فصل: فَصْلٌ: فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فصل في نفقة وسكنى المطلقة:

(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا رَجْعِيًّا كَانَ أَوْ بَائِنًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَهُ قَائِمٌ لاسيما عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ «عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْرِضْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِانْعِدَامِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} الْآيَةَ.
وَلَنَا أَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ احْتِبَاسٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالِاحْتِبَاسُ قَائِمٌ فِي حَقِّ حُكْمٍ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْوَلَدُ إذْ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهَا السُّكْنَى بِالْإِجْمَاعِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا.
وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَدَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَرَدَّهُ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا شَرَعَ فِي بَيَانِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا رَجْعِيًّا كَانَ أَوْ بَائِنًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ) وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ طَلَّقَهَا بِعِوَضٍ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً (إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَهُ قَائِمٌ لاسيما عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا الْبَائِنُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ إلَخْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ) أَيْ وُجُوبَ نَفَقَةِ الْحَامِلِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُطَلَّقَاتِ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَالنَّفَقَةُ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَاتِ غَيْرُ مُغَيَّاةٍ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْحَائِلَ لَوْ كَانَتْ كَالْحَامِلِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَمْ يَبْقَ لِتَخْصِيصِ الْحَامِلِ فِي النَّصِّ فَائِدَةٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ رَفْعُ الِاشْتِبَاهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحَائِلَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَكَانَ يَشْتَبِهَ بِأَنَّ الْحَامِلَ أَيْضًا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ أَوْ زِيَادَةً فَرَفَعَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَهَا النَّفَقَةُ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْوُجْدَ هُوَ السَّعَةُ وَالْغِنَى وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَا يَمْلِكُ بِهِ، أَمَّا الْإِسْكَانُ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ إسْكَانَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ حَيْثُ يَسْكُنُ هُوَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا تَلَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ.
وَقَوْلُهُ (سُنَّةَ نَبِيِّنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ} وَقَوْلُهُ (وَرَدَّهُ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) هُوَ زَوْجُ فَاطِمَةَ الرَّاوِيَةِ، فَإِنَّ أُسَامَةَ كَانَ إذَا سَمِعَهَا تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ رَمَاهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: تِلْكَ الْمَرْأَةُ فَتَنَتْ الْعَالِمَ: أَيْ بِرِوَايَتِهَا هَذَا الْحَدِيثَ.

.فصل في نفَقَةِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا:

(وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا) لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَيْسَ لِحَقِّ الزَّوْجِ بَلْ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّ التَّرَبُّصَ عِبَادَةٌ مِنْهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ بِمُرَاعًى فِيهِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا الْحَيْضُ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا مِلْكَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَابِسَةً نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ كَمَا إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً، بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَمَا إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلِ الرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) إنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسُّكْنَى لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِأَيِّ فُرْقَةٍ كَانَتْ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمَعْصِيَتِهَا، فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَوَاجِبَةٌ لَهَا فَتَسْقُطُ بِمَعْصِيَةٍ مِنْ قِبَلِهَا، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَقَدْ ذَكَرَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَقَالَ: إنَّمَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْمُرْتَدَّةِ إذَا أُخْرِجَتْ لِلْحَبْسِ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا إذَا اعْتَدَّتْ وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ لِلْحَبْسِ فَلَهَا النَّفَقَةُ (وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا) مِنْ نَفْسِهَا (فَلَهَا النَّفَقَةُ) مَعْنَاهُ: مَكَّنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَثْبُتُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا عَمَلَ فِيهَا لِلرِّدَّةِ وَالتَّمْكِينِ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ، وَالْمُمَكَّنَةُ لَا تُحْبَسُ فَلِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ) وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إذَا وَطِئَهَا ابْنُ الزَّوْجِ أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ أَوْ ارْتَدَّتْ فَحُبِسَتْ أَوْ لَمْ تُحْبَسْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَكَانَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ لِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَيُوجِبُ ذَلِكَ سُقُوطَ النَّفَقَةِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ.

.فَصْلٌ: فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ:

(وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ كَمَا لَا يُشَارِكُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ (فَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا فَلَيْسَ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُرْضِعَهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ عَلَى الْأَبِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّهَا عَسَاهَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعُذْرٍ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بِإِلْزَامِهَا الْإِرْضَاعَ مَعَ كَرَاهَتِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ يُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا تُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَى الْإِرْضَاعِ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الضَّيَاعِ.
قَالَ (وَيَسْتَأْجِرُ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا) أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ (عِنْدَهَا) مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ (لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ شَرَعَ فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَوَجْهُ الظَّاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} قِيلَ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ رِزْقَ الْوَالِدَاتِ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ وَجَبَ عَلَيْهِ رِزْقُ الْوَلَدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِنَّ عَلَيْهِ كَانَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ، وَتَرَتُّبُهُ عَلَى الْمُشْتَقِّ دَلِيلٌ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لِذَلِكَ كَمَا فِي السَّارِقِ وَالزَّانِي، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِلَّةَ نَفَقَتِهِنَّ عَلَى الزَّوْجِ هُوَ الِاحْتِبَاسُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عِلَّةً لِئَلَّا يَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْوِلَادُ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ إذْ هُوَ السَّبَبُ لِلْجُزْئِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَكَمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى نَفْسِهِ تَجِبُ عَلَى جُزْئِهِ، وَالِاحْتِبَاسُ عِلَّةُ الْعِلَّةِ وَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ سَبَبٌ يُفْضِي إلَيْهِ، فَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْوِلَادِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى نَفْيِ مُشَارَكَةِ أَحَدٍ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ.
وَقَاسَ عَلَيْهِ نَفْيَ الْمُشَارَكَةِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ، فَكَذَا النَّفَقَةُ الثَّابِتَةُ بِهِمَا؛ وَإِذَا انْتَفَى الِاشْتِرَاكُ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْأَبِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ (وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا فَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ أَنْ تَرْضِعَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ عَلَى الْأَبِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَالنَّفَقَةِ) فَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إذَا فُطِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ تُرْضِعُهُ إذَا وُجِدَتْ، وَلِأَنَّهَا قَدْ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِرْضَاعِ لِعُذْرٍ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ قَوْله تَعَالَى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} مَعْنَاهُ بِإِلْزَامِهَا الْإِرْضَاعَ مَعَ كَرَاهَتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} قُلْت: إنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ عَنْ فِعْلِهِنَّ حِينَ فَعَلْنَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى جَوَابٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرَ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى النَّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ لَمْ يُقْبِلْ الصَّغِيرُ عَلَى ثَدْيِ غَيْرِهَا وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ أَمَّا إذَا كَانَ لَا يُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ تُجْبَرُ عَلَى الْإِرْضَاعِ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الضَّيَاعِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَيْهَا تَدَيُّنًا، حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِئْجَارُهَا عَلَى الْإِرْضَاعِ إذَا كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ أَوْ عِدَّتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ بِإِطْلَاقِهِ الْمَنْكُوحَةَ وَالْمُبَانَةَ.
قُلْت: إنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فِي الْمُطَلَّقَاتِ، وَأَوْجَبَ إيتَاءَ أُجُورِهِنَّ عِنْدَ الْإِرْضَاعِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ يُرْضِعْنَ عَلَى إطْلَاقِهِ لَوَجَبَ الْإِرْضَاعُ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ، وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ عَمَلِ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهَا وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَالْمَبْتُوتَةُ فِي رِوَايَةٍ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا) لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِيَانَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} إلَّا أَنَّهَا عُذِرَتْ لِاحْتِمَالِ عَجْزِهَا، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهَا فَكَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةٌ وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ.
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ بَاقٍ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ. (وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِإِرْضَاعِ ابْنٍ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا (وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا) يَعْنِي لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا (جَازَ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ (فَإِنْ قَالَ الْأَبُ لَا أَسْتَأْجِرُهَا وَجَاءَ بِغَيْرِهَا فَرَضِيَتْ الْأُمُّ بِمِثْلِ أَجْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) كَانَتْ هِيَ أَحَقَّ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ فَكَانَ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا (وَإِنْ الْتَمَسَتْ زِيَادَةً لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أَيْ بِإِلْزَامِهِ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ. (وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ، كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ) أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ، وَقَدْ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الِاحْتِبَاسُ فَوَجَبَتْ النَّفَقَةُ.
وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، أَمَّا إذَا كَانَ فَالْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ) بِأَنْ أَسْلَمَ الِابْنُ بِنَفْسِهِ وَالْأَبُ كَافِرٌ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ لِمَا أَنَّ إسْلَامَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَارْتِدَادَهُ صَحِيحٌ (كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ، أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الْآيَةَ (وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ) وَكُفْرُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي نَفَقَةِ نَفْسِهِ فَكَذَا فِي نَفَقَةِ جُزْئِهِ (وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ) يَعْنِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ (بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ) أَيْ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ مَوْجُودٌ، وَالِاحْتِبَاسُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مَوْجُودًا فَتَجِبُ النَّفَقَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ مَانِعًا كَمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ سَبَبُهُ الْعَقْدَ فَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ كَالْمَهْرِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَغَيْرِهِمَا وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ سَبَبُهُ الْعَقْدَ، وَإِنَّمَا مَبْنَاهُ عَلَى الْوِلَايَةِ، وَالْكُفْرُ يُنَافِيهَا.
وَأَقُولُ: لَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَيْضًا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} الْآيَةَ كَانَ أَسْهَلَ تَأَتِّيًا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفَقَتِهِنَّ بِعِبَارَتِهِ وَعَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ بِالدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى دَفْعِ مَا يُوهِمُ كَلَامُهُ مِنْ التَّرَدُّدِ فِي سَبَبِ النَّفَقَةِ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ هَاهُنَا الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَجَعَلَهُ فِي قَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} الْوِلَادَ وَقَبْلَهُ الِاحْتِبَاسُ الْحَاصِلُ بِالْعَقْدِ وَدَفَعَهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا) أَيْ مِنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ مَعَ مُوَافَقَةِ الدِّينِ وَمُخَالَفَتِهِ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ وَتَنْكِيرُ مَالٍ يُشِيرُ إلَى عُمُومِهِ بِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا أَوْ دُورًا أَوْ عَقَارًا أَوْ ثِيَابًا.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ عَقَارٌ أَوْ ثِيَابٌ وَاحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ لِلنَّفَقَةِ كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَفَقَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا مَالٌ فَالْأَصْلُ مَنْقُوضٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فَيَتَغَيَّرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَةِ الِاحْتِبَاسِ، فَمَا دَامَ الِاحْتِبَاسُ قَائِمًا كَانَتْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً تَحْقِيقًا لِلْمُعَادَلَةِ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ الْغِنَى.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْوَالِد:

(وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ) أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا، وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ.
وَشُرِطَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهَا بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا لِحَقٍّ لَهُ مَقْصُودٍ، وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ ثَابِتَةٌ وَجُزْءَ الْمَرْءِ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ، فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِكُفْرِهِ لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ جُزْئِهِ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي الدِّينِ.
الشَّرْحُ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ نَفَقَةِ الْوَالِد, وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ، أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قِيلَ نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ أَسْلَمَ وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ جَمِيلَةُ: يَا سَعْدُ بَلَغَنِي أَنَّك صَبَوْت، فَوَاَللَّهِ لَا يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ مِنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَلَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَرْجِعَ إلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهَا إلَيْهَا، فَأَبَى سَعْدٌ وَصَبَرَتْ هِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ وَلَمْ تَسْتَظِلَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا، فَأَتَى سَعْدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
(وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ الْوَلَدُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَيَتْرُكَ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ فِي تِلْكَ الْمَعِيشَةِ يَمُوتُ مِنْ الْجُوعِ) وَقَدْ قِيلَ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنَ الْمُصَاحَبَةِ بِأَنْ يُطْعِمَهُمَا إذَا جَاعَا وَيَكْسُوَهُمَا إذَا عَرِيَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا تَلَوْنَا) أَرَادَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ هَلْ يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ أَوْ لَا.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: إذَا كَانَ الْأَبُ كَسُوبًا وَالِابْنُ أَيْضًا كَسُوبًا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى الْكَسْبِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَبَرَهُ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ لِلْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ الْبَالِغَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ لَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَتُهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِفَضِيلَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ حَاجَتُهُ ضَرُورِيَّةً كَانَتْ كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، أَوْ غَيْرَهَا كَشَهْوَةِ الْفَرْجِ فَإِنَّ لِلْوَالِدِ اسْتِحْقَاقَ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْوَلَدِ وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ اسْتِحْقَاقُ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْوَالِدِ، فَلَوْ شُرِطَ هَاهُنَا عَجْزُ الْوَالِدِ عَنْ الْكَسْبِ لِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ كَمَا شُرِطَ فِي حَقِّ الِابْنِ لَوَقَعَتْ الْمُسَاوَاةُ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمُفَاضَلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ.
وَاسْتَشْكَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِهِ يُفْضِي إلَى التَّعَارُضِ الْمُفْضِي إلَى التَّرْكِ الْمُمْتَنِعِ فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهَذَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. (وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخُوهُ الْمُسْلِمِ) وَكَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَخُوهُ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةَ بِالْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُوجِبَةٌ لِلصِّلَةِ، وَمَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ آكَدُ وَدَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ أَعْلَى فِي الْقَطِيعَةِ مِنْ حِرْمَانِ النَّفَقَةِ، فَاعْتَبَرْنَا فِي الْأَعْلَى أَصْلَ الْعِلَّةِ وَفِي الْأَدْنَى الْعِلَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ) لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُمَا فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا فَكَانَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخُوهُ الْمُسْلِمِ) مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ مُتَضَمِّنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الْعِتْقِ عِنْدَ التَّمَلُّكِ، وَكَلَامُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ: يَعْنِي فِي غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَالْعِتْقُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ بِالْحَدِيثِ: يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ} وَبِالْمَعْقُولِ وَاضِحٌ خَلَا قَوْلَهُ: دَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ أَعْلَى فِي الْقَطِيعَةِ مِنْ حِرْمَانِ النَّفَقَةِ، فَإِنَّ حِرْمَانَ النَّفَقَةِ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ وَدَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْلَى؟ وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ صِلَةُ إحْيَاءٍ حَقِيقَةً وَصِلَةُ الْعِتْقِ صِلَةُ إحْيَاءٍ حُكْمًا، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِحْيَاءَ الْحَقِيقِيَّ أَعْلَى.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَوْ يَبَرَّهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فَإِنَّ الْهَلَاكَ جُوعًا فِي الْعُمْرَانِ مَعَ تَوَفُّرِ أَصْحَابِ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَعْرُوفِ نَادِرٌ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إلَّا مِنْ جَانِبِهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْيَاءِ الْحَقِيقِيِّ أَعْلَى مِنْ الْحُكْمِيِّ فَبَعْدَ تَسْلِيمِهِ مَرْدُودٌ بِعَدَمِ تَعَيُّنِ تَحَقُّقِهِ مِنْ جَانِبِهِ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ (وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ) لَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَغَيْرِهِمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك} فَكَانَا غَنِيَّيْنِ بِمَالِهِ، وَالْغَنِيُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّأْوِيلُ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُعَارِضُ إطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قُلْت: الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فَتَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ لَكِنَّ تَرْكَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِغَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قُلْت: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} يَقْتَضِي أَنْ يُشَارِكَ الْجَدُّ الِابْنَ، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} يَقْتَضِيهِ: قُلْت: لَمَّا ثَبَتَ لِلْوَالِدِ التَّأْوِيلُ فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ صَارَ غَنِيًّا بِهِ وَالْغَنِيُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى وَالِدِهِ فَلَا يُشَارِكُ الْجَدُّ الِابْنَ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا) أَيْ الْوَلَدُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبُ إلَيْهِمَا أَوْلَى لِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا صِلَةٌ وَجَبَتْ بِالْقَرَابَةِ، فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَثْلَاثًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى قِيَاسِ الْمِيرَاثِ وَعَلَى قِيَاسِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا.
وَبَيَانُهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَبَوَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ وَحَقِّ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك} وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ فَيَكُونَانِ سَوَاءً؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمَا هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ وَإِنْ انْعَدَمَ التَّوَارُثُ، فَقَوْلُهُ (وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ. (وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً بَالِغَةً فَقِيرَةً أَوْ كَانَ ذَكَرًا بَالِغًا فَقِيرًا زَمِنًا أَوْ أَعْمَى) لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ، وَالْفَاصِلُ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ} ثُمَّ لابد مِنْ الْحَاجَةِ وَالصِّغَرِ وَالْأُنُوثَةِ وَالزَّمَانَةِ وَالْعَمَى أَمَارَةُ الْحَاجَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ.
بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا فَتَجِبُ نَفَقَتُهُمَا مَعَ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْكَسْبِ.
قَالَ (وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ وَالْجَبْرَ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ: أَيْ النَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَهُوَ مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَاجِبَةٌ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً بَالِغَةً فَقِيرَةً أَوْ كَانَ ذَكَرًا فَقِيرًا.
زَمِنًا أَوْ أَعْمَى؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا كَوْنُهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْبَعِيدِ فَيَكُونُ إشَارَةً إلَى أَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْوَارِثِ النَّفَقَةَ، وَتَقْيِيدُهُ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ مَسْمُوعَةً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لابد مِنْ الْحَاجَةِ لِاسْتِحْقَاقِهَا لِذَلِكَ، وَالصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ الصِّغَرُ وَالْأُنُوثَةُ وَالزَّمَانَةُ وَالْعَمَى أَمَارَةُ الْحَاجَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يُعَدَّا غَنِيَّيْنِ بِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْكَسْبِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ إلَخْ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (يَجِبُ ذَلِكَ) يَعْنِي النَّفَقَةَ (عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْإِنْفَاقِ.
أَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْوَارِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} تَنْبِيهًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْمُشْتَقِّ فَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ هُوَ الْعِلَّةُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِقَدْرِ عِلَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ زَمِنًا مُعْسِرًا وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ زَمِنٌ وَلِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقُونَ مُوسِرُونَ فَنَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَخِيهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا، فَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَعَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً لِأَنَّ مِيرَاثَ الْوَلَدِ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَا يَرِثُ مَعَهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا يُجْعَلُ مَعْدُومًا وَتَكُونُ النَّفَقَةُ بَعْدَهُ عَلَى مَنْ يَكُونُ وَارِثًا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَةً كَانَ نَفَقَةُ الْأَبِ وَالِابْنَةِ عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ خَاصَّةً، أَمَّا نَفَقَةُ الِابْنَةِ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْوَارِثَ هَاهُنَا الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً لِأَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يَرِثُ مَعَ الِابْنَةِ وَالْأَخَ لِأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَهَا فَلَا حَاجَةَ أَنْ يَجْعَلَ الْبِنْتَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَلَكِنْ تُعْتَبَرُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ مَعَ بَقَائِهَا، بِخِلَافِ الِابْنِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمَعْدُومِ؛ فَإِذَا جُعِلَ كَذَلِكَ فَمِيرَاثُ الْأَبِ يَكُونُ بَيْنَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمِيرَاثُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ إلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا إذَا تَجَاوَزَ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ كَمَا إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ الْفَقِيرِ خَالٌ مُوسِرٌ وَابْنُ عَمٍّ مُوسِرٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الَّذِي لَمْ يَرِثْ لَا عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الَّذِي هُوَ وَارِثٌ فَيَكُونُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الْخَالِ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَابْنُ الْعَمِّ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْخَالُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ النَّفَقَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمِيرَاثِ بِالنَّصِّ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَجِبَ النَّفَقَةُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِكَوْنِهِ وَارِثًا وَلَا تَجِبُ عَلَى الْخَالِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَارِثٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاجِبَةٌ تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ، وَتَحْقِيقُ صِلَةِ قَرَابَةِ ابْنِ الْعَمِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْخَالِ فَإِنَّ صِلَتَهُ وَاجِبَةٌ وَالنَّفَقَةُ مِنْهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِ. قَالَ (وَتَجِبُ نَفَقَةُ الِابْنَةِ الْبَالِغَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ عَلَى أَبَوَيْهِ أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ) لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَهُمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ وَالْحَسَنِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} وَصَارَ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمَئُونَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فِيهِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ، وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَكُونَ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا، وَنَفَقَةُ الْأَخِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ الْمُوسِرَاتِ أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، غَيْر أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ لَا إحْرَازُهُ، فَإِنَّ الْمُعْسِرَ إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثُهُ يُحْرِزُهُ ابْنُ عَمِّهِ (وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ) لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً وَهُوَ يَسْتَحِقُّهَا عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، إذْ الْمَصَالِحُ لَا تَنْتَظِمُ دُونَهَا، وَلَا يَعْمَلُ فِي مِثْلِهَا الْإِعْسَارُ.
ثُمَّ الْيَسَارُ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا أَوْ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ الدَّائِمِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ دُونَ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، لَكِنَّ النِّصَابَ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتَجِبُ نَفَقَةُ الِابْنَةِ الْبَالِغَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ) يَعْنِي بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ حَيْثُ وَجَبَتْ بِجُمْلَتِهَا عَلَى الْأَبِ خَاصَّةً وَبَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ الزَّمِنِ حَيْثُ وَجَبَ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَبِ وَالثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ كَمَا فِي الْإِرْثِ أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمَئُونَةٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ.
فَكَذَا فِي النَّفَقَةِ عَلَى الصَّغِيرِ.
وَأَمَّا الْكَبِيرُ فَلَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِبُلُوغِهِ فَكَانَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ نَفَقَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِمِيرَاثِهِ وَمِيرَاثُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُ.
وَقَوْلُهُ (أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ) يَعْنِي: ثَلَاثَةُ الْأَخْمَاسِ مِنْ الْمِيرَاثِ تَكُونُ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْخُمُسُ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَالْخُمُسُ لِلْأُخْتِ لِأُمٍّ بِالْفَرْدِ وَالرَّدِّ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ تُعْتَبَرُ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْرُومًا.
وَفِي كَلَامِهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ لَا إحْرَازُهُ، ثُمَّ نَشَرَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْمُعْسِرَ إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ يَعْنِي وَهُوَ مُوسِرٌ وَابْنُ عَمٍّ كَذَلِكَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ وَابْنِ الْعَمِّ يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْخَالَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ.
وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ لَا إحْرَازُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ الْمُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ) أَيْ اعْتِبَارِ الْإِرْثِ بِأَنْ يَكُونَ أَهْلًا لَا مُحْرِزًا، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَلَا عَكْسُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بِمَا يَفْضُلُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا) قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِ (أَوْ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ الدَّائِمِ) إذَا كَانَ مُعْتَمِلًا يُنْفِقُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ) يَعْنِي أَنَّ الْيَسَارَ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ، لَكِنَّ النِّصَابَ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ إذَا كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَشْبَهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِكَوْنِهَا مَئُونَةً مِنْ وَجْهٍ، صَدَقَةً مِنْ وَجْهٍ، وَالنَّفَقَةُ مَئُونَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ لِوُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ فَلَأَنْ لَا يُشْتَرَطَ هَاهُنَا وَهِيَ مَئُونَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى.
وَنَقَلَ فِي خُلَاصَةِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَجْنَاسِ قَالَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ: يُشْتَرَطُ نِصَابُ الزَّكَاةِ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَكَذَا قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى إنْ انْتَقَصَ مِنْهُ دِرْهَمٌ لَا يَجِبُ. (وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قُضِيَ فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ (وَإِذَا بَاعَ أَبُوهُ مَتَاعَهُ فِي نَفَقَتِهِ جَازَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ (وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ) وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِهَا بِالْبُلُوغِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ فِي حَالِ حَضْرَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فِي دَيْنٍ لَهُ سِوَى النَّفَقَةِ، وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي النَّفَقَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْغَائِبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ فَالْأَبُ أَوْلَى لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا، وَبِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ أَصْلًا فِي التَّصَرُّفِ حَالَةَ الصِّغَرِ وَلَا فِي الْحِفْظِ بَعْدَ الْكِبَرِ.
إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَبِ فَالثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِكَمَالِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِنَفَقَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ (وَإِنْ كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ فِي يَدِ أَبَوَيْهِ وَأَنْفَقَا مِنْهُ لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا حَقَّهُمَا لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ وَقَدْ أَخَذَا جِنْسَ الْحَقِّ (وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ضَمِنَ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْحِفْظِ لَا غَيْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ أَمْرَهُ مُلْزِمٌ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ.
وَإِذَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قَضَى فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ) يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَقْضِي بِنَفَقَةٍ فِي مَالِ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ، إلَى قَوْلِهِ: وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَاعَ أَبُوهُ مَتَاعَهُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي النَّفَقَةِ) مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِلْأَبَوَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْأَقْضِيَةِ وَالْقُدُورِيِّ تَمْلِكُ الْأُمُّ الْبَيْعَ كَالْأَبِ لِأَنَّ مَعْنَى الْوِلَادَةِ يَجْمَعُهُمَا وَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْقُدُورِيِّ مُؤَوَّلًا بِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَبِيعُ لَكِنْ لِمَنْفَعَتِهِمَا، فَأَضَافَ الْبَيْعَ إلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ مَنْفَعَةَ الْبَيْعِ تَعُودُ إلَيْهِمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَوْلُهُ (إنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْغَائِبِ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ الْفَرْضُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ لِنَفَقَتِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ أَنْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْبَيْعَ لِلْحِفْظِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ لِلْحِفْظِ حَقِيقَةً فَبِقَصْدِهِ الْإِنْفَاقَ لَا تَتَغَيَّرُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْعَزِيمَةِ فِي تَغْيِيرِ الْحَقِيقَةِ.
لَا يُقَالُ: عَارَضَ جِهَةُ الْحِفْظِ جِهَةَ الْإِتْلَافِ بِالِاتِّفَاقِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِتْلَافُ بَعْدَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَفِي الْحَالِ لَمْ تَجِبْ فَلَا تَعَارُضَ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ) يَعْنِي أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ مَلَكَ الْمَدْفُوعَ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَالِ نَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي): يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُقَابَلَةُ الِاحْتِبَاسِ لَا بِطَرِيقِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ لِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى. (وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ بِالنَّفَقَةِ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ كِفَايَةً لِلْحَاجَةِ حَتَّى لَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ بِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى.
قَالَ (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَصَارَ إذْنُهُ كَأَمْرِ الْغَائِبِ فَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَذِنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهُمْ أَيْضًا كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَصَارَ إذْنُهُ بِالِاسْتِدَانَةِ كَأَمْرِ الْغَائِبِ بِهَا، وَلَوْ أَمَرَ الْغَائِبَ بِالِاسْتِدَانَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَكَذَا إذَا أَذِنَ الْقَاضِي بِذَلِكَ.
وَإِذَا تَذَكَّرْت أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ لِلْكِفَايَةِ ظَهَرَ لَك وَجْهُ مَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ لِلزَّوْجَةِ فِي الشَّهْرِ مِائَةً فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَفِي يَدِهَا مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَحْتَسِبْ لِلشَّهْرِ الثَّانِي.
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ حُوسِبَ بِهِ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ لِلزَّوْجَةِ كِسْوَةً لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَسَرَقَتْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهَا حَتَّى تَفْرُغَ الْمُدَّةُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقَارِبِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهُمْ.