فصل: (بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ):

قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِشَيْءٍ أَوْ وَهَبَ لَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ جَازَ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عِنْدَ صُدُورِهِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يُؤَخَّرُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً صُورَةً فَهِيَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَهَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ أَلَّا تَرَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ وَعِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِثُلُثِ الْمَالِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِثُلُثِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأُصُولِ وَالْأَصْلِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَارِضِ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةِ) وَاضِحٌ مَبْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَفَسَادُهَا كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا وَغَيْرَ وَارِثٍ يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فَسَادِ الْإِقْرَارِ وَجَوَازِهِ كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ، فَمَتَى كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا يَوْمَ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَرِيضًا.
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ) فِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى رَدِّ قَوْلِ زُفَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُثْبِتُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ كَالْمَوْتِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يُؤَخَّرُ عَنْهُ) أَيْ تَنْفِيذُ حُكْمِ الْإِقْرَارِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ يُؤَخَّرُ عَنْ تَنْفِيذِ حُكْمِ الْإِقْرَارِ الَّذِي فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ (بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ) يَعْنِي الْوَصِيَّةَ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ. قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَابْنُهُ نَصْرَانِيٌّ أَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ فَأَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ).
أَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ وَارِثٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُمَا إيجَابَانِ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْإِقْرَارُ وَإِنْ كَانَ مُلْزِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ فِي إيرَاثِ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ طَارِئَةٌ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِقِيَامِ السَّبَبِ حَالَ صُدُورِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَصِحُّ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لَهُ وَهُوَ ابْنُهُ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا وَقْتُ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرْوَى أَنَّهَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَقِيقٌ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ هِيَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تَصِحُّ.
قَالَ (وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ وَالْأَشَلُّ وَالْمَسْلُولُ إذَا تَطَاوَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَفْ مِنْهُ الْمَوْتُ فَهِبَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ صَارَ طَبْعًا مِنْ طِبَاعِهِ وَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالتَّدَاوِي، وَلَوْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَرَضٍ حَادِثٍ (وَإِنْ وَهَبَ عِنْدَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ أَيَّامِهِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ) لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَلِهَذَا يَتَدَاوَى فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ) يَعْنِي لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا.
(وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (دَيْنٌ يَصِحُّ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ) الْمُقْعَدُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَالْمَفْلُوجُ مَنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَطَلَ عَنْ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ (وَالْأَشَلُّ) مَنْ شُلَّتْ يَدُهُ (وَالْمَسْلُولُ) هُوَ الَّذِي بِهِ مَرَضُ السُّلِّ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ الْمُرَّةِ فِي الصَّدْرِ وَنَفْثِهَا، وَقَوْلُهُ (صَارَ طَبْعًا مِنْ طِبَاعِهِ) يَعْنِي: خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ (فَلَوْ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ كَمَرَضٍ حَادِثٍ) فَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ عِنْدَمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ وَصَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَمَاتَ مِنْ أَيَّامِهِ؛ (لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ؛ وَلِهَذَا يَتَدَاوَى فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ).

.(بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ):

قَالَ: وَمَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا أَوْ بَاعَ وَحَابَى أَوْ وَهَبَ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُضْرَبُ بِهِ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مَكَانَ قَوْلِهِ جَائِزٌ، وَالْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ مِنْ الثُّلُثِ وَالضَّرْبُ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا لَا حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ، وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَأَ الْمَرِيضُ إيجَابَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْإِضَافَةِ دُونَ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَمِنْ الثُّلُثِ، وَكُلُّ مَرَضٍ صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ كَحَالِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ بِالْبُرْءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي مَالِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ).
الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ مَخْصُوصَةٌ أَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَخَّرَهُ عَنْ صَرِيحِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ الْأَصْلُ.
قَالَ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ مِنْ الثُّلُثِ) أَيْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَهُوَ وَصِيَّةُ الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ لَا حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُتَطَوِّعًا.
وَقَوْلُهُ (كَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ) غَايَرَ بَيْنَهُمَا بِالْعَطْفِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ أَعَمُّ مِنْ الْكَفَالَةِ، فَإِنَّ مِنْ الضَّمَانِ مَا لَا يَكُونُ كَفَالَةً بِأَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ خَالِعْ امْرَأَتَكَ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ، فَإِنَّ بَدَلَ الْخُلْعِ يَكُونُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَالْخَمْسُمِائَةِ عَلَى الضَّامِنِ دُونَ الْمُشْتَرِي.
وَقَوْلُهُ (وَمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ) أَيْ: نَجَّزَهُ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ (فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَكُلُّ مَرَضٍ صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ كَحَالِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبُرْءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْ مَالِهِ). قَالَ (وَإِنْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا) فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى فَهُمَا سَوَاءٌ، (وَقَالَا: الْعِتْقُ أَوْلَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصَايَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ فَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِهَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِي الثُّلُثِ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا الْمُوقَعُ فِي الْمَرَضِ، وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِمَوْتِ الْمُوصِي كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ وَالْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْوَصَايَا قَدْ تَسَاوَتْ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْعِتْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لِأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ.
وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ مِنْ سِوَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا، وَلَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ.
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمُحَابَاةُ يَلْحَقُهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ.
وَلَهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى، لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ تَبَرُّعًا بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صِيغَةً وَمَعْنًى، فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُحَابَاةُ أَوَّلًا دُفِعَ الْأَضْعَفُ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ أَوَّلًا وَثَبَتَ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْمُزَاحَمَةُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ، وَلَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَالْمُحَابَاةِ نِصْفَيْنِ، وَمَا أَصَابَ الْعِتْقَ قُسِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ) صُورَتُهُ رَجُلٌ بَاعَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَأَعْتَقَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا (فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى) وَإِنْ ابْتِدَاءً بِالْعِتْقِ تَحَاصَّا فِيهِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فَفِي الْأَوَّلِ يُسَلَّمُ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَتَحَاصَّانِ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ (وَقَالَا: الْعِتْقُ أَوْلَى) سَوَاءٌ قَدَّمَ الْمُحَابَاةَ أَوْ أَخَّرَهَا فَيَعْتِقُ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْعَبْدَ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْعَقْدَ وَأَدَّى كَمَالَ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا الْعِتْقَ الْمُوَقَّعَ) أَيْ الْمُنَجَّزَ لَا الْمُفَوَّضَ إلَى إعْتَاقِ الْوَرَثَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَعْتِقُوهُ أَوْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَا يُقَدَّمُ وَقَوْلُهُ (كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْفَاسِدِ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ كَمَا سَيَجِيءُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا الْعِتْقَ الْمُوَقَّعَ.
وَقَوْلُهُ (وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ) أَيْ: غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُوَقَّعِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ.
وَقَوْلُهُ (يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سِوَاهُمَا) أَيْ: سِوَى الْعِتْقِ، وَالْمُحَابَاةِ.
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ) وَهِيَ الَّتِي قَدَّمَ فِيهَا الْمُحَابَاةَ عَلَى الْعِتْقِ وَقَوْلُهُ (لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَلَا عِبْرَةَ بِالْبُدَاءَةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ) يَعْنِي: وَبِالْمَرَضِ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْهَا (فَكَانَ تَبَرُّعًا بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صِيغَةً وَمَعْنًى)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ وَبِالْمَرَضِ يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِّمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ) فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُحَابَاةُ الثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا، فَالْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا، وَهُوَ يُنَاقِضُ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ جَانِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَيْضًا لَوْ حَابَى ثُمَّ حَابَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ تَحَاصَّا، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ يَسْتَدْعِي أَنْ تَنْفُذَ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ شَرْطَ الْإِنْتَاجِ أَنْ يَلْزَمَ النَّتِيجَةَ الْقِيَاسُ لِذَاتِهِ، وَقِيَاسُ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ إنَّمَا تَحَاصَّا؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنْ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ يَنْفُذُ ثُمَّ يَنْقُضُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَفَّذْنَاهُ جَمِيعًا ثُمَّ نَقَضْنَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَثْبُتُ لَهُمَا بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَهُمَا نَافِذَتَانِ فَاسْتَوَيَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَالْمُحَابَاةِ، وَمَا أَصَابَ الْعِتْقَ قُسِّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي) فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْعِتْقِ ثُمَّ بَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي وَالْمُحَابَاةِ؟ قُلْت: لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهَا، وَالْعِتْقُ الْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُحَابَاةِ فَيُزَاحِمُهَا فِي الثُّلُثِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ شَارَكَهُ فِيهِ الْعِتْقُ الْآخَرُ لِلْمُجَانَسَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ كَمَالُ حَقِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِدَّ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ مَا أَخَذَ صَاحِبُ الْعِتْقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْمُحَابَاةِ مُقَدَّمٌ عَلَى صَاحِبِ الْعِتْقِ الثَّانِي كَمَا لَوْ كَانَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا عِتْقٌ آخَرُ وَتَقَدَّمَتْ الْمُحَابَاةُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ لَاسْتَرَدَّ مِنْهُ صَاحِبُ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ، وَحَقَّ الْمُحَابَاةِ سَوَاءٌ فِي الثُّلُثِ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ، وَإِنْ نَقَضَ صَاحِبُ الْمُحَابَاةِ الْبَيْعَ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ عَبْدٌ فَهَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمٌ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِحَجَّةٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ مِنْهَا وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحَجَّةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ.
وَقَالَا: يُعْتَقُ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ) لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِنَوْعِ قُرْبَةٍ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ.
وَلَهُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ لِعَبْدٍ يَشْتَرِي بِمِائَةٍ وَتَنْفِيذُهَا فِيمَنْ يَشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْهُ تَنْفِيذٌ لِغَيْرِ الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَحَقُّ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ فَهَلَكَ بَعْضُهَا يَدْفَعُ الْبَاقِيَ إلَيْهِ، وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمَا حَتَّى تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلَمْ يَتَبَدَّلْ الْمُسْتَحَقُّ، وَعِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، فَاخْتَلَفَ الْمُسْتَحَقُّ وَهَذَا أَشْبَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ عَبْدٌ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحُجَّةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ) قَالَ الْإِمَامُ الْكِنَانِيُّ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي جَعَلَ الْفَضْلَ لِلَّذِي حَجَّ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا أَشْبَهُ) يَعْنِي إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ فَيَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ إذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَتُرَدُّ الْمِائَةُ إلَى وَرَثَتِهِ. قَالَ (وَمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ فَأَجَازَ الْوَارِثَانِ ذَلِكَ لَمْ يَسْعَ فِي شَيْءٍ) لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ وَقَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهَا تَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَحِقَهُمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَجَنَى جِنَايَةً وَدَفَعَ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ الدَّفْعَ قَدْ صَحَّ لِمَا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُوصِي، فَكَذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالدَّفْعِ فَإِذَا خَرَجَ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمُوصِي أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي مَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ الْتَزَمُوهُ، وَجَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ) أَيْ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ.
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي (إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ) أَيْ: مِلْكَ الْمُوصِي (بَاقٍ) فِيهِ لِحَاجَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْمَيِّتِ فِيهِ بَاقٍ بَعْدُ لِحَاجَتِهِ (وَإِنَّمَا يَزُولُ) مِلْكُهُ (بِالدَّفْعِ فَإِذَا خَرَجَ بِهِ) أَيْ بِالدَّفْعِ عَنْ مِلْكِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمُوصِي أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ.
(فَإِنْ فِدَاهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي أَمْوَالِهِمْ) أَيْ: كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا فَدَوْهُ بِهِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ فَأَقَرَّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ الْمُوصَى لَهُ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ الْوَارِثُ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ) لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْوَارِثُ يُنْكِرُ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ وَصِيَّةٌ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ فَكَانَ مُنْكِرًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ وَالْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِلتَّيَقُّنِ بِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ، إلَّا أَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِيهِ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً وَهُوَ خَصْمٌ فِي إقَامَتِهَا لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ) وَاضِحٌ قَالَ (وَمَنْ تَرَكَ عَبْدًا فَقَالَ لِلْوَارِثِ أَعْتَقَنِي أَبُوك فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَقَالَا: يَعْتِقُ وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ ظَهَرَا مَعًا بِتَصْدِيقِ الْوَارِثِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا، وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ.
وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالْأَقْوَى يَدْفَعُ الْأَدْنَى، فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ فَيُدْفَعُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ أَسْبَقُ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ الِاسْتِنَادِ فَيَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّة، وَلَا يُمْكِنُ إسْنَادُ الْعِتْقِ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْعِتْقَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ مَجَّانًا فَتَجِبُ السِّعَايَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَقَالَ الْآخَرُ كَانَ لِي عِنْدَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَعِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ أَقْوَى وَعِنْدَهُمَا سَوَاءٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَسْعَ الْعَبْدُ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ إنَّمَا يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْآخَرِ فَيَمْنَعُ الْمُتَقَدِّمُ الْمُتَأَخِّرَ، وَهَاهُنَا لَمَّا حَصَلَا مَعًا بِتَصْدِيقٍ وَاحِدٍ بِقَوْلِهِ صَدَقْتُمَا جُعِلَ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا وَثَبَتَا بِالْبَيِّنَةِ فَيَثْبُتَانِ مَعًا كَذَلِكَ.
(وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ أَقْوَى عَلَى مَا ذُكِرَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ إسْنَادُهُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ ثَبَتَ الدَّيْنُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ يَرُدُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وُجُوبَ السِّعَايَةِ، وَصَارَ تَصْدِيقُ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ تَصْدِيقِ الْمَيِّتِ.
وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ الْمَرِيضِ أَعْتَقْتَنِي فِي صِحَّتِك وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَقَالَ الْمَرِيضُ صَدَقْتُمَا عَتَقَ الْعَبْدُ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَخْ) لَهُمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمْ تَظْهَرْ إلَّا وَالدَّيْنُ ظَاهِرٌ مَعَهَا فَيَتَحَاصَّانِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ الْوَدِيعَةِ؛ إذْ الْإِقْرَارُ مِنْ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ يَتَنَاوَلُ التَّرِكَةَ لَا الذِّمَّةَ فَقَدْ وَقَعَا مَعًا، بِخِلَافِ الْمُورَثِ.
وَلَهُ أَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي عَيْنِ الْأَلْفِ مُقَارِنًا لِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَعِنْدَ انْتِقَالِهَا مِنْهَا إلَى الْأَلْفِ كَانَ الْأَلْفُ مُسْتَحَقًّا الْوَدِيعَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُورَثُ حَيًّا وَقَالَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقْتُمَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذُكِرَ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ.

.(فَصْلٌ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى):

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ) لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ (فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُمَا وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْفَرِيضَةِ فَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالزَّكَاةُ بِالْمَالِ قَصْرًا عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ، إذْ قَدْ جَاءَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْقُرْآنِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) قَدَّمَ بَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ لِقُوَّةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ.
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ صَدَقَةِ فِطْرٍ، فَإِمَّا أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَمْ تُجْبَرْ الْوَرَثَةُ عَلَى إخْرَاجِهَا لَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عِنْدَنَا.
ثُمَّ الْوَصَايَا إمَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ كُلُّهَا لِلْعِبَادِ أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَا لِلْعِبَادِ خَاصَّةً تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَمَا لِلَّهِ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فَرَائِضَ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، أَوْ وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ كُلُّهُ تَطَوُّعًا كَالْحَجِّ التَّطَوُّعُ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا.
أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ وَهِيَ فَرَائِضُ كُلُّهَا أَوْ وَاجِبَاتٌ كُلُّهَا أَوْ تَطَوُّعٌ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ يُبْدَأُ بِالْفَرَائِضِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ: يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا كَمَا ذَكَرْنَا بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ فِي الثُّبُوتِ، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَاحِدًا، وَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَ الْمُسْتَحِقُّ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِآخَرَ.
وَقَوْلُهُ (فَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ) يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفَقِيرَ حَقُّهُ فِي الْقَبْضِ ثَابِتٌ فَكَانَ مُمْتَزِجًا بِحَقَّيْنِ.
وَقَوْلُهُ (إذَا جَاءَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الْكَفَّارَاتِ) أَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ، وَأَمَّا فِي الْحَجِّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} مَكَانَ قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَقَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ«مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إنْ شَاءَ مَاتَ يَهُودِيًّا») الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ) تَرَكَ كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَثُبُوتِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِآثَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ) فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَقَدُّمَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى النَّذْرِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الشَّرْعِ وَالنَّذْرُ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، وَالنُّذُورُ تُقَدَّمُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ؛ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا دُونَ وُجُوبِ النُّذُورِ. قَالَ (وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي) لِمَا بَيَّنَّا وَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ.
قَالُوا: إنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ، فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْقُرَبِ وَلَا يُجْعَلُ الْجَمِيعُ كَوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِجَمِيعِهَا رِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ وَاحِدَةٍ فِي نَفْسِهَا مَقْصُودٌ فَتَنْفَرِدُ كَمَا تَنْفَرِدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ.
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ يَحُجُّ رَاكِبًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ بَلَدِهِ وَالْوَصِيَّةُ لِأَدَاءِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ رَاكِبًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ.
قَالَ (فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْوَصِيَّةُ النَّفَقَةَ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحُجُّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْحَجَّةِ عَلَى صِفَةٍ عَدِمْنَاهَا فِيهِ، غَيْرَ أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ وَالْمُمْكِنُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهَا رَأْسًا، وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
(وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ وَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ وَقَالَ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأْت بِهِ»، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَزِمَ تَقْدِيمُ مَا قَدَّمَ فَكَذَا هَذَا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ يُبْدَأُ بِالصَّدَقَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ بِالْعِتْقِ مَثَلًا سَوَاءٌ رَتَّبَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَوْ لَمْ يُرَتِّبْ، وَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَالُوا: إنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ، وَتُجْعَلُ كُلَّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرْبَةِ مُفْرَدَةً بِالضَّرْبِ وَيُقْسَمُ عَلَى عَدَدِهَا، فَإِذَا قَالَ ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِزَيْدٍ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا وَهُوَ رِضَا اللَّهِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ فِي نَفْسِهَا مَقْصُودَةٌ فَتُفْرَدُ كَمَا تُفْرَدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّ الْجَمِيعَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقُرْبَةَ إذَا أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ لَكِنْ يُجْعَلُ لِكُلِّ جِهَةٍ سَهْمٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَذَا هَذَا.
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ: وَلَهُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى بِمِائَةٍ إلَخْ. قَالَ (وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ.
لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَبْتَدِئُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ سَفَرِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً فَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ.
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا) قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَسَيَذْكُرُهُ بُعَيْدَ هَذَا.
قِيلَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَطَنٌ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَجَهَّزَ بِنَفْسِهِ لَتَجَهَّزَ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى.
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً إلَخْ) مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةً» فَإِنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ لَيْسَ مِنْهُ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُكَفِّرَ إذَا أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ وَمَاتَ فَأَوْصَى وَجَبَ الْإِكْمَالُ بِمَا بَقِيَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ، ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ، فَمَا هُوَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ الْحَجِّ.
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْآمِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَوَّلَ إذَا بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنْ لَا يَحُجَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَمَا مَشَى بَعْضَ الطَّرِيقِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى غَيْرِهِ بِرِضَا الْوَصِيِّ لَمْ يَجُزْ وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَنْفَقَهُ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّجْزِيءَ، حَتَّى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِطْعَامِ إذَا أَطْعَمَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَرَكَ الْبَعْضَ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ فِي الِانْقِطَاعِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّجْزِيءَ فِي الْإِطْعَامِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ أَصْلًا، حَتَّى لَوْ جَامَعَ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ مَثَلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا سَبَقَ، وَالْكِتَابُ أَقْوَى وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً فَعَمِلَ بِهِ وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الْحَدِيثِ فَعَمِلَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ قُبَيْلَ هَذَا: وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا إلَخْ.

.(بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ):

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُمْ الْمُلَاصِقُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَقَوْلُهُ (قِيَاسٌ) لِأَنَّ الْجَارَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا الْجِوَارِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَرَفَهُ إلَى الْجَمِيعِ يُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ جِيرَانًا عُرْفًا، وَقَدْ تَأَيَّدَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَفَسَّرَهُ بِكُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ وَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ، إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ الِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجِوَارُ إلَى أَرْبَعِينَ دَارًا بَعِيدٌ، وَمَا يُرْوَى فِيهِ ضَعِيفٌ.
قَالُوا: وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ الذِّمِّيُّ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ السَّاكِنُ عِنْدَهُ لِإِطْلَاقِهِ، وَلَا يَدْخُلُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ) إنَّمَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَمَّا تَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْبَابِ ذِكْرَ أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَفِيمَا تَقَدَّمَهُ ذِكْرُ أَحْكَامِهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَالْخُصُوصُ أَبَدًا يَتْلُو الْعُمُومَ.
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ) كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّمَ وَصِيَّةَ الْأَقَارِبِ نَظَرًا إلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَنْ يُقَالَ فَعَلَ ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِأَمْرِ الْجَارِ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ) يَعْنِي لِعَدَمِ دُخُولِ جَارِ الْمَحَلَّةِ وَجَارِ الْقَرْيَةِ وَجَارِ الْأَرْضِ صُرِفَ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ.
وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ) قِيلَ: حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْمَحَلَّةِ مَسْجِدَانِ صَغِيرَانِ مُتَقَارِبَانِ فَالْجَمِيعُ جِيرَانٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا يُرْوَى فِيهِ ضَعِيفٌ) يَعْنِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْجَارُ أَرْبَعُونَ دَارًا، هَكَذَا وَهَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» إشَارَةً إلَى الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خَبَرٌ لَا يُعْرَفُ رَاوِيهِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا إنْ صَحَّ كَانَ نَصًّا فِي الْبَابِ وَقَدْ طَعَنَ فِي رَاوِيهِ (قَالُوا: وَيَسْتَوِيَ فِيهِ السَّاكِنُ، وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ) قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: وَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَدْخُلَ السُّكَّانُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْجِيرَانِ الْمُتَلَاصِقِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ الْمَسْكَنَ، وَمَنْ كَانَ مَالِكًا وَلَمْ يَكُنْ سَاكِنًا لَا يَدْخُلُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ شَاهْوَيْهِ: هَذِهِ كرخدانية مِنْ مُحَمَّدٍ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بَنَى هَذَا الْحُكْمَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَهُوَ الْمُلَّاكُ.
وَأَقُولُ: يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا يَدْخُلَ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَضُمُّهُ إلَّا إذَا أُرِيدَ بِاتِّحَادِ الْمَسْجِدِ سَمَاعُ الْأَذَانِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ أَعْتَقَ كُلَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إكْرَامًا لَهَا» وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْهَارَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْكُلَّ أَصْهَارٌ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمَرْأَةُ فِي نِكَاحِهِ أَوْ فِي عِدَّتِهِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَالصِّهْرُ يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِن لَا يَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّ بَقَاءَ الصِّهْرِيَّةِ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَوْتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ) أَيْ: لِأَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْأَصْهَارُ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّ الصِّهْرَ فِي اللُّغَةِ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْخَتْنِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا) يَعْنِي: وَإِنْ وَرِثَتْ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَخْتَانِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجِ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَكَذَا مَحَارِمُ الْأَزْوَاجِ) لِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى خَتَنًا.
قِيلَ هَذَا فِي عُرْفِهِمْ.
وَفِي عُرْفِنَا لَا يَتَنَاوَلُ الْأَزْوَاجُ الْمَحَارِمَ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ.
لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَخْتَانِهِ) يَعْنِي: أَنَّ الْأَخْتَانَ تُطْلَقُ عَلَى أَزْوَاجِ الْمَحَارِمِ كَزَوْجِ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَى مَحَارِمِ الْأَزْوَاجِ، فَيَكُونُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَزْوَاجِ الْمَحَارِمِ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كُلُّهُمْ فِي قِسْمَةِ الثُّلُثِ سَوَاءً. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ فَهِيَ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ) وَهُوَ أَوَّلُ أَبٍ أَسْلَمَ أَوْ أَوَّلُ أَبٍ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ.
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُسْلِمْ.
لَهُمَا أَنَّ الْقَرِيبَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ فَيَنْتَظِمُ بِحَقِيقَةِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ.
وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ اثْنَانِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَلَاقِي مَا فَرَطَ فِي إقَامَةِ وَاجِبِ الصِّلَةِ وَهُوَ يَخْتَصُّ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ أَقْرِبَاءَ، وَمَنْ سَمَّى وَالِدَهُ قَرِيبًا كَانَ مِنْهُ عُقُوقًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرِيبَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ غَيْرِهِ، وَتَقَرُّبُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ، فَعِنْدَهُ يُقَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعِنْدَهُمَا بِأَقْصَى الْأَبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْأَبِ الْأَدْنَى.

الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ) يَعْنِي تَصَرَّفَ إلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَارِثِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي آلِ أَبِي طَالِبٍ) يَعْنِي أَنَّ الْمُوصِيَ إذَا كَانَ عَلَوِيًّا فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقْصَى الْأَبِ عَلِيٌّ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْلَادُ عَقِيلٍ وَجَعْفَرٍ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَقْصَى الْأَبِ أَبُو طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ عَقِيلٍ وَجَعْفَرٍ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ الْقَرِيبَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَتْرُوكًا بِالْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (يُقَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ بِالْقُيُودِ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (وَعِنْدَهُمَا بِأَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْأَبِ الْأَدْنَى) وَمَا كَانَ مَتْرُوكًا بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ لَا مَحَالَةَ. قَالَ (وَإِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَلَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ فَالْوَصِيَّةُ لِعَمَّيْهِ) عِنْدَهُ اعْتِبَارٌ لِلْأَقْرَبِ كَمَا فِي الْإِرْثِ، وَعِنْدَهُمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا إذْ هُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْأَقْرَبَ (وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَخَالَيْنِ فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ) لِأَنَّهُ لابد مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمِيعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِذِي قَرَابَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْعَمِّ كُلُّ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَرْدِ فَيُحْرِزُ الْوَاحِدُ كُلَّهَا إذْ هُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ الثُّلُثُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَعَمَّةً وَخَالًا وَخَالَةً فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ قَرَابَتِهِمَا وَهِيَ أَقْوَى، وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَرِيبُ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا، وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقْرِبَائِهِ أَوْ لِأَنْسِبَائِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَفْظُ جَمْعٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ الْمَحْرَمُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا الْوَصْفِ.
قَالَ: وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَهِيَ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَعُولُهُمْ وَتَضُمُّهُمْ نَفَقَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} وَلَهُ أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ حَقِيقَةٌ فِي الزَّوْجَةِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِآلِ فُلَانٍ فَهُوَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْآلُ الْقَبِيلَةُ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلُ الْبَيْتِ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ نَسَبِهِ أَوْ لِجِنْسِهِ فَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَالنَّسَبُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ، وَجِنْسُهُ أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ، بِخِلَافِ قَرَابَتِهِ حَيْثُ تَكُونُ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ بَنِي فُلَانٍ أَوْ لِعُمْيَانِهِمْ أَوْ لِزَمْنَاهُمْ أَوْ لِأَرَامِلِهِمْ إنْ كَانُوا قَوْمًا يُحْصَوْنَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فُقَرَاؤُهُمْ وَأَغْنِيَاؤُهُمْ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّمْلِيكِ فِي حَقِّهِمْ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ.
وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ فِي الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ الْقُرْبَةُ وَهِيَ فِي سَدِّ الْخَلَّةِ وَرَدِّ الْجَوْعَةِ.
وَهَذِهِ الْأَسَامِي تُشْعِرُ بِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِشُبَّانِ بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أَوْ لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ حَيْثُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَتَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصَايَا عَلَى مَا مَرَّ.
وَلَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْإِنَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ خَاصَّةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْمِ لِلذُّكُورِ وَانْتِظَامُهُ لِلْإِنَاثِ تَجَوُّزٌ وَالْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَنُو فُلَانٍ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ فَخِذٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرَادُ بِهَا أَعْيَانُهُمْ إذْ هُوَ مُجَرَّدُ الِانْتِسَابِ كَبَنِي آدَمَ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَحُلَفَاؤُهُمْ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَلَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ) يَعْنِي: وَلَهُ وَلَدٌ يُحْرَزُ مِيرَاثُهُ فَالثُّلُثُ لِعَمَّيْهِ، وَهَذَا إلَى آخِرِهِ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ مِنْ الْقُيُودِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لابد مِنْ اعْتِبَارِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْعَمُّ اثْنَيْنِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا إذَا انْفَرَدَ كَانَ لَهُ النِّصْفُ أَيْضًا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي هَذَا جَعَلَ عَدَمَ الْمُزَاحِمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُزَاحِمِ حَيْثُ قَالَ: إذَا كَانَ مَعَهُ عَمٌّ آخَرُ كَانَ لَهُ النِّصْفُ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَمٌّ آخَرُ.
وَحِينَئِذٍ كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ عَمٌّ وَاحِدٌ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَمَّانِ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: يَجِبُ لَهُ الرُّبُعُ أَوْ الْخُمُسُ عِنْدَ انْفِرَادِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَعْمَامٍ وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجُمُوعِ كُلِّهَا سَاقِطٌ لِتَعَذُّرِهِ، فَتَعَيَّنَ أَدْنَى مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ وَهُوَ الِاثْنَانِ لِتَيَقُّنِهِ، وَالْعَمُّ الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ مَالِهِمَا، وَإِذَا أَخَذَ الْعَمُّ النِّصْفَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ الثُّلُثِ لِلْخَالَيْنِ وَفِي قَوْلِهِمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ أَقْوَى) أَيْ قَرَابَةُ الْعُمُومَةِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْخُئُولَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْعَمَّةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْعُصُوبَةَ وَيُقَدَّمُ الْعَمُّ عَلَى الْأَخْوَالِ بِسَبَبِهَا فَلَمْ تَكُنْ قَرَابَتُهَا أَقْرَبَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلْوَصِيَّةِ وَمُسَاوِيَةٌ لِلْعَمِّ فِي الدَّرَجَةِ، وَعَدَمُ اسْتِحْقَاقِهَا الْعُصُوبَةَ وَصْفٌ قَامَ بِهَا وَهُوَ الْأُنُوثَةُ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مُسَاوَاتِهَا الْعَمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كَالْعَمِّ الرَّقِيقِ أَوْ الْكَافِرِ لِمَا أَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ لِوَصْفٍ قَامَ بِهِ لَا لِضَعْفٍ فِي الْقَرَابَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنْسِبَائِهِ) الْأَنْسِبَاءُ جَمْعُ النَّسِيبِ وَهُوَ الْقَرِيبُ كَالْأَنْصِبَاءِ فِي جَمْعِ النَّصِيبِ.
وَقَوْلُهُ (فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي مِنْ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَهِيَ عَلَى زَوْجَتِهِ) الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ فُلَانٍ تَنْصَرِفُ إلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَضُمُّ نَفَقَةَ فُلَانٍ مِنْ الْأَحْرَارِ عِنْدَهُمَا اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ الْمُؤَيَّدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الزَّوْجَ خَاصَّةً، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلَّا امْرَأَتَهُ} وَلَهُ أَنَّ الْأَهْلَ فِي الزَّوْجَةِ حَقِيقَةً يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} فَلَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهَا مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا.
قِيلَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ {اُمْكُثُوا} وَالْمَرْأَةُ لَا تُخَاطَبُ بِذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ، أَوْ أَقَارِبِهَا مِمَّنْ ضَمَّتْهُمْ نَفَقَتُهُ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَرِقَّاءِ أَحَدٌ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ.
عَلَى أَنَّ الْحَقَائِقَ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهَا السَّمَاعُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا اُسْتُشْهِدَ بِالْآيَةِ تَأْنِيسًا.
فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ مَا فِي لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْحَقِيقَةِ لَا يُنَافِي مَطْلُوبَهُ كَالْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّا بِهَا، وَقَوْلُهُ (فُلَانٌ) تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا هُوَ الْمَسْمُوعُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ) فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ جِنْسِ قُرَيْشٍ، وَأَوْلَادُ الْخُلَفَاءِ صَلَحُوا لِلْخِلَافَةِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ الْإِمَاءِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ دُونَ عَشِيرَةِ الْأُمِّ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ فُلَانٍ) الْيَتِيمُ اسْمُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ الْحُلُمِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ» وَالْعُمْيَانُ وَالزَّمْنَى مَعْرُوفَةٌ، وَالْأَرْمَلُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، مِنْ أَرْمَلَ إذَا افْتَقَرَ مِنْ الرَّمَلِ كَأَدْقَعَ مِنْ الدَّقْعَاءِ وَهِيَ التُّرَابُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَرْمَلُ فِي النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ هُوَ الْأَوَّلُ حَيْثُ قَالَ: ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّعْبِيِّ.
فَإِذَا أَوْصَى لِهَؤُلَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا يُحْصَوْنَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وُجِدَ الْإِحْصَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي الْإِحْصَاءِ إلَى كِتَابٍ وَلَا حِسَابٍ، فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَهُوَ الْأَيْسَرُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فُقَرَاؤُهُمْ وَأَغْنِيَاؤُهُمْ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَتَحْقِيقُ التَّمْلِيكِ فِيهِمْ مُمْكِنٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِشُبَّانِ بَنِي فُلَانٍ وَهْم لَا يُحْصَوْنَ، أَوْ لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهْم لَا يُحْصَوْنَ حَيْثُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ، وَالْفَقِيرِ وَهَلْ يَدْخُلُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي الْأَيَامَى دُخُولَهُ فِي الْأَرَامِلِ أَوْ لَا؟ قَالَ الْكَرْخِيُّ. يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الْأَيِّمَ هِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا أَوْ يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ أَيْضًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَيِّمُ هِيَ الثَّيِّبُ خَاصَّةً، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ دُخُولُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَرَامِلِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الشُّبَّانِ وَالْأَيَامَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَقِيرِ حَتَّى يُصْرَفَ إلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ فَبَطَلَتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْغُلَامُ مَا كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَالْفَتَى مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَفَوْقَ ذَلِكَ.
وَالْكَهْلُ إذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَزَادَ عَلَيْهِ، وَمَا بَيْنَ خَمْسِينَ إلَى سِتِّينَ إلَى أَنْ يَغْلِبَ الشَّيْبُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شَيْخًا.
وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصَايَا عَلَى مَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ) يَعْنِي إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ مَفْهُومَهُ الْإِضَافِيَّ أَوْ يَكُونَ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ فَخِذٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْإِنَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَدْخُلُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الْإِنَاثُ مُنْفَرِدَاتٍ فَلَا تَدْخُلُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الِاسْمِ وَانْتِظَامَهُ الْإِنَاثَ تَجُوزُ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الِانْتِسَابِ لِبَنِي آدَمَ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَحُلَفَاؤُهُمْ يَقْسِمُ الْوَصِيُّ بَيْنَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ مِنْ فُقَرَائِهِمْ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ) لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُ الْكُلَّ انْتِظَامًا وَاحِدًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ) وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَبًا خَاصًّا أَوْ فَخِذًا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتْ الْأَوْلَادَ دُونَ أَوْلَادِهِمْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالِاخْتِلَاطِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الصُّلْبِيَّ كُلَّهُ انْتِظَامًا وَاحِدًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ مَجَازًا لَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مِنْ الصُّلْبِ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَأَوْلَادُ الْأَبْنَاءِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ رِوَايَتَانِ، هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِوَلَدِ فُلَانٍ تَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ وَوَلَدَ الْوَلَدِ، فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ وَذَكَرَ فِيهِ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ يَدْخُلُونَ وَإِنْ كَانَ الصُّلْبِيُّ قَائِمًا؛ لِأَنَّ فُلَانًا إذَا كَانَ فَخِذًا فَبَنُوهُ وَبَنَاتُهُ لَا تَخْلُو عَنْ الْأَوْلَادِ عَادَةً فَتَكُونُ مُرَادَةً فَتَدْخُلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَبًا خَاصًّا فَإِنَّ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ قَدْ تَخْلُو عَنْ الْأَوْلَادِ فَلَا تَكُونُ مُرَادَةً. (وَمَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى لَفْظِ الْوَرَثَةِ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ قَصْدَهُ التَّفْضِيلَ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ.
وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ جَمِيعًا، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى يُصَالِحُوا.
لَهُ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُسَمَّى مَوْلًى فَصَارَ كَالْإِخْوَةِ.
وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِي فِيهِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَنْ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْمِ قَبْلَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَازِمٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عَبْدٌ قَالَ لَهُ مَوْلَاهُ إنْ لَمْ أَضْرِبْك فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عِنْدَ تَحَقُّقِ عَجْزِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ وَأَوْلَادُهُ مَوَالٍ وَمَوَالِي مُوَالَاةٍ يَدْخُلُ فِيهَا مُعْتَقُوهُ وَأَوْلَادُهُمْ دُونَ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَيْضًا وَالْكُلُّ شُرَكَاءُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ.
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فِي الْمُعْتَقِ الْإِنْعَامُ، وَفِي الْمَوَالِي عَقْدُ الِالْتِزَامِ وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ فَكَانَ الِاسْمُ لَهُ أَحَقَّ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَوَالِي الْمَوَالِي لِأَنَّهُمْ مَوَالِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ مَوَالِيهِ وَأَوْلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِإِعْتَاقٍ وُجِدَ مِنْهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقٍ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِنَّمَا يُحْرِزُ مِيرَاثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ) مَبْنَاهُ عَلَى جَوَازِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ، وَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُ ذَلِكَ فَأَجَازَ هَذَا، وَأَصْحَابُنَا مَا جَوَّزُوهُ وَكَذَلِكَ هَذَا، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ لَا عَلَى جَوَازِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مُتَوَاطِئٍ كَالْإِخْوَةِ عَلَى بَنِي الْأَعْيَانِ وَبَنِي الْعِلَّاتِ وَبَنِي الْأَخْيَافِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِخْوَةِ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ اشْتِمَالُ صُلْبِ الْأَبِ أَوْ الرَّحِمِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى الْمَوْلَى لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَعْنَى الْأَعْلَى مُنْعِمٌ وَمَعْنَى الْأَسْفَلِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ فِي أَحَدِهِمَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَفِي الْآخَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ إنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ) احْتِرَازٌ عَنْ صُورَةِ النَّفْيِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا، عَلَى أَنْ لَا عُمُومَ لِلْمُشْتَرَكِ لَا فِي النَّفْيِ وَلَا فِي الْإِثْبَاتِ.
وَأَجَابُوا عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِتَرْكِ الْكَلَامِ مَعَ الْمَوْلَى مُطْلَقًا لَيْسَ لِوُقُوعِهِ فِي النَّفْيِ بَلْ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ بُغْضُهُ وَهُوَ غَيْرُهُ مُخْتَلِفٌ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى كَالشَّيْءِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ لَكِنَّ حُكْمَهُ التَّوَقُّفُ فَكَيْفَ قَالَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ الْبَيَانِ وَالتَّوَقُّفُ فِي مِثْلِهِ لَا يُفِيدُ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّرْجِيحُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مُمْكِنٌ وَهُوَ أَنْ تُصْرَفَ الْوَصِيَّةُ إلَى الْمَوْلَى الَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ وَأَمَّا فَضْلُ الْإِنْعَامِ فِي حَقِّ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ فَمَنْدُوبٌ، وَالصَّرْفُ إلَى الْوَاجِبِ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْمَنْدُوبِ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِهَذَا الْمَعْنَى.
أُجِيبَ بِأَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِجِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِوَصِيَّةِ ثُلُثِ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْغَالِبُ فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ الْفَقْرُ، وَفِي الْأَعْلَى الْغِنَى، وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَلَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْمَوْلَى الْأَعْلَى فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ.
وَيَدْخُلُ فِيهَا الْمُعْتَقُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الشَّيْءِ لَا بِالْعِلِّيَّةِ يَعْقُبُهُ وُجُودًا، وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثُ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ اسْمِ الْمَوْلَى قَبْلَ الْمَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ (لَازِمٌ) أَيْ: ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ بِالْإِحْيَاءِ الْحَاصِلِ بِالْعِتْقِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ (وَيَدْخُلُ فِيهِ) أَيْ: فِي هَذَا الْإِيصَاءِ: يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ عَبْدٌ قَالَ لَهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَلَوْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ وَأَوْلَادُ الْمَوَالِي وَمَوَالِي الْمُوَالَاةِ دَخَلَ مُعْتَقُوهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَوْلَادُهُمْ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُمْ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ الَّذِي بَاشَرَ فِي آبَائِهِمْ، وَالْفُرُوعُ أَجْزَاءُ الْأُصُولِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةً فِيهِمْ كَمَا فِي أُصُولِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْمَوْلَى عَنْهُمْ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَنْ الْفُرُوعِ صَحِيحٌ حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَيْسُوا بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّمَا هُمْ بَنُو بَنِيهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ: يَعْنِي مَوَالِي الْمُوَالَاةِ يَدْخُلُونَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَمَّا كَانَتْ الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةً وَجَبَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ كَالْمَوْلَى الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا إذَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهَاهُنَا قَرِينَةٌ تُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْإِعْتَاقِ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَسَبَبُهُ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مَوَالِي مُوَالَاةٍ كَانَ الثُّلُثُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا لَمْ تُمْكِنْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ (وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ) وَحُكْمُ وَلَدِ الْمُعْتَقِ حُكْمُ الْمُعْتَقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْمَوَالِي لِأَوْلَادِ الْمَوَالِي حَقِيقَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ) أَيْ: فِيمَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ (مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُطَابِقُ ذَلِكَ دُونَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هُوَ أَنْ يُبَاشِرَ إعْتَاقَ مَمْلُوكٍ فَيَصِيرَ بِهِ مَوْلًى عَنْهُ، وَالْمَجَازَ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِإِعْتَاقِ مَمْلُوكٍ فَيُعْتِقُ ذَلِكَ الْمُعْتِقُ مَمْلُوكًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ مَوَالِي الْأَبِ وَالِابْنِ فِعْلُ الْإِعْتَاقِ وَلَا تَسْبِيبُهُ، فَقُلْنَا: إنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَرَى لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ مَوَالٍ لَهُ حَقِيقَةً.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُحْرَزُ مِيرَاثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ) جَوَابٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَوَالِيَ أَبِيهِ تَدْخُلُ إذَا مَاتَ أَبُوهُ وَوَرِثَ وَلَاءَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَوَالِيهِ حُكْمًا وَلِهَذَا يُحْرِزُ مِيرَاثَهُمْ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إحْرَازَهُ الْمِيرَاثَ مَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ مَوَالٍ لَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ عَصَبَةَ الْمُعْتَقِ مَقَامَ الْمُعْتَقِ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَا يُورَثُ، نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ قَالَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الِانْتِقَالِ فَكَانَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْمُعْتَقِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِيضَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ مَوَالٍ الْمَوَالِي وَبَيْنَ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ أَبُوهُ، أَوْ ابْنُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّسْخَةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْمُعْتَقِ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمَوْلَى عِنْدَ قِيَامِ الْكِتَابَةِ.
وَعِنْدَهُمَا إنْ نُسِبَ إلَيْهِ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ حَقِيقَةً فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ النُّسْخَةَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ بِإِثْبَاتِ لَفْظَةِ ابْنِهِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ فَجَعَلَهُ مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ابْنُهُ، وَمَعْنَاهُ فَإِنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَوْلَاهُ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ مَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَوَالِيَهُ أَصْلًا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمَوْلَى عِنْدَ تَمَامِ الْكِتَابَةِ، وَهَذَا فِيهِ تَصْحِيحُ نُسْخَةِ الْكِتَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ الْإِيرَادُ عَلَى مَذْهَبِهَا خَاصَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.