فصل: النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ:

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ.
وَأَخْرَجَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتِنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ» فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ» ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ فَقَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَفِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكُهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ».
وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا وَلَا حَرَجَ وَلَكِنْ لَا تَخْتِمُوا ذِكْرَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ وَلَا ذِكْرَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ».
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ سَمُرَةَ يَرْفَعُهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِالسَّبْعَةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنَّ بَعْضَهُ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أحرف كحذره والرهب والصدق فَيُقْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ أَرَادَ أُنْزِلَ ابْتِدَاءً على ثلاثة ثم زيد إلى سبعة ومعنى جَمِيعُ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْهُ مَا يُقْرَأُ عَلَى حَرْفَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمَا يُقَارِبُ مَعْنَاهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي مَعْنَى هَذَا السَّبْعِ نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبَسْتِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا وَقَالَ وَقَفْتُ مِنْهَا عَلَى كَثِيرٍ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْقَارِئِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَصْرَ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي سَبْعَةٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنَ نَقْرَؤُهَا؟ أَمْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَالُ بَعْدَهُ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ هُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلِ اسْتَقَرَّ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَرَأَوْا أَنَّ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَمَشَقَّةِ نُطْقِهِمْ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ اقْتَضَتِ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَأُذِنَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى حَرْفِهِ أَيْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى أَنِ انْضَبَطَ الْأَمْرُ فِي آخِرِ الْعَهْدِ وَتَدَرَّبَتِ الْأَلْسُنُ وَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْوَاحِدَةِ فَعَارَضَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ الْآخِرَةِ وَاسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَنَسَخَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْمَأْذُونَ فِيهَا بِمَا أَوْجَبَهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا النَّاسُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآتِي مِنْ مُرَاعَاةِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْعَجُوزِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَمِنَ التَّصْرِيحِ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ مثل هلم وتعال.

.القول في القراءات السبع:

وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَبْعًا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْكَلِمَةَ الْمَنْظُومَةَ حَرْفًا وَتُسَمِّي الْقَصِيدَةَ بِأَسْرِهَا كَلِمَةً وَالْحَرْفُ يَقَعُ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَرْفُ أَيْضًا الْمَعْنَى وَالْجِهَةُ قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النحوي.
وَالثَّانِي وَهُوَ أَضْعَفُهَا أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ وَالْحَرْفُ هَاهُنَا الْقِرَاءَةُ وَقَدْ بَيَّنَ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا هُوَ كُلُّهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي كَتَبَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ قَالَ تَدَبَّرْتُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهَا سَبْعَةً مِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ وَلَا صُورَتُهُ مِثْلُ {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} و: {أطهر لكم} {ويضيق صدري} {ويضيق صدري}.
وَمِنْهَا مَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ وَيَزُولُ بِالْإِعْرَابِ وَلَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ كَقوله: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وَ: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}.
وَمِنْهَا مَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِالْحُرُوفِ وَاخْتِلَافِهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ كقوله: {كيف ننشزها} و: {ننشرها}.
وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ {كالعهن المنفوش} والصوف الْمَنْفُوشِ وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَمَعْنَاهُ مِثْلُ {طلح منضود} وَطَلْعٍ وَمِنْهَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَـ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الموت بالحق} وسكرة الْحَقِّ بِالْمَوْتِ.
وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ مِثْلُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقِرَاءَةُ ابن مسعود {تسع وتسعون نعجة} أنثى {وأما الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنَ} وَكَانَ كَافِرًا قَالَ أبو عمرو وَجْهٌ حَسَنٌ مِنْ وُجُوهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ قَالَ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ وَالْآخَرُ مِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ {الذكر والأنثى} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهم فإنك أنت الغفور الرحيم} وَقِرَاءَةُ عُمَرَ {فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْكُلُّ حَقٌّ وَالْمُصْحَفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ مُصْحَفُ عُثْمَانَ وَرَسْمُ الْحُرُوفِ وَاحِدٌ إِلَّا مَا تَنَوَّعَتْ فِيهِ الْمَصَاحِفُ وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا مِثْلُ اللَّهُ الْغَفُورُ وإن اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ.
وَالثَّالِثُ: سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْحَائِهِ فَبَعْضُهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَقَصَصٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا قَالَ كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ نَزَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ زَاجِرٌ وَآمِرٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَقُولُوا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربنا} قَالَ وَهُوَ حَدِيثٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَقَالَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الَّتِي أَجَازَ لَهُمُ الْقِرَاءَةَ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا وَإِنَّمَا الْحَرْفُ فِي هَذِهِ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَالطَّرِيقَةِ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يعبد الله على حرف}.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رَدَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ مَنْ أَوَّلَهُ بِهَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ مِنْهَا حَرَامًا لَا مَا سِوَاهُ أَوْ يَكُونُ حَلَالًا لَا مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُقْرَأُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ كُلُّهُ أَوْ حَرَامٌ كله أو أمثال كله حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَقَالَ هُوَ كَمَا قَالَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذِهِ لَا تُسَمَّى أَحْرُفًا وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ وَلَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَلَا فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَإِبْدَالِ حَرْفٍ بِحَرْفٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ إِبْدَالِ آيَةِ أَمْثَالٍ بِآيَةِ أَحْكَامٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ مَسْعُودٍ ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْقَاطِ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ أَيْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللُّغَاتُ الَّتِي أُبِيحَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ لُغَاتٍ لِسَبْعِ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ هَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ أَيْ نَزَلَ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَبَعْضُهُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ تَمِيمٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ أَزْدٍ وَرَبِيعَةَ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ اللُّغَاتِ وَمَعَانِيهَا فِي هَذَا كُلِّهِ وَاحِدَةٌ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبُ وَحَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْقَاضِي أبي بكر.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي التَّهْذِيبِ إِنَّهُ الْمُخْتَارُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِكَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا نَزَلْ بِلِسَانِهِمْ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شعب الإيمان: إنه الصحيح أي أن الْمُرَادُ اللُّغَاتُ السَّبْعُ الَّتِي هِيَ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَمِعْتُ الْقُرَّاءَ فَوَجَدْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ قَالَ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ لَكِنْ إِنَّمَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مُثْبَتَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَحَمَلُوهَا عَنْهُمْ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً فِي اللُّغَةِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ إِنْزَالِهِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي الإمامة.
وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالُوا لَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ إِلَّا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قومه}.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُرْآنِ حَرْفًا وَاحِدًا يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ وَغَلَّطَهُ ابن الأنباري بحروف منها: {وعبد الطاغوت} وقوله: {أرسله معنا غدا يرتع ويلعب} وقوله: {باعد بين أسفارنا} وقوله: {بعذاب بئيس} وغير ذلك.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ سَبْعَ لُغَاتٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكِرِ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ كِلَاهُمَا قُرَشِيٌّ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمَا وَمُحَالٌ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ عُمَرُ لُغَتَهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي تَعْيِينِ السَّبْعِ فَأَكْثَرُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ ذَلِكَ وَقَاعِدَتُهُ قُرَيْشٌ ثُمَّ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتُرْضِعَ فِيهِمْ وَنَشَأَ وَتَرَعْرَعَ وَهُوَ مُخَالِطٌ فِي اللِّسَانِ كِنَانَةَ وَهُذَيْلًا وَثَقِيفًا وَخُزَاعَةَ وَأَسَدًا وَضَبَّةَ وَأَلْفَافَهَا لِقُرْبِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَتَكْرَارِهِمْ عَلَيْهَا ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ تَمِيمًا وَقَيْسًا وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ وَسَكَنَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ.
قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنْ قُلْنَا مِنَ الْأَحْرُفِ لقريش ومنها لكنانة وَلِأَسَدٍ وَهُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ وَضَبَّةَ وَأَلْفَافِهَا وَقَيْسٍ لَكَانَ قَدْ أَتَى عَلَى قَبَائِلِ مُضَرَ فِي قِرَاءَاتٍ سَبْعٍ تَسْتَوْعِبُ اللُّغَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا الْفَصَاحَةُ وَسَلِمَتْ لُغَاتُهَا مِنْ الدَّخَلِ وَيَسَّرَهَا اللَّهُ لِذَلِكَ ليظهر أنه نَبِيِّهِ بِعَجْزِهَا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَيُثْبِتَ سَلَامَتَهَا أَنَّهَا فِي وَسَطِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ وَنَجْدٍ وَتِهَامَةَ فَلَمْ تُفَرِّقْهَا الْأُمَمُ.
وَقِيلَ: هَذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ كُلُّهَا فِي مُضَرَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُثْمَانَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ مُضَرَ قَالُوا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِقُرَيْشٍ وَمِنْهَا لِكِنَانَةَ وَمِنْهَا لِأَسَدٍ وَمِنْهَا لِهُذَيْلٍ وَمِنْهَا لِضَبَّةَ وَلِطَابِخَةَ فَهَذِهِ قَبَائِلُ مُضَرَ تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ وَتَزِيدُ.
قَالَ: أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَنْكَرَ آخَرُونَ كَوْنَ كُلِّ لُغَاتِ مُضَرَ فِي القرآن لأن فِيهَا شَوَاذَّ لَا يُقْرَأُ بِهَا مِثْلَ كَشْكَشَةِ قَيْسٍ وَعَنْعَنَةِ تَمِيمٍ فَكَشْكَشَةُ قَيْسٍ يَجْعَلُونَ كَافَ الْمُؤَنَّثِ شِينًا فَيَقُولُونَ فِي: {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سريا} رَبُّشِ تَحْتَشِ وَعَنْعَنَةُ تَمِيمٍ وَيَقُولُونَ فِي أَنْ عَنْ فَيَقْرَءُونَ {فَعَسَى اللَّهُ ((عَنْ)) يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} وَبَعْضُهُمْ يُبْدِلُ السِّينَ تَاءً فَيَقُولُ فِي النَّاسِ النَّاتُ وَهَذِهِ لُغَاتٌ يُرْغَبُ بِالْقُرْآنِ عَنْهَا وَمَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ مَعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ قُرَيْشٍ وَهَذَا أَثْبَتُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُ هَلْ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْفِظُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؟ فَيُقَالُ لَهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ تَجْتَمِعُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ قُلْنَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي كُلِّ عَرْضَةٍ بِحَرْفٍ إِلَى أَنْ تَمُرَّ سَبْعَةٌ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِهَوَازِنَ وَثِنْتَانِ لِسَائِرِ النَّاسِ.
وَالْخَامِسُ: الْمُرَادُ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ نَحْوَ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وَأَنْظِرْ وَأَخِّرْ وَأَمْهِلْ وَنَحْوِهِ وَكَاللُّغَاتِ الَّتِي فِي أُفٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهَا لُغَاتٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُرَكِّبُ لُغَةً بَعْضَهَا بَعْضًا وَمُحَالٌ أَنْ يُقْرِئَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا بِغَيْرِ لُغَتِهِ وَأُسْنِدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أضاء لهم مشوا فيه} سَعَوْا فِيهِ قَالَ فَهَذَا مَعْنَى السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا حَرْفٌ واحد.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِنَّمَا هَذِهِ الْأَحْرُفُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَتْ تَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ.
واحتج ابن عبد البر بحديث سلمان بْنِ صُرَدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «قَرَأَ أُبَيٌّ آيَةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ آيَةً خِلَافَهَا وَقَرَأَ رَجُلٌ آخَرُ خِلَافَهُمَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَمْ تَقْرَأْ آيَةَ كَذَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَلَمْ تَقْرَأْ آيَةَ كَذَا فَقَالَ: كُلُّكُمْ مُحْسِنٌ مُجْمِلٌ. وَقَالَ: يَا أُبَيُّ إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ عَلَى حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ فَقَالَ لِيَ الْمَلَكُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقُلْتُ عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ فَقَالَ عَلَى ثَلَاثَةٍ هَكَذَا حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ ليس فيها إلا شاف قُلْتُ غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْتُ سَمِيعًا حَكِيمًا أَوْ قُلْتُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَوْ قُلْتُ عَزِيزًا حَكِيمًا أَيَّ ذَلِكَ قُلْتُ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ».
قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا ضَرْبَ الْمَثَلِ لِلْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مَعَانٍ مُتَّفِقٌ مَفْهُومُهَا مُخْتَلِفٌ مَسْمُوعُهَا لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعْنًى وَضِدُّهُ وَلَا وَجْهَ يُخَالِفُ مَعْنَى وَجْهٍ خِلَافًا يَنْفِيهِ وَيُضَادُّهُ كَالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْعَذَابِ وَضِدُّهُ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْرَأْ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ فَقَالَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ حَتَّى بَلَغَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ اقْرَأْهُ فَكُلٌّ شَافٍ كَافٍ إِلَّا أَنْ تَخْلِطَ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ وَآيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ نَحْوَ هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {لِلَّذِينَ آمنوا انظرونا} أَمْهِلُونَا أَخِّرُونَا ارْقُبُونَا وَ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مشوا فيه} مَرُّوا فِيهِ سَعَوْا فِيهِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِلَّا أَنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ هُوَ فِيهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ وَعَلَى هَذَا أهل العلم.
قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ مِنْ جَامِعِهِ قَالَ: قِيلَ لِمَالِكٍ: أَتُرَى أَنْ تَقْرَأَ مِثْلَ مَا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: {فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: جَائِزٌ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» وَمِثْلُ يَعْلَمُونَ وَتَعْلَمُونَ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى بِاخْتِلَافِهِمْ بَأْسًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَلَهُمْ مَصَاحِفُ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ فَقَالَ لِي ذَهَبَ وَأَخْبَرَنِي مَالِكٌ قَالَ أَقْرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا: {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم}، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ طَعَامُ الْفَاجِرِ فَقُلْتُ لِمَالِكٍ أَتَرَى أَنْ يُقْرَأَ بِذَلِكَ قَالَ نَعَمْ أَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاسِعًا.
قَالَ: أَبُو عُمَرَ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُقْرَأَ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزِ الْقِرَاءَةُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ مَا عَدَا مُصْحَفَ عُثْمَانَ لَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُجْرَى مَجْرَى خَبَرِ الْآحَادِ لَكِنَّهُ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى الْقَطْعِ فِي رَدِّهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قَرَأَ فِي صَلَاةٍ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ لَمْ يُصَلَّ وَرَاءَهُ.
قَالَ وَعُلَمَاءُ مَكِّيُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا شُذُوذًا لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ مِنْهُمُ إلا عثمان وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا إِلَّا حَرْفُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي جَمَعَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمَصَاحِفَ.
السَّادِسُ: أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {أُفٍّ لَكُمْ} فَهَذَا عَلَى سَبْعَةِ أوجه بالنصب والجر والرفع وكل وجه التنوين وَغَيْرِهِ.
وَسَابِعُهَا: الْجَزْمُ وَمِثْلَ قَوْلِهِ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} وَنَحْوِهِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْقُرْآنِ تِسْعَةُ أَوْجُهٍ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْآيَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجُوزُ فِي حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ كُلِّهَا أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تَحْتَمِلُ أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا قَلِيلٌ مِثْلَ {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} و: {تشابه علينا} و: {بعذاب بئيس} وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ هَذَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ: شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ وَهَذَا الْمَجْمُوعُ فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ جَمِيعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُقِيمَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا أَوْ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْهَا مَيْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَنَّهُ جَمِيعُهَا وَصَرَّحَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ بَعْدِهِ بِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْهَا وَمَالَ الشَّيْخُ الشَّاطِبِيُّ إِلَى قَوْلِ الْقَاضِي فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَإِلَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فِيمَا جَمَعَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالسَّابِعُ: اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ ظَهَرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَبَطَهَا عَنْهُ الْأَئِمَّةُ وَأَثْبَتَهَا عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَأَخْبَرُوا بِصِحَّتِهَا وَإِنَّمَا حَذَفُوا مِنْهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ مُتَوَاتِرًا وَأَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا تَارَةً وَأَلْفَاظُهَا أُخْرَى وَلَيْسَتْ مُتَضَادَّةً وَلَا مُنَافِيَةً.
وَالثَّامِنُ: قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لِضَرُورَةٍ دَعَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ ذِي لُغَةٍ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ لُغَتِهِ ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَالْكُتَّابُ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ فَارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَعَادَ مَا يُقْرَأُ بِهِ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ.
وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ عِلْمُ الْقُرْآنِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ عِلْمُ الْإِثْبَاتِ وَالْإِيجَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} {وإلهكم إله واحد}.
وَعِلْمُ التَّنْزِيهِ كَقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يخلق}، {ليس كمثله شيء}.
وعلم صفات الذات كقوله: {ولله العزة}، {الملك القدوس}.
وعلم صفات الفعل كقوله: {واعبدوا الله}، {واتقوا الله} {وأقيموا الصلاة}، {لا تأكلوا الربا}.
وَعِلْمُ الْعَفْوِ وَالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا الله} {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عذابي هو العذاب الأليم}.
وَعِلْمُ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وعلم النبوات كقوله: {رسلا مبشرين ومنذرين} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} والإمامات كقوله: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر منكم} {ومن يشاقق الرسول} {كنتم خير أمة}.
والعاشر: أن المراد به سَبْعَةُ أَشْيَاءَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَالنَّصُّ والمؤول وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ.
وَالْحَادِي عَشَرَ: حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَذْفُ وَالصِّلَةُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَالْقَلْبُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالتَّكْرَارُ وَالْكِنَايَةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالظَّاهِرُ وَالْغَرِيبُ.
وَالثَّانِي عَشَرَ: وَحَكَاهُ عَنِ النُّحَاةِ أَنَّهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وَالتَّصْرِيفُ وَالْإِعْرَابُ وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا وَالْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّعْظِيمُ وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهَا بِمَعْنًى وَمَا لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَدَاءِ وَاللَّفْظِ جَمِيعًا.
وَالثَّالِثَ عَشَرَ: حَكَاهُ عَنِ الْقُرَّاءِ أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ التِّلَاوَةِ وَكَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا مِنْ إِظْهَارٍ وَإِدْغَامٍ وَتَفْخِيمٍ وَتَرْقِيقٍ وَإِمَالَةٍ وَإِشْبَاعٍ وَمَدٍّ وَقَصْرٍ وَتَخْفِيفٍ وَتَلْيِينٍ وَتَشْدِيدٍ.
وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَحَكَاهُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُبَادَلَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَهِيَ الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ وَالْحَزْمُ وَالْخِدْمَةُ مَعَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالْفُتُوَّةُ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجَاهَدَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّضَرُّعُ وَالِاسْتِغْفَارُ مَعَ الرِّضَا وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ قِيلَ أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إِلَى الصِّحَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَبْعُ لُغَاتٍ وَالسِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ تَسْهِيلُهُ عَلَى النَّاسِ لِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن للذكر} فَلَوْ كَانَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لَانْعَكَسَ الْمَقْصُودُ قَالَ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ الَّتِي نَتَدَاوَلُهَا الْيَوْمَ غَيْرُ تِلْكَ بَلْ هَذِهِ حُرُوفٌ مِنْ تلك الأحرف السبعة كَانَتْ مَشْهُورَةً وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ لَكِنْ لَمَّا خَافَتِ الصَّحَابَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الْقُرْآنِ رَأَوْا جَمْعَهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ تَعَيَّنَ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ وَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْآنَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَشْبَهُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ بِلُغَتِهِمْ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ مِنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْإِشْمَامِ وَالْهَمْزِ وَالتَّلْيِينِ وَالْمَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ اللُّغَاتِ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجَهٍ مِنْهَا فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّ الْحَرْفَ هُوَ الطَّرَفُ وَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ من يعبد الله على حرف} أَيْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ فِي السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ هِيَ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي قَرَأَهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ الْمُصْحَفِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ اخْتِيَارَاتُ أُولَئِكَ الْقُرَّاءِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اخْتَارَ فِيمَا رَوَى وَعَلِمَ وَجْهَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدَهُ وَالْأَوْلَى وَلَزِمَ طَرِيقَةً مِنْهَا وَرَوَاهَا وَقَرَأَ بِهَا وَاشْتُهِرَتْ عَنْهُ وَنُسِبَتْ إِلَيْهِ فَقِيلَ حَرْفُ نَافِعٍ وَحَرْفُ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَمْ يَمْنَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَرْفَ الْآخَرِ وَلَا أَنْكَرَهُ بَلْ سَوَّغَهُ وَحَسَّنَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارَانِ وَأَكْثَرُ وَكُلٌّ صَحِيحٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ وَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ تَوْسِعَةً مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ إِذْ لَوْ كُلِّفَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَرْكَ لُغَتِهِ والعدول عن عادة نشئوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِمَالَةِ وَالْهَمْزِ وَالتَّلْيِينِ وَالْمَدِّ وَغَيْرِهِ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ.
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: «يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأُ كِتَابًا قَطُّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.