فصل: (بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ :

السَّفَرُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ كَمَالَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» عَمَّ بِالرُّخْصَةِ الْجِنْسَ.
وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَالشَّافِعِيُّ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي قَوْلٍ، وَكَفَى بِالسُّنَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِمَا (وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسَطُ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقْدِيرُ بِالْمَرَاحِلِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَرَاسِخِ هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ) مَعْنَاهُ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ، فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ فَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا فِي الْجَبَلِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ) لَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَيُؤَخِّرُ عَنْهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ دُونَهُ.
وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ: قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا، بَلْ الْمُرَادُ قَطْعٌ خَاصٌّ وَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهِ الْأَحْكَامُ فَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْقَصْدَ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْحَادِثَةُ الْمُقَارِنَةُ لِمَا عَزَمَ لِأَنَّهُ لَوْ طَافَ جَمِيعَ الْعَالَمِ بِلَا قَصْدِ سَيْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا، وَلَوْ قَصَدَ وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَكَذَلِكَ، وَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَمَا بَالُ السَّفَرِ وَهُوَ ضِدُّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّفَرَ فِعْلٌ، وَمُجَرَّدُ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِيهِ، وَالْإِقَامَةُ تَرْكٌ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِهَا، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فِي الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ يَنْوِي أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَعَكْسِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ هِيَ قَصْرُ الصَّلَاةِ وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحُرْمَةُ الْخُرُوجِ عَلَى الْحُرَّةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَإِنْ قِيلَ: فَكَمَا أَنَّ الْقَصْدَ لابد مِنْهُ لِلتَّغْيِيرِ فَكَذَلِكَ مُجَاوَزَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ بِصَدَدِ بَيَانِ تَعْرِيفِ السَّفَرِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ شُرُوطِ تَغْيِيرِهِ وَسَنَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (سَيْرَ الْإِبِلِ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَقَوْلُهُ (عَمَّ الرُّخْصَةُ الْجِنْسَ) وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُسَافِرُ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ مَعْهُودٍ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ وَهُوَ الْمَسْحُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَنْ هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ نَقِيضُهُ صَادِقًا وَهُوَ بَعْضُ مَنْ هُوَ مُسَافِرٌ لَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَيَلْزَمُ الْكَذِبُ الْمُحَالُ عَلَى الشَّارِعِ إنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً مَعْنًى أَيْضًا، أَوْ عَدَمُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ إنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً مَعْنًى وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِيَمْسَح وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ وَالْمُسَافِرُ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا يَمْسَحُ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَمْسَحُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» وَالثَّانِي أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ جِدًّا حَتَّى كَانَ سُفْيَانُ يُزْرِيهِ بِالْكَذِبِ، فَبَقِيَ الْقَوْلُ بِالْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِلْمُسَافِرِ وَإِلَّا لَكَانَ فِي قَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَذَلِكَ، فَكَانَ حُكْمُ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَاحِدًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَفِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ حُكْمِ الرَّاحَةِ وَالْمَشَقَّةِ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النُّزُولَ لِأَجْلِ الِاسْتِرَاحَةِ مُلْحَقٌ بِالسَّيْرِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ مُدَّةِ السَّفَرِ تَيْسِيرًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى عَنْهُ بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَتَعَجَّلُ السَّيْرَ فَيَبْلُغُ قَبْلَ الْوَقْتِ بِسَاعَةٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ (وَالشَّافِعِيُّ قَدَّرَهُ فِي قَوْلٍ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وَرُبَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ (وَكَفَى بِالسُّنَّةِ) يَعْنِي مَا رَوَيْنَا (حُجَّةً عَلَيْهِمَا) وَقَوْلُهُ (وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ قَرِيبٌ إلَى التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِي السَّيْرِ فِي ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ خُصُوصًا فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّهُمْ قَدَّرُوهَا بِالْفَرَاسِخِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا، وَقَالَ آخَرُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَآخَرُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِمَوْضِعٍ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَاءِ يُقْطَعُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إذَا كَانَتْ الرِّيحُ هَادِيَةً: أَيْ مُتَوَسِّطَةً، وَالثَّانِي فِي الْبَرِّ يُقْطَعُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَإِنْ ذَهَبَ إلَى طَرِيقِ الْمَاءِ قَصَرَ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَى طَرِيقِ الْبَرِّ أَتَمَّ، وَلَوْ انْعَكَسَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ (وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ) يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الرِّيحُ مُسْتَوِيَةً لَا سَاكِنَةً وَلَا عَالِيَةً كَمَا فِي الْجَبَلِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فِي السَّيْرِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ فِي السَّهْلِ تُقْطَعُ بِمَا دُونَهَا. قَالَ (وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ اعْتِبَارًا بِالصَّوْمِ.
وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى (وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ الْأُولَيَانِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْأُخْرَيَاتُ لَهُ نَافِلَةٌ) اعْتِبَارًا بِالْفَجْرِ، وَيَصِيرُ مُسِيئًا لِتَأْخِيرِ السَّلَامِ (وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَهَا بَطَلَتْ)؛ لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ) الْقَصْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ عِنْدَنَا، وَرُبَّمَا عَبَّرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ بِالْعَزِيمَةِ وَرُخْصَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ رُخْصَةُ تَرْفِيهٍ وَفَرْضُهُ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا (وَعِنْدَهُ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ) وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ قَالَ: هَذِهِ رُخْصَةٌ شُرِعَتْ لِلْمُسَافِرِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهَا كَمَا فِي الصَّوْمِ (وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ بِأَنَّ الصَّوْمَ يُقْضَى: يَعْنِي أَنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ بِلَا بَدَلٍ وَلَا إثْمٍ عَلَامَةُ كَوْنِهِ نَافِلَةً، وَمَا ذَكَرْتُمْ تُرِكَ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} وَلَفْظُ لَا جُنَاحَ يُذْكَرُ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَدَقَةً وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْفَقِيرَ لَوْ لَمْ يَحُجَّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا إثْمٌ، وَإِذَا حَجَّ كَانَ فَرْضًا فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتُمْ آيَةَ النَّافِلَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّصَّ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ أَمَّا الْآيَةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ} عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالْخَوْفِ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِقَصْرِ ذَاتِ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهِ فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَصْرِ الْأَوْصَافِ مِنْ تَرْكِ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ، أَوْ تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَنَا قَصْرُ الْأَوْصَافِ عِنْدَ الْخَوْفِ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ مُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَلَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ أَوْلَى وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى مَكَّةَ صَارَ مُسْتَطِيعًا فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ كَالْأَغْنِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَهَا) أَيْ قَدْرَ قَعْدَةٍ التَّشَهُّدِ (بَطَلَتْ) صَلَاتُهُ (لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا) لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ رُكْنٌ وَقَدْ تَرَكَهَا قَبْلَ احْتِيَاجِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ إلَى الْقِرَاءَةِ كَاحْتِيَاجِهَا إلَى الْقَعْدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَرَأَ الْأُخْرَيَيْنِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَكَيْفَ تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي الْأُولَى وَأَتَمَّ أَرْبَعًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ فِيهِ اخْتِلَاطُ النَّافِلَةِ بِالْفَرْضِ قَبْلَ إكْمَالِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَصَارَتْ قِرَاءَتُهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةً فِي الْأُولَيَيْنِ وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَسِيرُ مُسَافِرًا بِقَصْرِ الصَّلَاةِ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ بُيُوتٌ، لِأَنَّ السَّفَرَ ضِدُّ الْإِقَامَةِ وَالشَّيْءُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ تَعَلَّقَ ضِدُّهُ بِضِدِّهِ وَحُكْمُهُ الْإِقَامَةُ وَهُوَ الْإِتْمَامُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ تَعَلَّقَ حُكْمُ السَّفَرِ بِالْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ. (وَإِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُيُوتَ الْمِصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا فَيَتَعَلَّقُ السَّفَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا.
وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا (وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
الشَّرْحُ:
(وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ يُرِيدُ السَّفَرَ فَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَتَمَّهَا، ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ (لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا) وَالْخُصُّ: بَيْتٌ مِنْ قَصَبٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الِانْفِصَالِ مِنْ الْمِصْرِ فَقَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ غَلْوَةٍ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الْمِصْرِ وَهِيَ لَا تُقَامُ إلَّا فِي الْمِصْرِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ الْمِصْرِ فَكَيْفَ جَازَ الْقَصْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَيْفَ جَازَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ إنَّمَا يُلْحَقُ فِيمَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِ أَهْلِهِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْهَا (وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَقَوْلُهُ (أَوْ أَكْثَرَ) زَائِدٌ (وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ) عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: إذْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ صَارَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ.
وَاحْتَجَّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ فَقَدْ تَرَكَ الضَّرْبَ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ عِنْدَ عَدَمِهِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا مَا دُونَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلِلثَّانِي بِقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ أَقَامَ أَرْبَعًا أَتَمَّ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ تَرْكَ الضَّرْبِ يَحْصُلُ بِنِيَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا.
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِي الْأَرْبَعَةِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا دُونَهَا، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ خِلَافُ ذَلِكَ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَلَنَا مَا ذُكِرَ أَنَّهُ لابد مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، فَإِنَّ مُدَّةَ الطُّهْرِ تُوجِبُ إعَادَةَ مَا سَقَطَ بِالْحَيْضِ، وَالْإِقَامَةُ تُوجِبُ إعَادَةَ مَا سَقَطَ بِالسَّفَرِ، فَكَمَا قُدِّرَ أَدْنَى مُدَّةِ الطُّهْرِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكَذَلِكَ يُقَدَّرُ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ بِثَلَاثِ أَيَّامٍ لِكَوْنِهِمَا مُسْقِطَتَيْنِ (وَهُوَ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِمُدَّةِ الطُّهْرِ (مَأْثُورٌ) رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا دَخَلْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِك أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.
وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ، وَحَاشَاهُمْ عَنْ انْحِرَافٍ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُعْتَمِدًا عَلَى السَّمَاعِ ضَرُورَةً.
لَا يُقَالُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَهَا أَوَّلًا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ وَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ (وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ) يَعْنِي مَا لَا يُعْقَلُ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ (كَالْخَبَرِ) لِأَنَّ ذَلِكَ إظْهَارُ مَعْنًى بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِهِ بِالْأَثَرِ لَا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الظَّاهِرُ) أَيْ الظَّاهِرُ مِنْ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّعَاةَ إذَا نَزَلُوا مَوْضِعًا كَثِيرَ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْكَلَأُ وَالْمَاءُ يَكْفِيهِمْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ صَارُوا مُقِيمِينَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ، وَقَالُوا: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ إنَّمَا لَا تَصِحُّ إذَا سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَتَصِحُّ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لَا ابْتِدَاءَ عِلَّةٍ، وَإِذَا سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نَوَى كَانَتْ ابْتِدَاءَ إيجَابٍ فَلَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَكَان ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ فِي الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ. (وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ.
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ وَقَوْلُهُ (وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا) وَاضِحٌ وَأَذْرَبِيجَانَ صُحِّحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَقَامَ بِخُوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
لَا يُقَالُ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} عَلَى مَا مَرَّ مِنْ التَّقْرِيرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ بِهَا قَصَرُوا وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا فِيهَا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا)؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بَيْنَ أَنْ يُهْزَمَ فَيَقِرَّ وَبَيْنَ أَنْ يَنْهَزِمَ فَيَفِرَّ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ (وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ)؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ إذَا كَانَ الشَّوْكَةُ لَهُمْ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَرَارِ ظَاهِرًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ) حَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ نِيَّتَهُمْ لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا هُوَ مَا يَكُونُ مَحَلَّ قَرَارٍ لَيْسَ إلَّا، وَهَذَا دَائِرٌ بَيْنَ الْقَرَارِ وَالْفِرَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ، وَيُعَضِّدُ مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ».
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) إنَّمَا ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُكْمَهُ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ كَالْمَفَازَةِ، بِخِلَافِ مَدِينَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهَا فِي يَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ النِّيَّةُ (وَكَذَا إذَا حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ) وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلنِّيَّةِ لَكِنْ ثَمَّةَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُقِيمُونَ لِغَرَضٍ، فَإِذَا حَصَلَ انْزَعَجُوا فَلَا تَكُونُ نِيَّتُهُمْ مُسْتَقِرَّةً، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي غَيْرِ مِصْرٍ، وَقَوْلَهُ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ بِقَيْدٍ حَتَّى لَوْ نَزَلُوا مَدِينَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحَاصَرُوهُمْ فِي الْحِصْنِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُمْ أَيْضًا لِأَنَّ مَدِينَتَهُمْ كَالْمَفَازَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُقِيمُونَ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي مُحَاصَرَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ) أَيْ بُيُوتَ الْمَدَرِ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُذَكَّرٌ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَخْبِيَةِ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْقَرَارِ هُوَ الْأَبْنِيَةُ دُونَ الْأَخْبِيَةِ. (وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَأِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ، قِيلَ لَا تَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ) يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَصْلٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى.
الشَّرْحُ:
(وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَإِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ) مُخْتَلَفٌ فِيهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (لَا تَصِحُّ) أَبَدًا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ) لِلْمَرْءِ (أَصْلٌ) وَالسَّفَرَ عَارِضٌ يَحْصُلُ عِنْدَ قَصْدِ الِانْتِقَالِ إلَى مَكَان بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُدَّةُ السَّفَرِ وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى فَكَانُوا مُقِيمِينَ أَبَدًا. (وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ لَمْ تُجْزِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ لِانْقِضَاءِ السَّبَبِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ) بَيَّنَ هَاهُنَا حُكْمَ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَعَكْسِهِ، وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ خُرُوجِهِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ خُرُوجِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ فِي الْوَقْتِ (أَتَمَّ) صَلَاتَهُ (أَرْبَعًا لِأَنَّهُ) الْتَزَمَ الْمُتَابَعَةَ لِمَنْ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ، وَمَنْ الْتَزَمَ الْمُتَابَعَةَ لِمَنْ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ (يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ) فَإِنْ قِيلَ: عَلَّلَ تَغَيُّرَ فَرْضِهِ بِالتَّبَعِيَّةِ بِقَوْلِهِ لِلتَّبَعِيَّةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعْلِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (الِاتِّصَالُ الْمُغَيِّرُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ) قُلْت: ذَلِكَ تَعْلِيلٌ لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْجَامِعَ مَوْجُودٌ وَهُوَ اتِّصَالُ الْمُغَيِّرِ بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ الْمُغَيِّرَ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ كَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الثَّانِي هُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَقَدْ اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ، وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ كَمَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْوَقْتِ.
وَإِنَّمَا قَالَ (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ) وَلَمْ يَقُلْ وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ مَا إذَا دَخَلَ مُسَافِرٌ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ فَإِنَّهَا لَمْ تَفْسُدْ، وَقَدْ وُجِدَ الِاقْتِدَاءُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ بِالشُّرُوعِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ فَالْتُحِقَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُقِيمِينَ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ الْإِتْمَامَ لَوَجَبَ عَلَى مُسَافِرٍ اقْتَدَى بِهِ مُقِيمٌ فَأَحْدَثَ الْمُسَافِرُ وَاسْتَخْلَفَ الْمُقِيمَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَابِعًا لِلْمُقِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَغَيَّرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ لِلِاقْتِدَاءِ وَالْمُسَافِرُ كَانَ فِيهِ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا.
وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ) نَتِيجَةُ مَا قَبْلَهُ وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ عَقْدًا لَا يُفِيدُ مُوجِبُهُ لِاسْتِلْزَامِهِ أَحَدَ الْمَحْذُورَيْنِ لِأَنَّهُ إنْ سَلَّمَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَإِنْ أَتَمَّ أَرْبَعًا خَلَطَ النَّفَلَ بِالْمَكْتُوبَةِ قَصْدًا، وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ (فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ (أَوْ الْقِرَاءَةِ) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَكَلِمَةُ أَوْ لِعِنَادِ الْخُلُوِّ دُونَ مَانِعَةِ الْجَمْعِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَذَلِكَ أَيْضًا مُفْسِدٌ.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَقَضَاهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لِكَوْنِ الْقَعْدَةِ وَالْقِرَاءَةِ فَرْضَيْنِ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا كَالْمُقْتَدِي وَالثَّانِي أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فِي الشَّفِيعِ الثَّانِي جَائِزٌ مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُفْتَرِضِ نَفْلٌ، وَعَلَى الْمُتَنَفِّلِ فَرْضٌ فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِض بِالْمُتَنَفِّلِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يُلْتَحَقُ بِمَحَلِّ الْأَدَاءِ فَيَبْقَى الشَّفْعُ الثَّانِي خَالِيًا عَنْ الْقِرَاءَةِ فَكَانَ بِنَاءَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَنَفِّلِ أَخَذَتْ حُكْمَ الْفَرْضِ تَبَعًا لِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلِهَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْمُتَنَفِّلُ صَلَاتَهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا أَرْبَعًا، وَإِنْ اقْتَدَى الْمُقِيمُونَ بِمُسَافِرٍ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَدْ أَدَّى مَا الْتَزَمَ وَلَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْأَصَحِّ)احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا يُتِمُّونَ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ فِيهِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُمْ سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَهَوْا فِيهِ فَأَشْبَهُوا الْمَسْبُوقِينَ.
وَوَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابٍ أَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةُ لَا فِعْلًا.
يَعْنِي فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَمَّا أَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مَعَهُ فِي أَوَّلِ التَّحْرِيمَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَدٍ فِعْلًا فَلِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ قَدْ فَرَغَ بِالسَّلَامِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَاحِقٌ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا تَحْرِيمَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ.
وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُقْتَدٍ فِعْلًا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ صَارَ مُؤَدِّيًا فَدَارَتْ قِرَاءَتُهُ بَيْنَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَمُسْتَحَبًّا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي التَّرْكِ تَرْجِيحًا لِلْمُحْرِمِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ نَافِلَةٍ، يَعْنِي فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا كَانَتْ بِدْعَةً، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا كَانَتْ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَدَّ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فَكَانَتْ عَلَيْهِ وَاجِبَةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً كَيْفَ قَالَ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَوِيَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى التُّرْكِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوُجُوبِ وَزِيَادَةٌ وَفِيهِ مَا فِيهِ.
وَقِيلَ ذَكَرَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْمُقِيمِينَ بَعْدَ فَرَاغِ إمَامِهِمْ الْمُسَافِرِ لَا بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا وَمُرَادُهُ أَنَّ جَعْلَهُ مُنْفَرِدًا لِتَجِبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ لَوْ تَرَكَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُقْتَدِيًا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ جَعْلُهُ مُنْفَرِدًا. (وَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ) لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةً لَا فِعْلًا وَالْفَرْضُ صَارَ مُؤَدًّى فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةً نَافِلَةً فَلَمْ يَتَأَدَّ الْفَرْضُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى، قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذْ سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ حِينَ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ.
الشَّرْحُ:
(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ) أَيْ مُسَافِرُونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ بِكَوْنِهِ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُمْ إنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَقَوْلُهُ هَذَا عَبَثٌ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُقِيمٌ كَانَ كَاذِبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مُقِيمٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ.
وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَوْا أَمْرَ الْإِمَامِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْإِقَامَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقِيمٍ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ.
وَأَمَّا إذَا عَلِمُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ وَقْتَ الِاقْتِدَاءِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ يُعْلَمُ حَالُهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ وَاجِبًا عَلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ إصْلَاحَ صَلَاةِ الْقَوْمِ يَحْصُلُ بِهِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ فَكَيْفَ قَالَ وَيُسْتَحَبُّ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ إصْلَاحَ صَلَاتِهِمْ لَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَلْبَتَّةَ بَلْ إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَعَلِمَ عَدَمَ سَهْوِهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةَ إعْلَامٍ بِأَنَّهُ مُسَافِرٌ وَإِزَالَةً لِلتُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَاقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَهُ حِينَ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَكَانَ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا لَا وَاجِبًا. (وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي مِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ وَيَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ مِصْرَهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ) مَعْنَاهُ: إذَا اسْتَكْمَلَ الْمُسَافِرُ بِسَيْرِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ دَخَلَ وَطَنَهُ الْأَصْلِيَّ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَزْمَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَلَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ الْعَائِدِ إلَى وَطَنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي عَزْمِهِ الْمَقَامُ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ عَزْمٌ جَدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَعْقُولِ أَظْهَرُ وَهُوَ أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِصَيْرُورَةِ الْمُسَافِرِ مُقِيمًا فِي مِصْرِ غَيْرِهِ لِأَنَّ مُكْثَهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلسَّيْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِقَامَةِ فَاحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ، فَأَمَّا فِي مِصْرِهِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِقَامَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ السَّيْرِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الْمُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عَلَى الدُّخُولِ فِي مِصْرِهِ يَصِيرُ مُقِيمًا وَتَتِمُّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ رَفْضُ الْإِيجَابِ لَا ابْتِدَاؤُهُ. (وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ ثُمَّ سَافَرَ وَدَخَلَ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَطَنًا لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ دُونَ السَّفَرِ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِالسَّفَرِ وَبِالْأَصْلِيِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ مِنْهُ) اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ قَسَمُوا الْأَوْطَانَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: وَطَنٍ أَصْلِيٍّ وَهُوَ مَوْلِدُ الرَّجُلِ أَوْ الْبَلَدُ الَّذِي تَأَهَّلَ فِيهِ.
وَوَطَنِ إقَامَةٍ وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِرُ فِيهِ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَيُسَمَّى وَطَنَ سَفَرٍ أَيْضًا.
وَوَطَنِ السُّكْنَى وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِرُ فِيهِ الْإِقَامَةَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَسَمُوا الْوَطَنَ إلَى الْأَصْلِيِّ وَوَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا وَطَنَ السُّكْنَى وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الْإِقَامَةُ بَلْ حُكْمُ السَّفَرِ فِيهِ بَاقٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ دُونَ وَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْشَاءُ السَّفَرِ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ قَاصِدًا مَكَانًا يَصِلُ إلَيْهِ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا فَوْقَهُ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ وَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ فَيَبْطُلُ بِمَا يُسَاوِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَقَالَ «أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَأَمَّا وَطَنُ الْإِقَامَةِ فَلَهُ مَا يُسَاوِيهِ وَمَا هُوَ فَوْقَهُ فَيَبْطُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَبِإِنْشَاءِ السَّفَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ ضِدُّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ ضِدٌّ لِلْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ أَيْضًا فَلَمْ لَمْ يُبْطِلْهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْهُ بِالْأَثَرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْغَزَوَاتِ وَلَمْ يُنْتَقَضْ وَطَنُهُ بِالْمَدِينَةِ» حَيْثُ لَمْ يُجَدِّدْ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ. (وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُعَرَّى عَنْهُ إلَّا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيْلِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِيرَ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ.
الشَّرْحُ:
نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ) يَعْنِي إلَى عَشْرَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ (وَهُوَ) أَيْ اعْتِبَارُهَا فِي مَوَاضِعَ (مُمْتَنِعٌ) لِأَنَّ إقَامَتَهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَكُونُ بِنُزُولِهِ وَتَرْوِيحِ دَابَّتِهِ، وَالسَّفَرُ لَا يَعْرَى عَنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَيَكُونُ كُلُّ مُسَافِرٍ مُقِيمًا إنْ نَوَى، وَهُوَ فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّوَازِمِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا نَوَى) مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ) ظَاهِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّوقِيَّ إذَا قِيلَ لَهُ أَيْنَ تَسْكُنُ يَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَنَهَارُهُ كُلُّهُ فِي السُّوقِ. (وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ) يَعْنِي عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ؛ فَفِي آخِرِ الْوَقْتِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَضَى رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَضَى أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ مُسَافِرًا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْقَضَاءِ وَإِذَا فَاتَتْ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبًا لِمَا عُرِفَ لَا الْجُزْءُ الْأَخِيرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ يُقَرِّرُونَ السَّبَبِيَّةَ عَلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ.
وَأَقُولُ: الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ الْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَرْبَعٍ قَضَى أَرْبَعًا، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ قَضَى رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّبَبِيَّةِ لِلْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْوَقْتِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَبِهِ يَتِمُّ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ.
وَأَمَّا أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْفَوْتِ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي عَدَمِ جَوَازِ قَضَاءِ الْعَصْرِ الْفَائِتِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْتَ الِاحْمِرَارِ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مُرَادِ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا وَاضِحٌ فَتَأَمَّلْهُ يُغْنِيك عَنْ التَّطْوِيلِ.
وَنُوقِضَ قَوْلُهُمْ الْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ بِمَا إذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ ثُمَّ أَفْسَدَ الْإِمَامُ أَوْ الْمُقْتَدِي صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ السَّفَرِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الْأَرْبَعُ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِفْسَادِ فَعَادَ إلَى أَصْلِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الِاقْتِدَاءَ فِي الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ فَكَذَا هَاهُنَا. (وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ تَخْفِيفًا فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ، وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فَصَلُحَ مُتَعَلَّقُ الرُّخْصَةِ.

الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ) السَّفَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: سَفَرُ طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَسَفَرٌ مُبَاحٌ كَالتِّجَارَةِ، وَسَفَرُ مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْإِبَاقِ عَنْ الْمَوْلَى وَحَجِّ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ.
وَالْأَوَّلَانِ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
قَالَ: لِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي خِلَافَهُ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ (وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ» وَقَالَ «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» وَالْكُلُّ كَمَا تَرَى مُطْلَقٌ، فَزِيَادَةُ قَيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا نُسِخَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَلِأَنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ) إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ مَدِيدٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ (وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ) كَمَا فِي السَّرِقَةِ (أَوْ مُجَاوِرِهِ) كَمَا فِي الْإِبَاقِ (فَصُلْحٌ) مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ (مُتَعَلِّقُ الرُّخْصَةِ) لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ عَمَّا يُجَاوِرُهُ كَمَا إذَا غَصَبَ خُفًّا وَلَبِسَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَتْرُ قَدَمَيْهِ، وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُجَاوِرِهِ وَهُوَ صِفَةُ كَوْنِهِ مَغْصُوبًا، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.

.(بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ):

(لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، أَوْ فِي مُصَلَّى الْمِصْرِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْقُرَى) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ: كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ.
وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الثَّلْجِيِّ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُصَلِّي بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: تَنَاسُبُ هَذَا الْبَابِ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُنَصَّفُ بِوَاسِطَةٍ الْأَوَّلُ بِوَاسِطَةِ السَّفَرِ، وَالثَّانِي بِوَاسِطَةِ الْخُطْبَةِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ شَامِلٌ فِي كُلِّ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالثَّانِي خَاصٌّ فِي الظُّهْرِ، وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَعْدَ الْعُمُومِ، وَالْجُمُعَةُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ كَالْفُرْقَةِ مِنْ الِافْتِرَاقِ، وَالْمِيمُ سَاكِنٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْقُرَّاءُ تَضُمُّهَا.
وَهِيَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْجُمُعَةِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا إلَيْهَا فَإِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْجُمُعَةُ أَوْلَى، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِأَمْرٍ وَاجِبٍ مُقْتَضِي الْحِكْمَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا، فَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ أَلَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَلَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا فَلَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا فَلَا صَوْمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى مَا يَجِيءُ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ الظُّهْرِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَالظُّهْرُ فَرِيضَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرِيضَةِ إلَّا لِفَرْضٍ هُوَ آكَدُ مِنْهُ.
وَلَهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ عَلَى شُرُوطِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ فِي الْمُصَلِّي كَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْإِقَامَةِ وَالصِّحَّةِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلَيْنِ وَالْبَصَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي غَيْرِهِ كَالْمِصْرِ الْجَامِعِ وَالسُّلْطَانِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَالْوَقْتِ وَالْإِظْهَارِ، حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ لَوْ أَغْلَقَ بَابَ الْمِصْرِ وَجَمَعَ فِيهِ بِحَشَمِهِ وَخَدَمِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ لَمْ يُجْزِهِ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ.
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ) هَذَا بَيَانُ شُرُوطٍ لَيْسَتْ فِي نَفْسِ الْمُصَلِّي وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَعَرَّفَ الْمِصْرَ الْجَامِعَ بِقَوْلِهِ (كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ) وَالْمُرَادُ بِالْأَمِيرِ وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ، وَإِنَّمَا قَالَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ بَعْدَ قَوْلِهِ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ إقَامَةَ الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ قَاضِيَةً تُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَلَيْسَ لَهَا إقَامَةُ الْحُدُودِ وَكَذَاك الْمُحَكَّمُ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ عَنْ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا) أَيْ اجْتَمَعَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ لَا كُلُّ مَنْ يَسْكُنُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ عَادَةً.
قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إذَا كَانَ أَهْلُهَا بِحَيْثُ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ وَهَذَا الِاحْتِيَاجُ غَالِبٌ عِنْدَ اجْتِمَاعِ مَنْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالثَّانِي اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيِّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ يَسْكُنُهُ عَشْرَةُ آلَافِ نَفَرٍ فَكَانَ عَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ) يَعْنِي جَوَازَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ فِي الْمُصَلَّى (بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ لِأَنَّهَا) أَيْ الْأَفْنِيَةَ (بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ) وَيُعْرَفُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ تَعْرِيفُ الْفِنَاءِ، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِحَوَائِجِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَفِنَاءُ الدَّارِ وَفِنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ كَذَلِكَ.
وَقَدَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِنَاءَ الْمِصْرِ بِالْغَلْوَةِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمِصْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا فِنَاؤُهُ، بَلْ كُلُّ قَرْيَةٍ يَسْكُنُهَا أَرْبَعُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ مَا جُمِعَتْ بِجُوَاثَا، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَامِرِ بْنِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُوَاثَا فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ جَمِّعْ بِهَا وَحَيْثُمَا كُنْت وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» يَنْفِي إقَامَتَهَا فِي الْقُرَى، وَالصَّحَابَةُ حِينَ فَتَحُوا الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى مَا اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَبِنَاءِ الْجَوَامِعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ، وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَهُ لِأَنَّ الْمَكَانَ مُضْمَرٌ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا تَجُوزَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْبَوَادِي بِالْإِجْمَاعِ، فَنَحْنُ نُضْمِرُ الْمِصْرَ وَهُوَ يُضْمِرُ الْقَرْيَةَ، وَجُوَاثَا مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ، وَتَسْمِيَةُ الرَّاوِي قَرْيَةً لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَلْدَةِ (وَتَجُوزُ بِمِنًى إذَا كَانَ الْأَمِيرُ أَمِيرَ الْحِجَازِ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا عِنْدَهُمَا.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا جُمُعَةَ بِمِنًى)؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرَى حَتَّى لَا يُعِيدَ بِهَا.
وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَدَمُ التَّعْيِيدِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا قَضَاءٌ وَبِمِنًى أَبْنِيَةٌ.
وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا، أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَجِّ لَا غَيْرُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَتَجُوزُ) يَعْنِي إقَامَةَ الْجُمُعَةِ (بِمِنًى إنْ كَانَ الْإِمَامُ أَمِيرَ الْحِجَازِ أَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ مُسَافِرًا) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا كَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى.
وَإِمَّا لِنَفْيِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ كَانَ مُسَافِرًا لَا يُقِيمُ الْجُمُعَةَ، كَمَا إذَا كَانَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ مُسَافِرًا.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَوْ السُّلْطَانَ إذَا طَافَ فِي وِلَايَتِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَكُونُ فِيهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ إمَامَةَ غَيْرِهِ إنَّمَا تَجُوزُ بِأَمْرِهِ، فَإِمَامَتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا) يَعْنِي مِنًى عَلَى تَأْوِيلِ الْقَرْيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لِأَنَّهَا قَرْيَةٌ (مِنْ الْقُرَى) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِصْرٍ وَلَا مِنْ فِنَائِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الْغَلْوَةِ وَلِهَذَا لَا يُعِيدُ بِهَا فَلَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ (وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ) لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْمِصْرِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَسْوَاقِ (وَعَدَمِ التَّعْيِيدِ) أَيْ عَدَمُ إقَامَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِلتَّخْفِيفِ لِاشْتِغَالِ الْحَاجِّ بِأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مِنْ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِعَدَمِ الْمِصْرِيَّةِ (وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) وَالْفَرْقُ أَنَّ عَرَفَاتٍ فَضَاءٌ وَمِنًى فِيهِ أَبْنِيَةٌ.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَاجِّ لَا غَيْرُ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنْ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِمِنًى لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ حِينَئِذٍ.
وَقِيلَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُقِيمُهَا وَإِنْ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْسِمِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا لَا يُقِيمُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا. (وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ) لِأَنَّهَا تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمِ، وَقَدْ تَقَعُ فِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ) أَيْ لِلْوَالِي الَّذِي لَا وَالِيَ فَوْقَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ (أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ) وَهُوَ الْأَمِيرُ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْخُطَبَاءُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ مَحْصُورًا بِالْمَدِينَةِ صَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صَلَّى بِأَمْرِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ الْأَمَدُ بِيَدِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ) لِكَوْنِهَا جَامِعَ الْجَمَاعَاتِ (وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ) بِأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ أَنَا أَتَقَدَّمُ وَغَيْرُهُ يَقُولُ أَنَا أَتَقَدَّمُ (وَ) فِي (التَّقْدِيمِ) بِأَنْ يُقَدِّمَ طَائِفَةٌ شَخْصًا وَأُخْرَى آخَرَ (وَقَدْ يَقَعُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ أَمْرِ التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمُ مِنْ أَدَاءِ مَنْ يَسْبِقُ إلَى الْجَامِعِ وَالْأَدَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ (فَلَا بُدَّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ مِنْ أَمْرِهِ (تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ) وَأَثَرُ عَلِيٍّ لَيْسَ بِحُجَّةِ الْجَوَازِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ.
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ إنَّمَا فَعَلَ لِأَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ فَاعْتُبِرَ اجْتِمَاعُهُمْ. (وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْوَقْتُ فَتَصِحُّ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» (وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيه عَلَيْهَا) لِاخْتِلَافِهِمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمِنْ شَرَائِطِهَا) أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ (الْوَقْتُ) وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ (فَتَصِحُّ فِيهِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ قَالَ لَهُ: إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» (وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا) أَيْ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيهِ عَلَيْهَا لِاخْتِلَافِهِمَا) أَيْ لِاخْتِلَافِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ تَخْيِيرِ الْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْجُمُعَةِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَوْ الْجُمُعَةَ مَعَ تَعَيُّنِ الرِّفْقِ فِي الْجُمُعَةِ بِالْقِلَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ لَمَا خُيِّرَ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِحَيْثُ يَجِبُ الْأَقَلُّ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ الْأَرْشِ أَوْ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ، وَبِنَاءُ فَرْضٍ عَلَى تَحْرِيمَةِ فَرْضٌ آخَرُ لَا يَصِحُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ. (وَمِنْهَا الْخُطْبَةُ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّاهَا بِدُونِ الْخُطْبَةِ فِي عُمُرِهِ (وَهِيَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الزَّوَالِ) بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ (وَيُخْطَبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ) بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ (وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ)؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهِمَا مُتَوَارَثٌ، ثُمَّ هِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالْأَذَانِ (وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ (فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لابد مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً)؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ، وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ.
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَارْتِجَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ وَصَلَّى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمِنْهَا) مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ (الْخُطْبَةُ) وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُخْطَبُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرْطًا «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّاهَا فِي عُمُرِهِ بِدُونِ الْخُطْبَةِ» وَفِيهِ بَحْثٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَأَنْ يُقَالَ: الْخُطْبَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ رُكْنًا وَلَا تَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَذَلِكَ رُكْنٌ، فَكَذَلِكَ مَا قَامَ مَقَامَهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِلَا طَهَارَةٍ وَلِأَنَّهَا لَمْ يُشْتَرَطْ قِيَامُهَا حَالَةَ الْأَدَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَكَانَ يُرَاعَى قِيَامُهَا حَالَةَ الْأَدَاءِ كَمَا اُشْتُرِطَ قِيَامُ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا كَانَتْ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ لَازِمٌ لَهُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ وُجُودِهِ، وَالدَّوَامُ لَا يَسْتَلْزِمُ الضَّرُورَةَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً بِدُونِ سُنَنِهَا كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَحْرِيمَةٍ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ لَا تَقُومُ بِالْخُطْبَةِ وَإِنَّمَا تَقُومُ بِأَرْكَانِهَا فَكَانَتْ شَرْطًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} فَتَكُونُ وَاجِبَةً وَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ لَمْ يَقَعْ لَهَا بَلْ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ حَيْثُ قَالَ {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَلَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَكَانَ النِّدَاءُ لَهَا أَوْ لَهُمَا إنْ كَانَتَا مَقْصُودَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا وَهِيَ فَرْضٌ كَانَتْ شَرْطًا لِغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ)كَانَتْ شَرْطًا لَكَانَ يُرَاعَى قِرَاءَةُ الْخُطْبَةِ حَالَ الْأَدَاءِ.
قُلْنَا: الشَّرْطُ وُجُودُهَا لَا وُجُودُهَا حَالَ الْأَدَاءِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّوَامَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الضَّرُورَةَ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ شَطْرَ الظُّهْرِ تَرْكٌ لِلْخُطْبَةِ وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ لِغَيْرِ الْفَرْضِ فَكَانَتْ فَرْضًا، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا لِذَاتِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَكَانَ لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ فَكَانَ شَرْطًا (وَهِيَ) أَيْ الْخُطْبَةُ (قَبْلَ الصَّلَاةِ بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ) وَشَرْطِيَّتُهَا أَيْضًا تَقْتَضِي ذَلِكَ (وَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ) مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مِقْدَارُ مَا يَمَسُّ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ (بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ) وَلَفْظُ التَّوَارُثِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ ذِي شَرَفٍ، وَقِيلَ هُوَ حِكَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا إنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِرَاحَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا شَرْطٌ حَتَّى لَا يُكْتَفَى عِنْدَهُ بِالْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ طَالَتْ لِلتَّوَارُثِ وَلَنَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً» وَفِيهِ كَمَا تَرَى دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ (وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهَا مُتَوَارَثٌ) رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا، قَالَ: أَلَسْت تَتْلُو قَوْله تَعَالَى {وَتَرَكُوك قَائِمًا} كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ النَّاسُ بِدُخُولِ الْعِيرِ الْمَدِينَةَ.
وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ) يَعْنِي عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ جَمِيعًا كَالْأَذَانِ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ بِهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ ذُكِرَ لَهَا شَبَهٌ بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَتُقَامُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ أَيْضًا ذُكِرَ لَهُ شَبَهٌ بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دُعَاءٌ لَهَا وَتُقَامُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
قِيلَ فِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَالْأَذَانِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ لَا بِقَوْلِهِ وَهِيَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ (وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ الذِّكْرُ وَالْوَعْظُ.
وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ.
وَالشَّافِعِيُّ وَحْدَهُ إذَا خَطَبَ قَاعِدًا.
لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا فِي الْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا: إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ، فَكَمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ تُشْتَرَطُ فِيهَا.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الثَّانِي أَنَّ الْخُطْبَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا ذِكْرٌ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مَا خَلَا الْقُرْآنَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ، وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الثَّوَابِ كَشَرْطِ الصَّلَاةِ لَا فِي شَرَائِطِهَا.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ.
وَقَوْلُهُ (لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ خَطَبَ قَاعِدًا.
وَقَوْلُهُ (لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُعِيدُهَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ.
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تُعَادَ اسْتِحْبَابًا كَإِعَادَةِ أَذَانِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَازَ) يَعْنِي إذَا ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ لِعُطَاسٍ أَوْ تَعَجُّبٍ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ (وَقَالَا: لابد مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً) وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَقِيلَ مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ مِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ (وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ أَوْ التَّهْلِيلَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ) تَشْتَمِلُ الْأُولَى عَلَى التَّحْمِيدَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَقِرَاءَةِ آيَةٍ، وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ إلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ الْآيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (اعْتِبَارًا لِلتَّوَارُثِ) فَإِنَّهُ جَرَى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا الذِّكْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا نَسْخٌ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ أَوَّلَ جُمُعَةٍ وَلِيَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ: أَيْ أُغْلِقَ فَنَزَلَ وَصَلَّى وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ كَافٍ. (وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ)؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا (وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَا: اثْنَانِ سِوَاهُ) قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ.
لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ هِيَ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ تَسْمِيَةٍ وَمَعْنًى، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَا الْإِمَامُ فَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ) الْجَمَاعَةُ شَرْطُ الْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْعَدَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا اثْنَانِ سِوَاهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ.
لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ) لِأَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ وَاحِدٍ بِآخَرَ وَالْجُمُعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْجَمَاعَةِ اجْتِمَاعٌ لَا مَحَالَةَ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاجْتِمَاعِ، لَكِنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ لِلْجَمْعِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الثَّلَاثُ (قَوْلُهُ جَمْعًا تَسْمِيَةً وَمَعْنًى) فَإِنْ قِيلَ: فَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِمَامِ ثَلَاثَةً؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِمَامُ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} يَقْتَضِي ثَلَاثَةً، وَقَوْلُهُ ({إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}) يَقْتَضِي ذَاكِرًا فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِمَّنْ يَصْلُحُ إمَامًا، حَتَّى إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تَتِمُّ بِهِمْ لِصَلَاحِيَّتِهِمْ لِلْإِمَامَةِ، وَكَمَا نَفَى الْآيَةُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ نَفَى اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِينَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ. (وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَيَسْجُدَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إذَا نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا رَكَعَ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَةً بَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ) خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَهُوَ يَقُولُ: إنَّهَا شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا كَالْوَقْتِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْعِقَادَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِتَمَامِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهَا تُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ، وَكَذَا الصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَلَا تَتِمُّ بِهِمْ الْجَمَاعَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ) اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ شُرُوعِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِلَا خِلَافٍ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ، وَإِنْ نَفَرُوا بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَنَى عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهَا شَرْطُ الْأَدَاءِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْهُمْ مُقَارِنًا لِتَحْرِيمِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلِانْعِقَادِ لِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ فَكَانَتْ كَالْوَقْتِ، وَدَوَامُهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ، فَكَذَا دَوَامُهَا، وَلَمْ يُوجَدْ إذَا نَفَرُوا بَعْدَ السُّجُودِ.
وَلَهُمَا أَنَّهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهَا كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ وَاللَّاحِقِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ، فَإِنَّ دَوَامَهَا إلَى تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ غَيْرُ شَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ نَعَمْ هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالِانْعِقَادُ إنَّمَا هُوَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَمَامِ الرَّكْعَةِ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا: أَيْ مِنْ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى الرَّكْعَةِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ إلَى تَمَّامِ الرَّكْعَةِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا الْجَمَاعَةَ بِهَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخُطْبَةَ تُنَافِي الصَّلَاةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَخْطُبُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْطُبَ فِي صَلَاةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ) ظَاهِرٌ. (وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا أَعْمَى)؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَخْرُجُ فِي الْحُضُورِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ وَالْأَعْمَى، وَالْعَبْدُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ فَعُذِرُوا دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ (فَإِنْ حَضَرُوا وَصَلَّوْا مَعَ النَّاسِ أَجْزَأَهُمْ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ فَصَارُوا كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ) يَعْنِي الْحَرَجَ، مَعْنَاهُ أَنَّ السُّقُوطَ فَرْضُ السَّعْيِ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ بَلْ لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَحَمَّلُوا اُلْتُحِقُوا فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ وَصَارُوا كَمُسَافِرٍ صَامَ (وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمُعَةِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ.
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةٌ، فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ فَيَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ) يَعْنِي فِي أَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَمَّ الصَّبِيُّ فِيهَا لَمْ يُجْزِهِ، فَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُ (وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ) أَيْ سُقُوطَ الْجُمُعَةِ عَنْهُمْ، وَأَنَّثَ الْإِشَارَةَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ (رُخْصَةٌ) لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُهُمْ، إلَّا أَنَّهُمْ عُذِرُوا دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ (فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ، وَإِذَا تَحَمَّلُوهُ يَقَعُ فَرْضًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهُمْ لَكَانَ مَا فَرَضْنَاهُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ حَرَجًا وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ فَلَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ) أَيْ بِالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ (الْجُمُعَةُ) إشَارَةً إلَى رَدِّ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ هَؤُلَاءِ تَصِحُّ إمَامَتُهُمْ، لَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ، فَلَأَنْ يَصْلُحُوا لِلِاقْتِدَاءِ أَوْلَى. (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً.
وَالظُّهْرُ كَالْبَدَلِ عَنْهَا، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ إلَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، وَعَلَى التَّمَكُّنِ يَدُورُ التَّكْلِيفُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا مَنْهِيٌّ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا صُورَةُ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ فَوَاتَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ عَنْ الصَّلَاةِ وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ (وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضُ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ.
وَالْمُكَلَّفُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُتَمَكِّنٌ بِنَفْسِهِ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْجُمُعَةِ تَكْلِيفًا بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ مَكْرُوهًا.
وَقَوْلُهُ (هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ) تَلْوِيحٌ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ الْجُمُعَةُ وَلَهُ إسْقَاطُهَا بِالظُّهْرِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. (فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا وَالْإِمَامُ فِيهَا بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ، وَقَالَ: لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ)؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ فَلَا يَنْقُصُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهَا فَيُنْقِصُهَا وَصَارَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ.
وَلَهُ أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا فِي حَقِّ ارْتِفَاعِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَعْيٍ إلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ بَدَا لَهُ) أَيْ بَدَا لِمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ وَالْإِمَامُ فِيهَا) فَإِمَّا أَنْ يُدْرِكَ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ لَا، فَإِنْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ اُنْتُقِضَ ظُهْرُهُ وَانْقَلَبَ نَفْلًا، وَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ (بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ، وَقَالَ: لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْقَوْمِ) وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ إشَارَةِ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْإِتْمَامَ مَعَ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِنَقْضِ الظُّهْرِ عِنْدَهُمَا بَلْ الدُّخُولُ كَافٍ، وَإِذَا كَانَ بِالدُّخُولِ يُنْتَقَضُ فَبِالْإِتْمَامِ أَوْلَى (لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ) إذْ هُوَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَالظُّهْرُ فَرْضٌ مَقْصُودٌ وَمَا هُوَ دُونَ الشَّيْءِ (لَا يَنْقُضُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهُ) لِأَنَّا أُمِرْنَا بِإِسْقَاطِهِ بِهَا فَجَازَ أَنْ تَنْقُضَهُ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ الظُّهْرَ فِي الْكِتَابِ بِتَأْوِيلِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّوَجُّهُ نَاقِصًا لِضَعْفِهِ كَانَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّعْيَ) وَهُوَ الْمَشْيُ لَا مُسْرِعًا (إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِهَا) لِكَوْنِهَا صَلَاةً مَخْصُوصَةً بِمَكَانٍ لَا تُمْكِنُ الْإِقَامَةُ إلَّا بِالسَّعْيِ إلَيْهَا فَكَانَ السَّعْيُ مَخْصُوصًا بِهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ أَدَاءَهَا صَحِيحٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَإِذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِهَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا بِجَامِعِ الِاخْتِصَاصِ فَيُؤَثِّرُ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا، إذْ الْأَقْوَى يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ مَا لَا يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِ الْأَضْعَفِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ السَّعْيَ الْمُوصِلَ إلَى الْجُمُعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَذَا السَّعْيُ لَيْسَ بِمُوصِلٍ.
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ فَلَا يَرْفُضُ الْقَوِيَّ.
سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الظُّهْرَ إنَّمَا يَبْطُلُ فِي ضِمْنِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ نَقْضَ الْعِبَادَةِ قَصْدُ إحْرَامٍ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُنْتَقَضْ.
سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَسْأَلَةِ الْقَارِنِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لَهَا، وَلَوْ سَعَى إلَى عَرَفَاتٍ لَا يَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ دَارَ مَعَ الْإِمْكَانِ لِكَوْنِ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْإِدْرَاكُ مُمْكِنٌ بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهَا صَارَ قَوِيًّا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ صَارَ الْإِبْطَالُ فِي ضِمْنِهِ كَالْإِبْطَالِ فِي ضِمْنِهَا، وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّهُ لَا نَقْضَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمَا: أَيْ الْعُمْرَةَ وَالْجُمُعَةَ سَوَاءٌ فِي الِارْتِفَاضِ فِيهِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا تُرْتَفَضُ الْعُمْرَةُ لِكَوْنِ السَّعْيِ فِيهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَضَعُفَ فِي نَفْسِهِ، وَالسَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ فَكَانَ فِي نَفْسِهِ قَوِيًّا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْقَوِيِّ إبْطَالُ الضَّعِيفِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا وَهُوَ وَاضِحٌ. (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَا أَهْلُ السِّجْنِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالْجُمُعَةِ إذْ هِيَ جَامِعَةٌ لِلْجَمَاعَاتِ، وَالْمَعْذُورُ قَدْ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ السَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ (وَلَوْ صَلَّى قَوْمٌ أَجْزَأَهُمْ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ إلَخْ) ظَاهِرٌ (وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى مَعَهُ مَا أَدْرَكَهُ) وَبَنَى عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» (وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ عِنْدَهُمَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ)؛ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّهِ، فَيُصَلِّي أَرْبَعًا اعْتِبَارًا لِلظُّهْرِ وَيَقْعُدُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْجُمُعَةِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَشْتَرِطَ نِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْآخَرِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَاكِعًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ مَا فَاتَكُمْ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» فَإِنَّ مَعْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَاَلَّذِي فَاتَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ هُوَ الْجُمُعَةُ فَيُصَلِّي الْمَأْمُومُ الْجُمُعَةَ (وَكَذَا إنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ) وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ (ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ) وَهُوَ الْجَمَاعَةُ فَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ ظُهْرًا يُصَلِّي أَرْبَعًا وَيَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ جُمُعَةً يُقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النُّفَايَةِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ إعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ لابد لَهُ مِنْ نِيَّةِ الْجُمُعَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى غَيْرَهَا لَمْ يُصْبِحْ اقْتِدَاؤُهُ، وَمُدْرِكُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْنِي إلَّا عَلَى الْجُمُعَةِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ إعْمَالِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَانِ فَكَيْفَ يُصْبِحُ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى.
وَعُورِضَ بِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَجْوِيزَ الْجُمُعَةِ مَعَ عَدَمِ شَرْطِهَا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُودَهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ جُعِلَ وُجُودًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ، وَالْقَوْلُ بِمَا يُوجَدُ بِحَالٍ أَوْلَى مِنْهُ بِمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اسْتَدَلَّ لَهُمَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ أَقْوَى فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُمَا إلَخْ؟ قُلْت: لَا تَنَافِي فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال لَهُمَا فَقَطْ بَلْ لَهُمْ جَمِيعًا، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ الثَّانِي لَهُمَا أَيْضًا لَا يُنَافِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى، وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا» وَهَذَا كَمَا تَرَى نَصَّ عَلَى مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَمَا وَجْهُ تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِمُحَمَّدٍ؟ قُلْت: ضَعَّفَهُ فَإِنَّهُ مَا رَوَاهُ إلَّا ضُعَفَاءُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَمَّا الثِّقَاتُ مِنْهُمْ كَعُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ فَقَدْ رَوَوْا عَنْهُ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَا دُونَهَا فَحُكْمُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فَأَخَذَا بِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا. (وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ وَإِذَا نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ وَلَا اسْتِمَاعَ هُنَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَمْتَدُّ طَبْعًا فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) يَعْنِي لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ (تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّ كَلَامٍ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ) قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكَلَامِ إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُبَاحًا وَلَا اسْتِمَاعَ فَلَا إخْلَالَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ فَتُفْضِي إلَى الْإِخْلَالِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا رَوَيَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ، وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ حَوَائِجِهِمْ وَعَنْ أَسْعَارِ السُّوقِ ثُمَّ صَلَّى» أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ يُبَاحُ فِي الْخُطْبَةِ أَيْضًا ثُمَّ نُهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْكَلَامِ فِيهِمَا. (وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ تَرَكَ النَّاسُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَتَوَجَّهُوا إلَى الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ) ذَكَرَ الْمُؤَذِّنِينَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إخْرَاجًا لِلْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَإِنَّ الْمُتَوَارَثَ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ اجْتِمَاعُ الْمُؤَذِّنِينَ لِتَبْلُغَ أَصْوَاتُهُمْ إلَى أَطْرَافِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ، وَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْأَذَانَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ يَفُوتُهُ أَدَاءُ السُّنَّةِ وَسَمَاعُ الْخُطْبَةِ، وَرُبَّمَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا مِنْ الْجَامِعِ، وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ لِلْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَكَرَاهَةِ الْبَيْعِ هُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ آنِفًا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ (وَإِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدِي الْمِنْبَرِ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا الْأَذَانُ، وَلِهَذَا قِيلَ: هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.