فصل: النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويله:

.مَعَانِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ:

وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه قال ابن فارس معاني العبارات التي يعتبر بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ الْمَعْنَى وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَهِيَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقَاصِدُ بِهَا مُتَقَارِبَةٌ.
فَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ الْقَصْدُ وَالْمُرَادُ يُقَالُ: عَنَيْتُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَذَا أَيْ قَصَدْتُ وَعَمَدْتُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِظْهَارِ يُقَالُ عَنَتِ الْقِرْبَةُ إِذَا لَمْ تَحْفَظِ الْمَاءَ بَلْ أَظْهَرَتْهُ وَمِنْهُ عُنْوَانُ الْكِتَابِ.
وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَنَتِ الْأَرْضُ بِنَبَاتٍ حَسَنٍ إِذَا أَنْبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا.
قُلْتُ: وَحَيْثُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فَمُرَادُهُمْ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ كَالزَّجَّاجِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَغَيْرِهِمْ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ أَكْبَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي الْفَرَّاءُ والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا كذا ومعاني الْقُرْآنِ لِلزَّجَّاجِ لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَهْلَ الْمَعَانِي فَمُرَادُهُمْ بِهِمْ مُصَنِّفُو الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ.
وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْكَشْفِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ التَّفْسِرَةِ وَهِيَ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ فَكَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ بِالنَّظَرِ فِيهِ يَكْشِفُ عَنْ عِلَّةِ الْمَرِيضِ فَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ يَكْشِفُ عَنْ شَأْنِ الْآيَةِ وَقَصَصِهَا وَمَعْنَاهَا وَالسَّبَبِ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَّلَ جَاءَ أَيْضًا عَلَى تَفْعِلَةٍ نَحْوُ جَرَّبَ تَجْرِبَةً وَكَرَّمَ تَكْرِمَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: قَوْلُ الْعَرَبِ فَسَرْتُ الدَّابَّةَ وَفَسَّرْتُهَا إِذَا رَكَضْتَهَا مَحْصُورَةً لِيَنْطَلِقَ حَصَرُهَا وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى الْكَشْفِ أَيْضًا.
فَالتَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ وَإِطْلَاقٌ لِلْمُحْتَبِسِ عَنِ الْفَهْمِ بِهِ وَيُقَالُ: فَسَّرْتُ الشَّيْءَ أُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا وَفَسَرْتُهُ أَفْسِرُهُ فَسْرًا وَالْمَزِيدُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَبِمَصْدَرِ الثَّانِي منها سمى أبو الفتح ابن جِنِّي كُتُبَهُ الشَّارِحَةَ الْفَسْرَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ سَفَرَ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا الْكَشْفُ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ سُفُورًا إِذَا أَلْقَتْ خِمَارَهَا عَنْ وَجْهِهَا وَهِيَ سَافِرَةٌ وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ أَضَاءَ وَسَافَرَ فُلَانٌ وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِأَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ كقوله تعالى: {يذبحون أبناءكم} {وغلقت الأبواب} فَكَأَنَّهُ يُتْبِعُ سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ وَآيَةً بَعْدَ أخرى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسَنَ تفسيرا} أَيْ تَفْصِيلًا.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَسْرُ وَالسَّفَرُ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا كَتَقَارُبِ لَفْظَيْهِمَا لَكِنْ جُعِلَ الْفَسْرُ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَمِنْهُ قِيلَ لِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْبَوْلُ: تَفْسِرَةٌ وَسُمِّيَ بِهَا قَارُورَةُ الْمَاءِ وَجُعِلَ السَّفَرُ لِإِبْرَازِ الْأَعْيَانِ لِلْأَبْصَارِ فَقِيلَ سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عِلْمُ نُزُولِ الْآيَةِ وَسُورَتِهَا وَأَقَاصِيصِهَا وَالْإِشَارَاتِ النَّازِلَةِ فِيهَا ثُمَّ تَرْتِيبِ مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا وَمُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامتها وَمُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا وَمُجْمَلِهَا وَمُفَسَّرِهَا.
وَزَادَ فِيهَا قَوْمٌ فَقَالُوا: عِلْمُ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَوَعْدِهَا وَوَعِيدِهَا وَأَمْرِهَا وَنَهْيِهَا وَعِبَرِهَا وَأَمْثَالِهَا وَهَذَا الَّذِي مُنِعَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْأَوْلِ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا تَأْوِيلُ هَذَا الكلام؟ أي إلام تَؤُولُ الْعَاقِبَةُ فِي الْمُرَادِ بِهِ كَمَا قَالَ تعالى: {يوم يأتي تأويله} أَيْ تُكْشَفُ عَاقِبَتُهُ وَيُقَالُ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ وَقَدْ أَوَّلْتُهُ فَآلَ أَيْ صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ فَكَأَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في التفسير.
وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْإِيَالَةِ وَهَى السِّيَاسَةُ فَكَأَنَّ الْمُؤَوِّلَ لِلْكَلَامِ يُسَوِّي الْكَلَامَ وَيَضَعُ الْمَعْنَى فِيهِ موضعه.

.الفرق بين التفسير والتأويل:

ثُمَّ قِيلَ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَاحِدٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَالصَّحِيحُ تَغَايُرُهُمَا وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: التَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَرَدُّ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ.
قَالَ الرَّاغِبُ: التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأَوُّلِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَلْفَاظِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي كَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَأَكْثَرُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ كَشْفُ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَغَيْرِهِ وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُهُ فِي الْجُمَلِ.
وَالتَّفْسِيرُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ أَوْ فِي وَجِيزٍ مُبَيَّنٍ بِشَرْحٍ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزكاة} وَإِمَّا فِي كَلَامٍ مُضَمَّنٍ لِقِصَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الكفر} وَقَوْلِهِ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهورها} وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً عَامًّا وَمَرَّةً خَاصًّا نَحْوُ الْكُفْرِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي الْجُحُودِ الْمُطْلَقِ وَتَارَةً فِي جُحُودِ الْبَارِئِ خَاصَّةً وَالْإِيمَانُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُطْلَقِ تَارَةً وَفِي تَصْدِيقِ الْحَقِّ تَارَةً وَإِمَّا فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ كَشْفُ مَا انْغَلَقَ مِنَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالَ الْبَجَلِيُّ: التَّفْسِيرُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَةِ وَالتَّأْوِيلُ يَتَعَلَّقُ بِالدِّرَايَةِ وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي التَّفْسِيرِ الِاتِّبَاعُ وَالسَّمَاعُ وَإِنَّمَا الِاسْتِنْبَاطُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأْوِيلِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ وُضِعَ لِأَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مُجَازٌ كَلَفْظَةِ الْمَسِّ فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ تَنَافَيَا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا التَّوَقُّفُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَعْنًى مُوَافِقٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ.
قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّفْسِيرِ وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ فِي الْحَرْبِ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ النَّفَقَةِ وقيل: الَّذِي يُنْفِقُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ وَقِيلَ: الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَلِكُلٍّ مِنْهُ مَخْرَجٌ وَمَعْنًى.
وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَنْدُوبِينَ إِلَى الْغَزْوِ عِنْدَ قيام النفير: {انفروا خفافا وثقالا} قِيلَ: شُيُوخًا وَشَبَابًا وَقِيلَ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَقِيلَ: عُزَّابًا وَمُتَأَهِّلِينَ وَقِيلَ: نُشَّاطًا وَغَيْرَ نُشَّاطٍ وَقِيلَ: مَرْضَى وَأَصِحَّاءَ وَكُلُّهَا سَائِغٌ جَائِزٌ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّبَابَ وَالْعُزَّابَ وَالنُّشَّاطَ وَالْأَصِحَّاءَ خِفَافٌ وَضِدَّهُمْ ثِقَالٌ.
وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَقِيلَ: الْعَارِيَّةُ أَوِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ أَوِ الْكَلَأُ أَوِ الرَّفْدُ أَوِ الْمَغْرَفَةُ وَكُلُّهَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَانِعَ الْكُلِّ آثِمٌ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ على حرف} فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْ لَا يَدُومُ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَيْ عَلَى شَكٍّ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى دِينَهِ وَلَا تَسْتَقِيمُ الْبَصِيرَةُ فِيهِ.
وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُ آيَاتٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِائَةُ قَوْلٍ قَوْلُهُ: {فاذكروني أذكركم} {وإن عدتم عدنا} {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجُهُ بل معرفة واجبة ولهذا قال تعالى: {وابتغاء تأويله} وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي اللُّغَةِ لم يبينه سبحانه والوقف على قوله: {والراسخون} قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا نَقَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَغَلَطٌ.
فَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمُخَالِفُ لِلْآيَةِ وَالشَّرْعِ فَمَحْظُورٌ لِأَنَّهُ تَأْوِيلُ الْجَاهِلِينَ مِثْلُ تَأْوِيلِ الرَّوَافِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَرَجَ البحرين يلتقيان} أنهما علي وفاطمة {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وكذلك قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} إِنَّهُ مُعَاوِيَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو القاسم محمد بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ نَبَغَ فِي زَمَانِنَا مُفَسِّرُونَ لَوْ سُئِلُوا عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ لَا يُحْسِنُونَ الْقُرْآنَ تِلَاوَةً وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى السُّورَةِ أَوِ الْآيَةِ مَا عِنْدَهُمْ إِلَّا التَّشْنِيعُ عِنْدَ العوام والتكثر عند الطغام لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُطَامِ أَعْفَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْكَدِّ وَالطَّلَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّعَبِ لِاجْتِمَاعِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِمْ وَازْدِحَامِ ذَوِي الْأَغْفَالِ لَدَيْهِمْ لَا يَكْفُونَ النَّاسَ مِنَ السُّؤَالِ وَلَا يَأْنَفُونَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْجُهَّالِ مُفْتَضِحُونَ عِنْدَ السَّبْرِ وَالذَّوَاقِ زَائِغُونَ عَنِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ التَّلَاقِ يُصَادِرُونَ النَّاسَ مُصَادَرَةَ السُّلْطَانِ وَيَخْتَطِفُونَ مَا عِنْدَهُمُ اخْتِطَافَ السِّرْحَانِ يَدْرُسُونَ بِاللَّيْلِ صَفْحًا وَيَحْكُونَهُ بِالنَّهَارِ شَرْحًا إِذَا سُئِلُوا غَضِبُوا وَإِذَا نُفِّرُوا هَرَبُوا الْقِحَةُ رَأْسُ مَالِهِمْ وَالْخَرَقُ وَالطَّيْشُ خَيْرُ خِصَالِهِمْ يَتَحَلَّوْنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَيَتَنَافَسُونَ فِيمَا يُرْذِلُهُمْ الصِّيَانَةُ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ وَهُمْ مِنَ الْخَنَى وَالْجَهْلِ فِي جَوْفِ مَنْزِلٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» وقد قيل:
مَنْ تَحَلَّى بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ ** فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ

وَجَرَى فِي السِّبَاقِ جَرْيَةَ ** سُكَّيْتٍ نَفَتْهُ الْجِيَادُ عِنْدَ الرِّهَانِ

قَالَ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحَاقَّةِ فَقَالَ: الْحَاقَّةُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَارُوا فِي الْمَجْلِسِ قَالُوا: كُنَّا فِي الْحَاقَّةِ وَقَالَ آخَرُ فِي قوله تعالى: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} قَالَ: أَمَرَ الْأَرْضَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالسَّمَاءَ بِصَبِّ الْمَاءِ وَكَأَنَّهُ عَلَى الْقَلْبِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِي قوله تعالى: {وإذا الموؤودة سئلت} قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُكُمْ عَنِ الْمَوْءُودَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ آخَرُ فِي قوله: {فليتنافس المتنافسون} قَالَ: إِنَّهُمْ تَعِبُوا فِي الدُّنْيَا فَإِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ تَنَعَّمُوا.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقَ يَقُولُ: سمعت يحيى ابن مُعَاذٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: أَفْوَاهُ الرِّجَالِ حَوَانِيتُهَا وَأَسْنَانُهَا صَنَائِعُهَا فَإِذَا فَتَحَ الرَّجُلُ بَابَ حَانُوتِهِ تَبَيَّنَ الْعَطَّارُ مِنَ الْبِيطَارِ وَالتَّمَّارُ مِنَ الزَّمَّارِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى سُوءِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ.