فصل: فصل: فيَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنَا مِنْك طَالِقٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ):

(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ.
وَلَوْ نَوَى بِهِ آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ) فَيَقَعَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْيَوْمِ وَفِي الثَّانِي فِي الْغَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الْيَوْمَ كَانَ تَنْجِيزًا وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، وَإِذَا قَالَ: غَدًا كَانَ إضَافَةً وَالْمُضَافُ لَا يَتَنَجَّزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْإِضَافَةِ فَلَغَا اللَّفْظُ الثَّانِي فِي الْفَصْلَيْنِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ ذَكَرَ هَاهُنَا فُصُولًا مُتَرَادِفَةً بِحَسَبِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ وَتَنْوِيعِهِ، وَتَشْبِيهُهُ إضَافَةَ الطَّلَاقِ تَأْخِيرَ حُكْمِهِ عَنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ إلَى زَمَانٍ يُذْكَرُ بَعْدَهُ بِغَيْرِ كَلِمَةِ شَرْطٍ (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ وَهُوَ) أَيْ الْعُمُومُ (يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ) فَكَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ وَنِيَّةُ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً (لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ) لِأَنَّ الْغَدَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْعَامُّ مَا يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَّفِقَةَ الْحُدُودِ وَلَفْظُ الْغَدِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْوَسَطِ وَالْآخِرِ فَهُوَ مِنْ أَجْزَائِهِ لَا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ نِيَّةُ آخِرِ النَّهَارِ تَخْصِيصًا فَلَا عُمُومَ وَلَا تَخْصِيصَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْكُلِّ وَإِرَادَةَ الْجُزْءِ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا) ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجْعَلُ غَدًا ظَرْفًا لِطَلَاقٍ آخَرَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ صَوْنَ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ نَوْعُ ضَرُورَةٍ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ وَصْفُهَا بِالطَّلَاقِ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ يُحَصِّلُ هَذَا الْمَقْصُودَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا، وَعَلَى هَذَا كَانَ كَلَامُهُ مَصُونًا عَنْ الْإِلْغَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَتِمُّ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا الْيَوْمَ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ غَدًا وَالْمَوْصُوفُ بِهِ غَدًا لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِهِ الْيَوْمَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ إيقَاعَ الثَّانِيَةِ فِيهَا يُفْضِي إلَى الْمَكْرُوهِ وَهِيَ إيقَاعُ الطَّلْقَتَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَسْعَى لِإِثْبَاتِهَا فَيَكُونُ الثَّانِي لَغْوًا. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ وَقَالَ نَوَيْت آخِرَ النَّهَارِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ-فِي- جَمِيعِ الْغَدِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَدًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَذْفَ فِي وَإِثْبَاتَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ فِي الْحَالَيْنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ وَالظَّرْفِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَتَعَيَّنَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، فَإِذَا عَيَّنَ آخِرَ النَّهَارِ كَانَ التَّعْيِينُ الْقَصْدِيُّ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الضَّرُورِيِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ غَدًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ حَيْثُ وَصَفَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُضَافًا إلَى جَمِيعِ الْغَدِ.
نَظِيرُهُ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ عُمْرِي، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ فِي عُمْرِي، وَعَلَى هَذَيْنِ الدَّهْرَ وَفِي الدَّهْرِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ وَقَدْ عَلِمْت مَا فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ) قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمَا مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ خِلَافَ الظَّاهِرِ إنَّمَا لَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ مُصَادِفَةً لِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ، وَهُنَا صَادَفَتْهَا فَيُدَيَّنُ قَضَاءً وَدِيَانَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَنَوَى جَمِيعَ النِّسَاءِ صُدِّقَ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ لِمُصَادَفَةِ نِيَّتِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ كَالْمَجَازِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ فِي غَدٍ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، وَغَدٌ يَقْتَضِيهِ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} فَإِنَّهُ لَا اسْتِيعَابَ فِيمَا فِيهِ الْحَرْفُ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِيمَا لَا حَرْفَ فِيهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ نُصْرَةَ الرُّسُلِ وَالْمُرْسَلَ وَالْمُرْسَلَ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مَقْرُونَةً بِحَرْفِ- فِي- وَذَكَرَ نُصْرَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ إيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ، وَأَمَّا نُصْرَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَكَانَتْ تَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهَا دَارُ الِابْتِلَاءِ، وَكُلُّ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَجَازٌ فِي الْآخَرِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَيَكُونُ نِيَّةُ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ مِنْ بَابِ بَيَانِ التَّقْرِيرِ وَهُوَ تَوْكِيدُ الْكَلَامِ بِمَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ فَكَانَ مِنْ الْجَائِزِ قَبْلَ بَيَانِ نِيَّتِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ فِي غَدٍ مَجَازَهُ وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ فَإِذَا بَيَّنَهَا قَطَعَ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ فَيَلْغُوَ، كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ) لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا أَيْضًا فَكَانَ إنْشَاءً، وَالْإِنْشَاءُ فِي الْمَاضِي إنْشَاءٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعَ السَّاعَةَ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قِبَلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: طَلَّقْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ، أَوْ يُصَحَّحُ إخْبَارًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ) أَيْ مَعْلُومَةٍ (مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ) لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَضَافَ إلَيْهِ الطَّلَاقَ (فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ) أَوْ تُخْلَقِي (وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ) فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا كُنْت أَمْسِ فِي قَيْدِ نِكَاحِي، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ صِيرَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لَهُ دُونَ الْإِنْشَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الطَّالِقَ مَنْ اتَّصَفَتْ بِوُقُوعِ طَلَاقِهَا بِتَطْلِيقِ الزَّوْجِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ إنْ كَانَ هَذَا الزَّوْجَ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي قَيْدِ نِكَاحِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ (أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ) فَيَكُونُ تَكْرَارًا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ لُغَةً، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إمْكَانَ الْمَصِيرِ إلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَفْهُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ لِمَنْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ إمَّا لَغْوًا لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَقْتَ الطَّلَاقِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ مَجَازًا فَإِنَّ رَفْعَ النِّكَاحِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ، وَإِمْكَانُ الْمَصِيرِ إلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ إنَّمَا لَا يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى اللَّغْوِ، فَأَمَّا إذَا أَفْضَى إلَيْهِ مَنَعَهُ صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ) يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ جُعِلَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ جُعِلَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلُ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ لِأَنَّ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ) وَهُوَ وَاضِحٌ (وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا أَيْضًا) وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاضِحٌ أَيْضًا.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُطَلَّقَةٍ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ إلَّا إذَا جُعِلَ نِكَاحُ هَذَا الزَّوْجِ رَافِعًا لِتِلْكَ النِّسْبَةِ وَفِيهِ مَا فِيهِ وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك) وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحٌ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ طَلُقَتْ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ التَّطْلِيقِ وَقَدْ وُجِدَ حَيْثُ سَكَتَ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى وَمَتَى مَا صَرِيحٌ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ ظُرُوفِ الزَّمَانِ، وَكَذَا كَلِمَةُ مَا,قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا دُمْت حَيًّا} أَيْ وَقْتَ الْحَيَاةِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ) لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَيَاةِ وَهُوَ الشَّرْطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ، وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ) يَعْنِي كَمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْإِتْيَانِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمَوْتِ فَقَدْ وَقَعَ الْيَأْسُ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ وَالْمِلْكُ بَاقٍ فَوَقَعَ فَكَذَلِكَ هُنَا (وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ) يَعْنِي يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا قُبَيْلَ مَوْتِهِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا مَا لَمْ تَمُتْ، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا، فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَوَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مِنْ حُكْمِهِ الْوُقُوعُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ إيقَاعِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْقُبُهُ الْوُقُوعُ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِك فَيَقَعُ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ، وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ حَيْثُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا فِيهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ يَقَعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْوُقُوعِ وَهُوَ عَدَمُ التَّطْلِيقِ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ التَّطْلِيقُ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَتَطْلُقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ بِمَوْتِهَا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك، أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَطْلُقُ حِينَ سَكَتَ) لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وَقَالَ قَائِلُهُمْ: وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَمَتَى مَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى شِئْت.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ أَيْضًا، قَالَ قَائِلُهُمْ: وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَقْتُ تَطْلُقُ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ، أَمَّا إذَا نَوَى الْوَقْتَ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَلَوْ نَوَى الشَّرْطَ يَقَعُ فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ) أَقُولُ: إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك.
فَإِمَّا إنْ نَوَى شَيْئًا أَوْ لَمْ يَنْوِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ نَوَى الْوَقْتَ وَقَعَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ نَوَى الشَّرْطَ وَقَعَ فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُمَا وَنِيَّةُ الْمُحْتَمَلِ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَا: طَلُقَتْ حِينَ سَكَتَ الزَّوْجُ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا مَوْضُوعَةٌ لِلْوَقْتِ وَتُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ سُقُوطِ الْوَقْتِ كَمَتَى وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} لِإِفَادَةِ الْوَقْتِ الْخَالِصِ فِي أَمْرٍ مُتَرَقَّبٍ: أَيْ مُنْتَظَرٍ لَا مَحَالَةَ، وَبِقَوْلِهِ: وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ لِإِفَادَتِهِ فِي أَمْرٍ كَائِنٍ فِي الْحَالِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَتَى وَمَتَى مَا إلَى عَدَمِ سُقُوطِ مَعْنَى الْوَقْتِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ شَرْطًا.
وَاسْتَوْضَحَ كَوْنَهُ بِمَعْنَى مَتَى بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ) كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى شِئْت، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى إنْ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي إنْ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الظَّرْفِ وَالشَّرْطِ تُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي نَصِيحَةِ ابْنِهِ: وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إصَابَةَ الْخَصَاصَةِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ إذَا فَكَانَتْ بِمَعْنَى إنْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَانِبِ الظَّرْفِيَّةِ اكْتِفَاءً بِدَلِيلِهَا. وَإِذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِمَا دَفْعَةً (فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَقْتُ طَلُقَتْ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ صَارَ بِيَدِهَا بِقَوْلِهِ إذَا شِئْت فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا لِلْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِلضِّدَّيْنِ.
وَالْجَوَابُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِهِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْمُضَافُ فَيَقَعَانِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ زَمَانُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الْبِرِّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى، أَصْلُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَاشْتَغَلَ بِالنَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَخَوَاتُهُ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ) وَاضِحٌ وَأَوَّلَهُ بِقَوْلِهِ (مَوْصُولًا) لِأَنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا وَقَعَتَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ وَاجِدٌ الزَّمَانَ الْخَالِيَ عَنْ التَّطْلِيقِ.
وَقَوْلُهُ (وَأَخَوَاتُهُ) يُرِيدُ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ وَلَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ وَنَزَلَ عَنْهَا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ اللُّبْسُ الْقَلِيلُ وَالرُّكُوبُ الْقَلِيلُ يُوجَدَانِ وَقْتَ الِاشْتِغَالِ بِالنَّزْعِ وَالنُّزُولِ. (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ) لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمِعْيَارُ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِهِ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَيَنْتَظِمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيْلُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا السَّوَادَ وَالنَّهَارُ يَتَنَاوَلُ الْبَيَاضَ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ اللُّغَةُ.

الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: النَّهَارُ وَاللَّيْلُ وَالْيَوْمُ، أَمَّا النَّهَارُ فَلِلْبَيَاضِ خَاصَّةً، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَلِلسَّوَادِ خَاصَّةً وَذَلِكَ حَقِيقَتُهُمَا اللُّغَوِيَّةُ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ بِالِاشْتِرَاكِ عِنْدَ بَعْضٍ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ مَجَازٌ لِأَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ لِعَدَمِ اخْتِلَالِ الْفَهْمِ بِوُجُودِ الْقَرِينَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ الظَّرْفِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِمَا قُرِنَ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا وَهُوَ مَا يَصِحُّ فِيهِ ضَرْبُ الْمُدَّةِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْمُسَاكَنَةِ وَغَيْرِهَا لِصِحَّةِ أَنْ يُقَالَ لَبِسْت يَوْمًا أَوْ رَكِبْت يَوْمًا أَوْ سَكَنْت يَوْمًا يُحْمَلُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمِعْيَارُ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ كَالْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ وَالْقُدُومِ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَقْدِيرِهَا بِزَمَانٍ، إذْ لَا يُقَالُ خَرَجْت أَوْ قَدِمْت أَوْ دَخَلْت يَوْمًا يُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ اعْتِبَارًا لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}، الْآيَةَ وَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْفَارَّ مِنْ الزَّحْفِ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا.
وَقَوْلُهُ.
(وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَيْسَ يَمْتَدُّ فَيَنْتَظِمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْمَظْرُوفُ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لِتَمَيُّزِ الْمُضَافِ بَيْنَ سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ عَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ وَأَمْرُك بِيَدِك أَوْ اخْتَارِي يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ يَعْتِقُ عَبْدُهُ وَتَطْلُقُ امْرَأَتُهُ بِقُدُومِهِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا لِعُمُومِ الْمَجَازِ، وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ وَالِاخْتِيَارُ بِيَدِهَا بِقُدُومِهِ لَيْلًا مَعَ اتِّحَادِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِيهِمَا لِامْتِدَادِ الْمَظْرُوفِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَفِي اعْتِبَارِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْجَوَابُ بِالنَّظَرِ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَظْرُوفُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ كِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَمْتَدُّ كَقَوْلِهِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ كُلَّهُمْ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ فِيهِ كَمَسْأَلَةِ الِاخْتِيَارِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ إلَّا الْمَظْرُوفَ.
فَإِنْ قِيلَ: اعْتَبَرَ الْمُصَنِّفُ الْمُضَافَ إلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ لِاسْتِقَامَةِ الْجَوَابِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً دُيِّنَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ صِحَّةِ نِيَّةِ الْحَقِيقَةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهَا عَنْهَا.

.فصل: فيَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنَا مِنْك طَالِقٌ:

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى) لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى مَلَكَتْ هِيَ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا يَمْلِكُ هُوَ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَكَذَا الْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالطَّلَاقُ وُضِعَ لِإِزَالَتِهِمَا فَيَصِحَّ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَا صَحَّ مُضَافًا كَمَا فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ.
وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ وَهُوَ فِيهَا دُونَ الزَّوْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا هِيَ الْمَمْنُوعَةُ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ وَلَوْ كَانَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجَ مَالِكٌ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَنْكُوحَةً بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّتْ إضَافَتُهُمَا إلَيْهِمَا وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا إلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا كَانَتْ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى النِّسَاءِ مُخَالِفَةً لِإِضَافَتِهِ إلَى الرِّجَالِ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَذَكَرَ فِيهِ مَسَائِلَ أُخَرَ مُتَنَوِّعَةً وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي مَسَائِلَ شَتَّى (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَ أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ عَلَيْك حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ طَلُقَتْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى) لِأَنَّ الطَّلَاقَ وُضِعَ لِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ الْمُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ وَلِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ مُتَنَاكِحَيْنِ وَيَذْكُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ (وَالطَّلَاقُ وُضِعَ لِرَفْعِ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ) وَكُلُّ مَا وُضِعَ لِذَلِكَ صَحَّ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَا فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ.
وَقُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ وُضِعَ لِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ الْمُشْتَرَكَيْنِ بَلْ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ وَهُوَ فِيهَا دُونَ الزَّوْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا الْمَمْنُوعَةُ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْبُرُوزِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ لَكِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجُ مَالِكٌ، وَهَذَا لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِالنِّكَاحِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ النِّكَاحِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ (سُمِّيَتْ مَنْكُوحَةً) أَيْ وَارِدًا عَلَيْهَا مِلْكُ النِّكَاحِ (بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ، وَبِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ فَصَحَّ إضَافَتُهُمَا إلَى الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا إلَيْهَا) قِيلَ لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِبَانَةِ وَالْحِلِّ مُشْتَرَكَيْنِ لَاتَّحَدَا فِي حَقِّ إضَافَةِ الْإِبَانَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَيْهِمَا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ أَنَا بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ مَا لَمْ يَقُلْ مِنْك أَوْ عَلَيْك.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يَنْشَأْ مِنْ عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ بَلْ مِنْ حَيْثُ تَعَدُّدُ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ مِنْ جِهَتِهِ دُونَهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا مِلْكٌ غَيْرُهُ وَلَا تَحِلُّ عَلَى غَيْرِهِ مَا دَامَتْ فِي عِصْمَتِهِ فَكَانَتْ الْجِهَةُ مُتَعَيِّنَةً فَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَهُ مِلْكٌ عَلَى غَيْرِهَا وَيَحِلُّ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مِنْك أَوْ عَلَيْك تَعْيِينًا لِلْجِهَةِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ).
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلَ الْكُلِّ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْوَاحِدَةِ لِدُخُولِ كَلِمَةِ أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفْيِ فَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْوَاحِدَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ لَلَغَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَنْعُوتُ الْمَحْذُوفُ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ مَا كَانَ الْعَدَدُ نَعْتًا لَهُ كَانَ الشَّكُّ دَاخِلًا فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ) يَعْنِي بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ فِي حَقِّ التَّشْكِيكِ فِي الْإِيقَاعِ أَوْ فِي حَقِّ الْوَضْعِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (قَوْلَ الْكُلِّ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي وَضْعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَكَانَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي طَلَاقِ الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ عِنْدَهُ تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُرُودَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَقَوْلَةُ (لَهُ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ (أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الْوَصْفَ) يَعْنِي: أَنْتِ طَالِقٌ (مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا (كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ) وَأَطْلَقَ الْعَدَدَ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَصْلُ الْعَدَدِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فِي الْإِيقَاعِ، فَحِينَئِذٍ كَانَ الشَّكُّ الدَّاخِلُ فِي الْوَاحِدَةِ دَاخِلًا فِي الْإِيقَاعِ فَكَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا، وَهُنَاكَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى) وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا مَرَّ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّ مَوْتَهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَمَوْتَهَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا. (وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا أَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ) لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ.
أَمَّا مِلْكُهَا إيَّاهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة، وَأَمَّا مِلْكُهُ إيَّاهَا فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيَنْتَفِيَ النِّكَاحُ (وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي لَا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَا إذَا مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُنَافَاةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ.
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ هُنَاكَ حَتَّى حَلَّ وَطْؤُهَا لَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة) قَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مُسْتَوْفًى، وَقَوْلُهُ (فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ) بَيَانُهُ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى الْحُرَّةِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحِلُّ الْقَوِيُّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ يَنْفِي الْحِلَّ الضَّرُورِيَّ لِضَعْفِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا مَلَكَ الزَّوْجُ جَمِيعَ مَنْكُوحَتِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
فَأَمَّا إذَا مَلَكَ شِقْصًا مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْتَفِيَ الْحِلُّ الثَّابِتُ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ لَا حِلٌّ قَوِيٌّ وَلَا ضَعِيفٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ دَلِيلُ الْحِلِّ فَقَامَ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا (وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي لَا مِنْ وَجْهٍ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ فَلَا يَجِبُ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي وَإِلَّا لَكَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ بَاقِيًا مِنْ وَجْهٍ (وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ مِلْكُ النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ لَا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَلَا بَقَاءَ.
وَقِيلَ لَا مِنْ وَجْهٍ: يَعْنِي إذَا مَلَكَ الشِّقْصَ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: يَعْنِي إذَا مَلَكَ الْجَمِيعَ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مَعَ الْمُنَافِي.
وَقَوْلُهُ (لَا عِدَّةَ هُنَاكَ) يَعْنِي فِي حَقِّ مَوْلَاهَا الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا: أَيْ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ عِدَّتِهَا بِدَلِيلِ حِلِّ وَطْئِهَا.
وَأَمَّا الْعِدَّةُ فِي نَفْسِهَا فَوَاجِبَةٌ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا (وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا مَلَكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَلِلْحُكْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْمَذْكُورُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِهِ التَّطْلِيقُ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَصِيرُ التَّصَرُّفُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا، وَإِذَا كَانَ التَّطْلِيقُ مُعَلَّقًا بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ يُوجَدُ بَعْدَهُ ثُمَّ الطَّلَاقُ يُوجَدُ بَعْدَ التَّطْلِيقِ فَيَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِتْقِ فَيُصَادِفَهَا وَهِيَ حُرَّةً فَلَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً بِالثِّنْتَيْنِ.
بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ.
قُلْنَا: قَدْ تُذْكَرُ لِلتَّأَخُّرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا, إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَتُحْمَلَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا قَالَ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكِ فَأَعْتَقَهَا مَلَكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ) وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ أَدَاتِهِ وَأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ الْمَذْكُورِ دُونَ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ.
أَمَّا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ فَلِمَا بَيَّنَّهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَلِلْحُكْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْمَذْكُورُ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمَوْلَى أَمْرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الطَّلَاقُ تَعَلَّقَ بِهِ فَكَانَ الْعِتْقُ شَرْطًا وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ مَشْرُوطًا.
وَأَمَّا أَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ فَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْءِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ التَّطْلِيقُ دُونَ الطَّلَاقِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَالْمُعَلَّقُ بِهِ التَّطْلِيقُ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَصِيرُ التَّصَرُّفُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا يَمْنَعُ عِلِّيَّةَ الْعِلَّةِ إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ فَلِمَا قَالَ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا: أَيْ يَتَنَاوَلُهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ.
أَمَّا الْإِعْتَاقُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ إلَّا بِالْإِعْتَاقِ كَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحُكْمِ وَإِرَادَةِ عِلَّتِهِ.
وَأَمَّا الْعِتْقُ فَعَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ، وَإِذَا كَانَ التَّطْلِيقُ مُعَلَّقًا بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ يُوجَدُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ، ثُمَّ الطَّلَاقُ يُوجَدُ بَعْدَ التَّطْلِيقِ بَعْدِيَّةً ذَاتِيَّةً لِكَوْنِهِ حُكْمَهُ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِتْقِ فَيُصَادِفُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَمْ تَحْرُمْ بِالثِّنْتَيْنِ حُرْمَةً غَلِيظَةً.
بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَيَكُونُ مُنَافِيًا لِمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْنَا قَدْ تُذْكَرُ لِلتَّأَخُّرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ فَمَا وَجْهُ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّرْدِيدِ؟.
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُ مَنْ قِيلَ لَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِك لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ نَكَحْتُك لَكِنْ لَا يَقَعُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ وَجْهَهُ النَّظَرُ إلَى لَفْظَةِ الْعِتْقِ لِيَتَبَيَّنَ أَثَرُهُ فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ عِتْقِك فِي عَدَمِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ مَعْنَى الْقِرَانِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ (مَعَ) إنَّمَا كَانَ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ كَلَامِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي ذَلِكَ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا مُطْلَقًا.
وَفِيمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ وَلَا التَّعْلِيقَ إلَّا بِالنِّكَاحِ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ كَلَامِ الْقَادِرِ مُطْلَقًا صِيَانَةُ كَلَامِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. (وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ الْمَوْلَى: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) عَلَيْهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْمُعَلَّقُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ فَيَكُونَ التَّطْلِيقُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا تُقَدَّرُ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَكَذَا الطَّلَاقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَةَ حُرْمَةً غَلِيظَةً، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى فَيَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَبِخِلَافِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَكَذَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَلَا وَجْهَ إلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ التَّطْلِيقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَيَقْتَرِنَانِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ الْمَوْلَى إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ) حُرِّمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً (لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ دَلِيلَ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ بِالْعِنَايَةِ، وَأَنَا أَذْكُرُهُ بِتَوْضِيحٍ تَبَعًا لِلْمُصَنِّفِ.
قَالَ (لِأَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى) مَعْنًى يَعْنِي عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ (حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى) فَكَانَا مُقْتَرِنَيْنِ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ وَهُوَ مَجِيءُ الْغَدِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ فَكَانَا مُقْتَرِنَيْنِ فِي السَّبَبِيَّةِ لِحُكْمِهِمَا أَيْضًا (وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ) وَالْحُكْمُ لَا يَتَأَخَّرُ زَمَانًا عَنْ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ شَرْعِيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً (أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ) كَمَا عُرِفَ (فَيَكُونُ التَّطْلِيقُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ) لِأَنَّ التَّطْلِيقَ مُقَارِنٌ لِلْإِعْتَاقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالْإِعْتَاقَ مُقَارِنٌ لِلْعِتْقِ وَالطَّلَاقَ يُقَارِنُ الْعِتْقَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عِلَّتُهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا فَالتَّطْلِيقُ يُقَارِنُ الْعِتْقَ، وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ) فَاسِدٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمُ التَّطْلِيقِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَالتَّطْلِيقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ وَالْإِعْتَاقُ يُقَارِنُ الْعِتْقَ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ الْعِتْقَ، فَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمُقَارِنِ لِلشَّيْءِ مُقَارِنٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَيْفَ يَقَعُ بَعْدَهُ.
فَإِذَا كَانَ الْعِلَّتَانِ وَالْمَعْلُولَانِ مَعًا، فَكَمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَهَ حُرْمَةً غَلِيظَةً، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ لِمُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْجَزُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَهُمَا: أَيْ الْإِعْتَاقُ وَالتَّطْلِيقُ يُوجَدَانِ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَيَتَقَدَّمُ أَوْجَزُهُمَا فِي الْوُجُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ حُرَّةٌ فَيُصَادِفُهَا التَّطْلِيقَتَانِ وَهِيَ حُرَّةٌ فَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ عَلَيْهَا وَهَذَا قَرِيبٌ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فَيَتَقَدَّمُ أَوْجَزُهُمَا.

.فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ:

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ) لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا} الْحَدِيثَ، وَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَشَارَ بِثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا، وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا، وَقِيلَ: إذَا أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَبِالْمَضْمُومَةِ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ تَقَعُ الْإِشَارَةُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا فَلَوْ نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْمَضْمُومَتَيْنِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ حَتَّى يَقَعَ فِي الْأُولَى ثِنْتَانِ دِيَانَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ) ذَكَرَ وَصْفَ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذِكْرِ أَصْلِهِ وَتَنْوِيعِهِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِكَوْنِهِ تَابِعًا (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا قُرِنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ}: يَعْنِي أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَمَعْنَى خَنَّسَ قَبَضَ (فَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَشَارَ بِثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثِنْتَانِ) وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ الْجُهَّالِ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ بِالسَّبَّابَةِ بِأَنَّهُ اسْمٌ جَاهِلِيٌّ وَالِاسْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُسَبِّحَةُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ السَّبَّابَةُ، رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ {أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ الطَّهُورُ؟ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ أُذُنَيْهِ فَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ وَبِالسِّبَابَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ} رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا) ظَاهِرٌ. (وَإِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِضَرْبٍ مِنْ الشِّدَّةِ أَوْ الزِّيَادَةِ كَانَ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ رَجْعِيًّا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعْقِبًا لِلرَّجْعَةِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْبَيْنُونَةِ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك.
وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَبَعْدَ الْعِدَّةِ تَحْصُلُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ، وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ مَمْنُوعَةٌ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ.
أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ عَنَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَالِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ (أَوْ أَسْوَأَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إذَا قَالَ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ أَوْ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ) لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ السُّنِّيُّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: الْبِدْعَةَ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ بَائِنًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ (وَكَذَا إذَا قَالَ: كَالْجَبَلِ) لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ تَشْبِيهًا بِهِ فِي تَوَحُّدِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ) أَيْ وَصَفَ الطَّلَاقَ (بِمَا يَحْتَمِلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الْعِدَّةِ تَحْصُلُ بِهِ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ (فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ).
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَمِلًا لَهَا لَجَازَ نِيَّتُهَا فَيَقَعُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً إذَا نَوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُغَيِّرَةً لِلْمَشْرُوعِ، وَنِيَّةُ الْبَائِنِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تُغَيِّرُ الْمَشْرُوعَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعَقِّبًا لِلرَّجْعَةِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ لِدَلِيلِ الْخَصْمِ وَمُحْوِجٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ النِّيَّةِ مُغَيِّرَةً وَجَوَازِ كَوْنِ الْوَصْفِ مُغَيِّرًا لِلْمَشْرُوعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ الْمَلْفُوظَ أَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنْ النِّيَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ تَطْلِيقٌ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ طَلَاقًا وَغَيَّرَ بِهِ مَشْرُوعًا وَهُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْكَذِبِ، وَلَوْ نَوَى طَلَاقًا وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِلَفْظٍ لَمْ يُعْتَبَرْ طَلَاقًا لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ الْمَشْرُوعُ وَهُوَ شَرْعِيَّةُ الْوُقُوعِ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ مَمْنُوعَةٌ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَائِنًا بَلْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَئِنْ سُلِّمَ فَالْفَرْقُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَنْ لَا رَجْعَةَ تَصْرِيحًا بِنَفْيِ الْمَشْرُوعِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا وَصَفَهُ بِالْبَيْنُونَةِ وَلَمْ يَنْفِ الرَّجْعَةَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُ مِنْهَا نَفْيُ الرَّجْعَةِ ضِمْنًا، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا، كَذَا أَفَادَهُ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ.
وَقَوْلُهُ (فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) يَعْنِي فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ (إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ، أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا.
وَقَوْلُهُ (تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ) يَعْنِي عِنْدَنَا.
وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَطْلِيقَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ) يَعْنِي قَوْلَهُ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ بِأَنْ كَانَ يَقُولُ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ أَلْبَتَّةَ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَكَذَا إذَا نَوَى بِبَتِّهِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى وَيَكُونُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ فَكَانَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ بَائِنٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَجْعِيًّا عَمَلًا بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنَّا جَعَلْنَاهُ بَائِنًا لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ بَائِنًا لَا مَحَالَةَ عِنْدَنَا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ ضَرُورَةً إذْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا إذَا صَارَ الثَّانِي بَائِنًا، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يَقَعُ رَجْعِيًّا ابْتِدَاءً فَيَنْقَلِبُ بَائِنًا بِوُقُوعِ الثَّانِي بَائِنًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ بَقَائِهِ رَجْعِيًّا.
وَهَذَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يَقَعُ رَجْعِيًّا.
فَإِنْ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ بَقَاءَهُ رَجْعِيًّا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فِي الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ.
وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً أُخْرَى يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ: وَكَذَا الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَشَدَّهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَسْوَأَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَالِ لَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَحْسُوسٍ.
وَمَا هُوَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفْحَشُ وَأَشَدُّ وَنَحْوُهُمَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَيَقْتَضِي فَاحِشًا وَأَفْحَشَ، وَالْفَاحِشُ هُوَ الْبَائِنُ.
وَالْأَفْحَشُ مِنْهُ هُوَ الثَّلَاثُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ بِهِ وَنَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَكُونُ لِإِثْبَاتِ أَصْلِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ كَقَوْلِهِ: النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ وَهُوَ مَشْهُورٌ سُمِّيَ لِلْإِضَافَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، وَذَكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَقْوَالُهُمْ وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ كَأَلْفٍ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالشِّدَّةِ وَهُوَ الْبَائِنُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَالِارْتِفَاضَ، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَيَحْتَمِلُهُ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِذِكْرِهِ الْمَصْدَرَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ فِي الْقُوَّةِ تَارَةً وَفِي الْعَدَدِ أُخْرَى، يُقَالُ هُوَ كَأَلْفِ رَجُلٍ وَيُرَادُ بِهِ الْقُوَّةُ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدَ فِقْدَانِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعِظَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ يَمْلَؤُهُ لِكَثْرَتِهِ، فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَقَلُّ.
ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ يَقَعُ بَائِنًا: أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ وَصْفٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ يَكُونُ بَائِنًا وَإِلَّا فَلَا أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ.
أَمَّا ذِكْرُ الْعِظَمِ فَلِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ.
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ يَقَعُ بَائِنًا وَإِلَّا فَهُوَ رَجْعِيٌّ.
وَقِيلَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ.
وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ مِثْلُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِثْلُ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ وَمِثْلُ الْجَبَلِ مِثْلُ عِظَمِ الْجَبَلِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ) يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ مِثْلُ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَوْلُهُ (مِثْلَ الْجَبَلِ) يَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَوْلُهُ (مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ) يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِوُجُودِ التَّشْبِيهِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِذِكْرِ الْعِظَمِ، وَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَلِكَوْنِ الْجَبَلِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَائِنُ، وَمَا يَصْعُبُ تَدَارُكُهُ يُقَالُ: لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيَّةً لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَلْغُو، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ.