فصل: فَصْلٌ: فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ: فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ:

(وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى): فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
هُمَا يَقُولَانِ: إنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ.
وَلَنَا أَنَّهُ نَذَرَ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ.
(وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) يَعْنِي.
إذَا أَفْطَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ.
كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ نَذْرًا، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا.
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا بِإِيجَابِ اللَّهِ (وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ، أَفْطَرَ وَقَضَى) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ (لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» الْحَدِيثَ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» (وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ) لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ كَفًّا لِلنَّفْسِ الَّتِي هِيَ عَدُوُّ اللَّهِ عَنْ شَهَوَاتِهَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَ يَوْمٍ وَيَوْمٍ، فَكَانَ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ حَسَنًا مَشْرُوعًا، وَالنَّذْرُ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ جَائِزٌ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ النَّهْيِ فَإِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِهِ الْمُجَاوِرِ (وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ لَا يُمْنَعُ صِحَّتُهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْإِمْسَاكُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ أَلْبَتَّةَ، وَتَرْكُ الْإِجَابَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبِيحٌ فَمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ حَمِيَّةً أَوْ لِضَعْفٍ أَوْ لِعَدَمِ مَا يَأْكُلُهُ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْإِجَابَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِمْسَاكُ عِبَادَةٌ تَسْتَلْزِمُهُ.
قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْوَجْهِ وَالِاعْتِبَارِ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ فَلَنَا أَنْ نَقُولَ هَذَا الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ قَبِيحٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَهْرٌ لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ حَسَنٌ، (فَيَصِحُّ النَّذْرُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجْ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ) فَإِنَّ مَا وَجَبَ نَاقِصًا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَدَّى نَاقِصًا.
فَإِنْ قُلْت: سَمَّى الْمُصَنِّفُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقُبْحِ مُجَاوِرًا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاطِبَةً، فَإِنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِالْمُتَّصِلِ وَصْفًا، وَأَمَّا الْمُجَاوِرُ جَمْعًا فَمِثْلُ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ.
قُلْت: سُؤَالٌ حَسَنٌ.
وَالتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ جَوَابِهِ مُشْكِلٌ، وَتَقْرِيرُنَا كَافِلٌ كَافٍ لِتَقْرِيرِهِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ فَإِنَّهُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ.
قَالَ (وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ، وَالْجَمِيعُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، فَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَهِيَ: مَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا، يَكُونَ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْوَاحِدِ يَكُونُ يَمِينًا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا إذَا نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا، وَفِي الِاثْنَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَهُمَا أَوْ نَوَى الْيَمِينَ لَا غَيْرُ يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَوَّلِ نَذْرٌ وَفِي الْيَمِينِ يَمِينٌ، ثُمَّ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ظَاهِرَةٌ، وَكَفَى بِعَدَمِ الْمُنَازِعِ دَلِيلًا، وَأَمَّا وَجْهُ الْبَاقِينَ فَلِأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ (حَقِيقَةٌ) لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى النِّيَّةِ (وَالْيَمِينَ مَجَازٌ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهَا، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَنْتَظِمُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ.
فَإِذَا نَوَاهُمَا وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا، وَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ تَعَيَّنَ الْمَجَازُ بِنِيَّتِهِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ) يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ وَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ الْوُجُوبِ أَيْضًا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، نَشَأَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ النَّذْرِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إذَا تَرَكَهُ، وَالْأُخْرَى مِنْ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْهَتْكِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بَلْ الْكَفَّارَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْشَأَيْنِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ أَمْكَنَ، وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلِلنَّاسِ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنْوَاعٌ مِنْ التَّوْجِيهَاتِ، فَمَنْ تَشَوَّفَ إلَيْهَا طَالَعَ التَّقْرِيرَ. (وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا) لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَكِنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَعْرَى عَنْهَا لَكِنْ يَقْضِيهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَوْصُولَةً تَحْقِيقًا لِلتَّتَابُعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَتَأَتَّى فِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ وَالْعُذْرَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ الْكَمَالُ، وَالْمُؤَدَّى نَاقِصٌ لِمَكَانٍ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمُلْتَزَمِ.
قَالَ (وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا) وَقَدْ سَبَقَتْ وُجُوهُهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ عَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: هَذِهِ السَّنَةَ، أَوْ أَطْلَقَهَا بِأَنْ قَالَ: سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ صَوْمُ السَّنَةِ إلَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ وَقَضَاهَا (لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ) وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ لِأَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَجِبْ بِهَذَا النَّذْرِ، وَلَوْ صَامَ الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ جَازَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّتَابُعَ أَوْ لَا، فَإِنْ شَرَطَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا خَمْسَةً لِلْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا لِرَمَضَانَ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَمَبْنَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ أَنَّ مَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا، وَمَا وَجَبَ نَاقِصًا جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى نَاقِصًا. (وَمَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ) لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَصَارَ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ يُسَمَّى صَائِمًا حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّوْمِ فَيَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِنَفْسِ النَّذْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ، وَلَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ) يَعْنِي عَنْهُمَا بَيْنَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّ فِي النَّذْرِ يَلْزَمُ الْقَضَاءُ وَفِي الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ، وَفِي الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ إذَا أَفْسَدَهَا.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ أَنَّ الشُّرُوعَ إحْدَاثُ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الصِّيَانَةِ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَإِنَّمَا هُوَ إيجَابٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ وَجَازَ لِلْعَقْلِ أَنْ يُجَرِّدَ الْأَصْلَ عَنْ الْوَصْفِ فَلَمْ يَكُنْ مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّمَا صَارَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ، لِأَنَّ مَا شُرِعَ فِيهِ لَا يَكُونُ صَلَاةً حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَكُنْ الشُّرُوعُ فِي الِابْتِدَاءِ إحْدَاثًا لِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْخَارِجِ فَكَانَ كَالنَّذْرِ فِي الِانْفِصَالِ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ وَالْقَضَاءُ بِتَرْكِهَا، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ (وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.
وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ.
لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ.
وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الِاعْتِكَافِ.
وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَبَيَّنَ صِفَتَهُ قَبْلَ بَيَانِ تَفْسِيرِهِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ عِلْمُ الْفِقْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُوَاظَبَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ».
أُجِيبَ: بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَنْكَرَ، فَكَانَتْ الْمُوَاظَبَةُ بِلَا تَرْكٍ مُعَارِضًا بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ، وَتَفْسِيرُهُ لُغَةً الِاحْتِبَاسُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْعُكُوفِ وَهُوَ الْحَبْسُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا» وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ شَرِيعَةً فَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رُكْنُهُ وَهُوَ اللُّبْثُ لِأَنَّهُ يُنْبِي عَنْهُ لُغَةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَعْضُ شَرَائِطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ، أَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
هُوَ يَقُولُ: الصَّوْمُ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، فَمَا فَرَضْنَاهُ أَصْلًا لَا يَكُونُ أَصْلًا، هَذَا خَلْفٌ بَاطِلٌ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الِاعْتِكَافَ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَاشْتِرَاطُ الصَّوْمِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ نَسْخٌ لَا يَجُوزُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَحَقَّقُ فِي اللَّيَالِي وَالصَّوْمُ فِيهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَفِي ذَلِكَ تَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْجِمَاعِ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ بِهَذَا النَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ فَأُلْحِقَ بِهِ الرُّكْنُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ بِالدَّلَالَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، كَمَا أُلْحِقَ الْجِمَاعُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا فِي حَقِّ بَقَاءِ الصَّوْمِ بِالدَّلَالَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ عَنْ الشَّهْوَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ صَوْمًا.
وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ الشُّرُوطَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ، وَالصَّوْمُ فِي اللَّيَالِي غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً) أَيْ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ.
فَمَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ رَجُلٌ تَطَوُّعًا ثُمَّ قَالَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ: عَلَيَّ اعْتِكَافُ هَذَا الْيَوْمِ.
لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ صَوْمَهُ انْعَقَدَ تَطَوُّعًا فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ وَاجِبًا بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ) قَالُوا: هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا) يُفْهَمُ مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مُتَطَوِّعًا حَيْثُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ، وَالصَّلَاةَ بِرَكْعَتَيْنِ.، ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ)وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ) هَذَا أَيْضًا مِنْ شُرُوطِ جَوَازِهِ، وَمَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ أُدِّيَتْ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَوْ لَا (لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَ) رَوَى الْحَسَنُ (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا) هَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا اعْتِكَافَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاعْتِكَافِ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ فَيَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ مُعَظَّمَةٍ شَرْعًا وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي مَسَاجِدِ الْبُيُوتِ.
وَلَنَا أَنَّ مَوْضِعَ الِاعْتِكَافِ فِي حَقِّهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي تَكُونُ صَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلَ كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ، فَكَانَ مَوْضِعُ الِاعْتِكَافِ مَسْجِدَ بَيْتِهَا. (وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَا: لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ دُونَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَكَفَ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْخُرُوجِ.
وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ صَحَّتْ الضَّرُورَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْخُرُوجِ إلَيْهَا لِأَنَّ تَرْكَهَا صِيَانَةً لِلِاعْتِكَافِ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ دُونَهَا فِي الْوُجُوبِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إسْقَاطُ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ بِإِيجَابِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يُتِمُّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ عَنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ) قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ثَمَّةَ ضَرُورَةٌ مِثْلُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ فَيَنْهَدِمُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانَ عَفْوًا.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْقِيَاسُ) لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجُ مُفَوِّتٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءً كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.
وَالْحَدَثِ فِي الطَّهَارَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً) بَيَانُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ.
وَلَهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى التُّؤَدَةِ فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا وَالْكَثِيرُ لَيْسَ بِعَفْوٍ.
فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا الْأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ.
إذَا وُجِدَتْ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ.
لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ. قَالَ (وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدُ) يَعْنِي فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ فِيهِ حِينَئِذٍ. (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ) يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ (وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ) فَإِذَا كَانَ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ مَكْرُوهًا فَمَا ظَنُّك بِالْمُعْتَكِفِ. قَالَ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ) يَعْنِي أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالشَّرِّ فِي الْمُعْتَكِفِ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فَإِنَّ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا مُطْلَقًا لَكِنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْأَشْهُرِ لِأَنَّهُ فِيهَا أَشَدُّ حُرْمَةً.
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَنْذِرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا كَمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا.
وَقِيلَ: أَنْ يَصْمُتَ وَلَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ سَابِقٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ الْمَعْهُودَ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ زِيَادَةِ نِيَّةِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ صَوْمَ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ) فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَصَوْمِ الصَّمْتِ» فَقَالَ الرَّاوِي وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ: قُلْت لِأَبِي حَنِيفَةَ: مَا صَوْمُ الصَّمْتِ؟ قَالَ: أَنْ يَصُومَ وَلَا يُكَلِّمَ أَحَدًا فِي يَوْمِ الصَّوْمِ.
وَقَوْلُهُ (يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا) أَيْ إثْمًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ.
لَا يُقَالُ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ، يَقْتَضِي حَصْرَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ بِخَيْرٍ.
وَقَوْلُهُ (يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا) يَقْتَضِي جَوَازَ التَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ مُبَاحٌ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
لِأَنَّا نَقُولُ مَا لَيْسَ بِمَأْثَمٍ فَهُوَ خَيْرٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْخَيْرَ عِبَارَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ لِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا لَهُ إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا.
وَالتَّكَلُّمُ بِالْمُبَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ. (وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (وَ) كَذَا (اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ) يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْوَطْءُ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْحَاجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ، لِأَنَّ اسْمَ الْمُعْتَكِفِ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ.
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ وَيَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ فَيَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَكَذَا اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ (مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، إذْ هُوَ) أَيْ الْجِمَاعُ (مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ، كَمَا أَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ) فَكَانَتْ الدَّوَاعِي مُحَرَّمَةً.
فَإِنْ قِيلَ: الْجِمَاعُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْكَفَّ) أَيْ عَنْ الْجِمَاعِ (رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ، فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ) وَلَا زَالَ فِي تَحْقِيقِهِ اصْطَكَّتْ الرُّكَبُ، وَأَقْصَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ الْقَدْرُ أَنْ قَالُوا: الْوَطْءُ مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ مَحْظُورَ الشَّيْءِ مَا نُهِيَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِهِ مِمَّا يُفْسِدُهُ، وَالْوَطْءُ فِي الِاعْتِكَافِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ اللُّبْثُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ، هَذَا حَقِيقَتُهُ.
ثُمَّ نُهِيَ الْمُعْتَكِفُ أَنْ يَرْتَكِبَ الْوَطْءَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ بِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} مَقْصُودًا فَتَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي؛ لِأَنَّ الشُّبُهَاتِ فِي بَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْرَامِ: إنَّ حَقِيقَتَهُ التَّلْبِيَةُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ بَعْدَمَا وُجِدَ ذَلِكَ صَارَ الْوَطْءُ حَرَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَتَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالْوَطْءُ لَيْسَ بِمَحْظُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمَحْظُورِ، فَإِنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ الْوَطْءِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} بَعْدَ قَوْلِهِ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الْآيَةَ.
وَثَبَتَ إذْ ذَاكَ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ الْمُفَوِّتِ لِلرُّكْنِ وَهُوَ الْكَفُّ بِالنَّهْيِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ ضِمْنًا لَا مَقْصُودًا، ضَرُورَةَ بَقَاءِ الرُّكْنِ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يَتَعَدَّى عَنْ مَحَلِّهِ فَبَقِيَتْ الدَّوَاعِي عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلِّ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الضِّمْنِيَّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ الدَّوَاعِي وَالْقَصْدِيَّ يَقْتَضِيهَا، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ قَصَدَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَلَمْ تَحْرُمْ الدَّوَاعِي.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ فِيهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْحَرَجِ بِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَيْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ مَبْنَى الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَى مَا عَرَفْت مِنْ تَفْسِيرِهِ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى، وَالْوَطْءُ حَالَةَ الْحَيْضِ لَيْسَ كَذَلِكَ، هَذَا، وَلَيْسَ وَرَاءَ عَبَّادَانَ قَرْيَةٌ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا) يَعْنِي أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ (بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ اعْتِكَافٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ) فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِكَافُ فَرْعٌ عَنْ الصَّوْمِ وَالْفَرْعُ مُلْحَقٌ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ فَكَيْفَ يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ) بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مُذَكِّرَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَفْسُدَ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا كَالْجِمَاعِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ بَلْ لِأَجْلِ الصَّوْمِ حَتَّى اُخْتُصَّتْ بِوَقْتِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ نَصًّا فَكَانَ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَاصِدُ وَغَيْرُهُ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَلِهَذَا فَسَدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ، وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ) فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْت نَفْسَ الْمُبَاشَرَةِ مُفْسِدَةً مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} وَتِلْكَ تَتَحَقَّقُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَجَازَ وَهُوَ الْجِمَاعُ لَمَّا كَانَ مُرَادًا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَنَفْسُهَا لَمْ تُفْسِدْ الصَّوْمَ فَكَذَا الِاعْتِكَافُ. قَالَ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ (مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ) أَيْ: وَمَنْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ (تَلْزَمُهُ بِلَيَالِيِهَا مُتَتَابِعَةً) أَمَّا لُزُومُهَا بِلَيَالِيِهَا فَلِمَا ذَكَرَ (أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي) عُرْفًا (يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا) وَإِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا أَوْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ «أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا» وَقَالَ «أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا» وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ (عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ) يَدْفَعُ مَا يُقَالُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ خَاصَّةً، وَالِاعْتِكَافُ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَيَّامِ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِيِ وَإِلَّا لَانْتُقِضَ الْقَاعِدَةُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا اُخْتُصَّ بِبَيَاضِ النَّهَارِ، كَذَا فِي التُّحْفَةِ، وَأَمَّا التَّتَابُعُ فَلِمَا ذَكَرَ أَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ إلَخْ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ) فَإِنْ قِيلَ: الْحَقِيقَةُ مُنْصَرَفُ اللَّفْظِ بِدُونِ قَرِينَةٍ أَوْ نِيَّةٍ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ؟ قُلْت: كَأَنَّهُ اخْتَارَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ أَنَّ الْيَوْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ بَيَاضِ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَأَحَدُ مَعْنَيْ الْمُشْتَرَكِ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِتَعْيِينِ الدَّلَالَةِ لَا لِنَفْسِ الدَّلَالَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارُهُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ صَارِفٌ لَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ دَفْعًا لِلصَّارِفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا. (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا).
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجْهُ الظَّاهِرِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ) ظَاهِرٌ.
وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَفْظُ الْمُثَنَّى وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا لَمْ تَدْخُلْ لَيْلَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَا فِي التَّثْنِيَةِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْوُسْطَى تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ اتِّصَالِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْمُثَنَّى غَيْرَ الْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِي الْجُمُعَةِ بِالِاثْنَيْنِ سِوَى الْإِمَامِ وَقَدْ اكْتَفَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ.
أُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرْت هَاهُنَا لِأَنَّ فِيهِ الْعَمَلَ بِأَوْضَاعِ الْوُحْدَانِ وَالْجَمْعِ إلَّا أَنِّي وَجَدْت فِي الْجُمُعَةِ مَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً لِمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَفِي الْجَمَاعَةِ وَالتَّثْنِيَةِ كَذَلِكَ، فَكَانَتْ التَّثْنِيَةُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ كَالْجَمْعِ فَاكْتَفَيْت بِهَا (وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ) لِاجْتِمَاعِ فَرْدٍ وَفَرْدٍ فِيهِ (فَيُلْحَقُ بِالْجَمْعِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ) وَفِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّهُمَا إنَّمَا لَمْ يُلْحِقَا الْمُثَنَّى بِالْجَمْعِ فِي الْجُمُعَةِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَذَلِكَ فِي الْإِلْحَاقِ غَيْرُ يَقِينٍ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي كَوْنِ التَّثْنِيَةِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ تَرَدُّدٌ لِجَاذِبِ الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ إذْ هِيَ بَيْنَهُمَا، وَفِي اشْتِرَاطِ الْجَمْعِ لَا تَرَدُّدَ فِي الْخُرُوجِ فَكَانَ شَرْطًا، وَأَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ فَفِي إلْحَاقِهِ بِالْجَمْعِ خُرُوجٌ عَنْهَا بِيَقِينٍ، لِأَنَّ إيجَابَ لَيْلَتَيْنِ مَعَ يَوْمَيْنِ أَحْوَطُ مِنْ إيجَابِ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

.كِتَابُ الْحَجِّ:

الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْحَجِّ لَمَّا رَتَّبَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ لِمَعَانٍ ذُكِرَتْ عِنْدَ كُلِّ كِتَابٍ تَأَخَّرَ الْحَجُّ إلَى هَاهُنَا ضَرُورَةً، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْعِبَادَاتُ مُتَقَدِّمَةٌ.
وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: زِيَارَةُ الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ. (الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ الْأَصِحَّاءِ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لابد مِنْهُ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا)
الشَّرْحُ:
ثُمَّ إنَّهُ فُرِضَ عَلَى كُلِّ حُرٍّ بَالِغٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ إذَا قَدَرَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لابد مِنْهُ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْإِفْرَادِ إلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ (وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ لَهُ «الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ لَهُ يَعْنِي لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ حُجُّوا الْبَيْتَ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ»، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ) لِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ، يُقَالُ حَجُّ الْبَيْتِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ (وَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ) الْبَيْتُ (فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ) ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمْرِ فَكَانَ الْعُمْرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ.
الشَّرْحُ:
(ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) حَتَّى إنْ أَخَّرَ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ أَثِمَ، رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرٌ وَالْمُعَلَّى (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ؟ فَقَالَ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي التَّزْوِيجِ تَحْصِينَ النَّفْسِ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ يُفَوِّتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَمَرَ بِمَا يُفَوِّتُ الْوَاجِبَ مَعَ إمْكَانِ حُصُولِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِمَا أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ فَكَانَ الْعُمُرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ) فَكَمَا أَنَّهَا جَازَتْ فِي آخِرِ وَقْتِهَا يَجُوزُ الْحَجُّ فِي آخِرِ الْعُمُرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ مُكَيَّفٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ فَوَّتَهُ أَثِمَ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ مَاتَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَكُلُّ مَا اُخْتُصَّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَقَدْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ، وَذَلِكَ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْحَيَاةُ وَالْمَمَاتُ (لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ) مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَضَادَّةِ الْمِزَاجِ (غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا) لَا تَحْقِيقًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَضَيِّقًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْعَامِ الْأَوَّلِ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّضَيُّقَ إذَا كَانَ احْتِيَاطًا لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَوْضِيحُهُ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الْإِثْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَدَاءٌ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ جَائِزٌ فَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَتَمَامُ هَذَا الْبَحْثِ مَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ بِأَسْرِهَا مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ.
الشَّرْحُ:
وَإِنَّمَا شُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ» وَلَوْ «عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ: أَنَّ الْحَجَّ يَحْتَاجُ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا، وَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لَيْسَا كَذَلِكَ، وَأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْحَجِّ يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَقُدِّمَ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْعَجْزَ دُونَهَا لَازِمٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْعَقْلُ) لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ) لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الصِّحَّةِ (لِأَنَّ الْعَجْزَ بِدُونِهَا لَازِمٌ) وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَوَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْمُقْعَدُ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى يُؤَدِّي بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الضَّالَّ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ، وَقَدْرَ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا، «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عَقَبَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَتَعَاقَبَانِ لَمْ تُوجَدْ الرَّاحِلَةُ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَعَمَّا لابد مِنْهُ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْمَرْأَةِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ، لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ.
ثُمَّ قِيلَ: هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقِيلَ: هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ) يَعْنِي أَنَّ الْأَعْمَى إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِمْ، وَهَلْ يَجِبُ الْإِحْجَاجُ بِالْمَالِ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ) لَا يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ، وَعَنْ صَاحِبَيْهِ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَرْقًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ، وَقَالَا: وُجُودُ الْقَائِدِ إلَى الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِنَادِرٍ بَلْ هُوَ غَالِبٌ فَتَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَائِدُ إلَى الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُقْعَدُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ بِمَا لَهُمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَيَعْنِي بِهِ الْقُدْرَةَ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِئْجَارِ بِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى (مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي أَيْ جَانِبَهُ، لِأَنَّ لِلْمَحْمَلِ جَانِبَيْنِ، وَيَكْفِي لِلرَّاكِبِ أَحَدُ جَانِبَيْهِ.
وَالزَّامِلَةُ الْبَعِيرُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرُ مَتَاعَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ زَمَلَ الشَّيْءَ حَمَلَهُ، يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: سرباري.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْرُ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا) يَعْنِي بَعْدَ الرَّاحِلَةِ نَفَقَةُ وَسَطٍ بِغَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَهَذَا «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً أَيْ مَا يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ فَرْسَخًا بِفَرْسَخٍ أَوْ مَنْزِلًا مَنْزِلًا (فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الرَّاحِلَةِ إذْ ذَاكَ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ) أَيْ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ (فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ فَاضِلًا، وَهُوَ هُنَاكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَقَيَّدَ بِالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَأَثَاثُ الْبَيْتِ) يَعْنِي كَالْفُرُشِ وَالْبُسُطِ وَآلَاتِ الطَّبْخِ (وَثِيَابُهُ) أَيْ ثِيَابُ بَدَنِهِ وَفَرَسُهُ وَسِلَاحُهُ (لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ) وَالْمَشْغُولُ بِهَا كَالْمَعْدُومِ.
وَقَوْلُهُ (وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) ظَاهِرٌ (وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةَ، وَتَوَسُّطُ الْبَحْرِ عُذْرٌ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِهِ الِاسْتِطَاعَةُ وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الْأَمْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ شَرْطُ نَفْسِ الْوُجُوبِ، أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِهِ (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ) وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى الثَّانِي (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرُ) وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْإِيصَاءِ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ آمِنًا؛ فَعِنْدَ الْأَوَّلَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَ الْآخَرَيْنِ تَلْزَمُهُ. قَالَ (وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ أَوْ زَوْجٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ بِغَيْرِهِمَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لَهَا الْحَجُّ إذَا خَرَجَتْ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ بِالْمُرَافَقَةِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا، وَلِهَذَا تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ.
(وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ.
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ وَالْحَجُّ مِنْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ (وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا) لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ مُنَاكَحَتِهَا، وَلَا عِبْرَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمَا الصِّيَانَةُ، وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ حَتَّى لَا يُسَافَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْحَجِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ) الِاخْتِلَافُ الْمَارُّ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ فِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ، أَوْ شَرْطَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ مُنَاكَحَتُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهَارَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، شَابَّةً كَانَتْ أَوْ عَجُوزًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّزَوُّجُ لِلْحَجِّ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ اكْتِسَابُ الْمَالِ لِأَجْلِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا أَنْ تَحُجَّ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ مِنْ الْفِتْنَةِ بِالْمُرَافَقَةِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَحُجَّن امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا) فَضْلًا عَنْ حُصُولِ الْأَمْنِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ تَخْرُجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِدُونِهِمَا، وَالْهِجْرَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ فَلَأَنْ تَخْرُجَ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ مِنْهَا أَوْلَى.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُسَافِرَ بِدُونِ الْمَحْرَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَحْرَمَ.
أُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ حُجَّةُ مَنْ جَعَلَهُ شَرْطَ الْأَدَاءِ، وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطَ الْوُجُوبِ قَالَ: لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّ السَّائِلَ كَانَ رَجُلًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِتْنَةَ تَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَبْتُوتَةَ إذَا اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ بِحَيْلُولَةِ ثِقَةٍ جَازَ.
وَلَمْ يَكُنْ انْضِمَامُهَا إلَيْهَا فِتْنَةً.
أُجِيبَ: بِأَنَّ انْضِمَامَ الْمَرْأَةِ إلَيْهَا يُعِينُهَا عَلَى مَا تُرَاوِدُ بِمُشَاوَرَتِهَا، وَتَعْلِيمُ مَا عَسَى تَعْجِزُ عَنْهُ بِفِكْرِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُعْتَدَّةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مَوْضِعُ أَمْنٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يُعَدُّ ثِقَةً وَالْكَلَامُ فِيهَا، وَلِأَنَّ جَوَابَ السَّنَدِ يُنَاقِضُ جَوَابَ الْمَنْعِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُنَّ نَاقِصَاتُ دِينٍ وَعَقْلٍ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْخَدِعَ فَتَكُونُ عَلَيْهَا فِي الْإِفْسَادِ وَتَتَوَسَّطُ فِي التَّوْطِينِ وَالتَّمْكِينِ فَتَعْجِزُ هِيَ عَنْ دَفْعِهَا فِي السَّفَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْحَضَرِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغَاثَةِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا (وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالصَّلَاةِ (وَالْحَجُّ مِنْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا) وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ سَاعَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا) ظَاهِرٌ (وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَمَضَيَا لَمْ يُجِزْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ (وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ، وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، أَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ لَازِمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ يَعْنِي بَعْدَمَا أَحْرَمَ (فَمَضَيَا لَمْ يُجْزِهِمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ) لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَشَرْطِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمَا (فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ كَالطَّهَارَةِ، وَالشَّرْطُ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ بَلَغَ بِالسِّنِّ فَصَلَّى بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، فَمَا بَالُ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَبِهَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَصَارَ كَصَبِيٍّ تَوَضَّأَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَبَلَغَ بِالسِّنِّ فَنَوَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصَّلَاةُ فَرْضًا لَا تَنْقَلِبُ إلَيْهَا (وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ) وَلِهَذَا لَوْ تَنَاوَلَ مَحْظُورًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ الْفَسْخُ وَالشُّرُوعُ فِي غَيْرِهِ (وَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ فَلَازِمٌ) لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ صَيْدًا كَانَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ (فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ) وَإِنَّمَا طَرِيقُ خُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، فَسَوَاءٌ جَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْهَا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
(فَصْلٌ): (وَالْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا خَمْسَةٌ: لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ.
وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ) هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ.
وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ عَنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَذَكَرَ شُرُوطَ الْوُجُوبِ, وَمَا يَتْبَعُهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَوَّلِ أَمْكِنَةٍ يُبْتَدَأُ فِيهَا بِأَفْعَالِ الْحَجِّ.
وَهِيَ (الْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا) وَالْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ فَاسْتُعِيرَ لِلْمَكَانِ كَمَا اُسْتُعِيرَ الْمَكَانُ لِلْوَقْتِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ} وَالْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ) قِيلَ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ التَّوْقِيتُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إيمَانَهُمْ فَوَقَّتَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ) قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْتَ لَمَّا كَانَ مُعَظَّمًا مُشَرَّفًا جُعِلَ لَهُ حِصْنٌ وَهُوَ مَكَّةُ، وَحِمًى وَهُوَ الْحَرَمُ، وَلِلْحَرَمِ حَرَمٌ، وَهُوَ الْمَوَاقِيتُ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إلَّا بِالْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَمَنْ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ حَلَّ لَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ.
بَيَانُهُ.
أَنَّ.
مَنْ أَتَى مِيقَاتًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ دُخُولِ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَا يَجُوزُ.
دُخُولُهُ.
إلَّا بِالْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتَيْنِ مِيقَاتِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَمِيقَاتِ أَهْلِ الْحِلِّ.
وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ الْآفَاقِيِّ دُخُولَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ أَنْ يَقْصِدَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْحِلِّ فَلَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ (عِنْدَنَا) إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَجِبُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِقِتَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ قَوْلًا وَاحِدًا، «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ»، وَلَهُ فِي الدَّاخِلِ لِلتِّجَارَةِ قَوْلَانِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْحَجِّ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَتَعْظِيمُهَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَاجِّ وَغَيْرِهِ (فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا) وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَمِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ) لِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُ مَكَّةَ، وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ أَدَاءَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَحْيَانًا فَلَا حَرَجَ (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ جَازَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ) ظَاهِرٌ، وَالْأَصْلُ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ»، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ) ظَاهِرٌ.
قِيلَ: إنَّمَا صَغَّرَ الدُّوَيْرَةَ تَعْظِيمًا لِلْكَعْبَةِ (كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ) يَعْنِي أَنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَقِيلَ إتْمَامُهُمَا أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفَرًا كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ (وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْإِتْمَامَ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَدَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ. (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ) مَعْنَاهُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ فِي عَرَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَتَحَقَّقَ نَوْعُ سَفَرٍ، وَأَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِهَذَا، إلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ) أَيْ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ (الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ) لَا الْحِلُّ الَّذِي هُوَ خَارِجُ الْمِيقَاتِ (لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ) لِمَا تَلَوْنَا، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحِلِّ مَا هُوَ خَارِجَ الْمِيقَاتِ لَمَا جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَحَيْثُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحِلِّ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ: وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ.