فصل: بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ:

قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً وَتَجُوزُ بِذَلِكَ أَبَدًا) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِبَدَلٍ وَغَيْرِ بَدَلٍ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ، وَيَكُونُ مَحْبُوسًا عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَتَجُوزُ مُؤَقَّتًا وَمُؤَبَّدًا كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ عَلَى أَصْلِنَا، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ خِلَافُهُ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُوَرِّثُ وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرْضٌ لَا يَبْقَى، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا وَالْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا.
قَالَ (فَإِنْ خَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ إلَيْهِ لِيَخْدُمَهُ) لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الثُّلُثِ لَا يُزَاحِمُهُ الْوَرَثَةُ (وَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثُّلُثِ وَحَقَّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَلَا تُمْكِنُ قِسْمَةُ الْعَبْدِ أَجْزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصِرْنَا إلَى الْمُهَايَأَةِ إيفَاءً لِلْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الدَّارِ إذَا كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ حَيْثُ تُقَسَّمُ عَيْنُ الدَّارِ ثَلَاثًا لِلِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ أَعْدَلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا زَمَانًا وَذَاتًا، وَفِي الْمُهَايَأَةِ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا زَمَانًا.
وَلَوْ اقْتَسَمُوا الدَّارَ مُهَايَأَةً مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ تَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ أَوْلَى، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ثُلُثَيْ الدَّارِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِمْ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ، وَكَذَا لَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ إذَا خَرِبَ مَا فِي يَدِهِ.
وَالْبَيْعُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ ذَلِكَ فَمَنَعُوا عَنْهُ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إلَى الْوَرَثَةِ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ مَرْضَاتِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَنَافِعِ، وَأَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْأَعْيَانِ وُجُودًا فَأَخَّرَهَا عَنْهَا وَضْعًا.
قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَيُفِيدُ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعْتَمِدُ التَّمْلِيكَ وَالْمَنَافِعُ تَقْبَلُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ (فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ)؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُزِيلُهَا وَالْإِرْثُ خِلَافُهُ (فِيمَا يَمْلِكُهُ الْمُورَثُ وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى) وَإِذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ جَازَتْ بِغَلَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهَا فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا (وَالْمَعْنَى) وَهُوَ الْحَاجَةُ (يَشْمَلُهَا) يَعْنِي الْمَنْفَعَةَ وَالْغَلَّةَ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ خَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ) فِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِشَخْصٍ فَإِمَّا أَنْ قَالَ أَبَدًا أَوْ جَعَلَ ذَلِكَ زَمَانًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، وَخَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ تَخْرُجْ وَلَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ يُسَلَّمُ إلَيْهِ لِيَخْدُمَهُ وَإِنْ لَمْ تُجِزْهُ الْوَرَثَةُ خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا أَنَّ عَيَّنَ سَنَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ، فَإِنْ عَيَّنَ وَمَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ مُضِيِّ الْبَعْضِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّهَا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَى الْمُوصَى لَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ وَصِيَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ أَوْ لَا يَخْرُجُ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ يُسَلَّمُ الْعَبْدُ إلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَخْدِمَهُ سَنَةً كَامِلَةً ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَخْدُمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى خِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ سَنَةً فَإِنَّ لَهُ ثُلُثَ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إلَى الْوَرَثَةِ) إذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ الْمُوصَى بِهِ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَلَوْ انْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا (ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمِيرَاثَ خِلَافُهُ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُورَثُ، وَذَلِكَ فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ مُرَاضَاةِ الْمَالِكِ لَا يَجُوزُ. (وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ) لِأَنَّ إيجَابَهَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ فَاسْتَخْدَمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ سَكَنَهَا بِنَفْسِهِ قِيلَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ كَعَيْنِهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا، وَهَذَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَمُتَفَاوِتَانِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ يُمْكِنُهُمْ أَدَاؤُهُ مِنْ الْغَلَّةِ بِالِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ بَعْدَ اسْتِغْلَالِهَا وَلَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا بِعَيْنِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا مِنْ غَيْرِهِ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ لِأَنَّهَا كَالْأَعْيَانِ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ بِبَدَلٍ اعْتِبَارًا بِالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ عَلَى أَصْلِنَا، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ، كَذَا هَذَا.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ لَازِمٌ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ وَالْأَكْثَرَ بِالْأَقَلِّ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ غَيْرُ لَازِمٍ إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ لِلْمُتَبَرِّعِ لَا لِغَيْرِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَلِهَذَا انْقَطَعَ، أَمَّا هُوَ فِي وَضْعِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا وَفِي تَمْلِيكِهَا بِالْمَالِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ يَمْلِكُهَا تَبَعًا لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ لِمَنْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا، أَمَّا إذَا تَمَلَّكَهَا مَقْصُودَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَلَّكَهُ مَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَأَهْلُهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَيُخْرِجُهُ إلَى أَهْلِهِ لِلْخِدْمَةِ هُنَالِكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مَقْصُودِ الْمُوصِي، فَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ فِيهِ بِدُونِ أَنْ يَلْزَمَهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ، وَإِذَا كَانُوا فِي غَيْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدُمَهُمْ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ (فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ) الْوَصِيَّةُ (لِأَنَّ إيجَابَهَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي فَصْلِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ جَوَازِ الْإِقْرَارِ وَبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ (وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ) فَاسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ الْمُوصِي بِغَلَّتِهِ الْمُوصَى لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ سَكَنَ الدَّارَ الْمُوصِي بِغَلَّتِهَا بِنَفْسِهِ.
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ) وَاضِحٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نَذْكُرُهَا (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الْمَعْنَى رَاجِعٌ إلَى الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مَا فَوْقَهُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ لِلْمُتَبَرِّعِ لَا لِغَيْرِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَصِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ ابْتِدَاءً لَكِنَّهَا تَصِيرُ لَازِمَةً بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ قَبُولِهَا الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ فِي وَضْعِهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَانْقِطَاعُ الرُّجُوعِ بِمَوْتِ الْمُوصِي مِنْ الْعَوَارِضِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ) دَلِيلٌ آخَرُ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا لَا يَجُوزُ) يَعْنِي بِنَاءً عَلَى مَا قَالَ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِإِجَارَةِ الْحُرِّ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ رَقَبَتِهِ لَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِبَدَلٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَمُرَادُهُ بِالْمَنْفَعَةِ مَنْفَعَةٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا، وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا لَمْ يَخْرُجْ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِخْرَاجُ إلَى أَهْلِهِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانُوا فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ مِصْرِ الْمُوصِي. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، كَيْفَ وَأَنَّهُ عَيْنٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَغِلُّ ثُلُثَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ وَلِلشَّرِيكِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْمُطَالَبَةُ بِالْقِسْمَةِ تُبْتَنَى عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُوصَى لَهُ فِيمَا يُلَاقِيهِ الْقِسْمَةُ إذْ هُوَ الْمُطَالِبُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْغَلَّةِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِقِسْمَةِ الدَّارِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا عَطْفًا مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ.
ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، فَلَوْ لَمْ يُوصِ فِي الرَّقَبَةِ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ مَعَ كَوْنِ الْخِدْمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ، فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ، إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَلَهَا نَظَائِرُ، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلِآخَرَ بِفَصِّهِ، أَوْ قَالَ هَذِهِ الْقَوْصَرَةُ لِفُلَانٍ وَمَا فِيهَا مِنْ التَّمْرِ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا أَوْصَى، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الظَّرْفِ فِي الْمَظْرُوفِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، أَمَّا إذَا فَصَلَ أَحَدُ الْإِيجَابَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِيهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا.
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِيجَابِهِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إيجَابُ الْأَمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا دُونَ الْوَلَدِ، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي فَكَانَ الْبَيَانُ الْمَفْصُولُ فِيهِ وَالْمَوْصُولُ سَوَاءً كَمَا فِي وَصِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ.
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ.
وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا.
وَاسْمُ الْقَوْصَرَةِ كَذَلِكَ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي مُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ بِإِيجَابٍ عَلَى حِدَةٍ فَيُجْعَلُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَا يَكُونُ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ لِلثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلثَّانِي بِالْخَاتَمِ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ مَعَ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ بِحُكْمِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ لِغَيْرِهِ لَا يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ حَقٌّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ) قَدْ عُلِمَ جَوَازُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ) يَعْنِي إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ عَبْدِهِ سَنَةً، وَتَذْكِيرُ الضَّمَائِرِ إمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَالِ أَوْ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ تُعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِهِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخِدْمَةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ صِرْنَا إلَى قِسْمَةِ اسْتِيفَاءِ الْخِدْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ إلَى مَا يُسْتَوْفَى خِدْمَتُهُ سَنَةً كَامِلَةً كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ) ظَاهِرٌ إلَى قَوْلِهِ (عَطْفًا مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ) وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ قَوْلَهُ، وَالْآخَرُ بِرَقَبَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ (فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَالَةُ) يُرِيدُ حَالَةَ الْعَطْفِ (بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ) أَيْ بِحَالَةِ انْفِرَادِ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ) كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ: يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ مُنْفَرِدَةً كَانَتْ الرَّقَبَةُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ (وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ) مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ (فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ) تَكُونُ الرَّقَبَةُ لَهُ وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا (إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ) ثُمَّ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِشَخْصٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ حَدَّ الْخِدْمَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ؛ لِأَنَّ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ تَنْمُو الْعَيْنُ وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْخِدْمَةَ صَارَ كَالْكَبِيرِ، وَالنَّفَقَةُ فِي الْكَبِيرِ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِدْمَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، إذْ الْعَبْدُ لَا يَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ إلَّا بِهِ، وَإِنْ أَبَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ رَدَّهُ إلَى مَنْ لَهُ الرَّقَبَةُ كَالْمُسْتَعِيرِ مَعَ الْمُعِيرِ، وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَالْفِدَاءُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِدْمَةُ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ بِالتَّطْهِيرِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّطْهِيرُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (نَظَائِرُ) وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ وَاضِحَةً.
وَقَوْلُهُ (وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الظَّرْفِ) وَهُوَ الْأَمَةُ وَالْخَاتَمُ وَالْقَوْصَرَّةُ (فِي الْمَظْرُوفِ) يَعْنِي الْوَلَدَ وَالْفَصَّ وَالتَّمْرَ (فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا) أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْإِيجَابَيْنِ مَوْصُولًا بِالْآخَرِ فَالِاتِّفَاقُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي وَصِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ) فَإِنَّ الْمَوْصُولَ وَالْمَفْصُولَ فِيهِمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَتَأْخِيرُ تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِي الْكِتَابِ وَالْمَبْسُوطِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَحْدَهَا، وَإِنْ قَالَ لَهُ ثَمَرَةُ بُسْتَانِي أَبَدًا فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَثَمَرَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَا عَاشَ، وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الْغَلَّةُ الْقَائِمَةُ وَغَلَّتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الثَّمَرَةَ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ عُرْفًا فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ إلَّا بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ، مِثْلُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبَدِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَبَّدُ إلَّا بِتَنَاوُلِ الْمَعْدُومِ وَالْمَعْدُومُ مَذْكُورٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، أَمَّا الْغَلَّةُ فَتَنْتَظِمُ الْمَوْجُودَ وَمَا يَكُونُ بِعَرَضِ الْوُجُودِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عُرْفًا، يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَمِنْ غَلَّةِ أَرْضِهِ وَدَارِهِ، فَإِذَا أُطْلِقَتْ يَتَنَاوَلُهُمَا عُرْفًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى.
أَمَّا الثَّمَرَةُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا الْمَوْجُودُ فَلِهَذَا يَفْتَقِرُ الِانْصِرَافُ إلَى دَلِيلٍ زَائِدٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ) الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُوصِي بِهِ وَالتَّعَدِّي إلَى مَا يَحْدُثُ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: فِي وَجْهٍ: يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ مَا عَاشَ الْمُوصَى لَهُ ذَكَرَ الْأَبَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ كَالْوَصِيَّةِ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ أَوْ أَرْضِهِ أَوْ سُكْنَى دَارِهِ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدِهِ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ فِيهَا جَارٍ عَلَى الْأَبَدِ، وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي وَجْهٍ: يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ دُونَ الْحَادِثِ ذَكَرَ الْأَبَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، كَالْوَصِيَّةِ بِالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالْوَلَدِ فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ بِوَجْهٍ مَا.
وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ ذِكْرَ الْأَبَدِ يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ كَالْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْمَوْتِ تَنَاوَلَهَا، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقَعُ عَلَى الْحَادِثِ إلَى أَنْ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فَتَبْطُلُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ صَوْنًا لِكَلَامِ الْمُوصِي عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَالْمُصَنِّفُ حَمَلَ الْفَرْقَ بَيْنَ الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ عَلَى الْعُرْفِ فِيهِمَا، ثُمَّ السَّقْيُ وَالْخَرَاجُ وَمَا فِيهِ صَلَاحُ الْبُسْتَانِ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالْبُسْتَانِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ فِي فَصْلِ الْخِدْمَةِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ) لِأَنَّهُ إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ، إلَّا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ.
أَمَّا الْوَلَدُ الْمَعْدُومُ وَأُخْتَاهُ فَلَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدٍ مَا، فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ تَبَعًا وَبِعَقْدِ الْخُلْعِ مَقْصُودًا، فَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا) إلَى آخِرِ الْبَابِ وَاضِحٌ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْمُصَنِّفِ مَا أَجْزَلَ تَرْكِيبَهُ وَأَحْسَنَ تَرْتِيبَهُ لَا يَرَى مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرٍ إلَّا وَتَرْكِيبُهُ أَوْفَى تَأْدِيَةً لَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَبِعَقْدِ الْخُلْعِ) صُورَتُهُ أَنْ نَقُولَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِي أَوْ غَنَمِي صَحَّ وَلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَطْنِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَمْ يَضُرَّهُ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ عَلَى حَمْلِ جَارِيَتِي وَلَيْسَ لَهَا حَمْلٌ تَرُدُّ الْمَهْرَ.

.(بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ):

قَالَ (وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ) لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا.
قَالَ (وَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ مُسَمِّينَ فَهُوَ الثُّلُثُ) مَعْنَاهُ إذَا أَوْصَى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ أَعْقَبَ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِوَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ لِكَوْنِ الْكُفَّارِ مُلْحَقِينَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ (وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ بِيعَةً أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ) بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى اخْتِلَافِ التَّرْجِيحِ، أَمَّا عِنْدَهُ؛ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ فَهَذَا أَوْلَى (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ هَذِهِ) الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ فَلَا (تَصِحُّ وَلَوْ أَوْصَى) بِذَلِكَ أَيْ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُعْمَلَ بِيعَةٌ أَوْ كَنِيسَةٌ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ (فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ) وَلِلذِّمِّيِّ وِلَايَةُ التَّمْلِيكِ (فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ) أَيْ: تَصْحِيحُ إيصَائِهِ (عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ) يَعْنِي الِاسْتِخْلَافَ وَالتَّمْلِيكَ فَجَعَلْنَاهُ مِنْ الثُّلُثِ نَظَرًا إلَى الِاسْتِخْلَافِ فَجَوَّزْنَا ذَلِكَ نَظَرًا إلَى التَّمْلِيكِ، وَإِذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ صَنَعُوا بِهِ مَا شَاءُوا قَالَ (وَإِنْ أَوْصَى بِدَارِهِ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَتَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً مَعْصِيَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ فَكَذَا عَكْسُهُ.
ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي.
وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُحَرَّرًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُورَثُ الْمَسْجِدُ أَيْضًا لِعَدَمِ تَحَرُّرِهِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَبَقِيَ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ فَلَا يُورَثُ.
ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا تَكُونَ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا إذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَنْ تُذْبَحَ خَنَازِيرُهُ وَتُطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذِهِ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ أَوْ بِأَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِأَنْ يُسْرَجَ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ، إلَّا إذَا كَانَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَمْلِيكًا لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ.
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُسْرَجَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يُغْزَى التَّرْكُ وَهُوَ مِنْ الرُّومِ، وَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ أَيْضًا.
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَكُونُ قُرْبَةً لَا فِي حَقِّنَا وَلَا فِي حَقِّهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلْمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَصِحُّ تَمْلِيكًا وَاسْتِخْلَافًا، وَصَاحِبُ الْهَوَى إنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ فَهُوَ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ أَوْصَى أَنْ تُجْعَلَ دَارُهُ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ) يَعْنِي قَوْمًا غَيْرَ مَحْصُورِينَ (جَازَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ) فِي الْحَقِيقَةِ (مَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ؛ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِمُعْتَقَدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَوْصَوْا بِالْحَجِّ لَمْ يُعْتَبَرْ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَوْا بِمَا هُوَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ عِبَادَةٌ صَحَّ وَإِنْ كَانَ عِنْدَنَا مَعْصِيَةً؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ.
قَالُوا: هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي الْقُرَى، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ، وَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ حَقِيقَةً) بَلْ تُحَرَّرُ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ (فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ وَضْعٌ) وَفِي قَوْلِهِ (ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ) وَقَوْلُهُ (فَبَقِيَ عَلَى مُقْتَضَاهُ) كُلُّهَا رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ لَفْظَهَا تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي مُعْتَقَدِهِمْ، فَأَمَّا إذَا لَاقَتْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ فِيهِ عَمِلَتْ عَمَلَهَا.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ إلَخْ) وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ الْوَصِيَّةَ بِبِنَاءِ الْبِيعَةِ أَوْ الْكَنِيسَةِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ الْخِلَافِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ) أَيْ: مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ اعْتِقَادُهُمْ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ.
(قَوْلُهُ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ) يَعْنِي أَنَّ كَلَامَهُ فِي صَرْفِ الْمَالِ الْمُوصِي بِهِ إلَى اسْتِضَاءَةِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهَا خَرَجَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ وَقَوْلُهُ (عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ) يَعْنِي أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ.
قَالَ (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلِهَذَا تَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِمْ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذْ هُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّنَا، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أُخِذَتْ الْوَصِيَّةُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا.
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا تَصِحُّ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُسْتَأْمَنٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذْ هُوَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ وَيُمَكَّنُ مِنْهُ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ زِيَادَةِ الْمُقَامِ عَلَى السَّنَةِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ) وَصَارَتْ كَالذِّمِّيَّةِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَقَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَا يَصِحَّ مِنْهَا وَصِيَّةٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّمِّيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ الصَّحِيحُ وَهَاهُنَا الْأَصَحُّ وَهُمَا يَصْدُقَانِ، وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْتَأْمَنٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ) قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْوَرَثَةُ مَعَهُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِمْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا) جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَرُدَّ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ قُلْت: لَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ الْبَاقِي.
وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَيْضًا مُرَاعَاةً لَحِقَ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ تَسْلِيمَ مَالِهِ إلَى وَرَثَتِهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ مَا أَوْصَى بِهِ فَارِغٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَخْ) ظَاهِرٌ. وَلَوْ أَوْصَى لِخِلَافِ مِلَّتِهِ جَازَ اعْتِبَارًا بِالْإِرْثِ إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ.
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنَعٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) دَارُ الْإِسْلَامِ ظَرْفٌ لِأَوْصَى لَا لِقَوْلِهِ حَرْبِيٍّ: أَيْ لَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ عَلَى مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ: أَيْ لِلْمُسْتَأْمَنِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.(بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ):

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَقَبِلَ الْوَصِيُّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي وَرَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فَلَيْسَ بِرَدٍّ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَضَى مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَرَدٌّ رَدَّهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ (فَإِنْ رَدَّهَا فِي وَجْهِهِ فَهُوَ رَدٌّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِهِ التَّصَرُّفَ، وَلَا غُرُورَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا، فَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولُ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ لِصُدُورِهِ مِنْ الْوَصِيِّ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْوِصَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّوْكِيلِ فَبَاعَ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِحَالِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوِرَاثَةِ.
أَمَّا التَّوْكِيلُ إنَابَةٌ لِثُبُوتِهِ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُنِيبِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ.
(وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَقَالَ لَا أَقْبَلُ ثُمَّ قَالَ أَقْبَلُ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا أَقْبَلُ لَا يَبْطُلُ الْإِيصَاءُ، لِأَنَّ فِي إبْطَالِهِ ضَرَرًا بِالْمَيِّتِ وَضَرَرُ الْوَصِيِّ فِي الْإِبْقَاءِ مَجْبُورٌ بِالثَّوَابِ، وَدَفْعُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَعْلَى أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، إذْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِبَقَاءِ الْوِصَايَةِ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي الضَّرَرَ عَنْهُ وَيُنَصِّبُ حَافِظًا لِمَالِ الْمَيِّتِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا يَنْفُذُ إخْرَاجُهُ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْقَاضِي إيَّاهُ أَقْبَلُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ بَعْدَ بُطْلَانِ الْوِصَايَةِ بِإِبْطَالِ الْقَاضِي.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى إلَيْهِ وَهُوَ الْوَصِيُّ لِمَا أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا يَشْمَلُهُ، لَكِنْ قَدَّمَ أَحْكَامَ الْمُوصَى لَهُ لِكَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا أَمَسَّ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ) أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا (فَقَبِلَ الْوَصِيُّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي) أَيْ بِعِلْمِهِ (وَرَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ) أَيْ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوصِي، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ عِلْمُ الْمُوصِي لِيَتَدَارَكَ عِنْدَ رَدِّ الْمُوصِي (فَلَيْسَ بِرِدَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَضَى لِسَبِيلِهِ) أَيْ الْمُوصِي مَاتَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ بِغَيْرِهِ عَلِمَهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ إضْرَارٌ لَا يَجُوزُ فَيَرِدُ رَدُّهُ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْمُوصَى إلَيْهِ فِي أَنَّ قَبُولَ الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ قَبِلَهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي ثُمَّ رَدَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ صَحِيحًا، بِخِلَافِ الثَّانِي عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْعَ الْأَوَّلِ بِالْوَصِيَّةِ لِنَفْسِهِ وَنَفْعَ الثَّانِي لِلْمُوصِي فَكَانَ فِي رَدِّهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ إضْرَارٌ بِهِ فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ يَرْجِعُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَلَا ضَرَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُشِيرُ إلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ) أَيْ: فِي غَيْبَتِهِ وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ؛ (لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ) فَإِنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ جَوَازِهِ عَدَمَ الضَّرَرِ كَمَا فِي رَدِّ الْمُوصَى لَهُ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ مِنْ التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَنَقَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ، حَتَّى لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيمَا نَقَلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: رِوَايَةُ عَامَّةِ الْكُتُبِ فِيمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ قِيلَ: وَسَبَبُهُ الْإِضْرَارُ بِتَغْرِيرِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا) يَعْنِي كَمَنْ وَكَّلَ حَالَ حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَكِيلِ قَبُولٌ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً كَانَ بِالْخِيَارِ.
قِيلَ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَيَّرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْإِيصَاءُ وَلَمْ يَرُدَّهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْمُوصِي وَلَمْ يُوصِ إلَى غَيْرِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِهِ وَالضَّرَرُ مَرْفُوعٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُوصِيَ مُغْتَرٌّ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ فَلَا يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ ثُمَّ رَدَّ فِي غَيْبَتِهِ فَإِنَّهُ غَارٌّ فَيَبْطُلُ اخْتِيَارُهُ.
وَقَوْلُهُ (فَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ) بَيَانُهُ أَنَّ الْقَبُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحٌ يُخَالِفُهُ لَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ) مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ: وَمَنْ أَعْلَمَهُ النَّاسُ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ، وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ: أَيْ الْوَاحِدُ فِيهِمَا يَكْفِي.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَقَالَ لَا أَقْبَلُ) يَعْنِي أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا سَكَتَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ثُمَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ قَالَ لَا أَقْبَلُ ثُمَّ قَبِلَ فَهُوَ وَصِيٌّ إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ الْقَاضِي حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا أَقْبَلُ لَا يَبْطُلُ الْإِيصَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ فِي إبْطَالِهِ مَضَرَّةً بِالْمَيِّتِ وَفِي إبْقَائِهِ ضَرَرٌ لِلْوَصِيِّ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَعْلَى لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَجْبُورٍ بِشَيْءٍ وَالثَّانِي مَجْبُورٌ بِالثَّوَابِ، وَدَفْعُ الْأَعْلَى مِنْ الضَّرَرِ أَوْلَى لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْهَا حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يَصِحُّ قَبُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَعْلِيلِ صِحَّةِ هَذَا الْإِخْرَاجِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقَاضِي حَكَمٌ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا صَحَّ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ لَوْ صَحَّتْ بِقَبُولِهِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ وَيَصِحُّ الْإِخْرَاجُ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَالْبَاقِي وَاضِحٌ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ أَخْرَجَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ وَنَصَّبَ غَيْرَهُمْ) وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يَكُونُ بَعْدَهَا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ.
قِيلَ مَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ سَتَبْطُلُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي الْعَبْدِ بَاطِلٌ حَقِيقَةً لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ، وَفِي غَيْرِهِ مَعْنَاهُ سَتَبْطُلُ، وَقِيلَ فِي الْكَافِرِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ ثُمَّ الْإِخْرَاجُ أَنَّ الْأَصْلَ النَّظَرُ ثَابِتٌ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَوِلَايَةُ الْفَاسِقِ عَلَى أَصْلِنَا وَوِلَايَةُ الْكَافِرِ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ النَّظَرُ لِتَوَقُّفِ وِلَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَجْرِ بَعْدَهَا وَالْمُعَادَاةِ الدِّينِيَّةِ الْبَاعِثَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاتِّهَامِ الْفَاسِقِ بِالْخِيَانَةِ فَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْوِصَايَةِ وَيُقِيمُ غَيْرَهُ مُقَامَهُ إتْمَامًا لِلنَّظَرِ.
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ مَخُوفًا عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي إخْرَاجِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ إلَخْ) وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ أَوْ كَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ حَرْبِيٍّ أَوْ فَاسِقٍ أَخْرَجَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْوَصِيَّةِ وَنَصَّبَ غَيْرَهُمْ، وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ يُشِيرُ إلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يَكُونُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ أَصْلًا أَوْ مَعْنَاهُ سَيَبْطُلُ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّ مَعْنَاهُ سَيَبْطُلُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلُ التَّصَرُّفِ وَلِهَذَا جَازَ تَوْكِيلُهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَجْزُهُ عَنْ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الْمَيِّتِ مَظْنُونًا لِكَوْنِ مَنَافِعِهِ لِلْمَوْلَى وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بِهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْجِزُ الْعَبْدُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِالْوِصَايَةِ.
قُلْنَا: إنَّهَا سَتَبْطُلُ بِإِخْرَاجِ الْقَاضِي إيَّاهُ عَنْهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ لَوْ قَاسَمَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ الْقَاضِي جَازَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيصَاءَ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَا يَتَوَقَّى الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةَ فَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْعَبْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا قَبْلَ الْإِجَازَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَاسْتِبْدَادُهُ إلَى مَا بَعْدَهَا)؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ مِنْهُ لِلْعَبْدِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا بَاطِلٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ ثَمَّ الْإِخْرَاجُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضًا مِنْهُ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي إخْرَاجِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ)؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنَّمَا أَوْصَى إلَيْهِ لِيَنْظُرَ فِي مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَهُ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ، وَبِالْخِيَانَةِ تَرْتَفِعُ الصِّيَانَةُ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْوِصَايَةِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فَيَمْنَعَهُ الْمُشْتَرِي فَيَعْجِزُ عَنْ الْوَفَاءِ بِحَقِّ الْوِصَايَةِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا كُلُّهُمْ فَالْوَصِيَّةُ إلَيْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، يَرْوِي مَرَّةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوِلَايَةَ مُنْعَدِمَةٌ لِمَا أَنَّ الرِّقَّ يُنَافِيهَا، وَلِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا قَلْبُ الْمَشْرُوعِ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ الصَّادِرَةَ مِنْ الْأَبِ لَا تَتَجَزَّأُ، وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ تَجْزِئَتُهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ وَهَذَا نَقْضُ الْمَوْضُوعِ.
وَلَهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوِصَايَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ، وَإِيصَاءُ الْمَوْلَى إلَيْهِ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ نَاظِرًا لَهُمْ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْوِصَايَةُ قَدْ تَتَجَزَّأُ عَلَى مَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ نَقُولُ: يُصَارُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ أَصْلِهِ، وَتَغْيِيرِ الْوَصْفِ لِتَصْحِيحِ الْأَصْلِ أَوْلَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ) أَيْ: هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَهِيَ وَصِيَّةُ عَبْدِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ (تَجْزِئَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ) وَقَوْلُهُ (وَهَذَا نَقْضُ الْمَوْضُوعِ)؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ إنَّمَا يَمْلِكُ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمُوصِي وَوِلَايَتُهُ لَا تَتَجَزَّأُ إذْ لَا يُقَالُ وِلَايَتُهُ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَلَوْ ثَبَتَ التَّجْزِيءُ فِي وِلَايَةِ الْوَصِيِّ ثَبَتَ فِي وِلَايَةِ الْمُوصِي لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَكَانَ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ.
وَقَوْلُهُ (إنَّهُ مُخَاطَبٌ) احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَقَوْلُهُ (مُسْتَبِدٌّ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِيصَاءِ إلَى عَبْدِ الْغَيْرِ وَعَمَّا إذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ.
وَقَوْلُهُ (لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ) قِيلَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ فَيَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ وَالْمُنَافَاةُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْإِيصَاءُ لَمْ يَبْقَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ (بِكَوْنِهِ نَاظِرًا لَهُمْ)؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ الْمَرْقُوقَ دُونَ الْأَحْرَارِ كَافَّةً إلَّا إذَا وَثِقَ بِدِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْإِيصَاءَ إلَيْهِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ هَذَا.
قَوْلُهُ (وَالْوِصَايَةُ قَدْ تَتَجَزَّأُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ تَجْزِئَتُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا فِي الْعَيْنِ وَإِلَى الْآخَرِ فِي الدَّيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَصِيًّا فِيمَا أَوْصَى إلَيْهِ خَاصَّةً، أَوْ نَقُولُ: يُصَارُ إلَيْهِ أَيْ: إلَى التَّجْزِيءِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهُوَ نَصْبُ عَبْدِهِ وَصِيًّا عَلَى الصِّغَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُفْضِي إلَى تَغْيِيرِ وَصْفِهِ وَهُوَ جَعْلُهُ مُتَجَزِّئًا بَعْدَمَا لَمْ يَكُنْ.
قُلْنَا: يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِتَصْحِيحِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ (وَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ ضَمَّ إلَيْهِ الْقَاضِي غَيْرَهُ) رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَكْمِيلَ النَّظَرِ يَحْصُلُ بِضَمِّ الْآخَرِ إلَيْهِ لِصِيَانَتِهِ وَنَقْصِ كِفَايَتِهِ فَيَتِمُّ النَّظَرُ بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ، وَلَوْ شَكَا إلَيْهِ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ حَتَّى يَعْرِفَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الشَّاكِيَ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا تَخْفِيفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي عَجْزُهُ أَصْلًا اسْتَبْدَلَ بِهِ رِعَايَةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ أَمِينًا فِيهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ غَيْرَهُ كَانَ دُونَهُ لِمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ وَمَرْضِيَّهُ فَإِبْقَاؤُهُ أَوْلَى وَلِهَذَا قُدِّمَ عَلَى أَبِي الْمَيِّتِ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا شَكَا الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ مِنْهُ خِيَانَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمَيِّتِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا نَصَّبَهُ وَصِيًّا لِأَمَانَتِهِ وَقَدْ فَاتَتْ، وَلَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَعِنْدَ عَجْزِهِ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَأَنَّهُ لَا وَصِيَّ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ) مَعْنَى قَوْلِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوِصَايَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ ثَلَاثَةٌ: عَدْلٌ كَافٍ، وَفَاسِقٌ.
وَزَادَ الْمُصَنِّفُ الْعَاجِزَ أَصْلًا إذَا ظَهَرَ لِلْقَاضِي عَجْزُ وَصِيٍّ عَنْ الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ عَدْلٌ ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا، وَإِذَا عَلِمَ صِيَانَةَ الْوَصِيِّ وَنَقْصَ كِفَايَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَكْمِيلُ النَّظَرِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَكِنْ شَكَا إلَيْهِ الْوَصِيُّ ذَلِكَ: أَيْ: عَدَمَ الِاسْتِبْدَادِ بِعَجْزِهِ لَا يُجِيبُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ عَجْزٌ أَصْلًا اسْتَبْدَلَ غَيْرَهُ بِهِ رِعَايَةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: أَيْ جَانِبِ الْمُوصِي وَالْوَصِيِّ، يَقُومُ الْمَنْصُوبُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِ الْمُوصِي وَالْعَاجِزِ الْمَعْزُولِ بِقَضَاءِ حُقُوقِ نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ عَدْلًا كَافِيًا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ إلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ وَإِنْ شَكَاهُ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ إلَيْهِ، إذَا ظَهَرَ مِنْهُ خِيَانَةٌ فَإِنَّهُ يَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دُونَ صَاحِبِهِ) إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ سَبِيلُهَا الْوِلَايَةُ وَهِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا تَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ لِلْأَخَوَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي وَقَدْ كَانَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ إيَّاهُمَا يُؤْذِنُ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّفَقَةِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَرَابَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَلَهُمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ بِالتَّفْوِيضِ فَيُرَاعَى وَصْفُ التَّفْوِيضِ وَهُوَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ إذْ هُوَ شَرْطٌ مُقَيَّدٌ، وَمَا رَضِيَ الْمُوصِي إلَّا بِالْمُثَنَّى وَلَيْسَ الْوَاحِدُ كَالْمُثَنَّى، بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِنْكَاحِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَالِكَ الْقَرَابَةُ وَقَدْ قَامَتْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا، وَلِأَنَّ الْإِنْكَاحَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَى الْوَلِيِّ، حَتَّى لَوْ طَالَبَتْهُ بِإِنْكَاحِهَا مِنْ كُفُؤٍ يَخْطُبُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَهَاهُنَا حَقُّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ، وَلِهَذَا يَبْقَى مُخَيَّرًا فِي التَّصَرُّفِ، فَفِي الْأَوَّلِ أَوْفَى حَقًّا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَحَّ، وَفِي الثَّانِي اسْتَوْفَى حَقًّا لِصَاحِبِهِ فَلَا يَصِحُّ أَصْلُهُ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَمَوَاضِعُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ أَبَدًا، وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَأَخَوَاتِهَا.
فَقَالَ (إلَّا فِي شِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ فَسَادَ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْجِيرَانُ عِنْدَ ذَلِكَ (وَطَعَامِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتِهِمْ) لِأَنَّهُ يَخَافُ مَوْتَهُمْ جُوعًا وَعُرْيًا (وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمَالِكُ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ.
وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ (وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ (وَالْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهَا أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ (وَقَبُولِ الْهِبَةِ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خِيفَةَ الْفَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ الْأُمَّ وَاَلَّذِي فِي حِجْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ (وَبَيْعِ مَا يَخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفَ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لَا تُخْفَى (وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ كُلَّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَقَاضَى، وَالْمُرَادُ بِالتَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ، كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا فِي الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لاسيما عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ قِيلَ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ فَقَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ.
وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَعَاقَبُ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِيَ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَضُمُّ الْقَاضِي إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ عَجْزِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَالْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَهُ مُتَصَرِّفًا فِي حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنُ التَّحَقُّقِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ مَكَانَ الْمَيِّتِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ إلَخْ) رُوِيَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا أَوْصَى إلَيْهِمَا جَمِيعًا مَعًا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا أَصَحُّ وَبِهِ نَأْخُذُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وَكَّلَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ أَنَّهُ قَالَ: الْخِلَافُ فِيهِمَا جَمِيعًا سَوَاءٌ أَوْصَى إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا.
وَجَعَلَ فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا الْأَصَحَّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا مَعًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِافْتِرَاقِ وَالِاجْتِمَاعِ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ كَمِّيَّتَهَا لِاخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، فَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ سِتَّةً، وَهُوَ مَا عَدَا تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَبُولَ الْهِبَةِ، وَجَمْعَ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ مِنْ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ بِجِنْسِ حَقِّهِ، وَشِرَاءَ مَا لابد لِلصَّغِيرِ مِنْهُ، وَبَيْعَ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَرَدَّ الْغَصْبِ، الْوَدِيعَةِ وَالْخُصُومَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ ثَمَانِيَةً وَهِيَ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَسْرَارِ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَقَبُولُ الْهِبَةِ.
وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا جَمْعَ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْهِبَةِ مِنْ جِنْسِ جَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ فَيُعَدَّانِ وَاحِدًا كَيْ لَا يَزْدَادَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَانِيَةِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (سَبِيلُهَا الْوِلَايَةُ) يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ لِمَنْ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِالتَّوْلِيَةِ كَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ) أَيْ: الْوِلَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْمُوصِي لِتَحَقُّقِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ أَنَّ اقْتِضَاءَ الدَّيْنِ: أَيْ قَبْضَهُ لَيْسَ كَقَضَائِهِ بَلْ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ) ذَكَرْنَاهُ فِي مَطْلَعِ الْكَلَامِ مَعَ ذِكْرِ صَاحِبِ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا) مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ. وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ فَلِلْحَيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى شَخْصٍ آخَرَ.
وَلَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ يَخْلُفُهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى كَمَا رَضِيَهُ الْمُتَوَفَّى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ) ظَاهِرٌ. وَإِذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالتَّوْكِيلِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ إلَى الْوَصِيِّ فِي الْمَالِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْجَدُّ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ فِيمَا لَهُ وِلَايَتُهُ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعْتَرِيهِ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَلَافِي مَا فَرَّطَ مِنْهُ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ) يَعْنِي إذَا مَاتَ الْأَبُ كَانَ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ وَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْجَدِّ، فَكَذَا الْوَصِيُّ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَوَّلِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ يُجْعَلُ الْأَوَّلُ قَائِمًا حُكْمًا.
وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ) أَيْ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ: أَيْ فِي تَرِكَةِ نَفْسِهِ سَمَّاهُ تَرِكَةً بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ، وَتَرِكَةِ مُوصِيهِ.
أَمَّا فِي تَرِكَتِهِ؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ.
وَأَمَّا فِي تَرِكَةِ مُوصِيهِ؛ فَبِاعْتِبَارِ الْوِصَايَةِ إلَيْهِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ) أَيْ: لَا يَرْضَى الْمُوَكِّلُ بِأَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلَهُ غَيْرَهُ أَوْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ. قَالَ (وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ وَمُقَاسَمَتُهُ الْوَرَثَةَ عَنْ الْمُوصَى لَهُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَرُدَّ بِالْعَيْبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ بِهِ وَيَصِيرَ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ وَالْوَصِيُّ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَارِثِ إذَا كَانَ غَائِبًا فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَقَدْ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْمُوصَى لَهُ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُوصِي فَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ خَلِيفَةً عَنْهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا أَفْرَزَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيِّ كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَنْفُذْ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَيَتْوَى مَا تَوِيَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ.
قَالَ (فَإِنْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَأَخَذَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ فَضَاعَ رَجَعَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ) رَجُلٌ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ غُيَّبٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ الْمُوصَى لَهُ نَائِبًا عَنْ الْوَرَثَةِ وَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَالْقِسْمَةُ نَافِذَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي الْمَنْقُولِ، وَالْعَقَارِ إنْ كَانُوا صِغَارًا، وَفِي الْمَنْقُولِ إنْ كَانُوا كِبَارًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ لَمْ تَرْجِعْ الْوَرَثَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا حَاضِرًا وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ غَائِبًا فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ مَعَ الْوَارِثِ عَنْ الْمُوصَى لَهُ فَأَعْطَى الْوَرَثَةَ حَقَّهُمْ وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ لِلْمُوصَى لَهُ لَمْ تَنْفُذْ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فِي الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ مَا أَفْرَزَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَرَثَةِ بِثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا صِغَارًا كَانَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ نَصِيبِ الصِّغَارِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا، أَمَّا إذَا كَانُوا كِبَارًا فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ عَلَيْهِمْ وَلَهُ وِلَايَةُ بَيْعِ الْمَنْقُولِ، فَكَذَا الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ بَيْعٍ، وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْوَرَثَةَ وَالْوَصِيَّ كِلَاهُمَا خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ خَصْمًا عَنْهُمْ، وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ.
وَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ بِكُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ، وَبَيْن الْوَصِيِّ مُنَاسَبَةٌ حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا عَنْهُ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ فِي نُفُوذِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ (حَتَّى يَرُدَّ بِالْعَيْبِ) أَيْ: فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورَثُ (وَيُرَدُّ عَلَيْهِ) أَيْ: فِيمَا بَاعَهُ الْمُورَثُ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورَثِ؛ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَمَاتَ ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً لَمَا رَجَعَ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُورَثُ مِنْ آخَرَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ دُونَ بَائِعِ بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ بَائِعِهِ حَتَّى يَكُونَ غُرُورُهُ كَغُرُورِهِ وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ كَانَ تَصَرُّفُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ وَهَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَجِبُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ تَعَدَّى عَلَى الْمَالِ وَاسْتَهْلَكَهُ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إلَخْ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَا أَفْرَزَهُ لِلْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِمْ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ بِالدَّفْعِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
فَإِنْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ؛ (لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَنْفُذْ عَلَيْهِ). قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ فِي الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لِلثُّلُثِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَإِلَّا يَرْجِعُ بِتَمَامِ الثُّلُثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقُّ الْمُوصِي، وَلَوْ أَفْرَزَ الْمُوصِي بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، فَكَذَا إذَا أَفْرَزَهُ وَصِيُّهُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا بَقِيَ مَحَلُّهَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ بَطَلَتْ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِمَقْصُودِهَا وَهُوَ تَأْدِيَةُ الْحَجِّ فَلَمْ تُعْتَبَرْ دُونَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَلِأَنَّ تَمَامَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْجِهَةِ الْمُسَمَّاةِ، إذْ لَا قَابِضَ لَهَا، فَإِذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَتِمَّ فَصَارَ كَهَلَاكِهِ قَبْلَهَا.

الشَّرْحُ:
(قَالَ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ إلَخْ) رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَكَانَ مِقْدَارُ الْحَجِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ الْوَصِيُّ أَلْفًا وَدَفَعَهَا إلَى الَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ فَسُرِقَتْ فِي الطَّرِيقِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ سُرِقَتْ ثَانِيًا يُؤْخَذُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ مَرَّةً أُخْرَى هَكَذَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُؤْخَذُ مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ سُرِقَتْ ثَانِيًا لَا يُؤْخَذُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا سُرِقَتْ الْأَلْفُ الْأُولَى بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْوَرَثَةُ إلَى الْقَاضِي فَقَسَمَهَا وَالْمُوصَى لَهُ غَائِبٌ فَقِسْمَتُهُ جَائِزَةٌ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ تَصِيرُ الْوَصِيَّةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لاسيما فِي حَقِّ الْمَوْتَى وَالْغُيَّبِ، وَمِنْ النَّظَرِ إفْرَازُ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَقَبْضِهِ فَنَفَذَ ذَلِكَ وَصَحَّ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَقَدْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ سَبِيلٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ أَلْفِ دِرْهَمٍ) وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فِيمَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ تَمْيِيزٌ لَا مُبَادَلَةٌ حَتَّى يَنْفَرِدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، وَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا قَامَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ، وَبَيْعُ مَالِ الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا قِسْمَتُهُ.
قُلْت: وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الدَّرَاهِمِ لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا مِمَّا يُوزَنُ. قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْوَصِيُّ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مُقَامَ الْمُوصِي، وَلَوْ تَوَلَّى حَيًّا بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَكَذَا إذَا تَوَلَّاهُ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّورَةِ وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ لِفَوَاتِهَا إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الثَّمَنُ.
بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ الِاسْتِسْعَاءِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَاعَ الْوَصِيُّ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ) ذَكَرَهُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ الْمَوْلَى أَوْ وَصِيُّهُ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ لَهُ الْمَدْيُونَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ هُنَاكَ حَقًّا فِي اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ لَا يَبْقَى، فَكَانَ فِي الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَنْفُذُ بِغَيْرِ إجَازَتِهِمْ.
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَيْسَ لِغَرِيمِ الْمَوْلَى حَقٌّ فِي اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ، إنَّمَا حَقُّهُ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ مُبْطِلًا حَقَّ الْغَرِيمِ بَلْ يَكُونُ مُحَقِّقًا لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ لَا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ وَبِالْبَيْعِ يَحْصُلُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ تَوَلَّى حَيًّا بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ) يَعْنِي إذَا بَاعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ وَيَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَبَاعَهُ الْوَصِيُّ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَضَاعَ فِي يَدِهِ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدُ ضَمِنَ الْوَصِيُّ) لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ عُهْدَةٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ مَا رَضِيَ بِبَذْلِ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَقَدْ أَخَذَ الْوَصِيُّ الْبَائِعُ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ.
قَالَ (وَيَرْجِعُ فِيمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِقَبْضِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَرْجِعُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا، وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ يُقْضَى مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ إذَا تَوَلَّى الْبَيْعَ حَيْثُ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا الْقَاضِيَ تَعْطِيلُ الْقَضَاءِ، إذْ يَتَحَامَى عَنْ تَقَلُّدِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ حَذَرًا عَنْ لُزُومِ الْغَرَامَةِ فَتَتَعَطَّلُ مَصْلَحَةُ الْعَامَّةِ وَأَمِينُهُ سَفِيرٌ عَنْهُ كَالرَّسُولِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيُّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ قَدْ هَلَكَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا وَفَاءٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ كَمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ آخَرُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ وَيُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِقَبْضِهِ) أَيْ لَا بِعَمَلٍ آخَرَ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ عَامِلًا لِلْمُوصِي وَلَا لِوَرَثَتِهِ.
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ لِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ) أَيْ: بِحُكْمِ أَنَّ الْمَيِّتَ غَرَّهُ بِقَوْلِهِ هَذَا مِلْكِي فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ، وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِهِ كَانَ قَائِلًا هَذَا الْعَبْدُ مِلْكِي فَكَانَ الْوَصِيُّ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ الضَّمَانُ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ يُقْضَى مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ) يَعْنِي فِي آخِرِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ قَدْ هَلَكَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا وَفَاءٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) أَيْ: لَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَلَا عَلَى الْمَسَاكِينِ إنْ كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَقَعْ إلَّا لِلْمَيِّتِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ آخَرُ، وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ مُحَالًا إلَى الْمُنْتَقَى أَنَّ الْوَصِيَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَالْقِيَاسُ هَكَذَا؛ لِأَنَّ غُنْمَ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ عَادَ إلَيْهِمْ فَالْغُرْمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَصْلٌ فِي غُنْمِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْفَقِيرُ تَبَعٌ لَهُ. قَالَ (وَإِنْ قَسَمَ الْوَصِيُّ الْمِيرَاثَ فَأَصَابَ صَغِيرًا مِنْ الْوَرَثَةِ عَبْدٌ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ وَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ رَجَعَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ، وَيَرْجِعُ الصَّغِيرُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِحِصَّتِهِ لِانْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ بِاسْتِحْقَاقِ مَا أَصَابَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ قَسَمَ الْوَصِيُّ الْمِيرَاثَ إلَخْ) ظَاهِرٌ قَالَ (وَإِذَا احْتَالَ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ جَازَ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَمْلَأَ، إذْ الْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمْلَأَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ.
الشَّرْحُ:
وَكَذَا قَوْلُهُ (وَإِذَا احْتَالَ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ) وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا كَانَ الْمُحِيلُ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ سَوَاءً فِي الْمُلَاءَةِ.
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ، وَمَنْ لَا يُجَوِّزُهُ يَحْتَاجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ مَالَ الْيَتِيمِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى مَا يَجِيءُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَبَنٌ فَاحِشٌ.
فَأَمَّا الْحَوَالَةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِجَوَازِهَا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَلَوْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِرَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَادَلَةً كَانَتْ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُهَا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَصِيِّ وَلَا شِرَاؤُهُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَفِي اعْتِبَارِهِ انْسِدَادِ بَابِهِ.
وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَظَرًا فَيَتَقَيَّدُ بِمَوْضِعِ النَّظَرِ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُونَهُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ تَبَرُّعٌ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ (وَإِذَا كَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى وَصِيٍّ كَتَبَ كِتَابَ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِدَةٍ وَكِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى حِدَةٍ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ، وَلَوْ كَتَبَ جُمْلَةً عَسَى أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ فِي آخِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْكَذِبِ.
ثُمَّ قِيلَ: يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَلَا يَكْتُبُ مِنْ فُلَانٍ وَصِيِّ فُلَانٍ لِمَا بَيَّنَّا.
وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ تُعْلَمُ ظَاهِرًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَصِيِّ) وَاضِحٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ أَوْ بَاعَ مِنْ الْيَتِيمِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا.
إنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَتَفْسِيرُ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةٍ مِنْ الصَّغِيرِ وَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَصَاعِدًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَوْلُهُ (وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ، وَالْمُكَاتَبُ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ) أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ بِأَهْلِيَّتِهِمْ لَا بِأَمْرِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ فَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ نِيَابَةٌ عَنْ أَحَدٍ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ (وَإِذَا كَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى وَصِيٍّ) هَذَا تَعْلِيمٌ لِكِتَابِ الْحُقُوقِ، وَالشُّهُودِ لِنَفْيِ تُهْمَةِ شَهَادَةِ الزُّورِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ. قَالَ (وَبَيْعُ الْوَصِيِّ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْعَقَارِ) لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي مَا سِوَاهُ وَلَا يَلِيهِ، فَكَذَا وَصِيُّهُ فِيهِ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَاهُ لِمَا أَنَّهُ حُفِظَ لِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ، وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحِفْظَ، أَمَّا الْعَقَارُ فَمُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ.
قَالَ (وَلَا يَتْجُرُ فِي الْمَالِ) لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهِ الْحِفْظُ دُونَ التِّجَارَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَصِيُّ الْأَخِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأَبِ فِي الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْعَمِّ.
وَهَذَا الْجَوَابُ فِي تَرِكَةِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ وَصِيَّهُمْ قَائِمٌ مُقَامَهُمْ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ فَكَذَا وَصِيُّهُمْ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَبَيْعُ الْوَصِيِّ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ) قَيَّدَ بِالْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا صِغَارًا جَازَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْعُرُوضَ وَالْعَقَارَ عَلَى جَوَابِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ سَوَاءٌ كَانُوا حَاضِرِينَ أَوْ غُيَّبًا وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: إنَّمَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ عَقَارِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْعَقَارِ، أَوْ يَكُونُ لِلصَّغِيرِ حَاجَةٌ لِثَمَنِ الْعَقَارِ، أَوْ يَرْغَبُ الْمُشْتَرِي فِي شِرَائِهِ بِضِعْفِ الْقِيمَةِ.
وَقَيَّدَ بِالْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا حَضَرُوا لَيْسَ لِلْوَصِيِّ التَّصَرُّفُ فِي التَّرِكَةِ أَصْلًا، لَكِنْ يَتَقَاضَى دُيُونَ الْمَيِّتِ وَيَقْبِضُ حُقُوقَهُ وَيَدْفَعُ إلَى الْوَرَثَةِ، إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْوَرَثَةُ الدُّيُونَ وَلَمْ يُنَفِّذُوا الْوَصِيَّةَ مِنْ مَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَبِيعُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا إنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا أَوْ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ إنْ لَمْ يُحِطْ، وَلَهُ بَيْعُ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَلَوْ بَاعَ لِتَنْفِيذِهَا شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ جَازَ بِمِقْدَارِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَفِي الزِّيَادَةِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الدَّيْنِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي مَا سِوَاهُ) دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَإِنْ كَانَ وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدُّيُونِ إلَّا بِالْبَيْعِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِالْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ يَبِيعُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْقُولِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمِنْ الْعَقَارِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، قَالَا فِي مَنْعِ بَيْعِ الزِّيَادَةِ: إنَّ جَوَازَهُ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيْعِ الزَّائِدِ فَلَا يَجُوزُ.
وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: الْوِلَايَةُ هَاهُنَا بِسَبَبِ الْوِصَايَةِ وَهِيَ لَا تَتَجَزَّأُ، فَمَتَى تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي بَيْعِ الْبَعْضِ تَثْبُتُ فِي الْبَاقِي؛ وَلِأَنَّ فِي بَيْعِ الْبَعْضِ إضْرَارًا لِتَعَيُّبِ الْبَاقِي فَكَانَ فِي بَيْعِ الْكُلِّ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ الْكَبِيرِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحِفْظَ وَبَيْعَ الْمَنْقُولَاتِ حَالَ غَيْبَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ عُلِمَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا بِعِبَارَةِ الْكِتَابِ وَإِذَا كَانُوا صِغَارًا بِمَفْهُومِهِ، فَمَا حُكْمُهَا إذَا كَانُوا صِغَارًا وَكِبَارًا.
قُلْت: حُكْمُهَا أَنَّ الْكِبَارَ إذَا كَانُوا غُيَّبًا وَخَلَتْ التَّرِكَةُ عَنْ دَيْنٍ، وَوَصِيَّةٍ فَلِلْوَصِيِّ بَيْعُ الْمَنْقُولِ بِالْإِجْمَاعِ وَبَيْعُ حِصَّةِ الصِّغَارِ مِنْ الْعَقَارِ، وَأَمَّا بَيْعُ حِصَّةِ الْكِبَارِ مِنْهُ فَعَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَرَّ، وَإِنْ اُشْتُغِلَتْ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ يَبِيعُ الْمَنْقُولَ وَالْعَقَارَ جَمِيعًا، وَبِغَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ يَبِيعُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا، وَفِي الزِّيَادَةِ الْخِلَافُ وَإِنْ كَانُوا حُضُورًا وَكَانَتْ التَّرِكَةُ خَالِيَةً عَنْ الدَّيْنِ يَبِيعُ حِصَّةَ الصِّغَارِ مِنْ الْعَقَارِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي بَيْعِ حِصَّةِ الْكِبَارِ الْخِلَافُ، وَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ يَبِيعُ الْكُلَّ وَبِغَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ بِقَدْرِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْخِلَافِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَتَّجِرُ فِي الْمَالِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا الْجَوَابُ فِي تَرِكَةِ هَؤُلَاءِ) يَعْنِي: الْأَخَ وَالْأُمَّ وَالْعَمَّ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِتَرِكَةِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ وَصِيَّ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَرَكَ الْأَبُ لَيْسَ كَوَصِيِّ الْأَبِ فِي الْكَبِيرِ الْغَائِبِ؛ فَإِنَّ وَصِيَّ الْأُمِّ لَا يَمْلِكُ عَلَى الصَّغِيرِ بَيْعَ مَا وَرِثَهُ الصَّغِيرُ عَنْ أَبِيهِ، الْعَقَارُ، وَالْمَنْقُولُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ وَالْأُمُّ حَالَ حَيَاتِهَا لَا تَمْلِكُ بَيْعَ مَا وَرِثَهُ الصَّغِيرُ الْمَنْقُولُ وَالْعَقَارُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ وَالْخَالِي عَنْهُ فَكَذَلِكَ وَصِيُّهَا، وَأَمَّا مَا وَرِثَهُ الصَّغِيرُ مِنْ الْأُمِّ فَلِوَصِيِّهَا فِيهِ بَيْعُ الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْحِفْظِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ الْحِفْظِ دُونَ الْعَقَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ، أَمَّا إذَا كَانَ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فَلَهُ بَيْعُ الْكُلِّ وَدَخَلَ بَيْعُ الْعَقَارِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ طَرِيقُ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ دَخَلَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا يَبِيعُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، وَأَمَّا بَيْعُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَارِّ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ وَصِيِّ الْأَخِ وَالْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ عَلَى الصَّغِيرِ فِي الْمَالِ فَكَذَا لَا وِلَايَةَ لِلْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَيْهِ. قَالَ (وَالْوَصِيُّ أَحَقُّ بِمَالِ الصَّغِيرِ مِنْ الْجَدِّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجَدُّ أَحَقُّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَهُ مُقَامَ الْأَبِ حَالَ عَدَمِهِ حَتَّى أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ فَيُقَدَّمُ عَلَى وَصِيِّهِ.
وَلَنَا أَنَّ بِالْإِيصَاءِ تَنْتَقِلُ وِلَايَةُ الْأَبِ إلَيْهِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً مَعْنًى فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ الْوَصِيَّ مَعَ عِلْمِهِ بِقِيَامِ الْجَدِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ أَنْظَرُ لِبَنِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ أَبِيهِ (فَإِنْ لَمْ يُوصِ الْأَبُ فَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ) لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْإِنْكَاحَ دُونَ وَصِيٍّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ وَصِيُّ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْوَصِيُّ أَحَقُّ بِمَالِ الصَّغِيرِ مِنْ الْجَدِّ إلَخْ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ بِالْإِيصَاءِ تَنْتَقِلُ وِلَايَةُ الْأَبِ إلَيْهِ إلَخْ.