فصل: فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ:

قَالَ: (وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ، وَهَذَا فِي الذَّكَرِ، وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ» وَيُرْوَى «أَوْ خَمْسُمِائَةٍ» فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَدَّرَهَا بِسِتِّمِائَةٍ نَحْوُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ) عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ.
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ»، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةً حَيْثُ قَالَ دُوهُ: وَقَالُوا: «أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ» الْحَدِيثُ، إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ) عَقَّبَ أَحْكَامَ الْأَجْزَاءِ الْحَقِيقِيَّةِ أَحْكَامَ الْجُزْءِ الْحُكْمِيِّ وَهُوَ الْجَنِينُ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ الْأُمِّ (وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ) غُرَّةُ الْمَالِ خِيَارُهُ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ النَّجِيبِ، وَسُمِّيَ بَدَلُ الْجَنِينِ غُرَّةً لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَبْدٌ وَالْعَبْدُ يُسَمَّى غُرَّةً.
وَقِيلَ لِأَنَّ غُرَّةَ الشَّيْءِ أَوَّلُهُ وَغُرَّةُ الْجَنِينِ أَوَّلُ مِقْدَارٍ ظَهَرَ فِي بَابِ الدِّيَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ (دِيَةُ الرَّجُلِ، وَهَذَا فِي الذَّكَرِ وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ) لِأَنَّ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ هُوَ الْعُشْرُ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ: وَالْقِيَاسُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بِيَقِينٍ، وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي مَحَلٍّ هُوَ حَيٌّ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ.
فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ.
قُلْنَا: الظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْبَهِيمَةِ إنْ تَمَكَّنَ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي الْجَنِينِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ» وَيُرْوَى «أَوْ خَمْسُمِائَةٍ» فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ) رَوَى الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَّ زُفَرَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: فِيهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَقَالَ السَّائِلُ: وَلِمَ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبَةٍ أَوْ لَمْ تُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنْ مَاتَ بِضَرْبَةٍ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ لَمْ تُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، فَسَكَتَ زُفَرُ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَعْتَقْتُك سَائِبَةً، فَجَاءَ زُفَرُ إلَى أَبِي يُوسُفَ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَأَجَابَهُ أَبُو يُوسُفَ بِمِثْلِ مَا أَجَابَ زُفَرُ.
فَحَاجَّهُ بِمِثْلِ مَا حَاجَّهُ السَّائِلُ فَقَالَ: التَّعَبُّدُ التَّعَبُّدُ: أَيْ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْرَكَ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ هُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ.
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: قَوْلُهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
قِيلَ وَإِنَّمَا بَيَّنَ الشَّارِعُ الْقِيمَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (إذَا كَانَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ) قِيلَ قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ.
وَرُدَّ بِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينُ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
وَقِيلَ لَعَلَّهُ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ إذْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَقَوْلُهُ (فِي مَالِهِ) أَيْ فِي مَالِ الضَّارِبِ (لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ) أَيْ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَصَارَ كَقَطْعِ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ.
وَقَوْلُهُ (دُوهُ) أَيْ أَدُّوا دِيَتَهُ، أَمْرٌ لِمُخَاطَبٍ مِنْ الْوَدْيِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ قَالَ «كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمُسَطَّحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ: دُوهُ، فَقَالَ أَخُوهَا: أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُهُ دَمُهُ بَطَلَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ وَفِي رِوَايَةٍ دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ» الْحَدِيثَ، فَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً وَأَنْتُمْ قَيَّدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْ عَلِمْت مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ (وَتَجِبُ فِي سَنَةٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يَكُونُ مَوْرُوثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ» وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ، وَبِالثَّانِي فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ إلَى سَنَةٍ، لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ، بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدِّيَةِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا عَلَى مَنْ وَجَبَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ (وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ فِي الْحَيَّيْنِ إنَّمَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ لِتَفَاوُتِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْجَنِينِ فَيُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ) هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي بَعْضِهَا وَأَكْثَرَ.
قَالَ الشَّارِحُونَ: وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ صِفَةً لِأَقَلَّ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، وَلَعَلَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْأَكْثَرِ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نِصْفَ الْعُشْرِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا عَلَى مَنْ وَجَبَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) صُورَتُهُ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ عِشْرُونَ رَجُلًا فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي الْمَعَاقِلِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَسْتَوِي فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِ قَدْرِ الْغُرَّةِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْجَنِينِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ» وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي الْحَيَّيْنِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى التَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْوَلَدَيْنِ الْمُنْفَصِلَيْنِ فِي الدِّيَةِ لِتَفَاوُتِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ فِي الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الذَّكَرَ مَالِكٌ مَالًا وَنِكَاحًا وَالْأُنْثَى مَالِكَةٌ مَالًا مَمْلُوكَةٌ نِكَاحًا فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْجَنِينِ فَيَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ (فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَيًّا بِالضَّرْبِ السَّابِقِ (وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ بِقَتْلِ الْأُمِّ وَغُرَّةٌ بِإِلْقَائِهَا) وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي هَذَا بِالدِّيَةِ وَالْغُرَّةِ» (وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبَةِ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَدِيَةٌ فِي الْجَنِينِ) لِأَنَّهُ قَاتِلُ شَخْصَيْنِ (وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ بِالضَّرْبِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَهِيَ حَيَّةٌ.
وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ أَحَدُ سَبَبَيْ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا إذْ تَنَفُّسُهُ بِتَنَفُّسِهَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ.
قَالَ (وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ (وَلَا يَرِثُهُ الضَّارِبُ، حَتَّى لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ ابْنَهُ مَيِّتًا فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ غُرَّةٌ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا) لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مُبَاشَرَةً وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ.
قَالَ: (وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يُؤْخَذُ مِقْدَارُهَا مِنْ الْأَصْلِ.
وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ، وَلَا مُعْتَبَرَ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ فَكَانَ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُقَدَّرُ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لَوْ انْتَقَصَتْ الْأُمُّ اعْتِبَارًا بِجَنِينِ الْبَهَائِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ ضَمَانُ مَالٍ عِنْدَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَحَّ الِاعْتِبَارُ عَلَى أَصْلِهِ.
قَالَ (فَإِنْ ضُرِبَتْ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ حَيًّا وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِتْقِ) لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالضَّرْبِ السَّابِقِ وَقَدْ كَانَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَلِهَذَا تَجِبُ الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا لِأَنَّهُ بِالضَّرْبِ صَارَ قَاتِلًا إيَّاهُ وَهُوَ حَيٌّ فَنَظَرْنَا إلَى حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ.
وَقِيلَ: هَذَا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ احْتِيَاطًا.
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عُرِفَتْ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا تَتَعَدَّاهَا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ كُلُّ الْبَدَلِ.
قَالُوا: إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، فَإِذَا تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا صَنَعَ (وَالْجَنِينُ الَّذِي قَدْ اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ فِي حَقِّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْعَلَقَةِ وَالدَّمِ فَكَانَ نَفْسَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ) أَوَّلُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الضَّرْبِ، وَهِيَ أَنَّ خُرُوجَ الْجَنِينِ مِنْ الْأُمِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا أَوْ فِي حَالِ مَمَاتِهِمَا أَوْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْأُمِّ وَمَمَاتِ الْجَنِينِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَالْأَقْسَامُ مَعَ أَحْكَامِهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّكَّ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْ الضَّرْبِ وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرَّةَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِمَالَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ احْتِمَالُ عَدَمِ نَفْخِ الرُّوحِ وَالْمَوْتُ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْغِذَاءِ بِسَبَبِ مَوْتِ الْأُمِّ وَبِسَبَبِ تَخْنِيقِ الرَّحِمِ وَغَمِّ الْبَطْنِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ لَا قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةً فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ.
قَالَ (وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ إلَخْ) يَعْنِي جَنِينَ الْأَمَةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا وَلَمْ يَكُنْ الْحَمْلُ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا مِنْ الْمَغْرُورِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى.
وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ الْجَنِينُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مَيِّتًا عَلَى لَوْنِهِ وَهَيْئَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ، وَيَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُهُ إنْ كَانَ أُنْثَى، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِكَوْنِ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ الْمَوْلَى وَالْمَغْرُورِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَّهَمًا لَزِمَتْ الْغُرَّةُ لِكَوْنِهِ حُرًّا، فَلَوْ ضَاعَ الْجَنِينُ وَوَقَعَ النِّزَاعُ فِي الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ لِلضَّارِبِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى ذُكُورَتِهِ وَأُنُوثَتِهِ نَأْخُذُ بِالْمُتَيَقَّنِ.
قَوْلُهُ (لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ) يَعْنِي فِي الْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَلَعَ السِّنَّ فَنَبَتَتْ مَكَانَهُ أُخْرَى لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ وَهَاهُنَا بَدَلُ الْجَنِينِ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمِّ نُقْصَانٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ (فَيُقَدَّرُ بِهَا) أَيْ بِقِيمَةِ نَفْسِ الْجَنِينِ لَا بِقِيمَةِ الْأُمِّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) هَذَا غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: ثُمَّ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَنَظَرْنَا إلَى حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ) يَعْنِي أَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الضَّرْبِ، وَأَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ حَيًّا لَا مَشْكُوكًا فِي حَيَاتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ التَّلَفِ.
لَا يُقَالُ: هَذَا اعْتِبَارٌ بِحَالَةِ الضَّرْبِ فَقَطْ، إذْ الْوَاجِبُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا قِيمَتُهُ حَيًّا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ حَيًّا فَلَا تَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا هُنَاكَ بَلْ تَجِبُ الْغُرَّةُ.
وَقَوْلُهُ (مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ) يَعْنِي تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ غَيْرَ مَضْرُوبٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ مَضْرُوبًا ثَمَانَمِائَةٍ يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا نَذْكُرُ بَيَانَهُ بَعْدَ هَذَا) يَعْنِي فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ عُرِفَتْ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ) أَيْ الْكَامِلَةِ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَعَدَّاهَا إلَى غَيْرِ الْمُطْلَقَةِ وَهُوَ الْجَنِينُ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْمُطْلَقَةِ نَظِيرَ الْمُطْلَقَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِهَا دَلَالَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ كُلُّ الْبَدَلِ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ.

.(بَابٌ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ):

قَالَ (وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ جُرْصُنًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا فَلِرَجُلٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَنْ يَنْزِعَهُ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ، كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ النَّقْضِ لَوْ أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا فَكَذَا فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ.
قَالَ: (وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَلْيُلْحَقْ مَا فِي مَعْنَاهُ بِهِ، إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ، فَإِذَا أَضَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِذٍ أَنْ يَشْرَعَ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ) لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا بِإِذْنِهِمْ.
وَفِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا إذَا أَضَرَّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى إذْنِ الْكُلِّ، فَجُعِلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَحْدَهُ حُكْمًا كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُ النَّافِذِ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى إرْضَائِهِمْ مُمْكِنٌ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً ذَكَرَ أَحْكَامَهُ تَسْبِيبًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، إمَّا لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ.
قَالَ (وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَنِيفًا إلَخْ) الْكَنِيفُ: الْمُسْتَرَاحُ، وَالْمِيزَابُ مَعْرُوفٌ، وَالْجُرْصُنُ قِيلَ هُوَ الْبُرْجُ، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: جِذْعٌ يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْحَائِطِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ.
وَالْعُرْضُ بِالضَّمِّ: النَّاحِيَةُ، قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَبْعَدُ النَّاسِ مَنْزِلَةً: أَيْ أَضْعَفُهُمْ وَأَرْذَلُهُمْ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي إبَاحَةِ الْعَمَلِ وَفِي الْخُصُومَةِ وَفِي ضَمَانِ مَا يَتْلَفُ بِهِ.
وَالْمَبْدُوءُ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْخُصُومَةُ، وَتَعَرَّضَ لِلنَّزْعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنْعِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا أَرَادَ الْوَضْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ فِيهِ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إلَيْهِ تَدْبِيرُهُ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الْمَنْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إحْدَاثِهِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ.
وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فِي الرَّفْعِ فَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَيْسَ لِأَحَدٍ ذَلِكَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْمَأْذُونِ مِنْ الْإِمَامِ فَلَا يَرْفَعُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: كَانَ قَبْلَ الْوَضْعِ لِكُلِّ أَحَدٍ يَدٌ فِيهِ، فَاَلَّذِي يُحْدِثُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي يَدِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَقَدْ صَارَ فِي يَدِهِ، فَاَلَّذِي يُخَاصِمُهُ يُرِيدُ إبْطَالَ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ) بَيَانُ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ») أَيْ لَا ابْتِدَاءً وَلَا جَزَاءً: يَعْنِي مُتَعَدِّيًا عَنْ مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ، لِأَنَّ الضِّرَارَ بِمَعْنَى الْمُضَارَّةِ وَهُوَ أَنْ تَضُرَّ مِنْ ضَرَّك، وَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّرْبُ نَافِذًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ نَافِذٍ فَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِذٍ بَيَانٌ لِذَلِكَ.
وَالدَّرْبُ: الْبَابُ الْوَاسِعُ عَلَى السِّكَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السِّكَّةُ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ) يَعْنِي فِي الْغَالِبِ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْمُرَادُ بِغَيْرِ النَّافِذَةِ الْمَمْلُوكَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةِ الْمِلْكِ فَقَدْ تَنْفُذُ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ وَقَدْ يُسَدُّ مَنْفَذُهَا وَهِيَ لِلْعَامَّةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ غَالِبًا فَأُقِيمَ مَقَامَهُ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَلَازِقَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا قَالَ: (وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَلَفِهِ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ (وَكَذَا إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ، وَإِنْ عَثَرَ بِذَلِكَ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِيهِمَا) لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّافِعِ إيَّاهُ عَلَيْهِ (وَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ بِطَرَفَانِ أَصَابَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْحَائِطِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ لِمَا أَنَّهُ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ (وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ) لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَكِّبَهُ فِي الْحَائِطِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً (وَلَوْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا وَعَلِمَ ذَلِكَ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهُدِرَ النِّصْفُ كَمَا إذَا جَرَحَهُ سَبُعٌ وَإِنْسَانٌ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّ طَرَفٍ أَصَابَهُ يَضْمَنُ النِّصْفَ) اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ (وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الْخَشَبَةَ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهَا فَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّ فِعْلَهُ وَهُوَ الْوَضْعُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ (وَلَوْ وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جَمْرًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ (وَلَوْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا لَا يَضْمَنُهُ) لِنَسْخِ الرِّيحِ فِعْلَهُ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِعَاقِبَتِهِ وَقَدْ أَفْضَى إلَيْهَا فَجُعِلَ كَمُبَاشَرَتِهِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا) وَهُوَ الْمَمَرُّ عَلَى الْعُلْوِ بَيَانٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَقَوْلُهُ (مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ) يَعْنِي الْكَنِيفَ وَالْمِيزَابَ وَالْجُرْصُنَ.
وَقَوْلُهُ (فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِيهِمَا) يَعْنِي ضَمَانُهُمَا عَلَى الْمُحْدِثِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَثَرَ بِهِ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَدْفُوعُ كَالْآلَةِ وَقَوْلُهُ (وَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ إلَخْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ أَوْ الْخَارِجُ، أَوْ أَصَابَاهُ جَمِيعًا وَعَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّ الطَّرَفَيْنِ أَصَابَهُ، وَالْجُمْلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ بِوُجُوهِهَا، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً) يَعْنِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَحِرْمَانَ الْإِرْثِ إنَّمَا يَجِبَانِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً، وَهَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً وَإِلَّا لَسَاوَى الْمِلْكُ غَيْرَهُ كَمَا فِي الرَّمْيِ.
قِيلَ إنْ كَانَ قَتْلًا حَقِيقَةً فَالْقِيَاسُ شُمُولُ الْوُجُوبِ فِي الضَّمَانِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْحِرْمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْقِيَاسُ عَدَمُهُ فِيهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّمَانَ يَعْتَمِدُ الْإِتْلَافَ بِطَرِيقِ صِيَانَةِ التَّعَدِّي لِلدِّمَاءِ عَنْ الْهَدَرِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ إحْدَاثُهُ فِي الطَّرِيقِ مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ فَيَعْتَمِدَانِ الْقَتْلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ) يَعْنِي يُعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ قَتِيلُ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بِأَيِّ الطَّرَفَيْنِ كَانَ، فَإِنْ كَانَ لِلطَّرَفِ الدَّاخِلِ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ بِالْخَارِجِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَصَلَ بِالطَّرَفَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا) ظَاهِرٌ وَقِيلَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدٍّ أَيْضًا بِتَرْكِ الرَّفْعِ مَعَ إمْكَانِهِ شَرْعًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَبَبَ ضَمَانِ الْقَتْلِ إمَّا الْمُبَاشَرَةُ أَوْ التَّسْبِيبُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ذَلِكَ فَصَارَ كَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ رَفْعِ حَجَرٍ عَنْ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ وَلَا مُتَسَبِّبٍ.
وَاسْتَشْكَلَ أَيْضًا بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا تَقَدَّمَ إنْسَانٌ إلَى صَاحِبِهِ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى بَاعَ الدَّارَ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ أَصَابَ إنْسَانًا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ جَانِيًا يُتْرَكُ النَّقْضُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ صَيْرُورَةَ صَاحِبِ الْحَائِطِ ضَامِنًا بِالتَّقَدُّمِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقَدْ زَالَ بِالْبَيْعِ.
وَصَيْرُورَةُ مُخْرِجِ الْجَنَاحِ بِشَغْلِ هَوَاءِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ تَعَدِّيًا وَلَمْ يَزُلْ بِالْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَرَّكَتْهُ) أَيْ الْجَمْرَ، قِيلَ فِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ الرِّيحَ إنْ هَبَّتْ بِشَرَرِهَا فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا وَجَبَ الضَّمَانُ لِأَنَّ التَّعَدِّي كَانَ بِوَضْعِ الْجَمْرِ وَهُوَ بَاقٍ فِي مَكَانِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا يَضْمَنُهُ) هُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْأَوَّلُ: أَعْنِي الْإِطْلَاقَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ أَفْضَى إلَيْهَا) أَيْ إلَى عَاقِبَتِهِ وَهُوَ الْحَرْقُ بِوَاسِطَةِ الرِّيحِ (وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِمْ (وَمَا لَمْ يَفْرُغُوا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى رَبِّ الدَّارِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ انْقَلَبَ فِعْلُهُمْ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَتَسَلَّمْ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ (وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ فَالضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّهُ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ حَتَّى اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَ وَوَقَعَ فِعْلُهُمْ عِمَارَةً وَإِصْلَاحًا فَانْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ (وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، وَكَذَا إذَا رَشَّ الْمَاءَ أَوْ تَوَضَّأَ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَارَّةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ قَعَدَ أَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ) لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهَا لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ السُّكْنَى كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ.
قَالُوا: هَذَا إذَا رَشَّ مَاءً كَثِيرًا بِحَيْثُ يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً، أَمَّا إذَا رَشَّ مَاءً قَلِيلًا كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً لَا يَضْمَنُ (وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ فَسَقَطَ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ.
وَقِيلَ: هَذَا إذَا رَشَّ بَعْضَ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَوْضِعًا لِلْمُرُورِ لَا أَثَرَ لِلْمَاءِ فِيهِ، فَإِذَا تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاشِّ شَيْءٌ، وَإِنْ رَشَّ جَمِيعَ الطَّرِيقِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْمُرُورِ؛ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْخَشَبَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الطَّرِيقِ فِي أَخْذِهَا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ (وَلَوْ رَشَّ فِنَاءَ حَانُوتٍ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَضَمَانُ مَا عَطِبَ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ) لِفَسَادِ الْأَمْرِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ) الْفَعَلَةَ جَمْعُ فَاعِلٍ وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ قَالَ الْمُخْرِجُ لِلْفَعَلَةِ أَخْرِجُوا جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي فَإِنَّ لِي حَقَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْفَعَلَةُ غَيْرَ مَا قَالَ فَفَعَلُوا فَسَقَطَ وَأَصَابَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَيَرْجِعُونَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ وَجَبَ بِأَمْرِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْبَحَ شَاةً لَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعَ بِهِ الذَّابِحُ عَلَى الْآمِرِ، وَإِنْ قَالَ أَشْرِعُوا جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ فَفَعَلُوا فَسَقَطَ وَأَتْلَفَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَلَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَذْبَحَ شَاةَ جَارٍ لَهُ فَذَبَحَ ثُمَّ ضَمِنَ الذَّابِحُ لِلْجَارِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْآمِرِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِنَاءٌ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعَهُ، فَمِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ يَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، وَمِنْ حَيْثُ الْفَسَادُ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ عَمَلًا بِهِمَا، وَإِظْهَارُ جِهَةِ الصِّحَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ، لِأَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ إنَّمَا صَحَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ) يَعْنِي بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا كَانَ أَمْرُهُ مُعْتَبَرًا وَوَقَعَ فِعْلُهُمْ عِمَارَةً وَإِصْلَاحًا فَانْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ يُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَكَذَا إذَا أَمَرَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ) يَعْنِي الصَّبَّ وَالرَّشَّ وَالْوُضُوءَ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ السُّكْنَى وَهُوَ اعْتِبَارٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِيقَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ) وَالْعِلَّةُ إذَا صَلَحَتْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا بَطَلَ غَيْرُهَا.
وَقَوْلُهُ (فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ) قِيلَ الْفِنَاءُ سَعَةُ أُمِّ الْبُيُوتِ، وَقِيلَ مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهَا وَقِيلَ مَا أُعِدَّ لِحَوَائِج الدَّارِ كَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ وَقَوْلُهُ (فَتَعَقَّلَ) أَيْ تَشَبَّثَ وَتَعَلَّقَ بِالْبِنَاءِ.
وَقَوْلُهُ (يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ) لَمْ يَتَعَرَّضْ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِغَيْرِ الْآمِرِ أَوْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ يَحْسِبُ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الْفِنَاءِ فَحَفَرَ وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ وَالْفِنَاءُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِلْغَيْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ قَالَ: (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَتَلِفَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِهِ بَهِيمَةٌ فَضَمَانُهَا فِي مَالِهِ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ النَّفْسَ دُونَ الْمَالِ فَكَانَ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ فِي مَالِهِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ وَاِتِّخَاذُ الطِّينِ فِي الطَّرِيقِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعِ كَنْسِهِ إنْسَانٌ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فَإِنَّهُ مَا أَحْدَثَ شَيْئًا فِيهِ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، حَتَّى لَوْ جَمَعَ الْكُنَاسَةَ فِي الطَّرِيقِ وَتَعَقَّلَ بِهَا إنْسَانٌ كَانَ ضَامِنًا لِتَعَدِّيهِ بِشَغْلِهِ (وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَنَحَّاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي نَحَّاهُ) لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ لِفَرَاغِ مَا شَغَلَهُ، وَإِنَّمَا اُشْتُغِلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مَوْضِعٌ آخَرُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَالُوعَةِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ حَيْثُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حُقُوقِ الْعَامَّةِ (وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ) إمَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْ بِالِافْتِيَاتِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ مُقَيِّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ (وَكَذَا إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ (وَكَذَا إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ) لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ دَارِهِ وَالْفِنَاءُ فِي تَصَرُّفِهِ.
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، أَمَّا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا بِأَنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ وَهَذَا صَحِيحٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَالْبَالُوعَةُ: ثَقْبٌ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ الْبَلُّوعَةُ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى بَيَانِ إذْنِ الْإِمَامِ.
وَالِافْتِيَاتُ: الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ افْتِعَالٌ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ السَّبْقُ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي الْأَمْرِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ أَحَدٍ ضَمِنَهُ.
وَقَوْلُهُ (مِمَّا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا مِنْ إخْرَاجِ الْكَنِيفِ وَالْمِيزَابِ وَالْجُرْصُنِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ وَإِشْرَاعِ الرَّوْشَنِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَغَيْرَهُ) يَعْنِي مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ كَبِنَاءِ الظُّلَّةِ وَغَرْسِ الشَّجَرِ وَرَمْيِ الثَّلْجِ وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ) يَعْنِي كَمَا إذَا أَمَرَهُ الْإِمَامُ فَحَفَرَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَذَلِكَ إذَا حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مِلْكَهُ.
وَقِيلَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ بِأَنْ لَا يَضُرَّ لِأَحَدٍ أَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.
وَقَوْلُهُ (هَذَا) يَعْنِي هَذَا الْجَوَابَ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ إذَا كَانَ الْفِنَاءُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا إذَا كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ صَحِيحٌ (وَلَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُوعًا أَوْ غَمًّا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَاتَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا مَاتَ مِنْ الْوُقُوعِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ مَاتَ جُوعًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ غَمًّا فَالْحَافِرُ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْغَمِّ سِوَى الْوُقُوعِ، أَمَّا الْجُوعُ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْبِئْرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ ضَامِنٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ، إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُوعًا أَوْ غَمًّا) أَيْ انْخِنَاقًا بِالْعُفُونَةِ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: يَوْمُ غَمٍّ إذَا كَانَ يَأْخُذُ النَّفْسَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ عَلَى عَادَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الرَّاجِحَ فَإِنَّ الْفِقْهَ مَعَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ رَجُلًا فِي بِئْرٍ حَتَّى مَاتَ غَمًّا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ فِيهِ مِنْ الْوُقُوعِ لِأَنَّ أَثَرَ فِعْلِهِ وَهُوَ الْعُمْقُ أَثَّرَ فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَثَرِ الْوُقُوعِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صَحَّتْ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ آخَرَ بِذَبْحِ هَذِهِ الشَّاةِ فَذَبَحَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الذَّابِحَ مُبَاشِرٌ وَالْآمِرُ مُسَبِّبٌ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُبَاشَرَةِ فَيَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ الْمَغْرُورُ، وَهُنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ (وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَلَا غُرُورَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (وَإِنْ قَالَ لَهُمْ: هَذَا فِنَائِي) وَلَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ فَحَفَرُوا وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا (لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ (لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَطَبِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَالرُّكُوبِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَفَى ذَلِكَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ إلَيْهِ.
قَالَ): وَمَنْ جَعَلَ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَمِلَ الْقَنْطَرَةَ، وَكَذَلِكَ (إذَا وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدٍّ هُوَ تَسْبِيبٌ، وَالثَّانِي تَعَدٍّ هُوَ مُبَاشَرَةٌ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ تَخَلُّلَ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ كَمَا فِي الْحَافِرِ مَعَ الْمُلْقِي.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ) يَعْنِي بِأَنْ كَانَ الْفِنَاءُ لِلْغَيْرِ أَوْ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صَحَّتْ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِنَقْلِ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى صِحَّةِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً تَضَرَّرَ الْأُجَرَاءُ فَامْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ مَخَافَةَ لُزُومِ الْعُهْدَةِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ، وَهَذَا دَلِيلُ كَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ) دَلِيلُ قَوْلِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ، وَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ فِي صِحَّتِهِ ظَاهِرًا، وَكَوْنُ الْمَأْمُورِ مَغْرُورًا كَالْآمِرِ بِذَبْحِ شَاةٍ ظَهَرَ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْغَيْرِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِكَوْنِهِ مُبَاشِرًا، وَكَوْنُ الْآمِرِ مُسَبِّبًا وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُبَاشَرَةِ فَيَضْمَنُ وَيَرْجِعُ لِلْغُرُورِ، وَهَاهُنَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فَلَا يُنْقَلُ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ وَلَيْسُوا بِمَغْرُورِينَ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُمْ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ.
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَمْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، بَلْ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرًا حَيْثُ عَلِمُوا، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ، فَإِنَّ الْأُجَرَاءَ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ضَمِنُوا وَرَجَعُوا عَلَى الْآمِرِ وَهَا هُنَا لَمْ يَضْمَنُوا أَصْلًا.
وَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي ذَبْحِ شَاةِ غَيْرِهِ بِأَنَّ الذَّابِحَ مُبَاشِرٌ وَالْآمِرَ مُسَبِّبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ كَذَبْحِ الشَّاةِ إذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهَا (وَإِنْ قَالَ لَهُمْ هَذَا فِنَائِي) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ إلَخْ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يُخَالِفُ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ صَرِيحٌ فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ بِمُقَابَلَتِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَيْسَ لِي ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ، وَهَكَذَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ فَيَكُونُ الصَّرِيحُ مُشْتَرَكَ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعَارِضُ الدَّلَالَةَ.
قَالَ (وَمَنْ جَعَلَ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْأَوَّلَ) يَعْنِي جَعْلَ الْقَنْطَرَةِ وَوَضْعَ الْخَشَبَةِ (تَعَدٍّ) أَمَّا وَضْعُ الْخَشَبَةِ فَكَوْنُهُ تَعَدِّيًا ظَاهِرٌ وَأَمَّا بِنَاءُ الْقَنْطَرَةِ فَلِأَنَّ الْبَانِيَ فَوَّتَ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ فِي وَضْعِ الْقَنَاطِرِ عَلَى الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ مِنْ حَيْثُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ وَالضِّيقِ وَالسَّعَةِ لِلْإِمَامِ فَكَانَ جِنَايَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْجِنَايَةُ تَعَدٍّ لَا مَحَالَةَ قَالَ (وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَا إذَا سَقَطَ فَتَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ وَإِنْ كَانَ رِدَاءً قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ عَنْهُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَامِلَ الشَّيْءِ قَاصِدٌ حِفْظَهُ فَلَا حَرَجَ فِي التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ، وَاللَّابِسُ لَا يَقْصِدُ حِفْظَ مَا يَلْبَسُهُ فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا ذَكَرْنَا فَجَعَلْنَاهُ مُبَاحًا مُطْلَقًا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ مَا لَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فَهُوَ كَالْحَامِلِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى لُبْسِهِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَهَذَا اللَّفْظُ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ (يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ) وَهُمَا تَلَفُ الْإِنْسَانِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ، وَتَلَفُهُ بِالتَّعَثُّرِ بِهِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَطِبَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ وَذَلِكَ لَا يَشْمَلُ التَّعَثُّرَ بِهِ، نَعَمْ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَحْمِلُ الشَّيْءَ فِي الطَّرِيقِ فَيَسْقُطُ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ فَيَمُوتُ قَالَ الْحَامِلُ ضَامِنٌ يَشْمَلُهُمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ بَيِّنٌ.
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعْلُ قَوْلِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّدَاءِ فَاسِدٌ لِأَنَّ مَوْتَ الْإِنْسَانِ بِسُقُوطِ الرِّدَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعْطُوفِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي بِوَصْفِ السَّلَامَةِ.
وَقَوْلُهُ (مَا لَا يَلْبَسُهُ عَادَةً) يَعْنِي مِثْلَ اللِّبَدِ وَالْجُوَالِقِ وَدُرُوعِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَرْبِ، وَكَذَا إذَا لَبِسَ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِعَدَمِ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لِلْعَشِيرَةِ فَعَلَّقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِيهِ قِنْدِيلًا أَوْ جَعَلَ فِيهِ بَوَارِي أَوْ حَصَاةً فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ ضَمِنَ) قَالُوا: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقُرَبِ وَكُلُّ أَحَدٍ مَأْذُونٌ فِي إقَامَتِهَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، كَمَا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَنَصْبِ الْإِمَامِ وَاخْتِيَارِ الْمُتَوَلِّي وَفَتْحِ بَابِهِ وَإِغْلَاقِهِ وَتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ إذَا سَبَقَهُمْ بِهَا غَيْرُ أَهْلِهِ فَكَانَ فِعْلُهُمْ مُبَاحًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِعْلُ غَيْرِهِمْ تَعَدِّيًا أَوْ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَقَصْدُ الْقُرْبَةِ لَا يُنَافِي الْغَرَامَةَ إذَا أَخْطَأَ الطَّرِيقَ كَمَا إذَا تَفَرَّدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالطَّرِيقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَهْلِهِ.
قَالَ: (وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ.
لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إلَّا بِانْتِظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ فِيهِ مُبَاحًا لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا بِالْحَدِيثِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ.
وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُلْحَقَةٌ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ فَجَعَلْنَا الْجُلُوسَ لِلْأَصْلِ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَالْجُلُوسَ لِمَا يُلْحَقُ بِهِ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْكَافِرِ أَوْ إلَى الصَّيْدِ وَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا وَطِئَ غَيْرَهُ وَالنَّوْمِ فِيهِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ (وَإِنْ جَلَسَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَأَمْرُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إنْ كَانَ مُفَوَّضًا إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَحْدَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِلْعَشِيرَةِ) يَعْنِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ.
وَقَوْلُهُ (ضَمِنَ) يَعْنِي إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ أَحَدٍ مِنْ الْعَشِيرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ كَمَا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ.
وَقَوْلُهُ (كَنَصْبِ الْإِمَامِ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَانِي مَوْجُودًا، أَمَّا إذَا كَانَ فَنَصَّبَ الْإِمَامُ إلَيْهِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْإِسْكَافِ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُنَصِّبَ شَخْصًا وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ ابْنِ سَلَّامٍ إنَّ الْقَوْمَ أَوْلَى بِنَصْبِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ، وَالْبَانِي أَوْلَى بِالْعِمَارَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَتَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ إذَا سَبَقَهُمْ بِهَا غَيْرُ أَهْلِهِ) فَلَهُمْ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سُبِقُوا بِهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُكَرِّرَ الْجَمَاعَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَقَصْدُ الْقُرْبَةِ لَا يُنَافِي الْغَرَامَةَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقُرَبِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا) فَإِنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ لَكِنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ، فَإِنَّ شَرْطَهَا أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً مِمَّنْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ انْقَلَبَتْ قَذْفًا وَاسْتَوْجَبَ الْحَدَّ.
قَالَ (وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ إلَخْ) وَإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ مِنْ الْعَشِيرَةِ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ فَإِمَّا إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا لِأَنَّ النَّفَلَ بِالشُّرُوعِ يَصِيرُ فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَلْ كَانَ قَاعِدًا لِغَيْرِهَا ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَيْ لِتَعْلِيمِ الْفِقْهِ أَوْ الْحَدِيثِ (أَوْ لِلصَّلَاةِ) يَعْنِي مُنْتَظِرًا لَهَا (أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ، بَلْ لَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ تَكْرَارٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ هَذَا الْمَذْكُورَ كُلَّهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضِمْنَ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ بَيَانٌ لِذَلِكَ لَكِنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يُفِيدُ اتِّفَاقَ الْمَشَايِخِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَمَا رَأَيْت، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ فِي الِاعْتِكَافِ.
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَقَوْلُهُ (وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّي كَانَ لَهُ إزْعَاجُ الْقَاعِدِ فِيهِ الْمُشْتَغِلِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّدْرِيسِ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مَوْضُوعَهُ الْأَصْلِيَّ دُونَ الْعَكْسِ، وَمَا عَرَفَ النَّاسُ الْمَسْجِدَ إلَّا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَا دَلَالَةَ لِمَا ذَكَرَا مِنْ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا سِوَى الْإِذْنِ وَالْعُكُوفِ بِهِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَكَوْنُهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لابد مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ