْكُرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَكَذَا حُكْمُهَا وَأَنْوَاعُهَا. قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ إلَخْ) الْحَوَالَةُ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ، أَمَّا الْجَوَازُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ مَا رَوَى الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ: إذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ.
أَمَرَ بِالِاتِّبَاعِ وَالِاتِّبَاعُ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ الشَّارِعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ كَالْكَفَالَةِ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالدُّيُونِ فَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ التَّحْوِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ.
وَتَقْرِيرُهُ الْحَوَالَةُ تَحْوِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَالتَّحْوِيلُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُحَوَّلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الذِّمَّةِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ فَجَازَ أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّرْعُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ بِالْتِزَامِهِ.
وَأَمَّا الْعَيْنُ إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مَحْسُوسًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَيْسَ هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ الْحِسِّيُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ (وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ، وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتَصِحُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَخْ) شَرْطُ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ رِضَا الْمُحْتَالِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ، وَهُوَ أَيْ الدَّيْنُ يَنْتَقِلُ بِالْحَوَالَةِ وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا رِضَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقُلْنَا إنَّهُ إلْزَامُ الدَّيْنِ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الِالْتِزَامِ.
لَا يُقَالُ: إلْزَامُ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُنْكِرِ إلْزَامٌ بِدُونِ الِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إظْهَارٌ لِلِالْتِزَامِ لَا إلْزَامٌ، وَأَمَّا رِضَا الْمُحِيلِ فَقَدْ شَرَطَهُ الْقُدُورِيُّ وَعَسَى يُعَلِّلُ بِأَنَّ ذَوِي الْمُرُوآتِ قَدْ يَأْنَفُونَ بِتَحَمُّلِ غَيْرِهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُمْ.
وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْمُحِيلُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ قُبِلَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ فَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ.
وَقِيلَ: لَعَلَّ مَوْضُوعَ مَا ذُكِرَ فِي الْقُدُورِيِّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمُحِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ إحَالَةٌ وَهُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا، وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَالثَّانِي احْتِيَالٌ يَتِمُّ بِدُونِ إرَادَةِ الْمُحِيلِ بِإِرَادَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ.
وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ، وَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُهُ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إيفَاءَ الْحَقِّ حَقُّهُ فَلَهُ إيفَاؤُهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ عَلَيْهِ بِتَعْيِينِ بَعْضِ الْجِهَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي. قَالَ (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا.
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَإِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ إلَخْ) إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِرُكْنِهَا وَشَرْطِهَا كَانَ حُكْمُهَا بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَقَوْلُهُ: بِالْقَبُولِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ رِضَا مَنْ رِضَاهُ شَرْطٌ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ الدَّيْنِ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ بَرَاءَتَهَا عَنْ الْمُطَالَبَةِ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحْكَامًا تَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا قَالَ: إنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ صَحَّ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحَوُّلَ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَبَرَاءَةِ الْمُحِيلِ عَنْهُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ صَحَّ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ.
وَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلُ قَبْلَ الْحَوَالَةِ وَالْأَصِيلُ فِي الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَالتَّمْلِيكُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ مَا لِلْمُحْتَالِ يُجْبَرُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ بِالْحَوَالَةِ يَكُونُ الْمُحِيلُ مُتَبَرِّعًا فِي نَقْدِ الْمَالِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُجْبَرُ رَبُّ الْمَالِ لَا تَصِحُّ لِبَرَاءَتِهِ بِالْحَوَالَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى قَبُولِهِ. قَالُوا: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي تَحْوِيلِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ تَحْوِيلُهُ.
وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ، فَالرَّاهِنُ إذَا أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ هَلْ يُسْتَرَدُّ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَفِيمَا إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ لِبَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، إذْ الْمُتَحَوِّلُ بِهَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ لَا غَيْرُ.
لَا يُقَالُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَدُلُّ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ عَنْ الدَّيْنِ دُونَ الْمُطَالَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الدَّيْنِ بِلَا مُطَالَبَةٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِلَا لَازِمٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الدَّيْنِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لِاسْتِلْزَامِهَا إيَّاهُ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَفِي الْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ فَكَذَا فِي الْحَوَالَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْكَفَالَةُ كَالْحَوَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَفِي الْحَوَالَةِ يَبْرَأُ فَكَذَا فِي الْكَفَالَةِ، وَجَوَابُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَلْ إلَى الْفَارِقِ وَهُوَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَفْهُومٍ خِلَافِ مَفْهُومِ الْآخَرِ لُغَةً، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ، وَإِذَا حَصَلَ نَقْلُ الدَّيْنِ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا.
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَهُوَ يَقْتَضِي بِنَاءَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ، وَالْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَاعْتُرِضَ بِالْحَوَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ فَإِنَّهَا حَوَالَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا مَرَّ، وَلَا نَقْلَ فِيهَا وَلَا تَحْوِيلَ وَهُوَ نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا نَقْلَ فِيهَا فَإِنَّهَا بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ ظَاهِرُ التَّحْقِيقِ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى عَلَى الْمُحِيلِ شَيْءٌ (قَوْلُهُ: وَالتَّوَثُّقُ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَاءِ) جَوَابٌ لِزُفَرَ، وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، لَكِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ لَا تُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوَثُّقَ يَتَحَقَّقُ مَعَهَا بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَاءِ: أَيْ الْأَقْدَرِ عَلَى الْإِيفَاءِ لِبُسُوطَةِ سَعَةِ ذَاتِ الْيَدِ، وَالْأَحْسَنِ قَضَاءً بِأَنْ يُوَفِّيَهُ بِالْأَجْوَدِ بِلَا مُمَاطَلَةٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَنَزُّلٌ فِي الْجَوَابِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ) جَوَابُ نَقْضٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَانْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ الْمُحِيلِ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ، فَإِذَا نَقَدَهُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ: أَيْ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَابِضِ إذَا ارْتَفَعَتْ الْمَوَانِعُ بَيْنَ الْمُحْتَالِ وَالْمَنْقُودِ لِكَوْنِ الْمُحِيلِ إذْ ذَاكَ مُتَبَرِّعًا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِأَدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ الْمُتَبَرِّعِ لَا يُجْبَرُ الطَّالِبُ عَلَى الْقَبُولِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُحِيلَ مُتَبَرِّعٌ فِي النَّقْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَالْأَجْنَبِيِّ إنْ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ عَوْدَ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا. قَالَ (وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يُتْوَى حَقَّهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَلَنَا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ.
قَالَ (وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ (وَقَالَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ حَالَ حَيَاتِهِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ إلَخْ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَرِئَ الْمُحِيلُ: أَيْ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِالْقَبُولِ بَرِئَ الْمُحِيلُ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ مَعْنَى التَّوَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوَى؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً: أَيْ عَنْ شَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ عِنْدَ التَّوَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ كَمَا فِي الْإِبْرَاءِ، وَتَأَيَّدَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: اخْتَرْت عَلِيًّا فَقَالَ أَبْعَدَك اللَّهُ فَأَبْعَدَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِيَالِهِ وَلَمْ يُجِزْ لَهُ الرُّجُوعَ.
قُلْنَا: الْبَرَاءَةُ حَصَلَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا أَوْ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُفِيدُكُمْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ الْعُرْفِ أَوْ الْعَادَةِ فَنَقُولُ: إنَّهَا حَصَلَتْ مُقَيَّدَةً بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحَوَالَةِ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيفَاءِ فَصَارَتْ سَلَامَةُ الْحَقِّ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَطْلُوبَ، فَإِذَا فَاتَ الشَّرْطُ عَادَ الْحَقُّ إلَى الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ فَصَارَ وَصْفُ السَّلَامَةِ فِي حَقِّ الْمُحَالِ بِهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَعُودُ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَفْظًا لِمَا أَنَّ وَصْفَ السَّلَامَةِ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ الدَّيْنُ وَهُوَ عِبَارَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ أَيْ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ، حَتَّى لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى فَسْخِ الْحَوَالَةِ انْفَسَخَتْ، وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لَهُ إذَا فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ يَنْفَسِخُ، كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا وَاخْتَارَ رَدَّهُ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيُعَادُ الثَّمَنُ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ لِمَا مَرَّ إشَارَةً إلَى عِبَارَةِ آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ وَيُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ، فَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ جَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَيْ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَاسْتَخْدَمَ قَوْلَهُ فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ فِيهِمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ، وَلَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ.
وَلَمْ يُعْرَفْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُحَالَ وَقْتَ الْحَوَالَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ الْحَوَالَةَ فَيَنْتَقِلَ حَقُّهُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْبَاهَا إبْقَاءً لِحَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَكُلُّ مُخَيَّرٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَا يَعُودُ إلَى الْآخَرِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، وَكَالْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ ثُمَّ تَوَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَصْلٌ، وَالْآخَرُ خَلَفٌ عَنْهُ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ، بَلْ إذَا اخْتَارَ الْخَلَفَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْخَلَفِ وَتَرْكَ الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوَثُّقِ، فَإِضَافَةُ إتْوَاءِ الْحَقِّ إلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فَاسِدَةٌ فِي الْوَضْعِ.
قَالَ (وَالْتَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إلَخْ) تَوَى الْمَالُ إذَا تَلِفَ.
وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ فَيَحْلِفُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ وَلَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ مُفْلِسًا؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ ذِمَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَقُّ فَسَقَطَ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَثَبَتَ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ كَانَتْ بَرَاءَةَ نَقْلٍ وَاسْتِيفَاءٍ لَا بَرَاءَةَ إسْقَاطٍ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ، وَقَالَا: هَذَانِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ بِالشُّهُودِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ بِتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا لَهُمَا، قَالَ: التَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ حَصَلَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي الْكَفَاءَةِ فَلَمْ يَكُنْ كَالْمَوْتِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَقَالَ الْمُحِيلُ بِخِلَافِهِ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ، يُقَالُ أَفْلَسَ الرَّجُلُ إذَا صَارَ ذَا فَلْسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ فَاسْتُعْمِلَ مَكَانَ افْتَقَرَ، وَفَلَّسَهُ الْقَاضِي: أَيْ قَضَى بِإِفْلَاسِهِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ حَالُهُ كَذَا فِي الطَّلِبَةِ. قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَك يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ) لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ، وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ إلَخْ) إذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ مُدَّعِيًا قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ قَدْ تَحَقَّقَ بِإِقْرَارِهِ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُحِيلِ، فَإِنْ أَقَامَهَا بَطَلَ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ: أَيْ الْحَوَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِدُونِ الدَّيْنِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ انْفِكَاكُهَا عَنْهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالدَّيْنِ تَقْيِيدًا بِلَا دَلِيلٍ. قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ) فَإِنْ قِيلَ: الْحَوَالَةُ حَقِيقَةٌ فِي نَقْلِ الدَّيْنِ وَدَعْوَى الْمُحِيلِ أَنَّهُ أَحَالَهُ لِيَقْبِضَهُ لَهُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ بِلَا دَلِيلٍ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَفْظُ الْحَوَالَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ دَعْوَى مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ الْوَكَالَةُ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَوَالَةِ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا مَجَازًا لِمَا فِي الْوَكَالَةِ مِنْ نَقْلِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْمُوَكِّلِ إلَى الْوَكِيلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ لَفْظِ ذَلِكَ فَيُصَدَّقُ لَكِنَّهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ مُخَالَفَةٍ لِلظَّاهِرِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) لِتَقَيُّدِهَا بِهَا، فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتَ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا، وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ لَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَهِيَ حَقُّ الْمُحْتَالِ.
بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِهِ بَلْ بِذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُقَيَّدَةٍ، وَمُطْلَقَةٍ.
فَالْمُقَيَّدَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَيِّدَ الْمُحِيلُ الْحَوَالَةَ بِالْعَيْنِ الَّذِي لَهُ فِي يَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ.
وَالثَّانِي أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ.
وَالْمُطْلَقَةُ وَهِيَ أَنْ يُرْسِلَهَا إرْسَالًا لَا يُقَيِّدَهَا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَا بِعَيْنٍ لَهُ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ فِي يَدِهِ أَوْ أَنْ يُحِيلَ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ حَالَّةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ.
فَالْحَالَّةُ هِيَ أَنْ يُحِيلَ الْمَدْيُونُ الطَّالِبَ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَتَحَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلَى الْأَصِيلِ وَالْفَرْضُ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْأَصِيلِ حَالَّةً فَكَذَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَكِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا فَعَلَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ.
وَالْمُؤَجَّلَةُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا فَيُحِيلُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْمَالَ يَكُونُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَهَا كَذَلِكَ.
إذَا عُرِفَ هَذَا، فَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِبَيَانِ جَوَازِ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي يَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَدِيعَةً.
وَقَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ دَلِيلُ جَوَازِهِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَدَاءَ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ مِنْ عَيْنِ حَقِّ الْمُحِيلِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَكَانَ أَقْدَرَ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْوَدِيعَةَ حَاصِلَةٌ بِعَيْنِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ وَالدَّيْنُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَكَانَتْ جَائِزَةً بِالدَّيْنِ، فَلَأَنْ تَكُونَ جَائِزَةً بِالْعَيْنِ أَجْدَرُ، فَإِنْ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ بَرِئَ الْمُودَعُ وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمُحَالِ شَيْءٌ عَلَيْهِ لِتَقَيُّدِهَا بِهَا: أَيْ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا كَالزَّكَاةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ.
وَقَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ بِأَنْ كَانَ الْأَلْفُ مَغْصُوبًا عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَقَيْدُ الْحَوَالَةِ بِهَا بَيَانٌ لِجَوَازِهَا بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا هَلَكَ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَكَانَ الْفَوَاتُ بِهَلَاكِهِ فَوَاتًا إلَى خَلَفٍ، وَذَلِكَ كَلَا فَوَاتَ فَكَانَ بَاقِيًا حُكْمًا.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا بَيَانٌ لِجَوَازِهَا مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ كَمَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْمَدْيُونِ عَلَى آخَرَ كَذَلِكَ، وَأَحَالَ الْمَدْيُونُ الطَّالِبَ بِدَيْنِهِ عَلَى مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي لِلْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِالْعَيْنِ وَدِيعَةً كَانَتْ أَوْ غَصْبًا وَبِالدِّينِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي قُيِّدَتْ الْحَوَالَةُ بِهِ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ أَوْ يُوَفِّي حَقَّهُ مِمَّا لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ أَوْ بِيَدِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اسْتِيفَائِهِ، وَأَخَذَ الْمُحِيلُ ذَلِكَ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا.
وَلَوْ دَفَعَهَا الْمُودَعُ أَوْ غَيْرَهَا إلَى الْمُحِيلِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَحَلًّا مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ بَعْدَمَا رَهَنَ الْعَيْنَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ إشَارَةٌ إلَى حُكْمٍ آخَرَ يُخَالِفُ حُكْمَ الْحَوَالَةِ حُكْمُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا اتَّفَقَا فِي عَدَمِ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَخْذِ لِلْمُحِيلِ وَالرَّاهِنِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَى الْعَيْنِ الَّذِي لَهُ بِيَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَالْمُحَالُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ دَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ تَعَلَّقَ بِمَالِ الْمُحِيلِ وَهُوَ صَارَ أَجْنَبِيًّا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي حَالَ حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَالَ كَانَ أَسْبَقَ تَعَلُّقًا بِهَذَا الْمَالِ لِتَعَلُّقِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي صِحَّتِهِ فَيُقَدَّمُ الْمُحَالُ عَلَى غَيْرِهِ كَالْمُرْتَهِنِ.
قُلْنَا: الْعَيْنُ الَّذِي بِيَدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ وَالدَّيْنُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحَالِ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَدًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا رَقَبَةَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مَا وُضِعَتْ لِلتَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلنَّقْلِ فَتَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ مَلَكَ الْمَرْهُونَ يَدًا وَحَبْسًا فَثَبَتَ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَرْهُونِ شَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ، وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَقَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِأَخْذِ الْمُحِيلِ مَا لَهُ عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحَالِ بِهِ: أَيْ بِمَا عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ فَأَخْذُ مَا لَهُ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْمُحَالِ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ، وَلِلْمُحِيلِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْحَوَالَةِ كَمَا كَانَتْ. قَالَ (وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهِيَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ) وَهَذَا نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِهِ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضِ جَرَّ نَفْعًا».
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَتُكْرَهُ السَّفَاتِجُ إلَخْ) السَّفَاتِجُ جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، أَصْلُهُ سفته يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُحْكَمِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ.
وَصُورَتُهَا أَنْ يَدْفَعَ إلَى تَاجِرٍ مَالًا قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُقْرِضَ إنْسَانًا مَالًا لِيَقْضِيَهُ الْمُسْتَقْرِضُ فِي بَلَدٍ يُرِيدُهُ الْمُقْرِضُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِالْقَرْضِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا.
وَقِيلَ: هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً؛ وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قِيلَ: إنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا مُعَامَلَةٌ أَيْضًا فِي الدُّيُونِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي):

الشَّرْحُ:
كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي:
لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعَاتِ يَقَعُ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالدُّيُونِ عَقَّبَهَا بِمَا يَقْطَعُهَا وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي يَحْتَاجُ إلَى خِصَالٍ حَمِيدَةٍ يَصْلُحُ بِهَا لِلْقَضَاءِ، وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ ذَلِكَ.
وَالْأَدَبُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ لِذَلِكَ يَتَخَرَّجُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنْ الْفَضَائِلِ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرَّفَ بِأَنَّهُ مَلَكَةٌ تَعْصِمُ مَنْ قَامَتْ بِهِ عَمَّا يَشِينُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ مُرْسَلٍ حَتَّى خَاتَمَ الرُّسُلِ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} وَقَالَ {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَمَا يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي إلَخْ) لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى الْمُتَوَلِّي بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا بِتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ لَا بِطَلَبِهِ التَّوْلِيَةَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، وَيَكُونُ: أَيْ الْمُوَلَّى مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: يَعْنِي اشْتِرَاطَ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى: أَيْ يُسْتَفَادُ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى، وَكُلُّ مَا يُسْتَفَادُ حُكْمُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ لَمَّا كَانَتْ أَعَمَّ أَوْ أَكْمَلَ مِنْ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا كَانَتْ أَوْلَى بِاشْتِرَاطِهَا، وَرُبَّمَا لَوَّحَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَيُسْتَقَى اسْتِعَارَةً لِلِاسْتِفَادَةِ إلَى ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُتَأَهِّلًا لِلشَّهَادَةِ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَبِالْعَكْسِ فَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ قُلِّدَ جَازَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ فِيهِ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ. وَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ قُلِّدَ يَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ نَظَرًا إلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ الَّذِي شَهِدَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَيْرِيَّةِ، وَإِلَى ظَاهِرِ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي غَيْرِهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ، وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ الْمُقَلَّد اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ أَوْ غَيْرِهَا مِثْلِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَنْعَزِلُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَزْلُ عِنْدَ التَّقْلِيدِ بِتَعَاطِي الْمُحَرَّمِ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي نُفُوذَ أَحْكَامِهِ فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مَا لَمْ يُعْزَلْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ.
وَقَوْلُهُ: وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَزْلِ دُونَ الْعَزْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَعَلِيٍّ الرَّازِيِّ صَاحِبِ أَبِي يُوسُفَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْفَاسِقِ الْقَضَاءَ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ عِنْدَهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ، فَإِذَا فَسَقَ فَقَدْ انْتَقَصَ إيمَانُهُ (وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّهُ إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ فَفَسَقَ يَنْعَزِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فِي تَقْلِيدِهِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا) فَكَانَ التَّقْلِيدُ مَشْرُوطًا بِبَقَاءِ الْعَدَالَةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ يُنَافِي جَوَازَ التَّقْلِيدِ مَعَ الْفِسْقِ ابْتِدَاءً، وَالْعَزْلُ بِالْفِسْقِ الطَّارِئِ، وَالْأَوَّلُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُسَلَّمَاتِ هَذَا الْفَنِّ يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ كَبَقَاءِ النِّكَاحِ بِلَا شُهُودٍ وَامْتِنَاعِهِ ابْتِدَاءً بِدُونِهَا، وَجَوَازِ الشُّيُوعِ فِي الْهِبَةِ بَقَاءً لَا ابْتِدَاءً، فَيَنْتَفِي الثَّانِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْقَضَاءِ بِالْفِسْقِ ابْتِدَاءً وَالْعَزْلُ بِالْفِسْقِ الطَّارِئِ.
وَالْجَوَابُ يُؤْخَذُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّقْلِيدَ كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ قَالَ: إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَمِيرُكُمْ» وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ عَزْلِ الْقَاضِي بِالشَّرْطِ جَائِزٌ ذَكَرَهُ فِي بَابِ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ مِنْ شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ الْأَمِيرَ إذَا كَانَ عَدْلًا وَقْتَ التَّقْلِيدِ ثُمَّ فَسَقَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ أَنَّ مَبْنَى الْإِمَارَةِ عَلَى السَّلْطَنَةِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَنْ قَدْ غَلَبَ وَجَارَ وَأَجَازُوا أَحْكَامَهُ وَالصَّحَابَةُ تَقَلَّدُوا الْأَعْمَالَ مِنْهُ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ.
وَأَمَّا مَبْنَى الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعَدَالَةُ بَطَلَ الْقَضَاءُ ضَرُورَةً. وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ، وَقِيلَ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَذَارِ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَإِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
(وَالْفَاسِقُ هَلْ يَصْلُحُ مُفْتِيًا؟ قِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالْفَاسِقُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ يَصْلُحُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْخَطَأِ فَلَا يَتْرُكُ الصَّوَابَ.
وَأَمَّا الثَّانِي) يَعْنِي اشْتِرَاطَ الِاجْتِهَادِ لِلْقَضَاءِ.
فَإِنَّ لَفْظَ الْقُدُورِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقٍ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا، لَكِنَّ (الصَّحِيحَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ) قَالَ الْخَصَّافُ: الْقَاضِي يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ نَفْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ وَسَأَلَ فَقِيهًا أَخَذَ بِقَوْلِهِ. فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ.
وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَاهِلِ الْمُقَلَّدَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُجْتَهِدِ وَسَمَّاهُ جَاهِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَا يَحْفَظُ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ عَلَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ (إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ) وَلَمْ يَقُلْ دُونَ الِاجْتِهَادِ وَشَبَهِهِ بِالتَّحَرِّي، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ لِتَحَرِّي غَيْرِهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ صَلَّى بِتَحَرِّي غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ (وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ أَنْ يَصِلَ الْحَقُّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ) وَذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يَحْصُلُ مِنْ الْمُقَلِّدِ إذَا قَضَى بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «أَنْفَذَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ، فَقُلْت: تُنْفِذُنِي إلَى قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْدَاثٌ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَهْدِي لِسَانَك وَيُثَبِّتُ قَلْبَك، فَمَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ الْأَقْدَرُ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ».
الشَّرْحُ:
(نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَقْدَرَ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ») وَهُوَ حَدِيثٌ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْعُدُولِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا قِيلَ إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمُدَوَّنَاتِ، فَإِنَّهُ طَعْنٌ بِلَا دَلِيلٍ فَلَا يُقَلَّدُ الْمُقَلِّدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ الْعَدْلِ. وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَحَاصِلُهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يَعْرِفُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ لِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ) إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الِاجْتِهَادِ إجْمَالًا، فَإِنَّ بَيَانَهُ تَفْصِيلًا مَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُفَصَّلًا (وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ نَيِّرٌ (وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ (صَاحِبَ قَرِيحَةٍ) أَيْ طَبِيعَةٍ جَيِّدَةٍ خَالِصَةٍ مِنْ التَّشْكِيكَاتِ الْمُكَدِّرَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَطَالِبِ إلَى الْمَبَادِئِ، وَمِنْهَا إلَى الْمَطَالِبِ بِسُرْعَةٍ يُرَتَّبُ الْمَطْلُوبُ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ مِنْ عُرْفٍ أَوْ عَادَةٍ، فَإِنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ وَتَعَاطِي الْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ إلَخْ) وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّاهُ وَقَامَ بِمَا هُوَ فَرِيضَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ فَرْضٌ أَمَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَقَالَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ» فَمَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يُؤَدِّي هَذَا الْفَرْضَ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً؛ وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدُّخُولَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِيهِ خَطَرَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ فَكَانَ بِهِ بَأْسٌ. قَالَ (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَلَا بَأْسَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفُ فِيهِ) كَيْ لَا يَصِيرَ شَرْطًا لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَبِيحَ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ إلَخْ) مَنْ خَافَ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ الْقَضَاءِ وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفَ وَهُوَ الْجَوْرُ فِيهِ كُرِهَ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ كَيْلَا يَصِيرَ الدُّخُولُ فِيهِ شَرْطًا: أَيْ وَسِيلَةً إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ الْحَيْفُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مِنْ الْحَيْفِ إنَّمَا هُوَ بِالْمَيْلِ إلَى حُطَامِ الدُّنْيَا بِأَخْذِ الرِّشَا، وَفِي الْغَالِبِ يَكُونُ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ لَهُ عَلَيَّ مُطَالَبَةٌ بِكَذَا فَإِنْ قَضَيْت لِي فَلَكَ كَذَا، وَكَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ السَّلَفِ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا سَوَاءٌ وَثِقُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَافُوا عَلَيْهَا، وَفَسَّرَ الْكَرَاهَةَ هَاهُنَا بِعَدَمِ الْجَوَازِ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِيهِ إلَّا مُكْرَهًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ دُعِيَ إلَى الْقَضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ فِي كُلِّ مُرَّةٍ ثَلَاثِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قَالَ: حَتَّى أَسْتَشِيرَ أَصْحَابِي، فَاسْتَشَارَ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ تَقَلَّدْت لَنَفَعْت النَّاسَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ الْمُغْضَبِ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ أُمِرْت أَنْ أَعْبُرَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً أَكُنْت أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا، وَكَذَا دُعِيَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى حَتَّى قُيِّدَ وَحُبِسَ فَاضْطُرَّ ثُمَّ تَقَلَّدَ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَجْهَ تَشْبِيهِ الْقَضَاءِ بِالذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ قَالَ:؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ تُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا، وَالذَّبْحُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ، وَوَبَالُ الْقَضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَاهٌ وَعَظَمَةٌ لَكِنْ فِي بَاطِنِهِ هَلَاكٌ.
وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ هَذَا اللَّفْظَ كَيْ لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَاهُ وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ، فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ يَحْلِقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قُلِّدَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ (التَّرْكُ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ ظَنُّهُ) فِيمَا اجْتَهَدَ (وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ) إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا (أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ) إنْ كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَاجْتَنَبَهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ؛ وَتَرْكُ الدُّخُولِ فِيهِ أَصْلَحُ وَأَسْلَمُ لِدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَنْ يَقْضِيَ بِحَقٍّ وَلَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ أَوْ لَا، وَفِي تَرْكِ الدُّخُولِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرُهُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ (فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الْأَهْلَ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ) فِي حَقِّهِمْ (وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ) فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الدُّخُولِ فِيهِ أَثِمُوا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ امْتَنَعَ الْكُلُّ حَتَّى قُلِّدَ جَاهِلٌ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ لِأَدَائِهِ إلَى تَضْيِيعِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْرُمُ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا إلَخْ) مَنْ صَلَحَ لِلْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْأَلَهَا بِلِسَانِهِ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وُكِلَ بِالتَّخْفِيفِ: أَيْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَيْهَا، وَمَنْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَهْتَدِ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ فَقَدْ اعْتَمَدَ فِقْهَهُ وَوَرَعَهُ وَذَكَاءَهُ وَأُعْجِبَ فَيُحْرَمَ التَّوْفِيقَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَغِلَ الْمَرْءُ بِطَلَبِ مَا لَوْ نَالَ يَحْرُمُ بِهِ وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِحَبْلِ اللَّهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى مَا لَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» فَيُلْهَمُ الرُّشْدَ وَالتَّوْفِيقَ. (ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَوْبَتِهِ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِزًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ التَّقَلُّدِ لِأَهْلِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَادِلًا أَوْ جَائِرًا، فَكَمَا جَازَ مِنْ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ جَازَ مِنْ الْجَائِرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَقَلَّدُوا الْقَضَاءَ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ (فِي نَوْبَتِهِ) احْتِرَازًا عَمَّا يَقُولُهُ الرَّوَافِضُ إنَّ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَوْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا، بَلْ أَجْمَعَ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَمَوْضِعُهُ بَابُ الْإِمَامَةِ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ، وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَجَوْرُهُ مَشْهُورٌ فِي الْآفَاقِ.
وَقَوْلُهُ: (إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ (لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالتَّقَلُّدِ) فَلَا فَائِدَةَ لِتَقَلُّدِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ) قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمُ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ) وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِيهَا لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا، وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا فِي خَرِيطَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى، وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمَ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ إلَخْ) مَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بَعْدَ عَزْلِ آخَرَ تَسَلَّمَ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالدِّيوَانُ هُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَحَاضِرِ وَالصُّكُوكِ وَكِتَابِ نَصْبِ الْأَوْصِيَاءِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ؛ لِأَنَّهَا: أَيْ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهَا إنَّمَا وُضِعَتْ فِي الْخَرَائِطِ لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَإِلَّا لَا تُفِيدُ، وَسَمَّاهَا حُجَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مُنْفَرِدًا عَنْ التَّذْكِيرِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تَئُولُ إلَيْهَا بِالتَّذْكِيرِ.
ثُمَّ الْبَيَاضُ: أَيْ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْحَادِثَةُ وَرَقًا كَانَ أَوْ رِقًّا لَا يَخْلُو عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ، أَوْ مِنْ مَالِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَوَجْهُ تَسْلِيمِ الْقَاضِي إيَّاهُ ظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى، وَكَذَا إنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا.
وَقَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ فِي الصُّورَتَيْنِ احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّ الْبَيَاضَ إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ أَوْ مَالِ الْقَاضِي لَا يُجْبَرُ الْمَعْزُولُ عَلَى دَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ (قَوْلُهُ: وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ) بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ الْمُتَوَلِّي رَجُلَيْنِ مِنْ ثِقَاتِهِ وَهُوَ أَحْوَطُ، وَالْوَاحِدُ يَكْفِي (فَيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ يَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ عَلَى حِدَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى) وَهَذَا؛ لِأَنَّ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرَهَا لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْخَرَائِطِ بِيَدِ الْمَعْزُولِ رُبَّمَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الطَّلَبِ، وَأَمَّا الْمُوَلَّى فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عَهْدٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ تُرِكَتْ مُجْتَمَعَةً تَشْتَبِهُ عَلَى الْمُوَلَّى فَلَا يَتَّصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَقْتَ الْحَاجَةِ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (وَهَذَا السُّؤَالُ) أَيْ سُؤَالُ الْمَعْزُولِ (لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ) فَإِنَّهُ بِالْعَزْلِ اُلْتُحِقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَمَتَى قَبَضَا ذَلِكَ يَخْتِمَانِ عَلَى ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ الزِّيَادَةِ.
قِيلَ قَوْلُهُ: وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِعَنْ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَيَسْأَلَانِ الْمَعْزُولَ عَنْ أَحْوَالِ السِّجِلَّاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: شَيْئًا فَشَيْئًا مَنْصُوبٌ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَسْأَلَانِهِ: أَيْ يَسْأَلَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا عَنْهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ حَالًا بِمَعْنَى مُفَصَّلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَبَيَّنْت لَهُ حِسَابَهُ بَابًا بَابًا. قَالَ (وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا (فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ (وَمَنْ أَنْكَرَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُ بِالْعَزْلِ الْتَحَقَ بِالرَّعَايَا، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لاسيما إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ (فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ وَيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرٌ فَلَا يُعَجِّلُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَنْظُرُ الْمُوَلَّى فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) بِأَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَبْسِ مَنْ يُحْصِيهِمْ وَيَأْتِيهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَيَسْأَلُ الْمَحْبُوسِينَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِمْ (لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا) لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ (فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ) وَحَبَسَهُ إذَا طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَلَيَّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ: أَيْ حَبْسَهُ (وَمَنْ أَنْكَرَ) مَا يُوجِبُ الْحَبْسَ (لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَعْزُولِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لاسيما إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ) فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْحَقِّ وَالْقَاضِي يَعْرِفُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ رَدَّهُمْ إلَى الْحَبْسِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ فَإِنْ عُدِّلُوا فَكَذَلِكَ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ) أَوْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ وَادَّعَى الْمَحْبُوسُ أَنْ لَا خَصْمَ لَهُ وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِغَيْرِ حَقٍّ (لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ) أَيَّامًا إذَا جَلَسَ يَقُولُ الْمُنَادِي إنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ مَنْ كَانَ يُطَالِبُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْمَحْبُوسَ الْفُلَانِيَّ خَصْمَهُ فَلْيَحْضُرْ، فَإِنْ حَضَرَ وَإِلَّا فَمَنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يُطْلِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ خَصْمٌ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَأَطْلَقَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرٌ فَلَا يُعَجَّلُ بِالتَّخْلِيَةِ وَيَسْتَظْهِرُ أَمْرَهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ غَائِبٌ يَدَّعِي عَلَيْهِ إذَا حَضَرَ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ هُنَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ حَيْثُ لَا يَأْخُذُ هُنَاكَ كَفِيلًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِسْمَةِ الْحَقَّ لِلْوَارِثِ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِي ثُبُوتِهِ لِغَيْرِهِ شَكٌّ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْمُحَقَّقِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ.
وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَقَّ لِلْغَائِبِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ حَالِ الْمَعْزُولِ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ فَلَا تَكُونُ الْكَفَالَةُ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ وَقِيلَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ.
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ: الصَّحِيحُ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ، فَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا كَفِيلَ لِي أَوْ لَا أُعْطِي كَفِيلًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ شَيْءٌ نَادَى عَلَيْهِ شَهْرًا ثُمَّ خَلَّاهُ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْكَفِيلِ كَانَ احْتِيَاطًا، فَإِذَا امْتَنَعَ احْتَاطَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ شَهْرًا. (وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ فَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ.
الشَّرْحُ:
(وَيَنْظُرُ الْمُوَلَّى فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ)؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا فِي أُمُورِ النَّاسِ (فَيَعْمَلُ فِي الْمَذْكُورِ عَلَى) حَسَبِ (مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ لابد لِعَمَلِهِ مِنْ حُجَّةٍ (وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ). (وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ) لِمَا بَيَّنَّا (إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهَا) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْقَاضِي كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ، إلَّا إذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي فَيُسَلِّمُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ فِيهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ ذُو الْيَدِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَعْزُولِ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ ثَبَتَ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَعْزُولِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْمَعْزُولِ بِهِ كَأَنَّهُ بِيَدِهِ لِلْحَالِ) وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عِيَانًا صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ، فَكَذَا إذَا كَانَ بِيَدِ مُودَعِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ (إلَّا إذَا بَدَأَ ذُو الْيَدِ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي) وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْمَالُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمَعْزُولُ أَوْ يَجْحَدَ كُلَّهُ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: وَلَا يَجِبُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيَّ وَهُوَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا بِتَعْلِيلِهِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ الْقَاضِي إلَيَّ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَالتَّعْلِيلِ كَتَعْلِيلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ وَهُوَ لِفُلَانٍ غَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالدَّفْعِ مِنْ الْقَاضِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ لِمَا مَرَّ؛ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ هُوَ لِفُلَانٍ غَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي وَدَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا وَحُكْمُهُ أَنَّ الْمَالَ يُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا لِسَبْقِ حَقِّهِ ثُمَّ يَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ لَمَّا صَحَّ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي وَهُوَ يَقُولُ لِفُلَانٍ آخَرَ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي، وَبِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي فَكَانَ ضَامِنًا لِلْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ.
كَذَا نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إمَّا أَنْ يُبْطِلَ مَا بَعْدَهُ أَوْ لَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَا بَدَأَ ذُو الْيَدِ بِالدَّفْعِ مِنْ الْقَاضِي وَبَيْنَ مَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِلْغَيْرِ لِشُمُولِ الضَّمَانِ أَوْ لِشُمُولِ الْعَدَمِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ الضَّمَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ثَانِيًا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِالْيَدِ يَخْتَارُ إبْطَالَ مَا بَعْدَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّنْ لَا يَدَ لَهُ لِصُدُورِهِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْمُقِرِّ بِهِ فَاسِدٌ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْيَدِ الشَّخْصُ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ الثَّانِي لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ وَإِذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بِمَا فِي يَدِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ثُمَّ بِالْإِقْرَارِ بِالْيَدِ لِغَيْرِهِ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ الْأَوَّلَ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ يُسْمَعُ فِي حَقِّ الْمُودِعِ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِإِتْلَافِ حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ فِي وَقْتٍ يُسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ) كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ».
«وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ» وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالصَّلَاةِ.
وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ، وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ.
وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ إلَخْ) الْحَاكِمُ يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ كَيْ لَا يَتَسَتَّرَ مَكَانُهُ عَنْ الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ: هَذَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يَخْتَارُ مَسْجِدًا فِي وَسَطِهَا كَيْ لَا يَلْحَقَ بَعْضَ الْخُصُومِ زِيَادَةُ مَشَقَّةٍ بِالذَّهَابِ إلَيْهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَيَحْضُرُهُ الْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَفَصَّلَ مَالِكٌ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَاكِمُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ وَبَيْنَ الذَّهَابِ إلَيْهِ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَكْرَهْ الْأَوَّلَ وَكَرِهَ الثَّانِيَ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ» وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ فَيَجُوزُ فِي الْمَسَاجِدِ كَالصَّلَاةِ (قَوْلُهُ: وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ.
وَتَقْرِيرُهُ: نَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْزِلُ الْوُفُودَ فِي الْمَسْجِدِ (فَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ) إذْ لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ شَيْءٌ (وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا) كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَائِضُ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ لَا تَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَتُخْبِرُ عَنْ حَالِهَا.
قُلْنَا: الْكُفَّارُ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهَا (وَلَوْ جَلَسَ الْقَاضِي فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا كَانَتْ دَارُهُ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا جَلَسَ فِيهَا يَأْذَنُ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ حَقًّا فِي مَجْلِسِهِ (وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ) حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ التُّهْمَةِ (إذْ فِي الْجُلُوسِ وَحْدَهُ تُهْمَةٌ) الظُّلْمِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ. قَالَ (وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ بَلْ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَصِيرُ آكِلًا بِقَضَائِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلْقَرِيبِ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ، وَكَذَا إذَا زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَقْبَلُ: هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ إلَخْ) الْحَاكِمُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْمُهَادَاةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
أَمَّا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ فَلِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى صِفَةِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ حَرَامٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا» وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ فَقَالَ: تَنَاتَجَتْ الْخُيُولُ وَتَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا، فَقَالَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَتَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْك أَمْ لَا؟ فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
فَعَرَفْنَا أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الرِّشْوَةِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَفِي الرَّدِّ مَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَهُوَ حَرَامٌ.
وَلَفْظُ الْكِتَابِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَأَنْ لَا يَكُونَ.
وَعِبَارَةُ النِّهَايَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُهَادَاةَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ شَرْطُ قَبُولِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ وَلَمْ يَزِدْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَكْلٍ عَلَى الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُعْتَادِ وَلَيْسَ لَهُ خُصُومَةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْدِيَ لِلْقَاضِي إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَا خُصُومَةٍ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدَيْته مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ مُهَادِيًا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِذَلِكَ أَوْ لَا، وَالثَّانِي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ بِالْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ، وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ قَبُولُهُ إنْ لَمْ يَزِدْ مَنْ لَهُ الْعَادَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَمَا ازْدَادَ مَا لَا يَقْدِرُ مَا زَادَ فِي الْمَالِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ، ثُمَّ إنْ أَخَذَ الْقَاضِي مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَبَعْضُهُمْ قَالُوا: يَضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَامَّتُهُمْ قَالُوا: يَرُدُّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفَهُمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ أَوْ يَعْرِفُهُمْ إلَّا أَنَّ الرَّدَّ يَتَعَذَّرُ لِبُعْدِهِمْ يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَإِنَّمَا يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُهْدِيَ إلَيْهِ لِعَمَلِهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْعَمَلِ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ الْهَدَايَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَهُمْ. وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لِأَنَّ الْخَاصَّةَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيُتَّهَمُ بِالْإِجَابَةِ، بِخِلَافِ الْعَامَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ، وَالْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَحْضُرُ الْقَاضِي دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً) قِيلَ وَهِيَ مَا تَكُونُ فَوْقَ الْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهُ خَاصَّةٌ، وَقِيلَ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ عَامَّةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ خَاصَّةٌ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ هِيَ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْقَرِيبِ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ، وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ لَهُمَا بَيْنَ الضِّيَافَةِ وَالْهَدِيَّةِ حَيْثُ جَوَّزَا قَبُولَ هَدِيَّةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَمْ يُجَوِّزَا حُضُورَ دَعْوَتِهِ أَنَّ مَا قَالُوا فِي الضِّيَافَةِ مَحْمُولٌ عَلَى قَرِيبٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا دَعْوَةٌ وَلَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ، وَمَا ذَكَرُوا فِي الْهَدِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ صِلَةً لِلرَّحِمِ.
وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ عَامَّةً، وَالْمُضِيفُ خَصْمٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجِيبَ الْقَاضِي دَعْوَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إيذَاءِ الْخَصْمِ الْآخَرِ أَوْ إلَى التُّهْمَةِ. قَالَ (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» وَعَدَّ مِنْهَا هَذَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ إلَخْ) الْحَاكِمُ يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» رَوَى أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ وَاجِبَةٌ، إنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ: إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ، وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ، وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ، وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ» كَذَا فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ (وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً.
قَالَ (وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» (وَلَا يُسَارَّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً) لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ (وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ (وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ) لِأَنَّهُ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ» (وَلِأَنَّ الضِّيَافَةَ وَالْخَلْوَةَ تُورِثُ التُّهْمَةَ) قَالَ (وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا إلَخْ) إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْ وَلَّاهُ وَالْآخَرُ فَقِيرًا أَوْ كَانَا أَبَا وَابْنًا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَيَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْلَسَهُمَا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الْقَاضِي فَتَفُوتُ التَّسْوِيَةُ، وَلَوْ أَجْلَسَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ لِفَضْلِ الْيَمِينِ، وَإِنْ خَاصَمَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ إلَى الْقَاضِي فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ وَالْخَصْمُ عَلَى الْأَرْضِ يَقُومُ الْقَاضِي مِنْ مَكَانِهِ وَيُجْلِسُ الْخَصْمَ فِيهِ وَيَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمَا كَيْ لَا يَكُونَ مُفَضِّلًا لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ، وَكَذَلِكَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْبَالِ وَهُوَ التَّوَجُّهُ وَالنَّظَرُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» قَالَ (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ) لَا يُكَلِّمُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ سِرًّا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَا بِيَدِهِ وَلَا بِرَأْسِهِ وَلَا بِحَاجِبِهِ (وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تُهْمَةً) وَعَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا (وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةٌ لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيُنَحِّيهِ عَنْ طَلَبِ حَقِّهِ فَيَتْرُكُهُ) وَفِيهِ اجْتِرَاءُ مَنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ (وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ، وَيُقَالُ لَهُ صَاحِبَ الْمَجْلِسِ وَالشُّرَطِ وَالْعَرِيفَ وَالْجِلْوَازَ مِنْ الْجَلْوَزَةِ وَهِيَ الْمَنْعُ، وَيَكُونُ مَعَهُ سَوْطٌ يَجْلِسُ الْخَصْمَيْنِ بِمِقْدَارِ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْقَاضِي وَيَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَجْلِسِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ.
وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَحْصُرُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ تَلْقِينُهُ إحْيَاءً لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ إلَخْ) تَلْقِينُ الشَّاهِدِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي مَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَحْسَنَ التَّلْقِينَ رُخْصَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَشْرُوعٌ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَقَدْ يُحْصَرُ الشَّاهِدُ عَنْ الْبَيَانِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانَ فِي التَّلْقِينِ إحْيَاءٌ لِلْحُقُوقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ، وَأَمَّا فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ مِثْلِ إنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَا الشَّاهِدَانِ بِالْأَلْفِ فَالْقَاضِي إنْ قَالَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ عِلْمًا بِذَلِكَ وَوُفِّقَ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وُفِّقَ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَتَأْخِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْإِشْخَاصُ هُوَ إرْسَالُ الرَّاجِلِ لِإِحْضَارِ الْخَصْمِ.