فصل: فصل: قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فائدة فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات:

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صدوركم} فَقَالَ: الْمَوْتُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ تَفْسِيرٌ يَحْتَاجُ لِتَفْسِيرٍ.
وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَوْتَ سَيَفْنَى كَمَا يَفْنَى كُلُّ شَيْءٍ كَمَا جَاءَ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبَادَرَ إِلَيْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ الَّذِي يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ.
قَالَ: وَبَقِيَ فِي نَفْسِي مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ حَتَّى يُكْمِلَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي فَهْمِهَا.

.فَصْلٌ: أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر:

أَصِلُ الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ فَهْمُ مَعَانِي الْوَحْيِ حَقِيقَةً وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَسْرَارُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْبِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي قَلْبِهِ بِدْعَةٌ أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ أَوْ هَوًى أَوْ حُبُّ الدُّنْيَا أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَحَقِّقِ الْإِيمَانِ أَوْ ضَعِيفَ التَّحْقِيقِ أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِ مُفَسِّرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا عِلْمٌ بِظَاهِرٍ أَوْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْقُولِهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجُبٌ وموانع وبعضها آكد من بعض إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُصْغِيًا إِلَى كَلَامِ رَبِّهِ مُلْقِيَ السَّمْعِ وَهُوَ شَهِيدُ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِ مُخَاطِبِهِ نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ تَارِكًا لِلْمَعْهُودِ مِنْ عِلْمِهِ وَمَعْقُولِهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ مُفْتَقِرًا إِلَى التَّفَهُّمِ بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمَكُّنِ سَمْعٍ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَشَهَادَةِ غَيْبِ الْجَوَابِ بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَابْتِئَاسٍ وَتَمَسْكُنٍ وَانْتِظَارٍ لِلْفَتْحِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ وَلْيَسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ وَشَهَادَةِ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْوَعْدِ بِالتَّشْوِيقِ وَالْوَعِيدِ بِالتَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّشْدِيدِ فَهَذَا الْقَارِئُ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوته أولئك يؤمنون به}.
وَهَذَا هُوَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يهدي السبيل.

.فصل في القرآن علم الأولين والآخرين:

وَفِي الْقُرْآنِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمُرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى: {قَالَ إني عبد الله آتاني الكتاب} إلى قوله: {أبعث حيا} ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّاسُ زَلْزَلَةَ عَامِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ من قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض} فَإِنَّ الْأَلْفَ بِاثْنَيْنِ وَالذَّالَ بِسَبْعِمِائَةٍ.
وَكَذَلِكَ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَخْلِيصَهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ بحساب الجمل وغير ذلك.

.فصل: قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء:

وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ الْحُكْمُ مِنَ السُّكُوتِ عَنِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ وَهُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ وَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عن ذلك فقال: لئلا يضعه الْعَمُّ عِنْدَ ابْنِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَكَذَا الْخَالُ فَيُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُثْنِيَ مُشْتَرِكٌ بِابْنِهِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ إِلَّا الْعَمَّ وَالْخَالَ وَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَلِيغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي سَتْرِهِنَّ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مُحْتَمَلَةٌ فِي أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَذْرَهَا أَبُو الْبَعْلِ عِنْدَ ابْنِهِ الْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَأَبُو البعل ينقض قولهم إن مَنِ اسْتُثْنَى اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُهُ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بيوتكم} الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ فَقِيلَ لِدُخُولِهِمْ فِي قوله: {بيوتكم}.

.فصل في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان:

يَنْقَسِمُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى:
مَا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {التائبون العابدون} الآية وقوله: {إن المسلمين والمسلمات} الآية.
وقوله: {قد أفلح الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وقوله: {يا أيها الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا} وَإِلَى مَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَبَيَانُهُ إِمَّا فِيهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي السُّنَّةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ قَالَ تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}.
وَالثَّانِي: كَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الزَّكَاةِ وَلَا نِصَابَهَا وَلَا أَوْقَاصَهَا وَلَا شُرُوطَهَا وَلَا أَحْوَالَهَا وَلَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الصَّلَاةِ وَلَا أَوْقَاتَهَا.
وَكَقَوْلِهِ: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} {ولله على الناس حج البيت} وَلَمْ يُبَيِّنِ أَرْكَانَهُ وَلَا شُرُوطَهُ وَلَا مَا يَحِلُّ فِي الْإِحْرَامِ وَمَا لَا يَحِلُّ وَلَا مَا يُوجِبُ الدَّمَ وَلَا مَا لَا يُوجِبُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ قَدْ أَرْشَدَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمَّا نَزَلَ: {الَّذِينَ آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ! قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {يا بني لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}» فَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ ها هنا عَلَى الشِّرْكِ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَاسْتَأْنَسَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ لُقْمَانَ.
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ مُضْمَرًا فِيهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فهذا يحتاج إلى بيان لأن {حتى} لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَمَامٍ وَتَأْوِيلُهُ حَتَّى إذا جاؤوها جاؤوها وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.
وَمِثْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ به الجبال} أَيْ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَأْيِ النَّحْوِيِّينَ.
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْكَفَّ.
وَقَدْ يُومِئُ إِلَى الْمَحْذُوفِ إِمَّا مُتَأَخِّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فإنه لم يجئ لَهُ جَوَابٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وَتَقْدِيرُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} كَمَنْ قسا قلبه.
وإما متقدم كقوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل} فَإِنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى مَا قَبْلَهُ: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضر دعا ربه منيبا} كَأَنَّهُ قَالَ: أَهَذَا الَّذِي هُوَ هَكَذَا خَيْرٌ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ؟ فَأَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ.
ونظيره: {مثل الجنة التي وعد المتقون} وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار}!
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ وَاضِحًا وَهُوَ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقِبَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: تَفْسِيرُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد}.
وكقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَفْسِيرُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} وَقَالَ ثَعْلَبٌ: سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَقَوْلِهِ: {فيه آيات بينات} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمنا}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حصب جهنم} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُطْلَقَةً اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أنه لا يعذبهما اللَّهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِاللَّفْظِ فَلَمَّا قال المشركون هذا الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون}.
وقوله: {يريكم البرق خوفا وطمعا} فَفَسَّرَ رُؤْيَةَ الْبَرْقِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رُؤْيَتِهِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ وَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهَى تَقْدِيمُ الْخَوْفِ عَلَى الطَّمَعِ إِذْ كَانَتِ الصَّوَاعِقُ تَقَعُ مِنْ أَوَّلِ بَرْقَةٍ وَلَا يَحْصُلُ الْمَطَرُ إِلَّا بَعْدَ تَوَاتُرِ الْبَرَقَاتِ فَإِنَّ تَوَاتُرَهَا لَا يَكَادُ يَكْذِبُ فَقَدَّمَ الْخَوْفَ عَلَى الطَّمَعِ نَاسِخًا لِلْخَوْفِ كَمَجِيءِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الْآيَةَ وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي عَلَى بَطْنِهِ فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ وَكَذَا مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ.
وكقوله تعالى: {فمن ما ملكت أيمانكم} فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنَاتُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فَخَرَجَ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أعمى} فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ مِنْهُ وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بدليل قوله بعده {وأضل سبيلا} وَلِهَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوَّلَ بِالْإِمَالَةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ وَالثَّانِي بِالتَّصْحِيحِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَا هُوَ اسْمٌ وَمَا هُوَ أَفْعَلُ مِنْهُ بِالْإِمَالَةِ وَتَرْكِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْمَى مِنْ عَمْرٍو لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ!
قُلْتُ: إِنَّمَا جَازَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ أَيْ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ عَمَّا يَرَى مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ عَمَّا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ أَيْ أَشَدُّ عَمًى وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَى البصيرة متفاوت.
ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ المراد بالصبر ها هنا الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ مَدْحَ الصَّابِرِينَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مصيبة}.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فِي السُّورَةِ مَعَهُ أَوْ فِي غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مالك يوم الدين} وَبَيَانُهُ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئا والأمر يومئذ لله}.
وقوله في سورتي النمل والقصص: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَبَيَّنَهُ فِي سورة الدخان بقوله: {في ليلة مباركة} ثُمَّ بَيَّنَهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} فَالْمُبَارَكَةُ فِي الزَّمَانِ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ وَاحِدٌ وَبِذَلِكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُبَارَكَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَعَجَبٌ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ هُنَا بَيَانًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وما أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجمعان} وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} فَسَّرَهُ فِي آيَةِ الْفَتْحِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رحماء بينهم}.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطيب من القول} وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لغفور شكور}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مثلا} بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى}.
وَذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مُجْمَلًا وَفَسَّرَهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ ما ملكت أيمانهم} فَاسْتَثْنَى الْأَزْوَاجَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ ثُمَّ حَظَرَ تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ وَالرَّابَّةِ بالآية الأخرى.
ومنه قوله تعالى: {إن اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ مُشْكِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ هَدَى كُفَّارًا كَثِيرًا وَمَاتُوا مُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا يَهْدِي مَنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي السُّورَةِ: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ في النار} وَقَوْلِهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عليهم كلمت رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يروا العذاب الأليم}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تدعون إليه إن شاء فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِجَابَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَ الْإِجَابَةَ بِقَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلَا إِثْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا».
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ يريد حرث الدنيا نؤته منها} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء} فَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْمُرَادِ لِأَنَّ الِاطْمِئْنَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلَجِ الْقَلْبِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ بِتَوْجِيلِ الْقُلُوبِ كَذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقلوبهم إلى ذكر الله} لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَوَثِقُوا بِهِ فَانْتَفَى عَنْهُمُ الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ الَّذِي يَعْرِضُ إِنْ كَانَ كَلَامُهُمْ فِيمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تَعَوُّذًا فَجُعِلَ لَهُمْ حِكْمَةٌ دُونَ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِثَلَجِ الصُّدُورِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون} فَلَمْ يَسْتَثْنِ امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ منكم أحد إلا امرأتك} فأظهر الاستثناء في هذه الآية.
وكقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} لِأَنَّ هَذِهِ لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يُفْهَمْ مُرَادُهَا.
وقوله: {حرمت عليكم} هِيَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية.
وَقَوْلِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وللنساء نصيب} الْآيَةَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ وَمَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ ثُمَّ بَيِّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أولادكم} الْآيَاتِ.
وَكَقَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا ما يتلى عليكم} فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}.
وكقوله: {ليبلونكم الله بشيء من الصيد} الْآيَةَ فَهَذَا الِابْتِلَاءُ مُجْمَلٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي الْحِلِّ أَمْ فِي الْحَرَمِ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الْآيَةَ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَهَذَا الْمُجْمَلُ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الْآيَةَ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: بَيَانُ هَذَا الْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وعزرتموهم} الْآيَةَ فَهَذَا عَهْدُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَهُدُهُمْ تَمَامُ الآية في قوله: {لأكفرن عنكم سيئاتكم} فَإِذَا وَفُّوا الْعَهْدَ الْأَوَّلَ أُعْطُوا مَا وُعِدُوا.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لمن المرسلين}.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مؤمنون} فَقِيلَ لَهُمْ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} وقيل: بل نزل بعده: {إنا كاشفو العذاب} وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَشَفْنَا الْعَذَابَ تَعُودُوا.
وَقَوْلِهِ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عظيم} فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار ما كان لهم الخيرة}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وما الرحمن} بيانه: {الرحمن علم القرآن}.
وقوله: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} فَقِيلَ لَهُمْ: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بمثله}.
وَقَوْلِهِ: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلهتكم} فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مثوى لهم} الْآيَةَ.
وَمِنْهُ: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فقيل لهم: {ما لكم لا تناصرون}.
ومنه: {لو أطاعونا ما قتلوا} فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
وقوله: {أم يقولون تقوله} رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأخذنا منه باليمين}.
وقوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}.
وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جملة واحدة} فَقِيلَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على الناس على مكث}.
وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تَفْسِيرُ هَذَا الِاخْتِصَامِ مَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مرسل من ربه} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدنيا وفي الآخرة} وَفَسَّرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التي كنتم توعدون}.
وَمِنْهُ حِكَايَةٌ عَنْ فِرْعَوْنَ-لَعَنَهُ اللَّهُ-: {وَمَا أهديكم إلا سبيل الرشاد} فَرَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ برشيد}.
وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} وذكر هذا الحلف في قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين}.
وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَنِّي مغلوب فانتصر} بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الذين كذبوا بآياتنا}.
وقوله: {وقالوا قلوبنا غلف} أَيْ: أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أُوتِيتُمْ من العلم إلا قليلا}.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رب أرني أنظر إليك}.
قَالَ: فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ وَهَى قَوْلُهُ: {حَتَّى نرى الله جهرة} تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي} لَمْ يَكُنْ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُطَالَبَةَ قَوْمِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ إِلَّا وَقْتَ حُضُورِ قَوْمِهِ مَعَهُ وَسُؤَالِهِمْ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمت عليهم} بَيَّنَةُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء والصالحين}.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَسَّرَهَا آيَةُ مَرْيَمَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}؟ الْآيَةَ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّبِيِّينَ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مع نوح} وقوله: {وممن هدينا واجتبينا} وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَيْفَ وَقَدْ ذُكِرَتْ مَرْيَمُ وَهِيَ صِدِّيقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا فِي الْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً فَهُمْ بَعْضُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ فِي آيَةِ النِّسَاءِ صِنْفًا مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ آيَةُ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ أَوْلَى بِتَفْسِيرِ قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وَلِأَنَّ آيَةَ مَرْيَمَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قوله: {اهدنا الصراط المستقيم}.
وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهَا هِيَ نَفْسُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا هُدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى الطَّاعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ أَمَسُّ بِتَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَمْدِ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سورة مريم.