فصل: كتاب الديات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ):

قَالَ: (وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعِيدُ (وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَمْ يُعِدْهَا بِالْإِجْمَاعِ) وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِأَبِيهِمَا عَلَى آخَرَ.
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ كَالدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَنْتَصِبُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ.
وَلَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ الْخِلَافَةُ دُونَ الْوِرَاثَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ (فَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ) لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ (وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا) لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ) الْقَتْلُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ رُبَّمَا يُجْحَدُ فَيَحْتَاجُ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَبَيَّنَ الشَّهَادَةَ فِيهِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ (وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً.
لَا يُعِيدُ بِالْإِجْمَاعِ) وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِأَبِيهِمَا عَلَى آخَرَ، وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ حَقُّ الْوَرَثَةِ عِنْدَهُ وَحَقُّ الْمُورِثِ عِنْدَهُمَا، وَلَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ تَمَسُّكٌ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْوَارِثِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْمُوَرِّثِ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا لِلتَّدَافُعِ.
وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُوَرِّثِ فَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ فَلِوُقُوعِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ حَقِّهِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَصَحَّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِذَلِكَ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ كَالدَّيْنِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الدَّيْنِ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَنْتَصِبَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا عَلَى أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عِوَضُ نَفْسٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَا لَا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ تُقْضَى بِهِ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لِمَنْ يَحْلِفُ ابْتِدَاءً، كَالْعَبْدِ إذَا اتَّهَبَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ لِكَوْنِهِ مَلَكَ الْفِعْلَ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَالْوِرَاثَةُ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً ثُمَّ لِلْوَارِثِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَالدَّيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْغَائِبُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ مِمَّا لِلشُّبْهَةِ فِيهِ مَجَالٌ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ) وَاضِحٌ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْأَوْلِيَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ أَثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِشَهَادَتِهِمَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا وَهُوَ انْقِلَابُ الْقَوَدِ مَالًا (فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) مَعْنَاهُ: إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُمَا فَقَدْ أَقَرَّ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ لَهُمَا فَصَحَّ إقْرَارُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ وَيَغْرَمُ نَصِيبَهُ (وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) وَمَعْنَاهُ: إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فَقِبَلَ وَادَّعَيَا انْقِلَابَ نَصِيبِهِمَا مَالًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ غَرِمَ الْقَاتِلُ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، وَتَعْلِيلُ قَوْلِهِ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا لَمْ يَذْكُرْهُ، وَهُوَ مَا قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّ الْقَوَدَ قَدْ سَقَطَ وَزَعْمُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَقْسَامُ الْعَقْلِيَّةُ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ جَمِيعًا أَوْ يُكَذِّبَاهُمَا أَوْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا هُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا الْقَاتِلُ وَحْدَهُ وَفِيهِ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ إلَى أَنَّهُمَا لَوْ صَدَّقَاهُمَا ضَمِنَ الْقَاتِلُ لِلشَّاهِدَيْنِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَى الْقَاتِلِ الْمَالَ وَصَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فِيهِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا أَقَرَّا بِالْعَفْوِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِيَانًا.
وَقَوْلُهُ (إنْ كَذَّبَهُمَا) أَيْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا (فَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدَيْنِ وَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ) يَعْنِي وَكَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ (غَرِمَ الْقَاتِلُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِذَلِكَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَكِنَّهُ يَصْرِفُ ذَلِكَ إلَى الشَّاهِدَيْنِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْقَاتِلِ لَمْ يَثْبُتْ لِإِنْكَارِهِ.
وَمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ بَطَلَ بِتَكْذِيبِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَاتِلَ بِتَكْذِيبِهِ الشَّاهِدَيْنِ أَقَرَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ بِدَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ عَنْ الثَّالِثِ وَانْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا وَالثَّالِثُ لَمَّا صَدَّقَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْعَفْوِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ نَصِيبَهُمَا انْقَلَبَ مَالًا فَصَارَ مُقِرًّا لَهُمَا بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ فَيَجُوزُ قَرَارُهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْمَقَرُّ لَهُ هَذِهِ الْأَلْفُ لَيْسَتْ لِي وَلَكِنَّهَا لِفُلَانٍ جَازَ وَصَارَ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ، كَذَا هَذَا. قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إذَا كَانَ عَمْدًا) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَفِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ تَتَحَقَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِسَبَبِ الضَّرْبِ إنَّمَا يُعْرَفُ إذَا صَارَ بِالضَّرْبِ صَاحِبُ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ عَمْدًا) أَقُولُ: الْمُصَنِّفُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْخَطَأِ.
ثُمَّ قَالَ (وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
قِيلَ الشُّهُودُ شَهِدُوا عَلَى الضَّرْبِ بِشَيْءٍ جَارِحٍ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ خَطَأً فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْقَوَدُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسِلَاحٍ فَقَدْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَ غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ.
وَأَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا، نَعَمْ يَرِدُ عَلَى عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا احْتَرَزَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ فِي الْأَيَّامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ أَوْ فِي الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُعَادُ وَلَا يُكَرَّرُ، وَالْقَتْلُ فِي زَمَانٍ أَوْ فِي مَكَان غَيْرُ الْقَتْلِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان آخَرَ، وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا غَيْرُ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَمْدٌ وَالْأَوَّلَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَيَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا فَكَانَ عَلَى كُلِّ قَتْلٍ شَهَادَةٌ فَرُدَّ (وَكَذَا إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ لَا أَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُغَايِرُ الْمُقَيَّدَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ) ظَاهِرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا فَفِي النُّفُوسِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُغَايِرُ الْمُقَيَّدَ) فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ وَالْمُقَيَّدَ بِالْعَصَا عَلَى الْعَاقِلَةِ قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَقَالَا: لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَفِيهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَجُهِلَ الْمَشْهُودُ بِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إجْمَالِهِمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سِتْرًا عَلَيْهِ.
وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْعَمْدُ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ) فِيهِ صَنْعَةُ التَّجْنِيسِ التَّامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الْإِبْهَامِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى الصَّنِيعِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الشُّهُودُ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ إمَّا صَادِقُونَ أَوْ كَاذِبُونَ لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ إنْ صَدَقُوا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهَا لِاخْتِلَافِ مُوجَبِ السَّيْفِ وَالْعَصَا، وَإِنْ كَذَبُوا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فَسَقَةً.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ جُعِلُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ، لَكِنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي اخْتَارُوا حِسْبَةَ السَّتْرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَحْسَنُوا إلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجُعِلَ كَذِبُهُمْ هَذَا مَعْفُوًّا عِنْدَ اللَّهِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ كَذَّابٌ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ» فَبِتَأْوِيلِهِمْ كَذِبُهُمْ بِهَذَا لَمْ يَكُونُوا فَسَقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ) أَيْ بِتَجْوِيزِ الْكَذِبِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ) أَيْ سَتْرُ الشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِجَامِعِ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هَاهُنَا، كَمَا أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هُنَالِكَ، فَكَانَ وُرُودُ الْحَدِيثِ هُنَالِكَ وُرُودًا هَاهُنَا، وَقَوْلُهُ (فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ) يَعْنِي إذَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ وَأَجْمَلُوا وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ وَقَعَ الشَّكُّ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْعَمْدُ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ). قَالَ: (وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا فَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا وَشَهِدَ آخَرُونَ عَلَى آخَرَ بِقَتْلِهِ وَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ يَتَنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودَ كُلِّ الْقَتْلِ وَوُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَقَدْ حَصَلَ التَّكْذِيبُ فِي الْأُولَى مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ الْمُقِرُّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي، وَتَكْذِيبُ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ تَفْسِيقٌ وَفِسْقُ الشَّاهِدِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ، أَمَّا فِسْقُ الْمُقِرِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلَانِ إلَخْ) مَسْأَلَتَانِ مَبْنَاهُمَا عَلَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْمَقَرِّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَّقَهُ الْمَقَرُّ لَهُ فِي النِّصْفِ وَكَذَّبَهُ فِي النِّصْفِ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِيمَا صَدَّقَهُ، وَتَكْذِيبُ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا يَشْهَدُ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا لِكَوْنِهِ تَفْسِيقًا لَهُ، وَفِسْقُ الشَّاهِدِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ، بِخِلَافِ فِسْقِ الْمُقِرِّ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَهُ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ بِهِ بَطَلَ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِإِقْرَارِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الْمَقَرُّ لَهُ بَدَلَ قَوْلِهِ قَتَلْتُمَاهُ صَدَقْتُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَدَقْتُمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَدَقْت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَعْنَاهُ أَنْتَ قَتَلْت وَحْدَك وَفِي ذَلِكَ تَكْذِيبُ الْآخَرِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ تَكْذِيبٌ لَهُمَا.

.بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ:

قَالَ: (وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ إذْ لَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدُ فَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ فِيهَا مُتَقَوِّمٌ.
وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْي فِي حَقِّ الْحِلِّ حَتَّى لَا يَحْرُمَ بِرِدَّةِ الرَّامِي بَعْدَ الرَّمْي، وَكَذَا فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ حَتَّى جَازَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْقَوَدُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ.
الشَّرْحُ:
(بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ) لَمَّا كَانَتْ الْأَحْوَالُ صِفَاتٍ لِذَوِيهَا ذَكَرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ وَذَلِكَ إبْرَاءٌ لِلضَّامِنِ) لِأَنَّ مَنْ أَخْرَجَ الْمُتَقَوِّمَ عَنْ التَّقَوُّمِ سَقَطَ حَقُّهُ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَعْتَقَ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّهُ صَارَ مُبَرِّئًا لِلْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ وَصَارَ بِهِ مُبَرِّئًا (كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ) أَيْ الرَّامِي عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ حَقِّهِ (بَعْدَ الْجَرْحِ) أَيْ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَهُوَ الرَّامِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ السَّهْمُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ إذْ لَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدَهُ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْفِعْلِ كَالْغَصْبِ (فَيُعْتَبَرُ حَالَةَ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيُّ إلَيْهِ فِيهَا مُتَقَوِّمٌ) وَاسْتَوْضَحَ اعْتِبَارَ وَقْتِ الرَّمْيِ بِمَا إذَا رَمَى صَيْدًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَصَابَ فَإِنَّ رِدَّتَهُ بَعْدَ الرَّمْيِ لَا تَحْرُمُ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَكَاةٌ شَرْعًا وَقَدْ تَمَّ مُوجِبًا لِلْحِلِّ بِشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ، وَبِمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَكَفَّرَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنْسَبُ مِمَّا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ حَتَّى جَازَ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِإِمْكَانِ اعْتِبَارِ وَقْتِ الْإِصَابَةِ هُنَاكَ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ وَالْفِعْلُ عَمْدٌ فَالْوَاجِبُ الْقِصَاصُ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْقَوَدُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) يَعْنِي الشُّبْهَةَ النَّاشِئَةَ مِنْ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْإِصَابَةِ (وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ) أَيْ فِي مَالِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. (وَلَوْ رَمَى إلَيْهِ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَا إذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ) لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِ الْمَحِلِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
(وَكَذَا إذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ) ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ (لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِ الْمَحَلِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ) وَنُوقِضَ بِمَا إذَا رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَمَاتَ وَجَبَ الْجَزَاءُ عَلَى الرَّامِي.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ وَلِهَذَا يَجِبُ بِدَلَالَةِ الْمُحْرِمِ وَإِشَارَتِهِ وَهَذَا لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِنْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
لَهُ أَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ بَقِيَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ وَهُوَ جِنَايَةٌ يَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذَلِكَ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الرَّمْيَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ بَعْضِ الْمَحِلِّ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْمَوْلَى، وَبَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ وَجَبَ شَيْءٌ لَوَجَبَ لِلْعَبْدِ فَتَصِيرُ النِّهَايَةُ مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ.
أَمَّا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ.
وَإِنَّمَا قَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ ضَمَانٌ فَلَا تَتَخَالَفُ النِّهَايَةُ وَالْبِدَايَةُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى.
وَزُفَرُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ نَظَرًا إلَى حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا حَقَقْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ) حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ الرَّمْيِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَعْدَهُ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ حَالَ ابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ الْمَوْلَى وَحَالَ الْإِصَابَةِ الْعَبْدُ لِحُرِّيَّتِهِ، فَصَارَ الْعِتْقُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ أَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ سَرَى فَإِنَّ الْعِتْقَ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ حَتَّى لَا يَجِبَ بَعْدَ الْعِتْقِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَالْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ.
وَإِذَا انْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ بَقِيَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ وَهِيَ جِنَايَةٌ تَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذَلِكَ: أَيْ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا إلَى آخِرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ هُنَاكَ حَالَةَ الْإِصَابَةِ وَهَاهُنَا حَالَةَ الرَّمْيِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ خَرَجَ بِالِارْتِدَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا وَالضَّمَانُ يَعْتَمِدُ الْعِصْمَةَ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالْمُنَافِي.
وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى، وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الرَّمْيِ إلَّا فِي صُورَةِ الِارْتِدَادِ وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجَرْحِ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرْنَا لِمُحَمَّدٍ مِنْ صُورَةِ الْجَرْحِ وَالْقَطْعِ اسْتِشْهَادًا عَلَى قَطْعِ السِّرَايَةِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِمَا يُوجِبُ قَطْعَ السِّرَايَةِ لِاخْتِلَافِ نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ وَبِدَايَتِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ وَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَهُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، لِأَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ لِعَدَمِ أَثَرٍ مِنْهُ فِي الْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا تَقِلُّ بِهِ الرَّغَبَاتُ فَلَمْ يُخَالِفْ الِانْتِهَاءُ الِابْتِدَاءَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى.
وَزُفَرُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ يَعْنِي وَيَقُولُ بِالدِّيَةِ نَظَرًا إلَى حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا حَقَقْنَاهُ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ إلَخْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ: (وَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الْحَجَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ وَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ فِيهَا. (وَإِذَا رَمَى الْمَجُوسِيُّ صَيْدًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ رَمَاهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ تَمَجَّسَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أُكِلَ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ الرَّمْيِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إذْ الرَّمْيُ هُوَ الذَّكَاةُ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَانْسِلَابُهَا عِنْدَهُ. (وَلَوْ رَمَى الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ حَلَّ فَوَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ رَمَى حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ رَمْيُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ مُحْرِمٌ وَقْتَ الرَّمْيِ وَفِي الثَّانِي حَلَالٌ فَلِهَذَا افْتَرَقَا.

.كتاب الديات:

قَالَ (وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ.
قَالَ: (وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةُ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) بِهَذَا النَّصِّ (وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ (وَيُجْزِئُهُ رَضِيعُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ) لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ بِسَلَامَةِ أَطْرَافِهِ (وَلَا يُجْزِئُ مَا فِي الْبَطْنِ) لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الدِّيَاتِ) ذِكْرُ الدِّيَاتِ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إحْدَى مُوجَبَيْ الْجِنَايَةِ الْمَشْرُوعَيْنِ لِلصِّيَانَةِ، لَكِنَّ الْقِصَاصَ أَشَدُّ صِيَانَةً فَقُدِّمَ، وَمَحَاسِنُهَا مَحَاسِنُ الْقِصَاصِ، وَالدِّيَةُ مَصْدَرٌ مِنْ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ إذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ كَالْعِدَةِ مِنْ وَعَدَ.
قَالَ (وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ) شِبْهُ الْعَمْدِ قَدْ تَقَدَّمَ مَعَنَا.
وَحُكْمُهُ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلَى قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} الْآيَةَ، وَهُوَ نَصُّ كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ (فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ، وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ) اسْتِدْلَالٌ مِنْ الْآيَةِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالنَّظَرِ إلَى الْفَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ الْجَزَاءِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِثْلُهُ مُخِلٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَقُولَ وَعَبْدِي حُرٌّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ إلَّا الْمَذْكُورَ لِئَلَّا يَخْتَلَّ الْفَهْمُ وَالْآخَرُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَذْكُورِ: يَعْنِي لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُرَادًا لَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ، وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ (عَلَى مَا عُرِفَ) يَعْنِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ (وَيَجْزِيهِ رَضِيعٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ) لِأَنَّ شَرْطَ هَذَا الْإِعْتَاقِ الْإِسْلَامُ وَسَلَامَةُ الْأَطْرَافِ، وَالْأَوَّلُ يَحْصُلُ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَالثَّانِي بِالظُّهُورِ، إذْ الظَّاهِرُ سَلَامَةُ أَطْرَافِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ مَا فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ. قَالَ (وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ) لِمَا تَلَوْنَاهُ (وَدِيَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ أَثْلَاثًا: ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً، كُلُّهَا خَلْفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا.
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَمَا رَوَيَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بِالتَّغْلِيظِ أَرْبَاعًا كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَالْمَرْفُوعِ فَيُعَارَضُ بِهِ.
قَالَ (وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً) لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ، فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ تَتَغَلَّظْ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ لِمَا تَلَوْنَا) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (وَدِيَتُهُ) أَيْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: ثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً كُلُّهَا خَلِفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا) وَالْخَلِفَاتُ جَمْعُ خَلِفَةٍ: وَهِيَ الْحَوَامِلُ مِنْ النُّوقِ، فَقَوْلُهُ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي كُلِّهَا لِلثَّنِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادِهَا» (وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ) يَعْنِي مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، فَإِنَّ الْإِبِلَ فِيهِ تَجِبُ أَخْمَاسًا (وَذَلِكَ) أَيْ كَوْنُهُ أَغْلَظَ (فِيمَا قُلْنَا) لِأَنَّا نَقُولُ أَثْلَاثًا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ أَرْبَاعًا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ») وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الثَّابِتَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِفَةٍ مِنْ التَّغْلِيظِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا رَوَيَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ، فَإِنَّ عُمَرَ وَزَيْدًا وَغَيْرَهُمَا قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَا، وَقَالَ عَلِيٌّ: تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِمِثْلِ مَا قُلْنَا أَرْبَاعًا، وَالرَّأْيُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّقَادِيرِ فَكَانَ كَالْمَرْفُوعِ وَيَصِيرُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيَاهُ، وَإِذَا تَعَارَضَا كَانَ الْأَخْذُ بِالْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً) يَعْنِي لَا يُزَادُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى عَشَرَةِ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تُغَلَّظُ فِي النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ: أَيْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِأَنْ يُنْظَرَ إلَى قِيمَةِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَإِلَى قِيمَةِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، فَمَا زَادَ عَلَى أَسْنَانِ دِيَةِ الْخَطَأِ يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ، وَيُزَادُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ شُرِعَ فِي الْإِبِلِ بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وُجِدَتْ مِنْهُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْخَطَأِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْحَجَرَيْنِ فَيَجِبُ التَّغْلِيظُ فِيهِمَا.
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْإِبِلِ ثَبَتَ تَوْقِيفًا فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِهِ قِيَاسًا لِأَنَّهُ يَأْبَى التَّغْلِيظَ، لِأَنَّ عَمْدَ الْإِتْلَافِ وَخَطَأَهُ فِي بَابِ الْغُرْمِ سَوَاءٌ، وَلَا دَلَالَةَ لِئَلَّا يَبْطُلَ الْمِقْدَارُ الثَّابِتُ بِصَرِيحِ النَّصِّ بِالدَّلَالَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ. قَالَ (وَقَتْلُ الْخَطَأِ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ.
قَالَ: (وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ لِرِوَايَتِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا» عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ، وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ فَكَانَ أَلْيَقَ بِحَالَةِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ.
قَالَ (وَمِنْ الْعَيْنِ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِذَلِكَ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ».
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ دَرَاهِمَ كَانَ وَزْنُهَا وَزْنَ سِتَّةٍ وَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ.
قَالَ (وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ).
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا جَعَلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ مِنْهَا.
وَلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَجْهُولَةُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَعَدِمْنَاهَا فِي غَيْرِهَا.
وَذُكِرَ فِي الْمُعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ.
قَالَ (وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا) قِيلَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فِي الْخَطَأِ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الْمِائَةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي سِنِّهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عِشْرُونَ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً.
وَبِهِ أَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا» عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَوْجَبَ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَالْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا لَكِنَّ مَا قُلْنَا أَخَفُّ وَكَانَ أَوْلَى بِحَالِ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَبِهِ أَخَذْنَا وَالشَّافِعِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْخَطَأِ وَقَوْلُهُ (وَمِنْ الْعَيْنِ) يَعْنِي الذَّهَبِ (أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) يَعْنِي وَزْنَ سَبْعَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ الْوَرِقِ: أَيْ الْفِضَّةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ.
وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ» فَتَعَارَضَا فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضَى مِنْ دَرَاهِمَ كَانَ وَزْنُهَا وَزْنَ سِتَّةٍ، وَقَدْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ كَذَلِكَ إلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَبْطَلَ عُمَرُ ذَلِكَ الْوَزْنَ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: رَوَى عُمَرُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ» ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ كَذَلِكَ: يَعْنِي إلَى عَهْدِ عُمَرَ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ وَزْنَ سِتَّةٍ يَزِيدُ عَلَيْهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ كَذَلِكَ صَحِيحًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَنْقُولَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزْنُ الدَّرَاهِمِ وَزْنَ سِتَّةٍ ثُمَّ صَارَ وَزْنَ سَبْعَةٍ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِ عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْخَذُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ أَيْضًا وَلَا تَنَاقُضَ حِينَئِذٍ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَالَ فِي مَبْسُوطِهِ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ وَزْنَ سِتَّةٍ إلَّا شَيْئًا، إلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ الْوَزْنُ إلَى سِتَّةٍ تَقْرِيبًا، وَقَوْلُهُ (وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ (وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةً كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ) وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: قِيمَةُ كُلِّ بَقَرَةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
وَقِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، قَالَ الْمُصَنِّفُ: كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ، قِيلَ هُمَا إزَارٌ وَرِدَاءٌ هُوَ الْمُخْتَارُ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا صَالَحَ الْقَاتِلُ مَعَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ يَجُوزُ، كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ فَرَسٍ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ عُمَرَ هَكَذَا جَعَلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ مِنْهَا) قَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّيَاتِ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشِّيَاهِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ) وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانُ شَيْءٍ مِمَّا وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالْإِتْلَافِ أَوْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِبِلُ كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ) كَمَا رَوَيْنَاهَا (وَعَدِمْنَاهَا فِي غَيْرِهَا) فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَلْحَقْ بِهَا دَلَالَةً.
قُلْنَا: حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَوْلُهُ (وَذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ) أَيْ فِي مَعَاقِلِ الْمَبْسُوطِ: أَوْرَدَ هَذَا شُبْهَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَوَجْهُ وُرُودِهَا أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِيهِ.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مِنْ الْأُصُولِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الدِّيَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا.
وَذَكَرَ الْجَوَابَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُقَرِّرُ الشُّبْهَةَ وَيَرْفَعُ الْخِلَافَ، وَلَا أَرَى صِحَّتَهُ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ رِوَايَةَ كِتَابِ الدِّيَاتِ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَالثَّانِي يَرْفَعُهَا بِحَمْلِ رِوَايَةِ الْمَعَاقِلِ عَلَى أَنَّهَا قَوْلُهُمَا، وَحَمَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ. قَالَ: (وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ) وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يُتَنَصَّفُ، وَإِمَامُهُ فِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِعُمُومِهِ، وَلِأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ وَمَنْفَعَتُهَا أَقَلُّ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ بِالتَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ إلَخْ) دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ كَالْمَرْفُوعِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يَتَنَصَّفُ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الثُّلُثُ وَمَا دُونَهُ لَا يَتَنَصَّفُ.
وَذَكَرَ فِي دِيَاتِ الْمَبْسُوطِ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ: إنَّهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا: يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَرْشُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحِينَئِذٍ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالُ: اعْتِبَارًا بِهَا وَبِمَا فَوْقَ الثُّلُثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَافِي: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: بَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
قَالَ: وَبِذَلِكَ نَأْخُذُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: ثُلُثُ الدِّيَةِ وَمَا فَوْقَهَا يَتَنَصَّفُ وَمَا دُونَهُ لَا يَتَنَصَّفُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا يُصَحِّحُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ» وَبِمَا حُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ أُصْبُعَ امْرَأَةٍ قَالَ: عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ مِنْهَا؟ قَالَ: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا؟ قَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ فَقُلْت لَا بَلْ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ أَوْ عَاقِلٌ مُسْتَثْبِتٌ، فَقَالَ: إنَّهُ السُّنَّةُ.
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِعُمُومِهِ، وَأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وَمَنْفَعَتُهَا أَقَلُّ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّزَوُّجِ بِأَكْثَرَ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ فِي التَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِالنَّفْسِ وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ التَّبَعِ لِلْأَصْلِ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ نَادِرٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي يُحِيلُهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّاذِّ النَّادِرِ، وَقَوْلُ سَعِيدٍ إنَّهُ السُّنَّةُ يُرِيدُ بِهِ سُنَّةَ زَيْدٍ، فَإِنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ أَفْتَوْا بِخِلَافِهِ، وَلَوْ كَانَتْ سُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَا خَالَفُوهَا. قَالَ: (وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ» وَالْكُلُّ عِنْدَهُ اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا.
وَلِلشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ».
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَكَذَلِكَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعْرَفْ رَاوِيهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَمَا رَوَيْنَاهُ أَشْهُرُ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ) دِيَةُ الذِّمِّيِّ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ رِجَالُهُمْ كَرِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُهُمْ كَنِسَائِهِمْ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَكَلَامُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاضِحٌ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تَتَكَافَأُ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْكُفْرِ فَوْقَ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ، وَبِالْأُنُوثَةِ تَنْقُصُ الدِّيَةُ فَبِالْكُفْرِ أَوْلَى، وَبِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ وَبِهِ تَنْقُصُ الدِّيَةُ فَبِالْكُفْرِ الْمُوجِبِ لَهُ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُعَارِضَانِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَالْمَعْهُودُ مِنْ الدِّيَةِ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ.
وَعَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَعَنْ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ النُّقْصَانَ بِالْأُنُوثَةِ وَالرِّقِّ مِنْ حَيْثُ النُّقْصَانُ فِي الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْمَالَ دُونَ النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الرِّقُّ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالذِّمِّيُّ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي الْمَالِكِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ أَنَّ نَفْسَ كُلِّ شَخْصٍ أَعَزَّ مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ، وَالذِّمِّيُّ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي ضَمَانِ مَالِهِ إذَا أُتْلِفَ فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ كَانَتْ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ جَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُهْرَتِهِ: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: دِيَةُ الذِّمِّيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى ذِمِّيًّا قُتِلَ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ» لَكَانَ لَنَا مِنْ الظُّهُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ