فصل: فصل في الدية في أصابع اليد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ):

قَالَ: (وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ (وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِإِتْلَافِهِ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ.
أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ، وَعَلَى هَذَا تَنْسَحِبُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَنَقُولُ: فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ مَقْصُودٌ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْأَرْنَبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ مَعَ الْقَصَبَةِ لَا يُزَادُ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا اللِّسَانُ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ مَقْصُودَةٍ وَهُوَ النُّطْقُ، وَكَذَا فِي قَطْعِ بَعْضِهِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ قَائِمَةً، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ قِيلَ: تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَقِيلَ: عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ؛ فَبِقَدْرِ مَا لَا يَقْدِرُ تَجِبُ، وَقِيلَ: إنْ قَدَرَ عَلَى أَدَاءِ أَكْثَرِهَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِحُصُولِ الْإِفْهَامِ مَعَ الِاخْتِلَالِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مَنْفَعَةُ الْكَلَامِ، وَكَذَا الذَّكَرُ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ وَالْإِيلَادِ وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَالرَّمْي بِهِ وَدَفْقِ الْمَاءِ وَالْإِيلَاجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْإِعْلَاقِ عَادَةً، وَكَذَا فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّ الْحَشَفَةَ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهُ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ ذَكَرَ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهَا وَهُوَ مَا دُونَهَا.
قَالَ (وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) وَأَعَادَ ذِكْرَ النَّفْسِ فِي فَصْلِ مَا دُونَ النَّفْسِ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ مَا بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ (ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْجِنَايَاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ: يَجِبُ الدِّيَةُ بِسَبَبِ إتْلَافِهَا، كَمَا يُقَالُ فِي النِّكَاحِ حَلَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ».
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ) يَعْنِي فِيمَا دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ كُلُّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ عُضْوًا كَانَ أَوْ مَعْنًى مَقْصُودًا تَجِبُ بِإِتْلَافِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَمِنْ الْأَعْضَاءِ مَا هُوَ إفْرَادٌ كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُزْدَوِجٌ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْبَعٌ كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَعْشَارٌ كَأَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَمِنْهَا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَسْنَانِ (وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا، فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ) وَقَيَّدَ الْمَنْفَعَةَ وَالْجَمَالَ بِالْكَمَالِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْكَامِلِ لَا يَجِبُ فِيهِ كُلُّ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ عُضْوٍ مَقْصُودٍ، كَمَا إذَا قَطَعَ لِسَانَ الْأَخْرَسِ أَوْ آلَةَ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وَالْيَدَ الشَّلَّاءَ وَالرِّجْلَ الْعَرْجَاءَ وَالْعَيْنَ الْعَوْرَاءَ وَالسِّنَّ السَّوْدَاءَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَلَا الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ وَلَا فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ، وَإِنَّمَا فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَأَمَّا إذَا أَتْلَفَ الْكَامِلَ فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ (لِإِتْلَافِهِ كُلَّ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ، أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ، وَعَلَى هَذَا تَنْسَحِبُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ) فَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ الْكَمَالِ قَائِمًا بِعُضْوٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَ إتْلَافِهِ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعُضْوَيْنِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِأَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَشَرَةٍ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِأَكْثَرَ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (قِيلَ تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ) يَعْنِي عَلَى جُمْلَةِ الْحُرُوفِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْأَلِفُ وَالتَّاءُ وَالثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالرَّاءُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشِّينُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ وَاللَّامُ وَالنُّونُ، وَفِي كَوْنِ الْأَلِفِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ إتْيَانُ حَرْفٍ مِنْهَا يَلْزَمُهُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الدِّيَةِ.
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ طَرَفَ لِسَانِ رَجُلٍ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ (ا ب ت ث)، فَكُلَّمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقْرَأْ أَوْجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ صَحَّحَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ إقَامَةَ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَهُوَ مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ إنْ تَهَيَّأَتْ بِدُونِ اللِّسَانِ، لَكِنَّ الْإِفْهَامَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَتَهَيَّأُ فَيَجِبُ الِامْتِحَانُ بِالْجَمِيعِ، وَكَذَا إذَا ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ اخْتَلَفَ طُرُقُ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ، فَقِيلَ إذَا صَدَّقَهُ الْجَانِي أَوْ اسْتَحْلَفَهُ عَلَى الْبَتَاتِ وَنَكَلَ ثَبَتَ قِوَامُهَا، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْمُوَصِّلَةُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ، فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ السَّمْعِ أَنْ يُتَغَافَلَ وَيُنَادَى، فَإِنْ أَجَابَ عُلِمَ أَنَّهُ يَسْمَعُ.
وَحَكَى النَّاطِفِيُّ عَنْ أَبِي خَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ امْرَأَةً تَطَارَشَتْ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، فَاشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا فَجْأَةً: غَطِّي عَوْرَتَك، فَاضْطَرَبَتْ وَتَسَارَعَتْ إلَى جَمْعِ ثِيَابِهَا وَظَهَرَ مَكْرُهَا.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ الْبَصَرِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ، فَإِنْ دَمَعَتْ عَيْنُهُ عُلِمَ أَنَّ الضَّوْءَ بَاقٍ، وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ عُلِمَ أَنَّ الضَّوْءَ ذَاهِبٌ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ حَيَّةٌ، فَإِنْ هَرَبَ مِنْ الْحَيَّةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بَصَرُهُ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الشَّمِّ بِأَنْ يُوضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، فَإِنْ نَفَرَ عَنْهَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ شَمُّهُ. قَالَ: (وَفِي الْعَقْلِ إذَا ذَهَبَ بِالضَّرْبِ الدِّيَةُ) لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْإِدْرَاكِ إذْ بِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ (وَكَذَا إذَا ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ) يَعْنِي لَيْسَ فِيهَا اسْتِتْبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْآخَرَ، بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ حَيْثُ لَا يَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَتْبَعُ النَّفْسَ.
أَمَّا الطَّرَفُ فَلَا يَتْبَعُ طَرَفًا آخَرَ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَبِفَوَاتِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِدُونِ الْمَوْتِ أَوْلَى، فَإِنَّ فِي الْمَوْتِ اسْتِتْبَاعًا دُونَ عَدَمِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. قَالَ: (وَفِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتُ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ يُفَوِّتَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْجَمَالِ.
قَالَ (وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةُ) لِمَا قُلْنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْآدَمِيِّ، وَلِهَذَا يُحْلَقُ شَعْرُ الرَّأْسِ كُلُّهُ، وَاللِّحْيَةُ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَصَارَ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِي شَعْرِ الْعَبْدِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ.
وَلَنَا أَنَّ اللِّحْيَةَ فِي وَقْتِهَا جَمَالٌ وَفِي حَلْقِهَا تَفْوِيتُهُ عَلَى الْكَمَالِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ، وَكَذَا شَعْرُ الرَّأْسِ جَمَالٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَدِمَهُ خِلْقَةً يَتَكَلَّفُ فِي سَتْرِهِ، بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَمَالٌ.
وَأَمَّا لِحْيَةُ الْعَبْدِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَبْدِ الْمَنْفَعَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْجَمَالِ بِخِلَافِ الْحُرِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْجَمَالِ، قَالُوا: لَوْ حَلَقَ رَأْسَ إنْسَانٍ أَوْ لِحْيَتَهُ لَا يُطَالَبُ بِالدِّيَةِ حَالَةَ الْحَلْقِ بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِتَصَوُّرِ النَّبَاتِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ وَلَمْ يَنْبُتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ، وَقَالَا: فِيهِ حُكُومَةٌ، وَشَعْرُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ) أَيْ الْمُرْتَفِعَتَيْنِ وَصَفَهُمَا لِدَفْعِ إرَادَةِ السَّمْعِ.
وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ) هِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ لِفَوَاتِ الْجَمَالِ (وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الظَّاهِرِ) وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ. قَالَ: (وَفِي الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ هُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (هُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ عُضْوٌ عَلَى حِدَةٍ وَيَفُوتُ بِهِ الْجَمَالُ (وَلِحْيَةُ الْكَوْسَجِ إنْ كَانَ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِي حَلْقِهِ) لِأَنَّ وُجُودَهُ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ (وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ جَمِيعًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ (وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ، فَإِنْ نَبَتَتْ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ وَيُؤَدَّبُ عَلَى ارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَإِنْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْحُرِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُ جَمَالًا، وَفِي الْعَبْدِ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ قِيمَتُهُ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ، وَيَسْتَوِي الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ عَلَى هَذَا الْجُمْهُورِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَسْتَوِي الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ) يَعْنِي كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ خَطَأً فَكَذَا إذَا حَلَقَهُمَا عَمْدًا.
قِيلَ وَصُورَةُ حَلْقِهِمَا خَطَأً أَنْ يَظُنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ فَحَلَقَ الْوَلِيُّ لِحْيَتَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُبَاحِ الدَّمِ قِيلَ مُوجَبُ الْقِصَاصِ مَوْجُودٌ إذَا كَانَ عَمْدًا فَمَا الْمَانِعُ عَنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ، وَلَا نَصَّ فِي الشُّعُورِ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَهُوَ الْجُرُوحُ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي تَفْوِيتِهَا إلَى الْجِرَاحَةِ وَالضَّرْبِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِيهَا السِّرَايَةُ كَمَا تُتَوَهَّمُ فِي الْجِرَاحَاتِ، وَلَيْسَ فِيهِ إمَاتَةُ ذِي الرُّوحِ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِالْمَنْصُوصِ دَلَالَةً كَمَا لَا يَجُوزُ قِيَاسًا (وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ) وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِب حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي اللِّحْيَةِ.
قَالَ (وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ) كَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ: (وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ) وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» وَلِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الِاثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ كَمَالِ الْجَمَالِ فَيَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ، وَفِي تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ) الْأَصْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ يَشْمَلُ هَذِهِ الْفُرُوعَ كُلَّهَا.
وَالْأَشْفَارُ جَمْعُ شُفْرٍ بِالضَّمِّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ مَجَازًا، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ دَفْعًا لِتَخْطِئَةِ مَنْ خَطَّأَ مُحَمَّدًا فِي إطْلَاقِ الْأَشْفَارِ عَلَى الْأَهْدَابِ، قَالُوا: الْأَشْفَارُ مَنَابِتُ الشَّعْرِ وَهِيَ حُرُوفُ الْعَيْنَيْنِ وَأَطْرَافُهَا، وَالشُّعُورُ الَّتِي عَلَيْهَا تُسَمَّى الْهُدْبَ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ فَيَكُونُ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْحَقِيقَةُ، فَإِنَّ فِي تَفْوِيتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحَلِّ وَالْحَالِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: (وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ (وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ) لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ ثَدْيَيْ الرَّجُلِ حَيْثُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ. (وَفِي حَلَمَتَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْإِرْضَاعِ وَإِمْسَاكِ اللَّبَنِ (وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا) لِمَا بَيَّنَّاهُ. قَالَ (وَفِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهَا رُبْعُ الدِّيَةِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ مَجَازًا كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لِلْمُجَاوِرَةِ كَالرَّاوِيَةِ لِلْقِرْبَةِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعِيرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَجِنْسَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْأَذَى وَالْقَذَى عَنْ الْعَيْنِ إذْ هُوَ يَنْدَفِعُ بِالْهُدْبِ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْكُلِّ كُلَّ الدِّيَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ كَانَ فِي أَحَدِهَا رُبْعُ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَنْبَتَ الشَّعْرِ وَالْحُكْمُ فِيهِ هَكَذَا. (وَلَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ بِأَهْدَابِهَا فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَصَارَ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ. قَالَ (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشَرٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشَرٌ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا.
قَالَ (وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشِّمَالِ، وَكَذَا أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِقَطْعِ كُلِّهَا مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، ثُمَّ فِيهِمَا عَشَرُ أَصَابِعَ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا أَعْشَارًا. قَالَ (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ؛ فَفِي أَحَدِهَا.
ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَمَا فِيهَا مِفْصَلَانِ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ) وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ) يَعْنِي أَنَّ عُشْرَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَ بِإِزَاءِ كُلِّ أُصْبُعٍ إنَّمَا هُوَ بِمُقَابَلَةِ مَفَاصِلِهَا، فَمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهَا ثُلُثُهُ، وَمَا فِيهِ مَفْصِلَانِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. قَالَ: (وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ كُلَّهَا فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ كَالْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ، وَهَذَا إذَا كَانَ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَدْ مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ) قَالُوا: فِيهِ نَظَرٌ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، أَوْ يُقَالَ: وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ السِّنَّ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ: أَرْبَعٌ مِنْهَا ثَنَايَا وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ اثْنَتَانِ فَوْقُ وَاثْنَتَانِ أَسْفَلُ، وَمِثْلُهَا رَبَاعِيَاتٌ وَهِيَ مَا يَلِي الثَّنَايَا، وَمِثْلُهَا أَنْيَابٌ تَلِي الرَّبَاعِيَاتِ، وَمِثْلُهَا ضَوَاحِكُ تَلِي الْأَنْيَابَ، وَاثْنَتَا عَشْرَةَ سِنًّا تُسَمَّى بِالطَّوَاحِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثَلَاثٌ فَوْقُ وَثَلَاثٌ أَسْفَلُ، وَبَعْدَهَا سِنٌّ وَهِيَ آخِرُ الْأَسْنَانِ يُسَمَّى ضِرْسَ الْحُلُمِ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقْتَ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ لِعَوْدِهِ إلَى مَعْنَى أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَبَعْضُهَا سَوَاءٌ، فَإِذَا ضَرَبَ رَجُلٌ رَجُلًا حَتَّى سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ كُلُّهَا كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةٌ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَهِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ جِنْسُ عُضْوٍ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ سِوَى الْأَسْنَانِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَضَّلَ الطَّوَاحِنَ عَلَى الضَّوَاحِكِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ. قَالَ: (وَمَنْ ضَرَبَ عُضْوًا فَأَذْهَب مَنْفَعَتَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالْيَدِ إذَا شُلَّتْ وَالْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ ضَوْءُهَا) لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا فَوَاتُ الصُّورَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ) يَعْنِي الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ كُلِّ الدِّيَةِ هُوَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا فَوَاتُ الصُّورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ: أَنَّ فَوَاتَ الصُّورَةِ لَيْسَ مُتَعَلَّقَ وُجُوبِ الدِّيَةِ، بَلْ الْجَمَالُ أَيْضًا مَقْصُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَلْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِاسْتِتْبَاعِهِ الْآخَرَ فَيَكُونُ الْحَصْرُ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمَالَ مَقْصُودٌ فِي عُضْوٍ لَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فَالْجَمَالُ تَابِعٌ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الشَّلَّاءَ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لَا الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَدِ لَمَّا كَانَ الْمَنْفَعَةَ لَمْ تَتَكَامَلْ الْجِنَايَةُ مِنْ حَيْثُ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا جُعِلَ الْجَمَالُ تَابِعًا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَابِعًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَلَأَنْ يَكُونَ تَابِعًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِوُجُودِ الْمُسْتَتْبَعِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (لِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ) يَعْنِي مَنْفَعَةَ النَّسْلِ. (وَمَنْ ضَرَبَ صُلْبَ غَيْرِهِ فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ تَجِبُ الدِّيَةُ) لِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ (وَكَذَا لَوْ أَحْدَبَهُ) لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ اسْتِوَاءُ الْقَامَةِ (فَلَوْ زَالَتْ الْحُدُوبَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِزَوَالِهَا لَا عَنْ أَثَرٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ) هُوَ اسْتِقَامَةُ الْقَامَةِ.
قِيلَ وَفِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أَيْ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ وَهِيَ تَزُولُ بِالْحُدُوبَةِ.

.(فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ):

قَالَ (الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ: الْحَارِصَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ: أَيْ تَخْدِشُهُ وَلَا تُخْرِجُ الدَّمَ (وَالدَّامِعَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ (وَالدَّامِيَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ (وَالْبَاضِعَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ الْجِلْدَ أَيْ تَقْطَعُهُ (وَالْمُتَلَاحِمَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ (وَالسِّمْحَاقُ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى السِّمْحَاقِ وَهِيَ جَلْدَةٌ رَقِيقَةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَعَظْمِ الرَّأْسِ (وَالْمُوضِحَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُبَيِّنُهُ (وَالْهَاشِمَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ: أَيْ تَكْسِرُهُ (وَالْمُنَقِّلَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُنَقِّلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ: أَيْ تُحَوِّلُهُ (وَالْآمَّةُ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الرَّأْسِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الدِّمَاغُ.
قَالَ: (فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ» وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الْعَظْمِ فَيَتَسَاوَيَانِ فَيَتَحَقَّقُ الْقِصَاصُ.
قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي بَقِيَّةِ الشِّجَاجِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا حَدَّ يَنْتَهِي السِّكِّينُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ كَسْرَ الْعَظْمِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا خَوْفُ هَلَاكٍ غَالِبٍ فَيُسْبَرُ غَوْرُهَا بِمِسْبَارٍ ثُمَّ تُتَّخَذُ حَدِيدَةٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيُقْطَعُ بِهَا مِقْدَارُ مَا قَطَعَ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ.
قَالَ (وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ إهْدَارُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِحُكْمِ الْعَدْلِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
قَالَ (وَفِي الْمُوضِحَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهُمَا جَائِفَتَانِ فَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ) لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْآمَّةِ» وَيُرْوَى «الْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ الدِّيَةِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَلِأَنَّهَا إذَا نَفَذَتْ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ جَائِفَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ وَفِي كُلِّ جَائِفَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَلِهَذَا وَجَبَ فِي النَّافِذَةِ ثُلُثَا الدِّيَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ وَقَالَ: هِيَ الَّتِي يَتَلَاحَمُ فِيهَا الدَّمُ وَيَسْوَدُّ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ لَا يَعُودُ إلَى مَعْنًى وَحُكْمٍ.

الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ) لَمَّا كَانَ الشِّجَاجُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَتَكَاثَرَ مَسَائِلُهُ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ (الشِّجَاجُ عَشَرَةٌ) وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَطْعَ الْجِلْدِ لابد مِنْهُ لِلشَّجَّةِ، وَبَعْدَ الْقَطْعِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ الدَّمُ أَوْ لَا، الثَّانِي هُوَ الْحَارِصَةُ.
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَسِيلَ الدَّمُ بَعْدَ الْإِظْهَارِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي هُوَ الدَّامِعَةُ.
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ بَعْضَ اللَّحْمِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي هُوَ الدَّامِيَةُ.
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَطَعَ أَكْثَرَ اللَّحْمِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَظْمِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي هُوَ الْبَاضِعَةُ.
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ أَظْهَرَ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ الْحَائِلَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي هُوَ الْمُتَلَاحِمَةُ.
وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِظْهَارِ أَوْ يَتَعَدَّى، وَالْأَوَّلُ هُوَ السِّمْحَاقُ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى إظْهَارِ الْعَظْمِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوضِحَةُ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى كَسْرِ الْعَظْمِ أَوْ- لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْهَاشِمَةُ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نَقْلِ الْعَظْمِ وَتَحْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِهِ إلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي بَيْنَ الْعَظْمِ وَالدِّمَاغِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَقِّلَةُ، وَالثَّانِي هُوَ الْآمَّةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهَا وَهِيَ الدَّامِغَةُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُخْرِجُ الدِّمَاغَ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا عَادَةً فَكَانَ ذَلِكَ قَتْلًا لَا شَجَّةً عَلَى مَا يَجِيءُ فِي الْكِتَابِ.
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، فَقَدْ عُلِمَ بِالِاسْتِقْرَاءِ بِحَسَبِ الْآثَارِ أَنَّ الشِّجَاجَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ حَقِيقَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ) يُرِيدُ مَا هُوَ أَكْبَرُ شَجَّةٍ مِنْهَا وَهُوَ الْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ وَالْآمَّةُ.
وَقَوْلُهُ (وَفِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ) يُرِيدُ السِّتَّ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَيْهَا مِنْ الْحَارِصَةِ إلَى السِّمْحَاقِ.
وَالْمِسْبَارُ مَا يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ: أَيْ يُقَدَّرُ قَدْرُ غَوْرِهِ بِحَدِيدَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مَا قَبْلَهَا وَهِيَ السِّتُّ الْمَذْكُورَةُ وَوُجُوبُ حُكُومَةِ عَدْلٍ فِيهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَتِهِ فَقَدْ قَالَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: الْجَائِفَةُ مَا اتَّصَلَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنْبَيْنِ، وَالِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمَا وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرَابُ كَانَ مُفَطِّرًا، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَعَلَى هَذَا ذُكِرَ الْجَائِفَةُ هُنَا فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّجَاجَ تَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْوَجْهِ وَالذَّقَنِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ لَا يَعُودُ إلَى مَعْنًى) يَعْنِي يَرْجِعُ إلَى مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ، فَمُحَمَّدٌ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْتَحَمَ الشَّيْئَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَالْمُتَلَاحِمَةُ مَا تُظْهِرُ اللَّحْمَ وَلَا تَقْطَعُهُ، وَالْبَاضِعَةُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ وَبَعْدَ هَذَا شَجَّةٌ أُخْرَى تُسَمَّى الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهَا تَقَعُ قَتْلًا فِي الْغَالِبِ لَا جِنَايَةً مُقْتَصِرَةً مُنْفَرِدَةً بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لُغَةً، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يُسَمَّى جِرَاحَةً، وَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَتْ فِي غَيْرِهِمَا نَحْوُ السَّاقِ وَالْيَدِ لَا يَكُونُ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ وَهُوَ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَالشَّيْنُ يَخْتَصُّ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْعُضْوَانِ هَذَانِ لَا سِوَاهُمَا.
وَأَمَّا اللَّحْيَانِ فَقَدْ قِيلَ لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ فِيهِمَا مَا فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لَا يَجِبُ الْمُقَدَّرُ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْوَجْهَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجِهَةِ، وَلَا مُوَاجِهَةَ لِلنَّاظِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا هُمَا مِنْ الْوَجْهِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلَةٍ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجِهَةِ أَيْضًا.
وَقَالُوا: الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ: جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ، وَتَفْسِيرُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنْ يُقَوَّمَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ هَذَا الْأَثَرُ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ نِصْفَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ عُشْرِ فَرُبْعُ عُشْرٍ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا اللَّحْيَانِ) يُرِيدُ بِهِ الْعَظْمَ الَّذِي تَحْتَ الذَّقَنِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُهُمَا فَرْضًا فِي الطَّهَارَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ هَاهُنَا فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ) مِثَالُهُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَةٍ تَبْلُغُ أَلْفًا وَمَعَ الْجِرَاحَةِ تَبْلُغُ تِسْعَمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ الْجِرَاحَةَ أَوْجَبَتْ نُقْصَانَ عُشْرِ قِيمَتِهِ فَأَوْجَبَتْ عُشْرَ الدِّيَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحُرِّ دِيَتُهُ.
قَالَ قَاضِي خَانْ: وَالْفَتْوَى عَلَى هَذَا.
وَقَوْلُهُ (يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ) بَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَّةَ لَوْ كَانَتْ بَاضِعَةً مَثَلًا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ الْبَاضِعَةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُهَا ثُلُثَ الْمُوضِحَةِ وَجَبَ ثُلُثُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ رُبْعُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ حُكُومَةَ الْعَدْلِ فِي الَّذِي قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِالْعَبِيدِ فَصْلٌ.

.فصل في الدية في أصابع اليد:

قَالَ (وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ):
لِأَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا، فَكَانَ فِي الْخَمْسِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ (فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا (وَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ فَفِي الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَإِلَى الْفَخِذِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبُ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إلَى الْمَنْكِبِ فَلَا يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشُ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ، وَالْأَصَابِعُ دُونَ الذِّرَاعِ فَلَمْ يَجْعَلْ الذِّرَاعَ تَبَعًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوًا كَامِلًا وَلَا إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْكَفِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ.
قَالَ: (وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الْمِفْصَلِ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ أُصْبُعَيْنِ فَالْخُمُسُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْكَفِّ وَالْأُصْبُعِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَا إلَى إهْدَارِ أَحَدِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ.
وَلَهُ أَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا، لِأَنَّ الْبَطْشَ يَقُومُ بِهَا، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ فِي أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، وَالتَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ (وَلَوْ كَانَ فِي الْكَفِّ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ يَجِبُ أَرْشُ الْأَصَابِعِ وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّ الْأَصَابِعَ أُصُولٌ فِي التَّقْوِيمِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَاسْتَتْبَعَتْ الْكَفَّ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْأَصَابِعُ قَائِمَةً بِأَسْرِهَا.
قَالَ (وَفِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) تَشْرِيفًا لِلْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ، وَلَكِنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا زِينَةَ (وَكَذَلِكَ السِّنُّ الشَّاغِيَةُ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) لَمَّا كَانَتْ الْأَطْرَافُ دُونَ الرَّأْسِ وَلَهَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ (فِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ) لِأَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرَ الدِّيَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ) يَعْنِي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ وَلَا لِلْكَفِّ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ عَلَى حِدَةٍ إذْ لَا وَجْهَ لِإِهْدَارِهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ الْيَدَ إذَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ كَمَا فِي آيَةِ السَّرِقَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الْمَفْصِلِ) وَاضِحٌ وَقَوْلُهُ (وَالتَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ) يَعْنِي أَنَّ التَّرْجِيحَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالشَّرْعُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَهُوَ أَنَّ الْبَطْشَ بِالْأَصَابِعِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْأُصْبُعَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَالْكَفُّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ التَّقْدِيرُ شَرْعًا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَمَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ شَرْعًا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَكَانَ مَا ثَبَتَ فِيهِ التَّقْدِيرُ نَصًّا أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ ضَرُورَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا.
وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِبَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ نَصًّا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْ الْأَصَابِعِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّ لِلْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ أَرْشًا مُقَدَّرًا فَيُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَا الْمَفْصِلُ الْوَاحِدُ مِنْ الْأُصْبُعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ لَهُ أَرْشًا مُقَدَّرًا، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ قَلَّ فَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) يَعْنِي سَوَاءٌ قُطِعَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْقَاطِعِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ أَوْ لَا، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى قَطْعِ أُصْبُعٍ أُخْرَى فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، كَمَنْ قَطَعَ إبْهَامَ إنْسَانٍ وَلَيْسَ لَهُ إبْهَامٌ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقِيمَةِ شَرْطُ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَلَمْ تُوجَدْ لِأَنَّ قِيمَةَ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَقِيمَةُ الْأُصْبُعِ الْغَيْرِ الزَّائِدَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقِيمَةِ يَقِينًا شَرْطُ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يُوجَدْ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ فِي قَطْعِ الزَّائِدِ حُكُومَة عَدْلٍ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَقِينَ ثَمَّةَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ وَلَكِنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا زِينَةَ) قِيلَ عَلَيْهِ إنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي ذَقَنِ رَجُلٍ شَعِيرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَأَزَالَهَا رَجُلٌ وَلَمْ يَنْبُتْ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ حُكُومَة عَدْلٌ وَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ جُزْءًا مِنْ الْآدَمِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إزَالَةَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ إنَّمَا تُوجِبُ حُكُومَةَ عَدْلٍ إذَا بَقِيَ مِنْ أَثَرِهِ مَا يَشِينُهُ كَمَا فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةَ، وَإِزَالَةُ الشَّعَرَاتِ تُزَيِّنُهُ لَا تَشِينُهُ فَلَا تُوجِبُهَا، كَمَا لَوْ قَصَّ ظُفْرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ السِّنُّ الشَّاغِيَةُ) أَيْ الزَّائِدَةُ (لِمَا قُلْنَا) يُرِيدُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ، فَإِنَّ السِّنَّ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ وَالسِّنُّ الشَّاغِيَةُ هِيَ الَّتِي يُخَالِفُ نَبْتُهَا نَبْتَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْنَانِ: يُقَالُ رَجُلٌ أَشْغَى وَامْرَأَةٌ شَغْوَاءُ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً فَهِيَ نُقْصَانٌ مَعْنًى (وَفِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَذَكَرِهِ وَلِسَانِهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الصِّحَّةُ فَأَشْبَهَ قَطْعَ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَنْفَعَةُ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهَا لَا يَجِبُ الْأَرْشُ الْكَامِلُ بِالشَّكِّ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حَجَّةً لِلْإِلْزَامِ بِخِلَافِ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَمَالُ وَقَدْ فَوَّتَهُ عَلَى الْكَمَالِ (وَكَذَا لَوْ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ صَوْتٍ وَمَعْرِفَةُ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالْكَلَامِ وَفِي الذَّكَرِ بِالْحَرَكَةِ وَفِي الْعَيْنِ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّظَرِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمَ الْبَالِغِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ) إنَّمَا قَيَّدَ بِالْإِلْزَامِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الظَّاهِرِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِغَيْرِ الْإِلْزَامِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ صَغِيرًا لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ يَقِينًا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ وَيَجْزِيهِ رَضِيعٌ قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ) لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ، حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ، وَالدِّيَةُ بِفَوَاتِ كُلِّ الشَّعْرِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ (وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ الدِّيَةِ) قَالُوا: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْعَقْلِ، وَالْبَصَرُ ظَاهِرٌ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ.
قَالَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِيهِمَا (وَقَالَا: فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ) قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ) فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْجُزْءَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْكُلِّ قَوْلُهُ (فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ ذَهَابَ الْعَقْلِ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ النَّفْسِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ فِي مَوْضِعٌ يُشَارُ إلَيْهِ فَصَارَ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ.
وَقَوْلُهُ (وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ) لِبَيَانِ الْجُزْئِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى لَوْ نَبَتَ) يَعْنِي الشَّعْرَ (يَسْقُطُ) يَعْنِي أَرْشُ الْمُوضِحَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ بِمُفْتَقَرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ تَعَلَّقَا) يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ وَالدِّيَةَ (بِسَبَبٍ وَاحِدٍ) وَهُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ لَكِنَّ سَبَبَ الدِّيَةِ الْكُلُّ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ إصْبَعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ) قِيلَ يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ.
وَقِيلَ قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ (هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ذِكْرُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَعَ سَهْوًا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مُحَمَّدًا مَكَانَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ فِي الْإِيضَاحِ، أَوْ لَا يَذْكُرَ أَحَدًا أَصْلًا كَمَا هُوَ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إذَا كَانَ خَطَأً، وَأَمَّا إذَا كَانَ عَمْدًا يَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَدِيَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّجَّةِ وَالدِّيَةُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ.
وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) هُوَ أَنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِذَهَابِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ الثَّانِي) يَعْنِي قَوْلَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ، قِيلَ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ بِحَيْثُ لَا تَتَرَسَّمُ فِيهَا الْمَعَانِي وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَظْمِ التَّكَلُّمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَهَابِ الْعَقْلِ عَسِرًا جِدًّا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمَ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَفِي جَعْلِهِ مُبْطَنًا نَظَرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ: أَيْ قَالَ الْمَشَايِخُ (يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْعَيْنَيْنِ (وَالْأَرْشُ فِي الْمُوضِحَةِ) وَقَالَا: فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ) قَالَ (وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى فَشُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُصْبُعِ أَوْ الْيَدِ كُلِّهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى وَفِيمَا بَقِيَ حُكُومَةُ عَدْلٍ (وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ سِنَّ رَجُلٍ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ) وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ كُلِّهِ (وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ الْمِفْصَلَ وَاتْرُكْ مَا يَبِسَ أَوْ اكْسِرْ الْقِدْرَ الْمَكْسُورَ وَاتْرُكْ الْبَاقِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ: أَشُجُّهُ مُوضِحَةً أَتْرُكُ الزِّيَادَةَ.
لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلَّيْنِ فَيَكُونُ جِنَايَتَيْنِ مُبْتَدَأَتَيْنِ فَالشُّبْهَةُ فِي إحْدَاهُمَا لَا تَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى، كَمَنْ رَمَى إلَى رَجُلٍ عَمْدًا فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي.
وَلَهُ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى سَارِيَةٌ وَالْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ السَّارِي فَيَجِبُ الْمَالُ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْقَائِمَةُ، وَكَذَا الْمَحَلُّ مُتَّحِدٌ مِنْ وَجْهِ لِاتِّصَالٍ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فَأَوْرَثَتْ نِهَايَتُهُ شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِي الْبِدَايَةِ، بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مِنْ سِرَايَةِ صَاحِبِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الْأُصْبُعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَقْصُودًا.
قَالَ: (وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا هُمَا وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ: يُقْتَصُّ مِنْ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْشُهَا.
وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ مَا إذَا شُجَّ مُوضِحَةً فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالسَّرَايَةِ مُبَاشَرَةً كَمَا فِي النَّفْسِ وَالْبَصَرُ يَجْرِي فِيهِ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ الْخِلَافِيَّةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا قِصَاصَ فِيهِ، فَصَارَ الْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سِرَايَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ إلَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يُوجِبُ الِاقْتِصَاصَ كَمَا لَوْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَوَّلُ ظُلْمًا.
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّجَّةَ بَقِيَتْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا وَلَا قَوَدَ فِي التَّسْبِيبِ، بِخِلَافِ السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى الْأُولَى فَانْقَلَبَتْ الثَّانِيَةُ مُبَاشَرَةً.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ) أَيْ فِيمَا إذَا شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ، قَالَا: يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (وَلَهُ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى سَارِيَةٌ) وَالْجِرَاحَةُ الَّتِي تَعْمَلُ قِصَاصًا قَدْ لَا تَكُونُ سَارِيَةً إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فِعْلُ ذَلِكَ فَلَا يَكُون مِثْلًا لِلْأُولَى، وَلَا قِصَاصَ بِدُونِ الْمُمَاثَلَةِ (وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْقَائِمَةُ) أَيْ الثَّابِتَةُ حَالَ الشَّجِّ (وَكَذَا الْمَحَلُّ) أَيْ مَحَلُّ الْجِنَايَتَيْنِ (وَاحِدٌ مِنْ وَجْهٍ لِاتِّصَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ) وَنِهَايَةُ الْجِنَايَةِ لَمْ تُوجِبْ الْقِصَاصَ بِالِاتِّفَاقِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي الْبِدَايَةِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِهِمَا.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَنْ رَمَى إلَى رَجُلٍ عَمْدًا فَأَصَابَهُ وَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّا جَعَلْنَا الْفِعْلَ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّانِيَ حَصَلَ مِنْ سِرَايَةِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِتَعَاقُبِ الْآلَامِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الْأُصْبُعِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَاضْطَرَبَ السِّكِّينُ وَوَقَعَ عَلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى فَقَطَعَهَا يُقْتَصُّ لِلْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، فَمَا بَالُ مَسْأَلَتِنَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ؟ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَطْعَ الثَّانِي إنَّمَا لَمْ يُورِثْ الشُّبْهَةَ فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَقْصُودٌ، وَأَمَّا ذَهَابُ الْعَيْنِ بِالسِّرَايَةِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ.
فَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَقْصُودًا) الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إلَى ذَهَابِ الْعَيْنِ بِالسِّرَايَةِ، وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَعَلَا مَقْصُودًا نَظَرًا، وَأَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ مَقْصُودٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ أَثَرِهِ، فَإِنَّهُ رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى الْفِعْلِ الثَّانِي فَاخْتَلَّ الْكَلَامُ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فَرْقَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي إلَى الثَّانِي (وَقَالَا وَزُفَرُ) تَرْكِيبٌ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ قَالَ: وَقَالَا هُمَا وَزُفَرُ كَانَ صَوَابًا.
وَقَوْلُهُ (وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا) يُرِيدُ قَوْلَهُ وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الشَّجَّةِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ، فَرَّقَ مُحَمَّدٌ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ ذَهَابِ الْبَصَرِ مِنْ الشَّجَّةِ وَبَيْنَ ذَهَابِ السَّمْعِ مِنْهَا فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِيهِمَا فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ سَمْعُهُ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ سَمْعُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّ ذَهَابَهُ إنْ كَانَ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فَكَذَلِكَ بِسِرَايَةِ الْمُوضِحَةِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْخِلَافِيَّةِ الْأَخِيرَةِ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى.
وَقَوْلُهُ (أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّجَّةَ بَقِيَتْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا) حَتَّى وَجَبَ أَرْشُهَا مَعَ دِيَةِ الْعَيْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالْأَرْشُ فِي الْعَيْنَيْنِ عِنْدَهُمَا. قَالَ: (وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَسَقَطَتْ فَلَا قِصَاصَ) إلَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ (وَلَوْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ فَتَآكَلَتَا فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ هَاتَيْنِ).
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَتَآكَلَتَا) أَيْ صَارَتَا وَاحِدَةً بِالْأَكْلِ (فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ) أَيْ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ (عَنْ مُحَمَّدٍ) يَعْنِي لَا قِصَاصَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِيهِمَا الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ: (وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَنَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى سَقَطَ الْأَرْشُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْحَادِثُ نِعْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ انْعَدَمَتْ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ فَنَبَتَتْ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً وَلَا زِينَةً (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِمَكَانِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ (وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ غَيْرِهِ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا فِي مَكَانِهَا وَنَبَتَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذْ الْعُرُوقُ لَا تَعُودُ (وَكَذَا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَلْصَقَهَا فَالْتَحَمَتْ) لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
(وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَلَعَ سِنَّ بَالِغٍ فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى يَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِمَكَانِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ يُقَوَّمُ وَلَيْسَ بِهِ هَذَا الْأَلَمُ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ هَذَا الْأَلَمُ، فَيَجِبُ مَا انْتَقَصَ مِنْهُ بِسَبَبِ الْأَلَمِ مِنْ الْقِيمَةِ. (وَمَنْ نَزَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَنْزُوعَةُ سِنُّهُ سِنَّ النَّازِعِ فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتْ الْجِنَايَةُ، وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ الْيَأْسُ فِي ذَلِكَ لِلْقِصَاصِ، إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ تَضْيِيعَ الْحُقُوقِ فَاكْتَفَيْنَا بِالْحَوْلِ لِأَنَّهُ تَنْبُتُ فِيهِ ظَاهِرًا، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ وَلَمْ تَنْبُتْ قَضَيْنَا بِالْقِصَاصِ، وَإِذَا نَبَتَتْ تَبَيَّنَ أَنَّا أَخْطَأْنَا فِيهِ وَالِاسْتِيفَاءُ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ.
قَالَ: (وَلَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَتْ يُسْتَأْنَى حَوْلًا) لِيَظْهَرَ أَثَرُ فِعْلِهِ (فَلَوْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبُ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاخْتَلَفَا قَبْلَ السَّنَةِ فِيمَا سَقَطَ بِضَرْبِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمَضْرُوبِ) لِيَكُونَ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَجَاءَ وَقَدْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ لَا تُورِثُ الْمُنَقِّلَةَ، أَمَّا التَّحْرِيكُ فَيُؤَثِّرُ فِي السُّقُوطِ فَافْتَرَقَا (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ لِلضَّارِبِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَثَرَ فِعْلِهِ وَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ الَّذِي وَقَّتَهُ الْقَاضِي لِظُهُورِ الْأَثَرِ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ (وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ الْأَلَمِ، وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ وَلَكِنَّهَا اسْوَدَّتْ يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا تَسْوَدُّ مِنْهُ (وَكَذَا إذَا كَسَرَ بَعْضَهُ وَاسْوَدَّ الْبَاقِي) لَا قِصَاصَ لِمَا ذَكَرْنَا (وَكَذَا لَوْ احْمَرَّ أَوْ اخْضَرَّ) وَلَوْ اصْفَرَّ فِيهِ رِوَايَتَانِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ) يَعْنِي بِغَيْرِ اعْوِجَاجٍ، وَإِنْ نَبَتَ مُعْوَجًّا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا أَيْ يُؤَجَّلُ سَنَةً (بِالْإِجْمَاعِ) وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ: حَتَّى يَبْرَأُ مَوْضِعُ السِّنِّ لَا الْحَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْبَالِغِ نَادِرٌ فَلَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ قَبْلَهُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ الْحَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ، فَلَعَلَّ فَصْلًا مِنْهَا يُوَافِقُ مِزَاجَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِي إنْبَاتِهِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الِاسْتِينَاءُ حَوْلًا فِي فَصْلِ الْقَلْعِ فِي الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا» وَهُوَ كَمَا تَرَى يُنَافِي الْإِجْمَاعَ.
وَقَوْلُهُ (فَاخْتَلَفَا قَبْلَ السَّنَةِ) أَيْ قَالَ الْمَضْرُوبُ إنَّمَا سَقَطَ سِنِّي بِضَرْبِك وَقَالَ الضَّارِبُ بِسَبَبٍ آخَرَ.
وَقَوْلُهُ (لِيَكُونَ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا) يَعْنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا كَانَ لِيَظْهَرَ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ كَانَ التَّأْجِيلُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي سُقُوطِ السِّنِّ بَعْدَ السَّنَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ) أَيْ وَجْهَ قَوْلِهِ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ وَوَجْهَ حُكُومَةِ الْأَلَمِ.
وَقَوْلُهُ (يَجِبُ الْأَرْشُ كَامِلًا) وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا يَسْوَدُّ مِنْهُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ السِّنُّ مِنْ الْأَضْرَاسِ الَّتِي لَا تُرَى أَوْ مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُرَى.
وَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَضْرَاسِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ كَمَالِ الْأَرْشِ فَقْدُ مَنْفَعَةِ الْمَضْغِ بِالِاسْوِدَادِ دُونَ الْجَمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُرَى فَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاصْفِرَارَ وَهُوَ كَالِاسْوِدَادِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يَجِبُ كَمَالُ الْأَرْشِ وَعِنْدَ آخَرِينَ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ جِنْسَ مَنْفَعَةِ السِّنِّ وَلَا فَوَّتَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّ الصُّفْرَةَ قَدْ تَكُونُ لَوْنَ الْأَسْنَانِ فِي بَعْضِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ نَوْعُ نَقْصٍ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، بِخِلَافِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لَوْنَ الْأَسْنَانِ بِحَالٍ فَكَانَ مُفَوِّتًا لِلْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ إذَا كَانَتْ بَادِيَةً. قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَنَبَتَ الشَّعْرُ سَقَطَ الْأَرْشُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِزَوَالِ الشَّيْنِ الْمُوجِبِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ، لِأَنَّ الشَّيْنَ إنْ زَالَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ فَيَجِبُ تَقْوِيمُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الطَّبِيبُ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَتْ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ، وَتَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ هُوَ الْمَوْعُودُ قُبَيْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْمَنَافِعَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ، وَعَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا لَزِمَهُ أَجْرُ الطَّبِيبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ تَحَمُّلَ الْأَلَمِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَمُعَالَجَةُ الطَّبِيبِ كَذَلِكَ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدٍ كَالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ، أَوْ بِشُبْهَتِهِ كَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا قَالَ: (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَجَرَحَهُ فَبَرِئَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الضَّرْبِ) مَعْنَاهُ: إذَا بَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَدْ مَضَى فِي الشَّجَّةِ الْمُلْتَحِمَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا إلَخْ) يَعْنِي إذَا ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَجَرَحَهُ فَبَرِئَ مِنْهَا وَبَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَدْ مَضَى فِي الشَّجَّةِ الْمُلْتَحِمَةِ وَهُوَ سُقُوطُ الْأَرْشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوُجُوبُ أَرْشِ الْأَلَمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَوُجُوبُ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قَالَ (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْلَ الْبُرْءِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَسَقَطَ عَنْهُ أَرْشُ الْيَدِ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْمُوجَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الدِّيَةُ وَإِنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَدَخَلَ الطَّرَفُ فِي النَّفْسِ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ) لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَقْسَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: (وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَبْرَأَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُعَطَّلُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يُسْتَأْنَى فِي الْجِرَاحَاتِ سَنَةً» وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَآلُهَا لَا حَالُهَا لِأَنَّ حُكْمَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا تَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَتَلَ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ بِالْبُرْءِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً) وَاضِحٌ قَالَ: (وَكُلُّ عَمْدٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ فَالدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَكُلُّ أَرْشٍ وَجَبَ بِالصُّلْحِ فَهُوَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا» الْحَدِيثُ.
وَهَذَا عَمْدٌ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ شِبْهَ الْعَمْدِ.
وَالثَّانِي يَجِبُ حَالًّا لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ.
قَالَ: (وَإِنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَجِبُ حَالَّةً لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ يَجِبُ حَالًّا، وَالتَّأْجِيلُ لِلتَّخْفِيفِ فِي الْخَاطِئِ وَهَذَا عَامِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلِأَنَّ الْمَالَ وَجَبَ جَبْرًا لِحَقِّهِ، وَحَقُّهُ فِي نَفْسِهِ حَالٌّ فَلَا يَنْجَبِرُ بِالْمُؤَجَّلِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَقَوُّمَ الْآدَمِيِّ بِالْمَالِ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ، وَالتَّقْوِيمُ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا لَا مُعَجَّلًا فَلَا يَعْدُلُ عَنْهُ لاسيما إلَى زِيَادَةٍ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيطُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِيَّةِ قَدْرًا لَا يَجُوزُ وَصْفًا (وَكُلُّ جِنَايَةٍ اعْتَرَفَ بِهَا الْجَانِي فَهِيَ فِي مَالِهِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَتَعَدَّى الْمُقِرَّ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً) يَعْنِي لَا بِعَقْدٍ يَحْدُثُ بَعْدُ.
الْقَتْلُ كَالصُّلْحِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا) كَانَ حُكْمُهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَوْلُهُ (لَا سِيَّمَا إلَى زِيَادَةٍ) يَعْنِي الْمُعَجَّلَ فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَجَّلِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فِي الْمَالِيَّةِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، فَإِيجَابُ الْمَالِ حَالًّا بِالْقَتْلِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيظُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِيَّةِ قَدْرًا لَا يَجُوزُ وَصْفًا لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقَدْرِ، وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا اعْتِرَافًا» قَالَ: (وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ) عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنَايَةٍ مُوجَبُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً) لِأَنَّهُ عَمْدٌ حَقِيقَةً، إذْ الْعَمْدُ هُوَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ أَحَدُ حُكْمَيْهِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِهِ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَتْلِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ عَقْلَ الْمَجْنُونِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَالَ: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ، وَالْعَاقِلُ الْخَاطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالصَّبِيُّ وَهُوَ أَعْذَرُ أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ.
وَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ الْعَمْدِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالصَّبِيُّ قَاصِرُ الْعَقْلِ فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْقَصْدُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ.
وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَالْكَفَّارَةُ كَاسْمِهَا سَتَّارَةٌ: وَلَا ذَنْبَ تَسْتُرُهُ لِأَنَّهُمَا مَرْفُوعَا الْقَلَمِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَمْدُهُ) أَيْ عَمْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا.
وَقَوْلُهُ (وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِهِ) أَيْ ثَبَتَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ وَهُمَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَتْلِ) فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُمَا مُطَالَبَانِ بِمُوجَبِ الْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْهُمَا أَحَدُ حُكْمَيْ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْآخَرِ وَهُوَ وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ إذْ الْأَصْلُ ذَلِكَ .