فصل: طلاق الحامل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.شهادة النساء في الرضاع:

وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ.
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ تَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَاعْتُبِرَ أَمْرًا دِينِيًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ: (وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ) أَيْ: عَنْ الرِّجَالِ أَجْنَبِيَّاتٍ كُنَّ أَوْ أُمَّهَاتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدَةٍ إذَا اتَّصَفَتْ بِالْعَدَالَةِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الرَّضَاعَ يَكُونُ بِالثَّدْيِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ لِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ شَهَادَةَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ شَرْطٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِتَقُومَ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ.
وَقُلْنَا: هُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ يَحِلُّ لَهُمْ النَّظَرُ إلَى ثَدْيِهَا.
وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا يُطْعِمَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ أَخْبَرَهُ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَبُطْلَانِ الْمِلْكِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ لَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا أَنْ يَحْبِسَ الثَّمَنَ عَنْ الْبَائِعِ.
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.كِتَابُ الطَّلَاقِ:

الشَّرْحُ:
لَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ النِّكَاحِ طَبْعًا أَخَّرَهُ عَنْهُ وَضْعًا لِيُوَافِقَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ.
وَالطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ.
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِرَفْعِ الْقَيْدِ النِّكَاحِيِّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ الْمُحْوِجَةُ إلَيْهِ.
وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُطَلِّقِ عَاقِلًا بَالِغًا وَالْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ أَوْ عِدَّتِهِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، وَحُكْمُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ الْمَحَلِّ.
وَأَقْسَامُهُ مَا يَذْكُرُهُ.

.(بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ):

قَالَ (الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ، وَبِدْعِيٌّ.
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا)؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ (وَالْحَسَنُ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً» وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ، فَالْحَاجَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، ثُمَّ قِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِيقَاعَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا، وَمِنْ قَصْدِهِ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ» وَالْعَامَّةُ عَلَى إبَاحَتِهِ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَأَمْثَالِهِمَا.
وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ، وَبِدْعِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ) حَيْثُ أَبْقَى لِنَفْسِهِ مُكْنَةَ التَّدَارُكِ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا بِتَجْدِيدٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ، وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ حَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ مَحَلِّيَّتُهَا نَظَرًا إلَيْهَا؛ لِأَنَّ اتِّسَاعَ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِنَّ فَلَا يَتَكَامَلُ ضَرَرُ الْإِيحَاشِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ) أَيْ: فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ يَعْنِي لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِكَرَاهَةِ هَذَا الطَّلَاقِ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ)؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ فَيَكُونُ مَحْظُورًا.
وَقَوْلُهُ: (وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ) الضَّرُورَةُ التَّخْلِيصُ عَنْهَا بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الثَّانِيَةِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا إلَى نَافِعٍ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ وَأَشَارَ بِهِ إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ: إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ»، خُيِّرَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالطَّلَاقِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِدْعَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.
وَلَيْسَ هَذَا شَرْحَ مَا فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا شَرْحُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ تَعَالَى، إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا وَيُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً»، وَقَوْلُهُ (: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ) بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ، وَالْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْعَجْزِ أَمْرٌ مُبَطَّنٌ فَأُقِيمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَهُ، وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ جُعِلَتْ كَأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَاقِ تَكَرَّرَتْ فَأُبِيحَ تَكْرَارُ الطَّلَاقِ الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ، وَقَوْلُهُ (: ثُمَّ قِيلَ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذَا الطَّلَاقِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُؤَخَّرُ الْإِيقَاعُ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطَلِّقُهَا كَمَا طَهُرَتْ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا، وَمَنْ قَصْدُهُ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوِقَاعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ، جُعِلَ هَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ.

.الطلاق البدعي:

(وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَانَ عَاصِيًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَشْرُوعِيَّة لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ.
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَهِيَ فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَانِيَةً نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ فَأَمْكَنَ تَصْوِيرُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، والْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ.
قَالَ فِي الْأَصْلِ: إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْخَلَاصِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ، وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا.
الشَّرْحُ:
(وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا، لَكِنَّهُ إذَا فَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَبَانَتْ مِنْهُ وَحَرُمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَكَانَ عَاصِيًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ طَلَاقٍ مُبَاحٌ) يَعْنِي فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَى تَعْمِيمِهِ الطَّلَاقُ حَالَةَ الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ حَرَامٌ عِنْدَهُ أَيْضًا.
قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ: لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَا يَكُونُ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ الْعُمُومُ وَالطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ) وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمُحَرَّمُ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ الْتِبَاسُ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِيهِ يَلْتَبِسُ أَمْرُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا يَدْرِي أَهِيَ حَامِلٌ فَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ حَائِلٌ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةً وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةً بَلْ الْكُلُّ مُبَاحٌ (وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ) مِنْ تَحْصِينِ الْفَرْجِ عَنْ الزِّنَا الْمُحَرَّمِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (وَالدُّنْيَوِيَّةُ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَسْكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَاكْتِسَابِ الْوَلَدِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَمَا لَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فَكَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهِيَ) أَيْ الْحَاجَةُ (فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا) وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ لِكَوْنِهَا أَمْرًا مُبَطَّنًا.
فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ الْحَاجَةِ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا وَهَاهُنَا لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْخَلَاصِ عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَعَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالْأَوَّلِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ) يَعْنِي لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةَ الْأَخْلَاقِ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ فَيُسَدُّ عَلَى الزَّوْجِ بَابُ إمْكَانِ التَّدَارُكِ مَعَ صَفَائِهِ عَنْ عُرُوضِ النَّدَمِ.
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاحَ الثَّلَاثُ جُمْلَةً لَكِنَّهَا عِلَّةٌ تُعَارِضُ النَّصَّ فَلَمْ تُؤَثِّرْ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُفَرَّقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ عُمَرَ: «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ: وَالْمَشْرُوعِيَّة فِي ذَاتِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالْمَشْرُوعِيَّة لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِذَاتِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا لِذَاتِهِ أَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَشْرُوعِيَّةُ لِذَاتِهِ وَالْحَظْرُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَوَاتِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَلَا تَنَافِي إذْ ذَاكَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ، وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ بِدْعَةٌ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ.
وَقَوْلُهُ: (وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ) ظَاهِرٌ. (وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: سُنَّةٌ فِي الْوَقْتِ، وَسُنَّةٌ فِي الْعَدَدِ.
فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا) وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا (وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ) لِأَنَّ الْمُرَاعَى دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ، أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَزَمَانُ النَّفْرَةِ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ (وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا يُطَلِّقُهَا فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ) خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا.
وَلَنَا أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَتَجَدَّدُ بِالطُّهْرِ.

الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا فِي الْوَقْتِ، وَالْآخَرِ فِي الْعَدَدِ، فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا) وَهِيَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَسَمَّى الْوَاحِدَ عَدَدًا مَجَازًا لِكَوْنِهِ أَصْلَ الْعَدَدِ وَهُوَ مَا يَكُونُ نِصْفَ حَاشِيَتَيْهِ، (وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ، وَالْمُرَاعَى دَلِيلُهَا، (وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ، أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ) فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ لِيُقَامَ مَقَامَهُ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا شَيْئًا فَالرَّغْبَةُ فِيهَا بَاقِيَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَفِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَخْرُجْ طَلَاقُهَا عَنْ السُّنِّيِّ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ (خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا) وَقَوْلُهُ: وَلَنَا وَاضِحٌ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ عُمَرَ «إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ» بِإِطْلَاقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا عِبْرَةَ لِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخُصُوصَ لَمْ يَثْبُتْ لِخُصُوصِ السَّبَبِ، بَلْ «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ} إلَى أَنْ قَالَ {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقِّهَا بِالشَّهْرِ وَهُوَ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ) وَقَالَ زُفَرُ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ وَهُوَ الشَّهْرُ: وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا، وَالْكَرَاهِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ، وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ لَكِنْ تَكْثُرُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي وَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يَعْنِي إنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ اعْتِدَادِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُنَّ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: ({وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً) قِيلَ هُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ خَاصَّةً دُونَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا كَمَا اخْتَارَهُ آخَرُونَ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ حَتَّى يَتَقَدَّرَ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَيُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ، وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ تَجَدُّدُ الْحَيْضِ إلَّا بِتَخَلُّلِ الطُّهْرِ، وَفِي الشُّهُورِ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّهْرُ قَائِمًا مَقَامَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ الشَّهْرَ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ مِنْ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ كَانَ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ فَكَانَ حَرَامًا كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ الشَّهْرَ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْحَيْضِ خَاصَّةً لَمَا اُحْتِيجَ إلَى إقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَقَامَ ثَلَاثِ حِيَضٍ بَلْ يُكْتَفَى بِإِقَامَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ مَقَامَ ثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ أَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ ثَلَاثِ حِيَضٍ تَحْصُلُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ طُهْرٌ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْحِيَضِ، وَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِلَّا كَانَ عَيْنَهُ لَا قَائِمًا مَقَامَهُ، فَكَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ خَاصَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ حَرَامٌ وَفِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِحَرَامٍ؟ وَلَوْ كَانَ الْأَشْهُرُ بَدَلًا عَنْ الْأَقْرَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَكَانَ مُحَرَّمًا كَمَا فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْأَشْهُرَ مَقَامَ حِيَضٍ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ غَالِبًا، فَأُقِيمَتْ الْأَشْهُرُ مَقَامَ الْحِيَضِ الَّتِي كَانَتْ تُوجَدُ فِيهَا وَلَمْ تَقُمْ الْأَشْهُرُ مَقَامَ مُدَّةِ الْحَيْضِ حَتَّى يُكْتَفَى بِشَهْرٍ وَاحِدٍ وَلَمْ تَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ.
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ إلْزَامِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِبْرَاءِ يُكْتَفَى بِالْحَيْضِ لَا غَيْرٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ إلَى الطُّهْرِ، وَالشَّهْرُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْأَصْلُ، وَاشْتِرَاطُ الْحَيْضِ مَعَ الطُّهْرِ فِي ثَلَاثِ حِيَضٍ إنَّمَا كَانَ لِتَحَقُّقِ عَدَدِ الثَّلَاثِ لَا لِذَاتِ الطُّهْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَوْ كَانَ لِذَاتِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْ الْحَيْضِ فَكَانُوا مَحْجُوجِينَ بِمَا قُلْنَا إلَى هَذَا لَفْظُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا تَرَى،؛ لِأَنَّ إلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَى أَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ لَا يَكُونُ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ، إذْ الْبَدِيهَةُ تَشْهَدُ بِأَنَّ غَرَضَ الْإِنْسَانِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ إلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ.
قَالَ: (ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ) إذَا كَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْحَيْضِ بِالْأَهِلَّةِ كَامِلَةً كَانَتْ أَوْ نَاقِصَةً، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إلَّا بِتَمَامِ تِسْعِينَ يَوْمًا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَعِنْدَهُمَا يَكْمُلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ (وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ) عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا) أَيْ: الْآيِسَةَ أَوْ الصَّغِيرَةَ (وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَكَانَ شَيْخُنَا يَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُرْجَى مِنْهَا الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً يُرْجَى مِنْهَا الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ لَا تُنَافِي الْجَوَازَ (وَقَالَ زُفَرُ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ) فِيمَنْ لَا تَحِيضُ، وَفِيهَا يُفْصَلُ بَيْنَ طَلَاقِهَا وَوَطْئِهَا بِحَيْضَةٍ فَكَذَا هَاهُنَا بِشَهْرٍ، وَلِأَنَّ الرَّغْبَةَ تُعْتَبَرُ بِالْجِمَاعِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إذَا جُومِعَتْ فِي الطُّهْرِ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ الرَّغْبَةُ بِزَمَانٍ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الشَّهْرُ، (وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا) أَيْ: فِي الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِنْ الْآيِسَةِ أَوْ الصَّغِيرَةِ، (وَالْكَرَاهِيَةُ) أَيْ كَرَاهِيَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْجِمَاعِ (فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْحَبَلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ) فَلَا يَدْرِي أَنَّ انْقِضَاءَهَا يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، (قَوْلُهُ: وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ) جَوَابُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الرَّغْبَةَ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ جِهَةَ الرَّغْبَةِ وَالْفُتُورِ لَمَّا تَعَارَضَتَا تَسَاقَطَتَا بِالْمُعَارَضَةِ فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ لِمَا مَرَّ فَيَحْرُمُ عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ أَصْلًا أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنَّمَا الْمَدْخَلُ فِي ذَلِكَ لِدَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ جِهَةُ الرَّغْبَةِ بِالْمُعَارَضَةِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الدَّائِرُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الْفَصْلُ

.طلاق الحامل:

(وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ، وَزَمَانُ الْحَبَلِ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ أَوْ يَرْغَبُ فِيهَا لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا تَقِلُّ الرَّغْبَةُ بِالْجِمَاعِ (وَيُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ ثَلَاثًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرُ (لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ وَالشَّهْرُ دَلِيلُهَا كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلَحَ عِلْمًا وَدَلِيلًا، بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي حَقِّهَا إنَّمَا هُوَ الطُّهْرُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا يُرْجَى مَعَ الْحَبَلِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ) يَعْنِي: قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ، فَفِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فُرِّقَ عَلَى الْأَطْهَارِ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَشْهُرِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِنَّ كَالْأَقْرَاءِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَإِنْ طَالَتْ فَهُوَ طُهْرٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا فَإِنَّ طُهْرَهَا وَإِنْ امْتَدَّ شُهُورًا فَهُوَ فَصْلٌ وَاحِدٌ لَا تُفَرَّقُ التَّطْلِيقَاتُ فِيهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ إبَاحَةَ الطَّلَاقِ لِلْحَاجَةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّقَصِّي عَنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالشَّهْرُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهَذَا أَيْ: كَوْنُ الشَّهْرِ دَلِيلًا فِي حَقِّ الْحَامِلِ كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ عَلَمًا وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْحَاجَةِ، (وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهَا) فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ مَا أُبِيحَ لِأَجْلِهِ الطَّلَاقُ فَيَكُونُ مُبَاحًا.
وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَصْلُحُ الشَّهْرُ أَنْ يَكُونَ عَلَمًا؛ لِأَنَّ الْعَلَمَ عَلَى الْحَاجَةِ فِي حَقِّهَا الطُّهْرُ: أَيْ: تُجَدِّدُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، وَلَا يُرْجَى تَجَدُّدُ الطُّهْرِ مَعَ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ)؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَنْعَدِمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا» وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ.
وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ وَالْحَثَّ عَلَى الرَّجْعَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ.
قَالَ (فَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ)، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا.
قَالَ: وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الْأُولَى.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ (مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا) وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هَاهُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ فَتَتَكَامَلُ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ قَدْ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَيْضِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا)، أَمَّا الْوُقُوعُ فَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الطَّلَاقُ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا.
نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ هَاهُنَا هُوَ النَّهْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضِدِّ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ: لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ أَوْ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي «قَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا» لِمَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِرَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ إيقَاعِهِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} وَالنَّهْيُ إذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ الْمَشْرُوعِيَّةَ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ «فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ: مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا» وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، (وَهَذَا) الْحَدِيثُ (يُفِيدُ الْوُقُوعَ) بِاقْتِضَائِهِ (وَالْحَثُّ عَلَى الرَّجْعَةِ) بِعِبَارَتِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ أَدْنَى الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ، (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ) قِيلَ: الْأَمْرُ لِعُمَرَ وَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ عَلَى عُمَرَ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَهُ بِذَلِكَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى ابْنِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ فَصَارَ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَثَبَتَ الْوُجُوبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَلْيُرَاجِعْهَا أَمْرٌ لِابْنِ عُمَرَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُرَاجَعَةُ.
وَقَوْلُهُ: (وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَمَلًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَرَفْعُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا إنَّمَا هُوَ بِرَفْعِ أَثَرِهِ أَيْ: أَثَرِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ بِرَفْعِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ.
وَقَوْلُهُ: (قَالَ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ: (فَإِذَا طَهُرَتْ) يَعْنِي بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ (وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ) وَوَفَّقَ الْكَرْخِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ وَجْهَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ مَرْوِيَّةٌ فِي الْحَدِيثِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ مُسْنَدًا إلَى نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مُسْنِدًا إلَى سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إذَا طَهُرَتْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى بَيَانِ وَجْهِهِمَا بِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً)؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ وَوَقْتُ السُّنَّةِ طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ (وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ وُقُوعَهُ بِالسُّنَّةِ لَا إيقَاعًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَيَنْتَظِمُهُ عِنْدَ نِيَّتِهِ (وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لَمَا قُلْنَا) بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ) اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ الْأَشْهُرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، أَوْ نَوَى شَيْئًا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ حَالَةَ الْحَيْضِ أَوْ حَالَةَ الطُّهْرِ، وَكَذَا رَأْسُ كُلِّ شَهْرٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ وَضِدُّ الشَّيْءِ لَا يُرَادُ بِهِ.
وَلَنَا أَنَّ اللَّامَ فِيهِ أَيْ: فِي قَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ لِلْوَقْتِ، وَالسُّنَّةُ تَكُونُ تَارَةً كَامِلَةً إيقَاعًا وَوُقُوعًا وَتَارَةً وُقُوعًا فَقَطْ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُطْلَقًا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ السُّنَّةُ إيقَاعًا وَوُقُوعًا فَيَقَعُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ تَطْلِيقَةٌ، وَإِذَا نَوَى صَرْفَ لَفْظِهِ إلَى السُّنَّةِ وُقُوعًا لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَهُوَ سُنِّيٌّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَرَفَ صِحَّةَ وُقُوعِهِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِ» فَإِنْ قِيلَ: الْوُقُوعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّهُ انْفِعَالُهُ فَإِذَا صَحَّ الْوُقُوعُ صَحَّ الْإِيقَاعُ فَكَانَ سُنِّيًّا وُقُوعًا وَإِيقَاعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوُقُوعَ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْبِدْعَةِ وَالْإِيقَاعُ يُوصَفُ بِهَا لِكَوْنِهِ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ، وَكَانَ الْوُقُوعُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ الْمَرْضِيَّةِ فَلِهَذَا قَالَ: سُنِّيٌّ وُقُوعًا، (وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ (وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ) عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ، (وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثَ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِمَا قُلْنَا) إنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ، إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يُجَامِعْهَا وَقَعَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَقَعْ السَّاعَةَ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ وَهِيَ تِلْكَ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا جُمْلَةً قَالَ الْمُصَنِّفُ لَا تَصِحُّ، قِيلَ هَكَذَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَصَاحِبُ الْمُخْتَلِفَاتِ وَعَلَاءُ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيُّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنْ صَحَّتْ فَإِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ، وَوَقْتُ طَلَاقِ السُّنَّةِ مُتَعَدِّدٌ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ، مِنْ ضَرُورَةِ تَعْمِيمِ الْوَقْتِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَ ظَرْفًا لِلْوَاقِعِ وَقَدْ تَكَرَّرَ الظَّرْفُ فَيَتَكَرَّرُ الْمَظْرُوفُ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَيَبْطُلُ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمُقْتَضِي يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُقْتَضَى فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَذْكُورٌ صَرِيحًا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ صَحِيحَةٌ جُمْلَةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ نَوْعَانِ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ.
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ.
وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ التَّطْلِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ طَلَاقًا لِلسُّنَّةِ.
كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى وُقُوعُهَا جُمْلَةً، وَدَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ عَلَى الْأَطْهَارِ كَمَا تَرَى.
وَنَقَلَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَقَعُ جُمْلَةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ ثَلَاثًا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِبَارَةِ وَالِاقْتِضَاءِ فِي الْعُمُومِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَنَا، وَلَعَلَّهُ سَبَبُ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ الْوُقُوعِ جُمْلَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) (وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» وَلِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَهُمَا عَدِيمَا الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: لَمَّا ذَكَرَ طَلَاقَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَمَنْ لَا يَقَعُ، (وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ») وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ النَّفَاذُ دُونَ الْحِلِّ الَّذِي يُقَابِلُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالنُّفُوذُ بِالْوُقُوعِ، فَمَعْنَاهُ: كُلُّ طَلَاقٍ نَافِذٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَلَا عَقْلَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، أَمَّا الْمَجْنُونُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْهُ، وَالصَّبِيُّ وَإِنْ اتَّصَفَ بِالْعَقْلِ حَتَّى صَحَّ إسْلَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَدِلٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، (وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ) فِي التَّكَلُّمِ، وَشَرْطُ التَّصَرُّفِ الِاخْتِيَارُ فِيهِ.

.طَلَاقُ الْمُكْرَه:

(وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ وَبِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ.
وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ اعْتِبَارًا بِالطَّائِعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا آيَةُ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارُ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ.
الشَّرْحُ:
(وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ) لِإِفْسَادِهِ إيَّاهُ، وَاعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالِاخْتِيَارِ (بِخِلَافِ الْهَازِلِ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ) فَكَانَ شَرْطُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْجُودًا، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: اسْقِنِي فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لِحُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّكَلُّمِ؟ (وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ) أَيْ: حُكْمِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ عِلَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَغْوٌ لِكَوْنِهِ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَقِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذْ كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يَصِيرُ صِدْقًا.
وَقَوْلُهُ: فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ الْهَلَاكَ وَالطَّلَاقَ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَاخْتِيَارُ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ آيَةُ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ كَذَلِكَ لَا يَعْرَى فِعْلُهُ عَنْ حُكْمِهِ كَمَا فِي الطَّائِعِ؛ إذْ الْعِلَّةُ فِيهِ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُكْرَهِ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَتَخَلَّصَ عَمَّا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ.
وَقَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُخْتَارًا لَمَا كَانَ لَهُ اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعُقُودِ الَّتِي بَاشَرَهَا مُكْرَهًا مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَكَانَ لَهُ فَسْخُ الْعُقُودِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَعَدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ السَّبَبَ دُونَ الْحُكْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْهَازِلِ فَرْقٌ وَهُوَ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ وَلِلْهَازِلِ اخْتِيَارٌ كَامِلٌ، وَالْفَاسِدُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْهَازِلِ الْوُقُوعُ فِي الْمُكْرَهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْهَازِلَ اخْتِيَارًا كَامِلًا فِي السَّبَبِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ السَّبَبِ فَلَا اخْتِيَارَ لَهُ أَصْلًا فَكَانَ اخْتِيَارُ الْهَازِلِ أَيْضًا غَيْرَ كَامِلٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَكَانَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَائِزًا.