فصل: بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ:

قَالَ: (الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، أَوْ بِالتَّعْجِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ.
وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ.
وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ.
وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُثْبِتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ:
لَمَّا كَانَتْ الْإِجَارَةُ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ بِلَا خِيَارِ شَرْطٍ وَجَبَ إفْرَادُهَا بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّمَلُّكِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ.
قَالَ (الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ؛ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَالْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَا تُمْلَكُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ، وَمَا لَا يُمْلَكُ لَا يَجِبُ إيفَاؤُهُ.
فَإِنْ قُلْت: فَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيُ الْوُجُوبِ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ، وَإِرَادَةُ الْأَخَصِّ لَيْسَ بِمَجَازٍ شَائِعٍ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْأَعَمِّ عَلَيْهِ أَصْلًا.
قُلْت: أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَنَفْيُ الْوُجُوبِ فِيهَا وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ لَا مَحَالَةَ، وَعَلَى هَذَا كَانَ قَوْلُهُ يُسْتَحَقُّ بِمَعْنَى يَمْلِكُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مُتَّحِدًا، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ.
فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَلَا يَتَعَدَّى مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إلَى إفَادَةِ الْمِلْكِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ إذَا ثَبَتَ يَسْتَتْبِعُ لَوَازِمَهُ، وَإِفَادَةُ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْعَقْدُ: أَيْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُعَاوَضَةً بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْ قَضِيَّةِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ.
فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ وَهُوَ الْأَجْرُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.
وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِذَلِكَ.
وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ بِلَا شَرْطٍ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَهُ مُطَالِبٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ إجَارَةً أَوْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِهِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ.
وَعُورِضَ دَلِيلُنَا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ وَالِارْتِهَانِ عَنْهَا وَالْكَفَالَةُ.
بِهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْلَا الْمِلْكُ لَمَا صَحَّتْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعَةٌ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ إذْ اللَّفْظُ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ، وَعَدَمُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ، وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَصِحَّةِ الرَّهْنِ، لِأَنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ اشْتِرَاطُهُ فَكَذَا الرَّهْنُ بِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَيْنٍ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ أُقِيمَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَكُنْ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَهَذَا طَرِيقٌ سَائِغٌ شَائِعٌ لِكَوْنِهِ إقَامَةَ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَأَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فَلَمْ يُعْهَدْ كَذَلِكَ (وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا)؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فَأَقَمْنَا تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ مَقَامَهُ إذْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَثْبُتُ بِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ يَدِهِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ)؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ إنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا فَاتَ التَّمَكُّنُ فَاتَ التَّسْلِيمُ، وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَسَقَطَ الْأَجْرُ، وَإِنْ وَجَدَ الْغَصْبَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ.
إذْ الِانْفِسَاخُ فِي بَعْضِهَا.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ)؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً (إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ (وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرَاضِيِ) لِمَا بَيَّنَّا.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ فَلِلْجَمَّالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ)؛ لِأَنَّ سَيْرَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مَقْصُودٌ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا، كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ سَاعَةً فَسَاعَةً لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِغَيْرِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَقَدَّرْنَا بِمَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ لِبَيَانِ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ يَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ.
لَا يُقَالُ: فَعَلَى هَذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ بِأَحَدِ مَعَانٍ أَرْبَعَةٍ، وَأَنْ يَقُولَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَهُ أَحْيَانًا، وَبَدَلُ أَحَدِ الْأَقْسَامِ لَا يَكُونُ قِسْمًا بِذَاتِهِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ مَا اسْتَأْجَرَهُ وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ مَانِعٌ وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا وَجَبَ الْأَجْرُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْآجِرِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ لَا تَسْلِيمُ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَكَانَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ قَائِمًا مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ فَارِغَةً عَنْ مَتَاعِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْغَيْرِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ سُلْطَانٌ أَوْ غَاصِبٌ فَقَدْ حَصَلَ التَّمَكُّنُ وَتَرْكُ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَتَقْصِيرٌ مِنْهُ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأَجْرِ، وَاعْتَبَرَ الْقُيُودَ، فَإِنَّ بِزَوَالِ شَيْءٍ مِنْهَا زَوَالَ التَّمَكُّنِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ، فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْعَيْنَ أَوْ سَلَّمَهَا مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِي غَيْرِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَذَهَبَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ بِالدَّابَّةِ وَلَمْ يَرْكَبْهَا أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِيهَا فِي غَيْرِ مَكَانِ الْعَقْدِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً فِي غَيْرِ بَغْدَادَ إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِيهَا فِي مَكَانِهِ لَكِنْ بِهَا عَرَجٌ فَاحِشٌ يَمْنَعُ الرُّكُوبَ، أَوْ سَلَّمَهَا فَارِغَةً فِيهَا فِي مَكَانِهِ صَحِيحَةً لَا عُذْرَ فِيهَا لَكِنْ مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَكِنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ بَلْ لِفَوَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ أَكْثَرِ هَذِهِ الْقُيُودِ فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْت: وَجْهُهُ الِاقْتِصَارُ لِلِاخْتِصَارِ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ وَالْعُرْفِ، فَإِنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَالَّةٌ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدُ مِنْهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الِانْتِفَاعِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ فَارِغًا عَمَّا يَمْنَعُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْعُرْفُ فَاشٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ وَمَكَانِهِ فَكَانَ مَعْلُومًا عَادَةً، وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْتَنِعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ فَاقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمَا، وَوُجُودُ الْمَانِعِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ وَالْمَكَانُ يُسْقِطُ الْأَجْرَ بِقَدْرِهِ لِوُجُوبِ الِانْفِسَاخِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ.
قَالَ (مَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا) ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ مُطَالَبَةِ الْأَجْرِ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ مُبَيَّنًا بِالْعَقْدِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ شَهْرًا كَانَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ، إذْ الِاسْتِحْقَاقُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، وَالتَّأْجِيلُ يُسْقِطُ اسْتِحْقَاقَ الْمُطَالَبَةِ إلَى انْتِهَاءِ الْأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرَاضِي (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ فَلِلْجَمَّالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ لِأَنَّ سَيْرَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مَقْصُودٌ) كَسُكْنَى يَوْمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا (وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ) وَمَا هُوَ جُمْلَةٌ فِي الْمُدَّةِ لَا تَكُونُ مُسَلَّمَةً فِي بَعْضِهَا لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْأَعْوَاضِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ الزَّمَانِ فَلَا يُسْتَحَقُّ الْمُؤَجَّلُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ جُمْلَةِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُسَلَّمْ جَمِيعُهُ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُ الثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ كَالْخِيَاطَةِ، فَإِنَّ الْخَيَّاطَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ وَقَبْلَ الْفَرَاغِ كَمَا سَيَأْتِي.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا) يَعْنِي الْمَنَافِعَ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ أَجْزَاءَ الْعِوَضِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ وَقَاسَ الْمَنَافِعَ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، لِأَنَّ فِي الْمَنَافِعِ قَدْ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَهَا فَيَلْزَمُهُ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَمَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَلَّمْ مِنْ الْخَيَّاطِ شَيْئًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْعِوَضِ قَدْ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ وُجُوبًا، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ وَفِي ذَلِكَ لَا يَتَوَزَّعُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمُ فِي الْخَيَّاطِ وُجِدَ تَقْدِيرًا لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيَّاطِ لَمَّا اتَّصَلَ بِالثَّوْبِ كَانَ ذَلِكَ تَسْلِيمًا تَقْدِيرًا عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَلْتَزِمْ صِحَّةَ دَلِيلِ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا أَلْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلرُّجُوعِ عَنْهُ وَجْهٌ (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ سَاعَةً فَسَاعَةً تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ) بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ (إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِغَيْرِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ) بَلْ الْمُطَالَبَةُ حِينَئِذٍ تُفْضِي إلَى عَدَمِهِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجِّرِ فَيَمْتَنِعُ الِانْتِفَاعُ مِنْ جِهَتِهِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ، وَمَا أَفْضَى وُجُودُهُ إلَى عَدَمِهِ فَهُوَ مُنْتَفٍ (فَقَدَّرْنَا بِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْيَوْمِ فِي الدَّارِ وَالْمَرْحَلَةِ فِي الْبَعِيرِ قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأَجْرِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ، وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا.
قَالَ: (إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَازِمٌ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يُخْرِجَ الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ.
فَلَوْ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِلْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، (فَإِنْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَضْعِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الْجِنَايَةُ.
قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بَعْدَ حَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامًا لِلْوَلِيمَةِ فَالْعُرْفُ عَلَيْهِ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ إذَا أَقَامَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يُشْرِجَهَا)؛ لِأَنَّ التَّشْرِيجَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ، إذْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْفَسَادِ قَبْلَهُ فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ؛ وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ عُرْفًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ بِالْإِقَامَةِ، وَالتَّشْرِيجُ عَمَلٌ زَائِدٌ كَالنَّقْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ التَّشْرِيجِ بِالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ مُنْتَشِرٌ، وَبِخِلَافِ الْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ.
قَالَ: (وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَضَاعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْحَبْسِ فَبَقِيَ أَمَانَةً كَمَا كَانَ عِنْدَهُ، وَلَا أَجْرَ لَهُ لِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْعَيْنُ كَانَتْ مَضْمُونَةً قَبْلَ الْحَبْسِ فَكَذَا بَعْدَهُ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ، وَسَيُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ) كُلِّهِ (لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْأَجْرُ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَا ثَوْبَيْنِ فَفَرَغَ مِنْ أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ يَطْلُبَ أُجْرَتَهُ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ (وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ (إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ التَّعْجِيلُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَازِمٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا وَقَعَ مُخَالِفًا لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ فِي الْمَبْسُوطِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، وَذُكِرَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ نَقْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا خَاطَهُ.
وَنُقِلَ عَنْ الذَّخِيرَةِ: يَجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا فِي الْجَمَّالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ نُقِلَ فِي التَّجْرِيدِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ صَاحِبَ التَّجْرِيدِ أَبَا الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
وَأَقُولُ: كَلَامُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ، وَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَيَّنَّا لِكُلِّ جُزْءٍ حِصَّةً مَعْلُومَةً، إذَا لَيْسَ لِلْكَمِّ مَثَلًا أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لِلذَّوَائِلِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ عَادَةً فَلَمْ تَكُنْ الْحِصَّةُ مَعْلُومَةً إلَّا بِتَعْيِينِهِمَا وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَيَسْتَوْجِبُ أُجْرَةً كَمَا فِي كُلِّ الثَّوْبِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُعْتَمَدُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ) ذَكَرَ هَذَا الْبَيَانُ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَيَّاطِ آنِفًا.
وَالثَّانِي أَنَّ فَرَاغَ الْعَمَلِ بِمَاذَا يَكُونُ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزَ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَخْرُجَ الْخُبْزُ مِنْ التَّنُّورِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ بِتَمَامِ الْعَمَلِ وَتَمَامُ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ (فَلَوْ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا أَجْرَ لَهُ لِلْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ) فَإِنْ قِيلَ: خَبَزَهُ فِي بَيْتِهِ يَمْنَعُ أَنْ يَخْبِزَ لِغَيْرِهِ، وَمَنْ عَمِلَ لِوَاحِدٍ فَهُوَ أَجِيرُ وَحْدٍ، وَاسْتِحْقَاقُهُ الْأُجْرَةَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ أَجِيرَ الْوَحْدِ مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْمُدَّةِ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُسْتَأْجَرٌ عَلَى الْعَمَلِ فَكَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا تَوَقَّفَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى فَرَاغِ الْعَمَلِ (فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ التَّنُّورِ ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ) لِأَنَّ عَمَلَهُ تَمَّ بِالْإِخْرَاجِ وَالتَّسْلِيمُ وُجِدَ بِالْوَضْعِ فِي بَيْتِهِ (وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ تُوجِبُهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَهَذَا) أَيْ قَوْلُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ (عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ) وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَمِينِ (وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ) لِأَنَّ الْعَيْنَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ (وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِحَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ) وَالْوَضْعُ فِي بَيْتِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ كَانَ صَاحِبُ الدَّقِيقِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَطَبِ وَالْمِلْحِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَحَالَ وُجُوبِهِ رَمَادًا لَا قِيمَةَ لَهُ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَهْلَكْ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا يَتِمُّ إنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي بَيْتِهِ تَسْلِيمًا (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامَ وَلِيمَةٍ فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ إلَى الْقِصَاعِ) لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ عُرْفًا، وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ فِي طَبْخِ قِدْرٍ خَاصَّةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْغَرْفُ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبَنًا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِإِقَامَتِهَا) فَإِنْ أَفْسَدَهُ الْمَطَرُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ انْكَسَرَ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسَلِّمًا مَا لَمْ يَصِرْ لَبَنًا، وَمَا دَامَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَصِرْ لَبَنًا (وَقَالَا: لَا يَسْتَحِقُّهُ حَتَّى يُشَرِّجَهُ) أَيْ يُنَضِّدَهُ بِضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ (لِأَنَّ التَّشْرِيجَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ) عُرْفًا، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ إلَخْ) وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ جَازَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَالْوَصْفُ الْقَائِمُ فِي الثَّوْبِ جَازَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ، وَالْوَصْفُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْعَيْنِ فَجَازَ حَبْسُهَا لِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ حَبْسُ الْعَيْنِ ضَرُورِيًّا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى عَدَمِ الضَّمَانِ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَضَاعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ: يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَلْزَمُ إلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّي وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، لَكِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ لِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعَيْنُ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَبْسِ فَكَذَا بَعْدَهُ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَخِيرِ. قَالَ: (وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ حَيْثُ يَكُونُ لِلرَّادِّ حَقُّ حَبْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ، وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَبِيعِ بِمِلْكِهِ فَيَسْقُطَ حَقُّ الْحَبْسِ.
وَلَنَا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ كَمَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ.
الشَّرْحُ:
وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ، بَلْ إنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْعَامِلِ أَوْ بِعَيْنٍ لَهُ، وَالْحَبْسُ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ النَّشَا وَغَيْرِهِ سِوَى إزَالَةِ الْوَسَخِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَصَّارِ وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ.
وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَجَامِعِ قَاضِي خَانْ أَنَّ إحْدَاثَ الْبَيَاضِ فِي الثَّوْبِ بِإِزَالَةِ الدَّرَنِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلٍ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ.
قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الْبَيَاضَ كَانَ مُسْتَتِرًا وَقَدْ ظَهَرَ بِفِعْلِهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْآبِقُ إذَا رَدَّهُ إنْسَانٌ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ قَائِمٌ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآبِقَ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ بِرَدِّهِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا) يَعْنِي حَقَّ الْحَبْسِ لِلصَّانِعِ بِالْأَجْرِ فِيمَا إذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ هُوَ (مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ) قِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِي الَّذِي لِعَمَلِهِ فِيهِ أَثَرٌ وَفِيمَا لَمْ يَكُنْ (لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ) وَالْمُسَلِّمُ إلَى صَاحِبِهِ لَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ كَمَا لَوْ عَمِلَ فِي بَيْتِ الصَّاحِبِ.
وَالْجَوَابُ (أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْعَمَلِ) وَذَلِكَ جِهَةُ غَيْرِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِالِاتِّصَالِ مِنْ حَيْثُ التَّسْلِيمُ (فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ) وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَصَارَ كَقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ، فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ وَأَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرَى لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ. قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ (وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَمَلٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ إلَخْ) وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ نُقِلَ عَنْ حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنْ تَعْمَلَ بِنَفْسِك أَوْ بِيَدِك مَثَلًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ، كَأَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا لِلْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرَهَا، وَفِيهِ تَأَمَّلْ لِأَنَّهُ إنْ خَالَفَهُ إلَى خَيْرٍ بِأَنْ اسْتَعْمَلَ مَنْ هُوَ أَصْنَعُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ أَوْ سَلَّمَ دَابَّةً أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَمَلَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْعَمَلُ وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ، وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فصل فيمن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله:

(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءَ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِقَدْرِهِ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ وَيَجِيءَ بِجَوَابِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ) هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَمْلِ الْكِتَابِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَقْلُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِهِ وَقَدْ نَقَضَهُ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ كَمَا فِي الطَّعَامِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ (وَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَادَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ)؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُنْتَقَضْ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) لَمَّا ذَكَرَ اسْتِحْقَاقَ تَمَامِ الْأَجْرِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ تَمَامِ الْأَجْرِ أَوْ بَعْضِهِ، وَعَقَّبَهُ لِأَصْلِ الْبَابِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ تَمَامِ الْأَجْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالنُّقْصَانُ لِعَارِضٍ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضَهُمْ مَيِّتًا فَجَاءَ بِالْبَاقِي) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جَمَاعَةٍ مَعْلُومِي الْعَدَدِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ (فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُسْتَحَقُّ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَمُرَادُهُ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ (إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ وَيَأْتِيَ بِالْجَوَابِ فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا) فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ الْكِتَابَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي اسْتَحَقَّ أَجْرَ الذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ (فَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَطَعَ الْمَسَافَةَ أَوْ نَقَلَ الْكِتَابَ.
وَوَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَافَةَ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ دُونَ نَقْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِذَهَابِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ الْمُقَابِلَ لَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ نَقَلَ الْكِتَابَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ عَلِمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ نَقَضَهُ بِرَدِّهِ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ بِهِ وَوَجَدَهُ مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَإِنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ لِنَقْضِهِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ، وَلَيْسَ بِنَاهِضٍ عَلَى مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عِنْدَهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَمْ يَنْقَضِ مَا قَطَعَهُ مِنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا:

قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ (وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ) لِلْإِطْلَاقِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا)؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِهَا وَوَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَ هُنَا مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَقْيِيدِهِ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُعَدُّ خِلَافًا مِنْ الْأَجِيرِ لِلْمُؤَجِّرِ وَمَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا.
قَالَ (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى إلَخْ) قِيلَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْت هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِكَذَا وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِنْ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا هُوَ السُّكْنَى وَبِهِ يُسَمَّى مَسْكَنًا.
وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ الِانْتِفَاعُ وَهُوَ مُتَنَوِّعٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ مَا لَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ) جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّكْنَى مُتَعَارَفٌ لَكِنْ قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكَّانُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ، وَمَا لَا يَتَفَاوَتُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَيَصِحُّ (وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ) مِنْ السُّكْنَى وَالْإِسْكَانِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ لِلْوَقِيدِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى (لِلْإِطْلَاقِ) أَيْ لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا) بِالْمَاءِ أَوْ الدَّابَّةِ دُونَ الْيَدِ إنْ لَمْ يُوهِنْ الْبِنَاءَ، وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْبِنَاءُ جَازَ أَنْ يَعْمَلَهُ فِيهِ وَيَتَقَيَّدَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (لَا يَسْكُنُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ (حَدَّادًا) يَكُونُ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَيَنْتَفِي بِهِ الْإِسْكَانُ دَلَالَةً لِاتِّحَادِ الْمَنَاطِ وَهُوَ الضَّرَرُ بِالْبِنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْمَنْصُوبَاتُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَيَنْتَفِي بِهِ سُكْنَاهُ دَلَالَةً لِاتِّحَادِ الْمَنَاطِ وَهُوَ الضَّرَرُ بِالْبِنَاءِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ)؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا (وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ، وَلَا انْتِفَاعَ فِي الْحَالِ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعُقَدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالِ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ (وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا)؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ (أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْخِيَرَةَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا) وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّهَا تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُزْرَعُ فِيهَا لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَعَدَمِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ (وَيَدْخُلُ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ فِي الْعَقْدِ بِلَا تَنْصِيصٍ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَلَا انْتِفَاعَ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ) وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْحُقُوقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةُ؛ لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ؛ لِيَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا أَوْ شَجَرًا)؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُقْصَدُ بِالْأَرَاضِيِ (ثُمَّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْلَعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسْلِمَهَا إلَيْهِ فَارِغَةً)؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا وَفِي إبْقَائِهِمَا إضْرَارًا بِصَاحِبِ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى زَمَانِ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ.
قَالَ: (إلَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ) وَهَذَا بِرِضَا صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأَرْضُ بِقَلْعِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ.
قَالَ: (أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونَ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِهَذَا)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَهُ.
قَالَ: (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، وَفِي الْأَرْضِ رُطَبَةٌ فَإِنَّهَا تُقْلَعُ)؛ لِأَنَّ الرِّطَابَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ.
الشَّرْحُ:
(وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةَ) وَهِيَ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ (لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالْأَرَاضِيِ) فَيَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ (فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ قَلْعُهُمَا وَتَسْلِيمُهَا فَارِغَةً لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا، فَفِي إبْقَائِهِمَا ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ) هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ فَلِأَنَّ الْأَرْضَ إمَّا أَنْ تَنْقُصَ بِالْقَلْعِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ شَاءَ يَغْرَمُ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكُهُ رَضِيَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ لَا، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا فَيَكُونُ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِذَاكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَهُ أَنْ يَغْرَمَ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا لَكِنْ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ (وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّرْعِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ) وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ قَلَعْنَاهُ تَضَرَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ، وَلَوْ تَرَكْنَا الْأَرْضَ بِيَدِهِ بِلَا أَجْرٍ تَضَرَّرَ الْمُؤَجِّرُ، وَفِي تَرْكِهِ بِأَجْرٍ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فَصَيَّرَ إلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ مَسْأَلَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ أَنَّ الرُّطَبَةَ كَالشَّجَرَةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ)؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعْهُودَةٌ (فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ.
وَلَكِنْ إذَا رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ (وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَأَطْلَقَ جَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ (وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا فُلَانٌ أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ فُلَانٌ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا)؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ لِمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا الْعَقَارُ وَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ، وَاَلَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
قَالَ: (وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ)؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ وَالْحَدِيدِ) لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قُطْنًا سَمَّاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا)؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَضَرَّ بِالدَّابَّةِ فَإِنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ظَهْرِهَا وَالْقُطْنُ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ إلَخْ) إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْت لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، أَوْ زَادَ فَقَالَ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ مَنْ شَاءَ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ فُلَانٌ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا، فَإِنْ أَرْكَبَ شَخْصًا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَنْقَلِبُ جَائِزًا لِأَنَّ الْفَسَادَ كَانَ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ حَالَةُ الِاسْتِعْمَالِ فَكَأَنَّهَا ارْتَفَعَتْ مِنْ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ صَحَّ الْعَقْدُ، فَكَذَا هَاهُنَا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى، وَيَتَعَيَّنُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا، فَإِنْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ هُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُفِيدٌ لابد مِنْ اعْتِبَارِهِ، فَإِنْ تَعَدَّاهُ كَانَ ضَامِنًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِينَ كَالثَّوْبِ وَالْخَيْمَةِ، وَحُكْمُ الْحَمْلِ كَحُكْمِ الرُّكُوبِ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ جَازَ إسْكَانُ غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكَّانُ أَيْضًا، فَإِنَّ سُكْنَى بَعْضٍ قَدْ يَتَضَرَّرُ بِهِ كَالْحَدَّادِ وَنَحْوِهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَاَلَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا) وَاعْتَبِرْ مَا ذَكَرْت لَك تَسْتَغْنِ عَمَّا فِي النِّهَايَةِ مِنْ التَّطْوِيلِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ مَعْنَاهُ لِرُكُوبٍ مُعَيَّنٍ، إمَّا نَصًّا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا (وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَمِقْدَارًا مِنْ شَيْءٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الضَّرَرِ) كَحِنْطَةٍ أُخْرَى غَيْرَهَا (أَوْ) مَا هُوَ (أَقَلُّ) ضَرَرًا (كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ) فَإِنَّهُمَا إذَا كَانَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ كَانَ أَقَلَّ وَزْنًا فَكَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا.
وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا، فَإِنَّ الشَّعِيرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِثْلِ وَالسِّمْسِمُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ السِّمْسِمَ أَيْضًا مِثْلٌ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ) يَعْنِي بِهِ إذَا كَانَ مِثْلًا (أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا) يَعْنِي بِهِ إذَا كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ) إذَا كَانَ مِثْلُهَا كَيْلًا لِأَنَّهُ أَثْقَلُ (لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْقُطْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَضَرَّ عَلَى الدَّابَّةِ لِاجْتِمَاعِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الظَّهْرِ، بِخِلَافِ الْقُطْنِ فَإِنَّهُ يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ) وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا سَبَقَ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ نَظِيرَ الْمَكِيلِ وَهَذَا نَظِيرُ الْمَوْزُونِ. قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ)؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيَخِفُّ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْوَزْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا) سَوَاءٌ كَانَ الرَّدِيفُ أَخَفَّ أَوْ أَثْقَلَ مِنْ الرَّاكِبِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيَخِفُّ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالْوَزْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ) وَالْجُنَاةُ جَمْعُ جَانٍ كَالْبُغَاةِ جَمْعُ بَاغٍ، فَإِنَّهُ إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ خَطَأً فَمَاتَ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا لِأَنَّ رَبَّ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ عَشْرِ جِرَاحَاتٍ.
قِيلَ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا لِأَنَّهُ إذَا أَرْدَفَ صَبِيًّا ضَمِنَ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ إذَا كَانَ لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ. قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ)؛ لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَالسَّبَبُ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا (إلَّا إذَا كَانَ حَمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا) لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَسَبَبُ الْهَلَاكِ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا) إذَا كَانَ مِثْلُهَا يُطِيقُ حَمْلَهُ (وَأَمَّا إذَا كَانَ حَمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُهَا ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ) كَمَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى، كَمَنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيُحَمِّلَهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ شَعِيرٍ فَحَمَّلَهَا مِثْلَ كَيْلَةِ حِنْطَةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي مِقْدَارِ الْمُسَمَّى وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِي الزِّيَادَةِ فَيُوَزَّعُ الضَّمَانُ.
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ بِهِ عَشْرَةَ مَخَاتِيمِ حِنْطَةٍ فَطَحَنَ أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَهَلَكَ ضَمِنَ الْجَمِيعَ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْجِنْسِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الطَّحْنَ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا طَحَنَ الْعَشَرَةَ انْتَهَى الْإِذْنُ، فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ فِي الطَّحْنِ مُخَالِفٌ فِي اسْتِعْمَالِ الدَّابَّةِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ فَيَضْمَنُ الْجَمِيعَ، فَأَمَّا فِي الْحَمْلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَيُوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَهَا رَجُلًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ كُلِّ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ ضَمِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا أَرْدَفَ فَقَدْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ وَرَكِبَ أَيْضًا فَرُكُوبُهُ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ فِي الْإِرْكَابِ مُتَفَرِّدًا مُخَالِفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَفِي الْإِرْدَافِ مَأْذُونٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ يَقَعُ جُمْلَةً كَمَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا)؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَكَانَ حَاصِلًا بِإِذْنِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا إلَخْ) وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا: أَيْ جَذَبَهَا إلَى نَفْسِهِ لِتَقِفَ وَلَا تَجْرِيَ أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِهِ.
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مُرَادٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّامَ فِي الْمُتَعَارَفِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْكَبْحُ الْمُتَعَارَفُ أَوْ الضَّرْبُ الْمُتَعَارَفُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا لَا مُرَادًا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ: أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَاصِلٌ بِالْإِذْنِ، لَكِنَّ الْإِذْنَ فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَأْذُونُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إذَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ بِهَا، وَهَاهُنَا مُمْكِنٌ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ فَصَارَ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: (وَإِنَّ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ) وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا لَا جَائِيًا؛ لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ بِالْعَوْدِ مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى.
وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ.
وَقِيلَ لَا، بَلْ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُودَعَ بِأُمُورٍ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ فَحَصَلَ الرَّدُّ إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ، وَفِي الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا أَصَحُّ.
قَالَ: (وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ السَّرْجَ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَاثِلُ الْأَوَّلَ تَنَاوَلَهُ إذْنُ الْمَالِكِ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ (وَإِنْ كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ) لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ، وَهَذَا أَوْلَى (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحَمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَمْلِ، وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ، وَكَذَا يَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَدِينَةٌ كَانَ يَسْكُنُهَا النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَهِيَ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ مِنْ الْكُوفَةِ (فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ) مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا (ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ ضَمِنَهَا وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ) وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَعْنَى هَذَا الْوَضْعِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا فَقَطْ لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَوْدِ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَيْهَا مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُودَعًا مَعْنًى فَهُوَ نَائِبُ الْمَالِكِ وَالرَّدُّ إلَى النَّائِبِ رَدٌّ إلَى الْمَالِكِ مَعْنًى.
أَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُودَعِ بِأَنَّ الْمُودَعَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يَبْقَى مَأْمُورًا بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ لِقُوَّةِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرَّدُّ رَدًّا إلَى نَائِبِ الْمَالِكِ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ مَأْمُورَانِ بِالْحِفْظِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُسَمَّى انْقَطَعَ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ الْحِفْظُ فَلَمْ يَبْقَ نَائِبًا لِيَكُونَ الرَّدُّ رَدًّا إلَيْهِ، وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ.
وَنُوقِضَ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا لِجَوَازِ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَالسَّبَبُ فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدُّ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنْ قِيلَ: الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ إزَالَةٌ لِلتَّعَدِّي وَهُوَ يَصْلُحُ مُتَبَرِّئًا عَنْ الضَّمَانِ، وَالرَّدُّ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْغَاصِبِ رَدٌّ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَتَقَرُّرُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ غَاصِبِ الْغَاصِبِ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ.
قِيلَ إلْحَاقُ الْعَارِيَّةِ بِالْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ وَعَكْسُهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودَعِ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَرْفَعُ التَّعَدُّدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِقَةٍ لِيَتَحَقَّقَ الْإِلْحَاقُ، وَالِاتِّحَادُ فِي الْمَنَاطِ كَافٍ لِلْإِلْحَاقِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنْ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّيًا ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْحِفْظُ فِيهِ مَقْصُودًا وَذَلِكَ مَوْجُودًا فِيهِمَا لَا مَحَالَةَ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ الْإِجْرَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَصَحُّ (وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ) فَاسْتِعْمَالُهُ بِهِ مُوَافَقَةٌ، فَإِنْ نَزَعَ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ بِسَرْجٍ آخَرَ وَإِكَافٍ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يُسْرَجَ بِسَرْجٍ يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ أَوْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِكَافُ، فَإِنْ أَسْرَجَ بِذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِثْلُهُ تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ: أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمَنْعُ: يَعْنِي لَا فَائِدَةَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يُسْرَجَ بِغَيْرِ هَذَا السَّرْجِ الَّذِي عَيَّنَهُ صَاحِبُهَا إذَا كَانَ غَيْرُهُ يُمَاثِلُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي التَّقْيِيدِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الزَّائِدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الْمُسَمَّى غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الزِّيَادَةِ، وَفِي مِثْلِهِ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَتُوضَعُ عَلَى الدَّابَّةِ دَفْعَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحِنْطَةِ، وَإِنْ أَسْرَجَ بِمَا لَا يُسْرَجُ بِهِ مِثْلُهُ مِثْلُ أَنْ يُسْرِجَهُ بِسَرْجِ الْبِرْذَوْنِ ضَمِنَ الْقِيمَةَ كُلَّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ) إنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ (وَهَذَا أَوْلَى) لِأَنَّهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْمَضْمُونِ اتِّبَاعًا لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَلَكِنَّهُ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ.
وَذُكِرَ فِي الْإِجَارَاتِ يَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا زَادَ.
فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَإِنَّمَا الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُفَسَّرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ الْإِجَارَاتِ يَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا زَادَ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا أَصَحُّ.
وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْمِسَاحَةُ حَتَّى إذَا كَانَ السَّرْجُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ قَدْرَ شِبْرَيْنِ وَالْإِكَافُ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَشْبَارٍ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ بِحِسَابِهِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ حَتَّى إذَا كَانَ وَزْنُ السَّرْجِ مَنَوَيْنِ وَالْإِكَافُ سِتَّةَ أَمْنَاءٍ يَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّلِيلِ حَيْثُ قَالَ (لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءً فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهَا فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحَمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ لِأَنَّهُ لِلْحَمْلِ وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ، وَيَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى الظَّهْرِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ) فَصَارَ كَمَا لَوْ سَمَّى حِنْطَةً وَحَمَلَ بِوَزْنِهَا شَعِيرًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ الشَّعِيرَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِنْ الْحِنْطَةِ (فَكَانَ مُخَالِفًا) وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ) فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ عَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمِثَالِ، إلَّا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ مِثَالًا لِلْمُخَالَفَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الِانْبِسَاطِ وَعَدَمِهِ قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ تَفَاوُتٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تَفَاوُتٌ يَضْمَنُ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يُفَصِّلْ (وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ فَصَارَ مُخَالِفًا (وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى، وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً.
قَالَ: (وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ) لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ مَعْنًى.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَسَلَكَ غَيْرَهُ) فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا سَلَكَهُ مِمَّا يَسْلُكُهُ النَّاسُ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ تَفَاوُتٌ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْعَرَ أَوْ أَخْوَفَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَمِنَ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا.
فَإِنْ قِيلَ: مُحَمَّدٌ أَطْلَقَ الرِّوَايَةَ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا أَخَذَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ النَّاسُ وَلَمْ يُقَيَّدْ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يَفْصِلْ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: أَعْنِي مَا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَصَارَ مُخَالِفًا، وَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً (وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) حَتَّى أَنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي طَرِيقِ الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ (فَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعُ الْخِلَافِ مَعْنًى وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً. قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا؛ لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رُطَبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا) لِأَنَّ الرِّطَابَ أَضَرُّ بِالْأَرْضِ مِنْ الْحِنْطَةِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهَا فِيهَا وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى سَقْيِهَا فَكَانَ خِلَافًا إلَى شَرٍّ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا (وَلَا أَجْرَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً إلَخْ) وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ فَزَرَعَ مِثْلَهُ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ يُوجِبُ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ مُوَافَقَةٌ أَوْ مُخَالَفَةٌ إلَى خَيْرٍ وَزَرَعَ مَا هُوَ أَضَرُّ بِهَا كَالرِّطَابِ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَهَا لِزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ فَخَالَفَهُ إلَى شَيْءٍ يَصِيرُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ، وَيَسْقُطُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ إذْ الْأَجْرُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ يَسْتَلْزِمُهُ وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ قَالَ: (وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ دِرْهَمًا) قِيلَ: مَعْنَاهُ الْقَرْطَفُ الَّذِي هُوَ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْقَمِيصِ، وَقِيلَ هُوَ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ خِلَافُ جِنْسِ الْقَمِيصِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَسَطُهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَا يُشَدُّ وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعُ الْقَمِيصِ فَجَاءَتْ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الدِّرْهَمَ الْمُسَمَّى كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ وَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبَاءِ قِيلَ يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ لِلِاتِّحَادِ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أُمِرَ بِضَرْبِ طَسْتٍ مِنْ شَبَّةٍ فَضَرَبَ مِنْهُ كُوزًا، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ «وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا» ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (وَيَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ يُرِيدُ بِهِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَدَفْعَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ).
وَقَوْلُهُ (لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ) لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى مُقَابَلًا بِخِيَاطَةِ الْقَمِيصِ دُونَ الْقَبَاءِ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ.