فصل: فصل: بعض أحكام حج العبد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الحج

الحج في اللغة‏:‏ القصد وعن الخليل قال‏:‏ الحج كثرة القصد إلى من تعظمه قال الشاعر‏:‏

وأشهد من عوف حؤولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا

أي‏:‏ يقصدون والسب‏:‏ العمامة وفي الحج لغتان‏:‏ الحج والحج بفتح الحاء وكسرها والحج في الشرع‏:‏ اسم لأفعال مخصوصة يأتي ذكرها‏,‏ إن شاء الله وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏}‏ روي عن ابن عباس‏:‏ ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وأما السنة‏,‏ فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس‏)‏ وذكر فيها الحج وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ يا أيها الناس‏,‏ قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله‏؟‏ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ لو قلت نعم لوجبت‏,‏ ولما استطعتم ثم قال‏:‏ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم‏,‏ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه‏)‏ في أخبار كثيرة سوى هذين وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة‏.‏

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم‏:‏ ‏[‏ ومن ملك زادا وراحلة‏,‏ وهو بالغ عاقل لزمه الحج والعمرة ‏]‏

وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط‏:‏ الإسلام والعقل‏,‏ والبلوغ والحرية والاستطاعة لا نعلم في هذا كله اختلافا فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين‏,‏ وقد روى علي بن أبي طالب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب‏,‏ وعن المعتوه حتى يعقل‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي‏,‏ وقال‏:‏ حديث حسن وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة‏,‏ ويضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد وأما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء وغير المستطيع لا يجب عليه لأن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه‏,‏ فيختص بالوجوب وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏‏.‏

فصل‏:‏

وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو الإسلام والعقل‏,‏ فلا تجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما لأنهما ليسا من أهل العبادات ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وهو البلوغ والحرية‏,‏ وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام ومنها ما هو شرط للوجوب فقط‏,‏ وهو الاستطاعة فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج‏,‏ كان حجه صحيحا مجزئا كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية في شرطين‏,‏ وهما تخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من عدو ونحوه وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه فروي أنهما من شرائط الوجوب‏,‏ فلا يجب الحج بدونهما لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج‏,‏ فكان شرطا كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وروي أنهما ليسا من شرائط الوجوب‏,‏ وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين‏,‏ حج عنه بعد موته وإن أعسر قبل وجودهما بقي في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل‏:‏ ما يوجب الحج‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الزاد والراحلة‏"‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وهذا له زاد وراحلة‏,‏ ولأن هذا عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب كالعضب ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات‏,‏ بدليل ما لو طهرت الحائض أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون‏,‏ ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة فيجب المصير إلى تفسيره‏,‏ والفرق بينهما وبين الزاد والراحلة أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع‏,‏ فافترقا‏.‏

فصل‏:

وإمكان المسير معتبر بما جرت به العادة فلو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر‏,‏ لم يلزمه السعي وتخلية الطريق هو أن تكون مسلوكة لا مانع فيها بعيدة كانت أو قريبة‏,‏ برا كان أو بحرا إذا كان الغالب السلامة فإن لم يكن الغالب السلامة‏,‏ لم يلزمه سلوكه فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي‏:‏ لا يلزمه السعي‏,‏ وإن كانت يسيرة لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة وقال ابن حامد‏:‏ إن كان ذلك مما لا يجحف بماله‏,‏ لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم‏.‏

فصل‏:‏

والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن‏,‏ ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي‏,‏ وإسحاق قال الترمذي‏:‏ والعمل عليه عند أهل العلم وقال عكرمة‏:‏ هي الصحة وقال الضحاك‏:‏ إن كان شابا فليؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه وعن مالك‏:‏ إن كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس‏,‏ لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة‏,‏ فوجب الرجوع إلى تفسيره فروى الدارقطني بإسناده عن جابر‏,‏ وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏سئل ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ الزاد والراحلة‏)‏ وروى ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ يا رسول الله‏,‏ ما يوجب الحج‏؟‏ قال‏:‏ الزاد والراحلة‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن وروى الإمام أحمد حدثنا هشيم‏,‏ عن يونس عن الحسن قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ ‏(‏قال رجل‏:‏ يا رسول الله‏,‏ ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ الزاد والراحلة‏)‏ ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد‏,‏ وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة‏,‏ والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه‏.‏

فصل‏:‏

ولا يلزمه الحج ببذل غيره له‏,‏ ولا يصير مستطيعا بذلك سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا وسواء بذل له الركوب والزاد‏,‏ أو بذل له مالا وعن الشافعي أنه إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه‏,‏ فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة ولنا أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجب الحج ‏"‏الزاد والراحلة‏"‏‏,‏ يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل ما لو كان الباذل أجنبيا‏,‏ ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنهما فلم يلزمه الحج‏,‏ كما لو بذل له والده ولا نسلم أنه لا يلزمه منة ولو سلمناه فيبطل ببذل الوالدة‏,‏ وبذل من للمبذول عليه أياد كثيرة ونعم‏.‏

فصل‏:‏

ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز‏,‏ أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس‏,‏ استحب له الحج لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يأتوك رجالا وعلى كل ضامر‏}‏ فقدم ذكر الرجال ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل وخروجا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس‏,‏ ويحصل كلا عليهم في التزام ما لا يلزمه وسئل أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة‏؟‏ فقال‏:‏ لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس‏.‏

فصل‏:‏

ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر فأما القريب الذي يمكنه المشي‏,‏ فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه‏,‏ كالسعي إلى الجمعة وإن كان ممن لا يمكنه المشي اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي فهو كالبعيد وأما الزاد فلا بد منه‏,‏ فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج‏.‏

فصل‏:‏

والزاد الذي تشترط القدرة عليه‏,‏ هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص‏,‏ أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله‏,‏ لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزلة لم يلزمه حمله‏,‏ وإن لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة‏,‏ وإلا لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها لأن هذا يشق‏,‏ ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطريق والطعام بخلاف ذلك‏,‏ ويعتبر أيضا قدرته على الآلات التي يحتاج إليها كالغرائر ونحوها وأوعية الماء وما أشبهها لأنه مما لا يستغنى عنه‏,‏ فهو كأعلاف البهائم‏.‏

فصل‏:‏

وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما شراء أو كراء‏,‏ لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب‏,‏ ولا يخشى السقوط أجزأ وجود ذلك وإن كان ممن لم تجر عادته بذلك ويخشى السقوط عنهما‏,‏ اعتبر وجود محمل وما أشبهه مما لا مشقة في ركوبه ولا يخشى السقوط عنه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي‏,‏ إنما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ها هنا ما تندفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله‏.‏

فصل‏:

ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم‏,‏ في مضيه ورجوعه لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد‏,‏ وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت‏)‏ رواه أبو داود وأن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لا بد منه‏,‏ وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد‏,‏ ولذلك منع الزكاة مع تعلق حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها‏,‏ فالحج الذي هو خالص حق الله تعالى أولى وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى‏,‏ كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها وإن احتاج إلى النكاح وخاف على نفسه العنت‏,‏ قدم التزويج لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه‏,‏ فهو كنفقته وإن لم يخف قدم الحج لأن النكاح تطوع‏,‏ فلا يقدم على الحج الواجب وإن حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح حجه لأنها متعلقة بذمته فلا تمنع صحة فعله‏.‏

فصل‏:‏

ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه‏,‏ أو سكنى عياله أو يحتاجه إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم يكفهم‏,‏ أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج وإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته‏,‏ لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به‏,‏ لزمه وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان‏,‏ يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه فإن كان له دين على مليء باذل له يكفيه للحج‏,‏ لزمه لأنه قادر وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه‏,‏ لم يلزمه‏.‏

فصل‏:‏

وتجب العمرة على من يجب عليه الحج ، في إحدى الروايتين ، روي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ‏.‏ وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه ‏.‏ والرواية الثانية ، ليست واجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ؛ لما روى جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏سئل عن العمرة ، أواجبة هي ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل‏)‏ أخرجه الترمذي ، وقال ‏:‏ هذا حديث حسن صحيح ‏.‏ وعن طلحة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ ‏(‏الحج جهاد ، والعمرة تطوع‏)‏ ‏.‏ رواه ابن ماجه ‏.‏ ولأنه نسك غير موقت ، فلم يكن واجبا ، كالطواف المجرد ‏.‏ ولنا ، قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ ‏.‏ ومقتضى الأمر الوجوب ، ثم عطفها على الحج ، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه ‏.‏ قال ابن عباس ‏:‏ إنها لقرينة الحج في كتاب الله ‏.‏ وعن الصبي بن معبد قال ‏:‏ ‏"‏أتيت عمر فقلت ‏:‏ يا أمير المؤمنين ، إني أسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما ، فقال عمر ‏:‏ هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم‏"‏ ‏.‏ رواه أبو داود ، والنسائي ‏.‏ وعن أبي رزين ، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ‏:‏ ‏(‏إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ، ولا الظعن ‏.‏ قال ‏:‏ حج عن أبيك ، واعتمر‏)‏ ‏.‏ رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وقال ‏:‏ حديث حسن صحيح ‏.‏ وذكره أحمد ، ثم قال ‏:‏ وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال ‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ ‏(‏أوصني ‏.‏ قال ‏:‏ تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج ، وتعتمر‏)‏ ‏.‏ وروى الأثرم ، بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏كتب إلى أهل اليمن ، وكان في الكتاب ‏:‏ إن العمرة هي الحج الأصغر‏)‏ ‏.‏ ولأنه قول من سمينا من الصحابة ، ولا مخالف لهم نعلمه ، إلا ابن مسعود ، على اختلاف عنه ‏.‏ وأما حديث جابر فقال الترمذي ، قال الشافعي ‏:‏ هو ضعيف ، لا تقوم بمثله الحجة ، وليس في العمرة شيء ثابت بأنها تطوع ‏.‏ وقال ابن عبد البر ‏:‏ روي ذلك بأسانيد لا تصح ، ولا تقوم بمثلها الحجة ‏.‏ ثم نحمله على المعهود ، وهي العمرة التي قضوها حين أحصروا في الحديبية ، أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم ، مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن واجبة على من اعتمر ، أو نحمله على ما زاد على العمرة الواحدة ، وتفارق العمرة الطواف ؛ لأن من شرطها الإحرام ، والطواف بخلافه ‏.‏

فصل‏:‏

وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال‏:‏ كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول‏:‏ يا أهل مكة‏:‏ ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت وبهذا قال عطاء‏,‏ وطاوس قال عطاء‏:‏ ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبتان لا بد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا إلا أهل مكة‏,‏ فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت‏,‏ وهم يفعلونه فأجزأ عنهم وحمل القاضي كلام أحمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج والأمر على ما قلناه‏.‏

فصل‏:‏

وتجزئ عمرة المتمتع وعمرة القارن والعمرة من أدنى الحل عن العمرة الواجبة‏,‏ ولا نعلم في إجزاء عمرة التمتع خلافا كذلك قال ابن عمر وعطاء وطاوس‏,‏ ومجاهد ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وروي عن أحمد أن عمرة القارن لا تجزئ وهو اختيار أبي بكر وعن أحمد أن العمرة من أدنى الحل لا تجزئ عن العمرة الواجبة وقال‏:‏ إنما هي من أربعة أميال واحتج على أن عمرة القارن لا تجزئ أن عائشة حين حاضت أعمرها من التنعيم فلو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها ولنا‏,‏ قول الصبي بن معبد‏:‏ إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر‏:‏ ‏(‏هديت لسنة نبيك‏)‏ وهذا يدل على أنه أحرم بهما يعتقد أداء ما كتبه الله عليه منهما والخروج عن عهدتهما‏,‏ فصوبه عمر وقال‏:‏ هديت لسنة نبيك وحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- حين حلت منهما‏:‏ ‏(‏قد حللت من حجك وعمرتك‏)‏ وإنما أعمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- من التنعيم قصدا لتطييب قلبها‏,‏ وإجابة مسألتها لا لأنها كانت واجبة عليها ثم إن لم تكن أجزأتها عمرة القران فقد أجزأتها العمرة من أدنى الحل‏,‏ وهو أحد ما قصدنا الدلالة عليه ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحة فتجزئه‏,‏ كعمرة المتمتع ولأن عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأت كالحج‏,‏ والحج من مكة يجزئ في حق المتمتع فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى وإذا كان الطواف المجرد يجزئ عن العمرة في حق المكي فلأن تجزئ العمرة المشتملة على الطواف وغيره أولى‏.‏

فصل‏:‏

ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارا روي ذلك عن علي‏,‏ وابن عمر وابن عباس وأنس‏,‏ وعائشة وعطاء وطاوس‏,‏ وعكرمة والشافعي وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين‏,‏ ومالك وقال النخعي‏:‏ ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها‏,‏ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما‏)‏ متفق عليه وقال علي رضي الله عنه في كل شهر مرة وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في ‏"‏مسنده‏"‏ وقال عكرمة‏:‏ يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره وقال عطاء‏:‏ إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما‏,‏ فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه وكذلك قال أحمد‏:‏ إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام وقال في رواية الأثرم‏:‏ إن شاء اعتمر في كل شهر وقال بعض أصحابنا‏:‏ يستحب الإكثار من الاعتمار وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما‏,‏ وإنما نقل عنهم إنكار ذلك والحق في اتباعهم قال طاوس‏:‏ الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون‏؟‏ قيل له‏:‏ فلم يعذبون‏؟‏ قال‏:‏ لأنه يدع الطواف بالبيت‏,‏ ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء وقد اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع عمر في أربع سفرات‏,‏ لم يزد في كل سفرة على عمرة واحدة ولا أحد ممن معه ولم يبلغنا أن أحدا منهم جمع بين عمرتين في سفر واحد معه‏,‏ إلا عائشة حين حاضت فأعمرها من التنعيم لأنها اعتقدت أن عمرة قرانها بطلت ولهذا قالت‏:‏ يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة‏,‏ وأرجع أنا بحجة فأعمرها لذلك ولو كان في هذا فضل لما اتفقوا على تركه‏.‏

فصل‏:

وروى ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏)‏ متفق عليه قال أحمد‏:‏ من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان وقال إسحاق‏:‏ يعني هذا الحديث مثل ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من قرأ قل هو الله أحد‏,‏ فقد قرأ ثلث القرآن‏)‏ وقال أنس‏:‏ ‏(‏حج النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة واعتمر أربع عمر واحدة في ذي القعدة وعمرة الحديبية‏,‏ وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين‏)‏ وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه وقال أحمد‏:‏ حج النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع قال‏:‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ حج قبل ذلك حجة أخرى وما هو يثبت عندي وروي عن جابر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏حج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر‏)‏ وهذا حديث غريب‏.‏

فصل‏:‏

وروي عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏تابعوا بين الحج والعمرة‏,‏ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة‏)‏ قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من أتى هذا البيت‏,‏ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏ متفق عليه وهو في ‏"‏الموطأ‏"‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فإن كان مريضا لا يرجى برؤه ، أو شيخا لا يستمسك على الراحلة ، أقام من يحج عنه ويعتمر ، وقد أجزأ عنه وإن عوفي ‏]‏

وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج ، وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس من زواله ، كزمانة ، أو مرض لا يرجى زواله ، أو كان نضو الخلق ، لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة ، والشيخ الفاني ، ومن كان مثله متى وجد من ينوب عنه في الحج ، ومالا يستنيبه به ، لزمه ذلك ‏.‏ وبهذا قال أبو حنيفة ، والشافعي ‏.‏ وقال مالك ‏:‏ لا حج عليه ، إلا أن يستطيع بنفسه ، ولا أرى له ذلك ؛ لأن الله تعالى قال ‏:‏ ‏{‏من استطاع إليه سبيلا‏}‏ ‏.‏ وهذا غير مستطيع ، ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة ، فلا تدخلها مع العجز ، كالصوم والصلاة ‏.‏ ولنا ، حديث أبي رزين ، وروى ابن عباس ، أن امرأة من خثعم قالت ‏:‏ ‏(‏يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ‏.‏ وذلك في حجة الوداع‏)‏ ‏.‏ متفق عليه ‏.‏ وفي لفظ لمسلم ، قالت ‏:‏ ‏(‏يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير ، عليه فريضة الله في الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره ‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فحجي عنه‏)‏ ‏.‏ وسئل علي ، رضي الله عنه ، عن شيخ لا يجد الاستطاعة ، قال ‏.‏ يجهز عنه ‏.‏ ولأن هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة ، فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله ، كالصوم إذا عجز عنه افتدى ، بخلاف الصلاة ‏.‏

فصل‏:

فإن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح لو لم يجد ما يحج به‏,‏ لم يجب عليه فالمريض أولى وإن وجد مالا ولم يجد من ينوب عنه‏,‏ فقياس المذهب أنه ينبني على الروايتين في إمكان المسير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط لزوم السعي‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ من شرائط لزوم السعي ثبت الحج في ذمته‏,‏ هذا يحج عنه بعد موته وإن قلنا‏:‏ من شرائط الوجوب لم يجب عليه شيء‏.‏

فصل‏:‏

ومتى أحج هذا عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال الشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وابن المنذر‏:‏ يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ‏,‏ تبينا أنه لم يكن مأيوسا منه فلزمه الأصل كالآيسة إذا اعتدت بالشهور‏,‏ ثم حاضت لا تجزئها تلك العدة ولنا أنه أتى بما أمر به‏,‏ فخرج من العهدة كما لو لم يبرأ أو نقول‏:‏ أدى حجة الإسلام بأمر الشارع‏,‏ فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه‏,‏ ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة وقولهم‏:‏ لم يكن مأيوسا من برئه قلنا‏:‏ لو لم يكن مأيوسا منه لما أبيح له أن يستنيب فإنه شرط لجواز الاستنابة أما الآيسة إذا اعتدت بالشهور‏,‏ فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض‏,‏ ولا يبطل به اعتدادها ولكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا اعتدت سنة‏,‏ ثم عاد حيضها لم يبطل اعتدادها فأما إن عوفي قبل فراغ النائب من الحج فينبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل‏,‏ فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها إذا حاضتا قبل إتمام عدتهما بالشهور‏,‏ وكالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصيام ثم قدر على الهدي والمكفر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل وإن برأ قبل إحرام النائب‏,‏ لم يجزئه بحال‏.‏

فصل‏:‏

ومن يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل‏,‏ لم يجزئه وإن لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ له ذلك ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه‏,‏ وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه الميئوس من برئه ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه‏,‏ فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن فعل كالفقير‏,‏ وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير‏,‏ وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه‏,‏ فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب إجماعا قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج‏,‏ لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز‏,‏ والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقساما ثلاثة‏:‏ أحدها‏,‏ أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يصح أن يستنيب في حجة التطوع لأنه لا يصح أن يفعله بنفسه‏,‏ فبنائبه أولى الثاني أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه‏,‏ فيصح أن يستنيب في التطوع فإن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله‏,‏ كالصدقة الثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه‏,‏ فهل له أن يستنيب في حج التطوع‏؟‏ فيه روايتان إحداهما يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها‏,‏ كالمعضوب والثانية لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه‏,‏ كالفرض‏.‏

فصل‏:‏

فإن كان عاجزا عنه عجزا مرجو الزوال كالمريض مرضا يرجى برؤه والمحبوس‏,‏ جاز له أن يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز له أن يستنيب فيه‏,‏ كالشيخ الكبير والفرق بينه وبين الفرض أن الفرض عبادة العمر‏,‏ فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره‏,‏ ولأن حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل بعد موته وحج التطوع لا يفعل‏,‏ فيفوت‏.‏

فصل‏:

وفي الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه‏,‏ مما يتعدى نفعه ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان‏:‏ إحداهما‏,‏ لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق والأخرى يجوز وهو مذهب مالك‏,‏ والشافعي وابن المنذر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله‏)‏ رواه البخاري وأخذ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الجعل على الرقية بكتاب الله‏,‏ وأخبروا بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فصوبهم فيه ولأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ووجه الرواية الأولى أن عبادة بن الصامت كان يعلم رجلا القرآن‏,‏ فأهدى له قوسا فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال له‏:‏ ‏(‏إن سرك أن تتقلد قوسا من نار‏,‏ فتقلدها‏)‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بن أبي العاص‏:‏ ‏(‏واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا‏)‏ ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليها‏,‏ كالصلاة والصوم وأما الأحاديث التي في أخذ الجعل والأجرة فإنما كانت في الرقية‏,‏ وهي قضية في عين فتختص بها وأما بناء المساجد فلا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة‏,‏ ويجوز أن يقع قربة وغير قربة فإذا وقع بأجرة لم يكن قربة ولا عبادة‏,‏ ولا يصح ها هنا أن يكون غير عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة‏,‏ فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز أخذ الأجرة بدليل القضاء والشهادة والإمامة‏,‏ يؤخذ عليها الرزق من بيت المال وهو نفقة في المعنى ولا يجوز أخذ الأجرة عليها وفائدة الخلاف‏,‏ أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون إلا نائبا محضا وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه‏,‏ فلو مات أو أحصر أو مرض‏,‏ أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم ينسد وإذا ناب عنه آخر‏,‏ فإنه يحج من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لأنه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه فلم يكن عليه الإنفاق دفعة أخرى‏,‏ كما لو خرج بنفسه فمات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه‏,‏ وينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشيء منه إلا أن يؤذن له في ذلك قال أحمد‏,‏ في الذي يأخذ دراهم للحج‏:‏ لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف وقال في رجل أخذ حجة عن ميت‏,‏ ففضلت معه فضلة‏:‏ يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون سرفا ولا يدعو إلى طعامه‏,‏ ولا يتفضل ثم قال‏:‏ أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له‏:‏ حج بهذه فله أن يتوسع فيها‏,‏ وإن فضل شيء فهو له وإذا قال الميت‏:‏ حجوا عني حجة بألف درهم فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا‏:‏ يجوز الاستئجار على الحج جاز أن يقع الدفع إلى النائب من غير استئجار‏,‏ فيكون الحكم فيه على ما مضى وإن استأجره ليحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الإجارة‏,‏ وما يأخذه أجرة له يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع به في النفقة وغيرها‏,‏ وما فضل فهو له وإن أحصر أو ضل الطريق‏,‏ أو ضاعت النفقة منه فهو في ضمانه والحج عليه‏,‏ وإن مات انفسخت الإجارة لأن المعقود عليه تلف فانفسخ العقد‏,‏ كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون الحج أيضا من موضع بلغ إليه النائب وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه‏.‏

فصل‏:‏

فأما النائب غير المستأجر‏,‏ فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن له في الجناية فكان موجبا عليه‏,‏ كما لو لم يكن نائبا ودم المتعة والقران إن أذن له في ذلك‏,‏ على المستنيب لأنه أذن في سببهما وإن لم يؤذن له فعليه لأنه كجنايته‏,‏ ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع وإن أفسد حجه فالقضاء عليه‏,‏ ويرد ما أخذ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته وكذلك إن فاته الحج بتفريطه وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت بفعله‏,‏ فلم يكن مخالفا كما لو مات وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في نفسه‏,‏ كما لو دخل في حج ظن أنه عليه ولم يكن ففاته‏.‏

فصل‏:‏

وإذا سلك النائب طريقا يمكنه سلوك أقرب منه‏,‏ ففاضل النفقة في ماله وإن تعجل عجلة يمكنه تركها فكذلك وإن أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع‏,‏ أنفق من مال نفسه لأنه غير مأذون له فيه فأما من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون له فيه وله نفقة الرجوع‏,‏ وإن أقام بمكة سنين ما لم يتخذها دارا فإن اتخذها دارا ولو ساعة‏,‏ لم يكن له نفقة رجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكيا فسقطت نفقته فلم تعد وإن مرض في الطريق‏,‏ فعاد فله نفقة رجوعه لأنه لا بد له منه حصل بغير تفريطه‏,‏ فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو أحصر وإن قال‏:‏ خفت أن أمرض فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم وعن أحمد في من مرض في الكوفة فرجع‏,‏ يرد ما أخذ وفي جميع ذلك إذا أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره‏,‏ لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يجز شرطه على غيره‏,‏ كما لو شرطه على أجنبي‏.‏

فصل‏:‏

يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة والمرأة عن الرجل والمرأة في الحج‏,‏ في قول عامة أهل العلم لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل قال ابن المنذر‏:‏ هذه غفلة عن ظاهر السنة‏,‏ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر المرأة أن تحج عن أبيها وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه‏.‏

فصل‏:

ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه‏,‏ فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة‏,‏ فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبا كان أو تطوعا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له‏,‏ وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كل ما يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به‏,‏ مثل أن يؤمر بحج فيعتمر أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه يصح عنه من غير إذنه‏,‏ ولا يقع عن الحي لعدم إذنه فيه ويقع عمن فعله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي عنه وقع عن نفسه‏,‏ كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به‏,‏ فأشبه ما لو لم يفعل شيئا‏.‏

فصول في مخالفة النائب‏:‏

إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز‏,‏ ولا شيء عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وإن أحرم بالحج من مكة فعليه دم لترك ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة وقال القاضي‏:‏ لا يقع فعله عن الآمر‏,‏ ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة ولنا أنه إذا أحرم من الميقات فقد أتى بالحج صحيحا من ميقاته وإن أحرم به من مكة‏,‏ فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم‏,‏ فأحرم دونه وإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئا وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يضمن لأنه مخالف ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة‏,‏ فصح ولم يضمن كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى به شاتين تساوي إحداهما دينارا ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها‏,‏ فلا شيء عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها‏.‏

فصل‏:‏

وإن أمره بالتمتع فقرن‏,‏ وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة‏,‏ فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد أنه لا يرد شيئا من النفقة وهو مذهب الشافعي وقال القاضي‏:‏ يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمرة مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وإن أفرد وقع عن المستنيب أيضا‏,‏ ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمره به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئا‏.‏

فصل‏:

فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع‏,‏ صح ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك‏,‏ إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك‏,‏ ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره‏.‏

فصل‏:‏

وإن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة‏,‏ وأذنا له في القران ففعل جاز لأنه نسك مشروع وإن قرن من غير إذنهما‏,‏ صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما وإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده وقال القاضي‏:‏ إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد‏,‏ ولم يأت به فكان مخالفا كما لو أمر بحج فاعتمر ولنا‏,‏ أنه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لا في أصله‏,‏ فأشبه من أمر بالتمتع فقرن ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك‏,‏ ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه لعدم الإذن في سببه وعليهما إن أذنا لوجود الإذن في سببه ولو أذن أحدهما دون الآخر‏,‏ فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب‏.‏

فصل‏:‏

وإن أمر بالحج فحج‏,‏ ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر‏,‏ ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئا من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره‏,‏ جاز لأنهما سواء في الإجزاء وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل وإن أمره بالإحرام من الميقات‏,‏ فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر وإن أمره بالحج في سنة أو بالاعتمار في شهر‏,‏ ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة‏.‏

فصل‏:‏

فإن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما‏,‏ وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوها‏,‏ فمع نيته أولى وإن أحرم عن أحدهما غير معين احتمل أن يقع عن نفسه أيضا لأن أحدهما ليس أولى من الآخر فأشبه ما لو أحرم عنهما واحتمل أن يصح لأن الإحرام يصح بالمجهول‏,‏ فصح عن المجهول وإلا صرفه إلى من شاء منهما اختاره أبو الخطاب فإن لم يفعل حتى طاف شوطا وقع عن نفسه‏,‏ ولم يكن له صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع عن غير معين‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل ‏]‏

ظاهر هذا أن الحج لا يجب على المرأة التي لا محرم لها لأنه جعلها بالمحرم كالرجل في وجوب الحج فمن لا محرم لها لا تكون كالرجل فلا يجب عليها الحج وقد نص عليه أحمد‏,‏ فقال أبو داود‏:‏ قلت‏:‏ لأحمد‏:‏ امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج‏؟‏ قال‏:‏ لا وقال أيضا‏:‏ المحرم من السبيل وهذا قول الحسن‏,‏ والنخعي وإسحاق وابن المنذر‏,‏ وأصحاب الرأي وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب فمتى فاتها الحج بعد كمال الشرائط الخمس‏,‏ بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة به قد كملت‏,‏ وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير وعنه رواية ثالثة‏,‏ أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال الأثرم‏:‏ سمعت أحمد يسأل‏:‏ هل يكون الرجل محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج‏؟‏ فقال‏:‏ أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته‏,‏ وأما في غيرها فلا والمذهب الأول وعليه العمل وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي‏,‏ والشافعي ليس المحرم شرطا في حجها بحال قال ابن سيرين‏:‏ تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به وقال مالك‏:‏ تخرج مع جماعة النساء وقال الشافعي‏:‏ تخرج مع حرة مسلمة ثقة وقال الأوزاعي‏:‏ تخرج مع قوم عدول تتخذ سلما تصعد عليه وتنزل‏,‏ ولا يقربها رجل إلا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعه قال ابن المنذر‏:‏ تركوا القول بظاهر الحديث‏,‏ واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وقال لعدي بن حاتم‏:‏ ‏(‏يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت‏,‏ لا جوار معها لا تخاف إلا الله‏)‏ ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم‏,‏ كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار ولنا ما روى أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر‏,‏ تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم‏)‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏لا يخلون رجل بامرأة‏,‏ إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إني كنت في غزوة كذا‏,‏ وانطلقت امرأتي حاجة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ انطلق فاحجج مع امرأتك‏)‏ متفق عليهما وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوا من حديث أبي هريرة قال أبو عبد الله‏:‏ أما أبو هريرة‏:‏ فيقول‏:‏ ‏"‏يوما وليلة‏"‏ ويروى عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏لا تسافر سفرا‏"‏ أيضا وأما حديث أبي سعيد يقول‏:‏ ‏"‏ثلاثة أيام‏"‏ قلت‏:‏ ما تقول أنت‏؟‏ قال‏:‏ لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا‏,‏ إلا مع ذي محرم وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم‏)‏ وهذا صريح في الحكم ولأنها أنشأت سفرا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع وحديثهم محمول على الرجل‏,‏ بدليل أنهم اشترطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ويحتمل أنه أراد أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط‏,‏ ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين‏,‏ ونفقة العيال واشترط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم في محل النزاع شرطا من عند نفسه‏,‏ لا من كتاب ولا من سنة فما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض‏,‏ فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه‏,‏ ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار‏,‏ فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم‏,‏ فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا‏.‏

فصل‏:‏

والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح‏,‏ كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع لما روى أبو سعيد قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا‏,‏ إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها‏)‏ رواه مسلم قال أحمد‏:‏ ويكون زوج أم المرأة محرما لها يحج بها ويسافر الرجل مع أم ولد جده فإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته‏:‏ ويكون محرما لها في حج الفرض‏,‏ دون غيره قال الأثرم‏:‏ كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن}‏ الآية فأما من تحل له في حال كعبدها وزوج أختها‏,‏ فليسا بمحرم لها نص عليه أحمد لأنهما غير مأمونين عليها ولا تحرم عليهما على التأبيد فهما كالأجنبي وقد روي عن نافع‏,‏ عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏سفر المرأة مع عبدها ضيعة‏)‏ أخرجه سعيد وقال الشافعي‏:‏ عبدها محرم لها لأنه يباح له النظر إليها فكان محرما لها‏,‏ كذي رحمها والأول أولى ويفارق ذا الرحم لأنه مأمون عليها وتحرم عليه على التأبيد وينتقض ما ذكروه بالقواعد من النساء‏,‏ وغير أولى الإربة من الرجال وأما أم الموطوءة بشبهة أو المزني بها أو ابنتهما‏,‏ فليس بمحرم لهما لأن تحريمهما بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثابت باللعان وليس له الخلوة بهما‏,‏ ولا النظر إليهما لذلك والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته قال أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته‏:‏ لا يزوجها ولا يسافر معها‏,‏ ليس هو لها بمحرم وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ هو محرم لها لأنها محرمة عليه على التأبيد ولنا أن إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها‏,‏ فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل‏,‏ وما ذكروه يبطل بأم المزني بها وابنتها والمحرمة باللعان‏,‏ وبالمجوسي مع ابنته ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف فإنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها نص عليه أحمد في مواضع ويشترط في المحرم أن يكون بالغا عاقلا قيل لأحمد‏:‏ فيكون الصبي محرما‏؟‏ قال‏:‏ لا‏,‏ حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل إلا من البالغ العاقل‏,‏ فاعتبر ذلك‏.‏

فصل‏:‏

ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زادا وراحلة لها ولمحرمها فإن امتنع محرمها من الحج معها‏,‏ مع بذلها له نفقته فهي كمن لا محرم لها لأنها لا يمكنها الحج بغير محرم وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك‏؟‏ على روايتين نص عليهما والصحيح أنه لا يلزمه الحج معها لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة‏,‏ فلا تلزم أحدا لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة‏.‏

فصل‏:‏

وإذا مات محرم المرأة في الطريق فقال أحمد‏:‏ إذا تباعدت مضت‏,‏ فقضت الحج قيل له‏:‏ قدمت من خراسان فمات وليها ببغداد‏؟‏ فقال‏:‏ تمضي إلى الحج وإذا كان الفرض خاصة فهو آكد ثم قال‏:‏ لا بد لها من أن ترجع وهذا لأنها لا بد لها من السفر بغير محرم‏,‏ فمضيها إلى قضاء حجها أولى لكن إن كان حجها تطوعا وأمكنها الإقامة في بلد فهو أولى من سفرها بغير محرم‏.‏

فصل‏:‏

وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام وبهذا قال النخعي‏,‏ وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي‏,‏ وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر له منعها منه بناء على أن الحج على التراخي ولنا أنه فرض‏,‏ فلم يكن له منعها منه كصوم رمضان والصلوات الخمس ويستحب أن تستأذنه في ذلك نص عليه أحمد فإن‏,‏ أذن وإلا خرجت بغير إذنه فأما حج التطوع فله منعها منه قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج التطوع وذلك لأن حق الزوج واجب‏,‏ فليس لها تفويته بما ليس بواجب كالسيد مع عبده وليس له منعها من الحج المنذور لأنه واجب عليها أشبه حجة الإسلام‏.‏

فصل‏:‏

ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه أحمد قال‏:‏ ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق المبتوت وذلك لأن لزوم المنزل‏,‏ والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة وقدم على الحج لأنه يفوت‏,‏ والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة وإذا خرجت للحج‏,‏ فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في منزلها وإن تباعدت‏,‏ مضت في سفرها ذكره الخرقي في موضع آخر‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فمن فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة ‏]‏

وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله‏,‏ وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي‏:‏ يجب الحج وجوبا موسعا‏,‏ وله تأخيره لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا‏,‏ ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له‏,‏ دل على أن وجوبه على التراخي ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ والأمر على الفور وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من أراد الحج فليتعجل‏)‏ رواه الإمام أحمد وأبو داود‏,‏ وابن ماجه وفي رواية أحمد وابن ماجه‏:‏ ‏(‏فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة‏,‏ وتعرض الحاجة‏)‏ قال أحمد‏:‏ ورواه الثوري ووكيع عن أبي إسرائيل‏,‏ عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏,‏ عن أخيه الفضل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج‏,‏ فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس‏,‏ أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء‏,‏ يهوديا أو نصرانيا‏)‏ وعن عمر نحوه من قوله وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه أحد أركان الإسلام‏,‏ فكان واجبا على الفور كالصيام ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر إلى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله‏,‏ لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع‏,‏ فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت‏,‏ فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي‏:‏ أن ‏(‏لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان‏)‏ ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفة الجمعة ويكمل الله دينه ويقال‏:‏ إنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين‏,‏ ولم يجتمع قبله ولا بعده فأما تسمية فعل الحج قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏}‏ وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور تسمية القضاء فإن الزكاة تجب على الفور‏,‏ ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يسمى قضاء القضاء ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة أخرى‏,‏ لم يجز له تأخيره فلو أخره لا يسمى قضاء إذا ثبت هذا عدنا إلى شرح مسألة الكتاب فنقول‏:‏ متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج‏,‏ وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال الحسن وطاوس‏,‏ والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك‏:‏ يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت‏,‏ كالصلاة ولنا ما روى ابن عباس ‏(‏أن امرأة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبيها مات ولم يحج‏؟‏ قال‏:‏ حجي عن أبيك‏)‏ وعنه ‏(‏أن امرأة نذرت أن تحج‏,‏ فماتت فأتى أخوها النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ أرأيت لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاقضوا دين الله‏,‏ فهو أحق بالقضاء‏)‏ رواهما النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر‏,‏ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة‏,‏ فلم يسقط بالموت كالدين ويخرج عليه الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج في القضاء‏,‏ فإنها واجبة وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر‏,‏ فكان من جميع المال كدين الآدمي‏.‏

فصل‏:‏

ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه وبهذا قال الحسن‏,‏ وإسحاق ومالك في النذر وقال عطاء في الناذر‏:‏ إن لم يكن نوى مكانا فمن ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الإسلام‏:‏ يستأجر من يحج عنه من الميقات لأن الإحرام لا يجب من دونه ولنا‏,‏ أن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام‏,‏ وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان‏,‏ فقال أحمد‏:‏ يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه‏,‏ فكذلك نائبه فإن أحج عنه من دون ذلك فقال القاضي‏:‏ إن كان دون مسافة القصر أجزأه لأنه في حكم القريب وإن كان أبعد لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب بكماله ويحتمل أن يجزئه ويكون مسيئا‏,‏ كمن وجب عليه الإحرام من الميقات فأحرم من دونه‏.‏

فصل‏:‏

فإن خرج للحج فمات في الطريق‏,‏ حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه فلم يجب ثانيا وكذلك إن مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك ولو أحرم بالحج‏,‏ ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره نص عليه لأنها عبادة تدخلها النيابة‏,‏ فإذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة‏.‏

فصل‏:‏

فإن لم يخلف تركة تفي بالحج من بلده حج عنه من حيث تبلغ وإن كان عليه دين لآدمي تحاصا‏,‏ ويؤخذ للحج حصته فيحج بها من حيث تبلغ وقال أحمد في رجل أوصى أن يحج عنه‏,‏ ولا تبلغ النفقة‏؟‏ قال‏:‏ يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وهذا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ ولأنه قدر على أداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة وعن أحمد ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة‏,‏ ولم يخلف ما يتم به حجه هل يحج عنه من المدينة أو من حيث تتم الحجة‏؟‏ فقال‏:‏ ما يكون الحج عندي إلا من حيث وجب عليه وهذا تنبيه على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج‏,‏ فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارض بحق الآدمي المؤكد أولى وأحرى ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجها واحدا لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده وحقه حق الله تعالى‏,‏ مع أنه لا يمكن أداؤه على الوجه الواجب‏.‏

فصل‏:

وإن أوصى بحج تطوع فلم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث بلغ أو يعن به في الحج نص عليه وقال‏:‏ التطوع ما يبالي من أين كان‏,‏ ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد إلا أن يرضى الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشيء‏,‏ فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث‏.‏

فصل‏:‏

يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا رزين فقال‏:‏ ‏(‏حج عن أبيك‏,‏ واعتمر‏)‏ وسألت امرأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبيها مات ولم يحج‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏حجي عن أبيك‏)‏ ويستحب البداية بالحج عن الأم إن كان تطوعا أو واجبا عليهما نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر‏,‏ قال أبو هريرة‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ‏(‏من أحق الناس بحسن صحابتي‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أمك قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ أبوك‏)‏ رواه مسلم والبخاري وإن كان الحج واجبا على الأب دونها بدأ به لأنه واجب‏,‏ فكان أولى من التطوع وروى زيد بن أرقم قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما في السماء‏,‏ وكتب عند الله برا‏)‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما‏,‏ بعث يوم القيامة مع الأبرار‏)‏ وعن جابر قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من حج عن أبيه أو أمه فقد قضى عنه حجته‏,‏ وكان له فضل عشر حجج‏)‏ روى ذلك كله الدارقطني‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ‏,‏ وكانت الحجة عن نفسه ‏]‏

وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام وبهذا قال الأوزاعي والشافعي‏,‏ وإسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ يقع الحج باطلا ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية فمتى نواه لغيره ولم ينو لنفسه‏,‏ لم يقع لنفسه كذا الطواف حاملا لغيره لم يقع عن نفسه وقال الحسن وإبراهيم‏,‏ وأيوب السختياني وجعفر بن محمد ومالك وأبو حنيفة‏:‏ يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وحكي عن أحمد مثل ذلك وقال الثوري‏:‏ إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه‏,‏ وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة ولنا‏,‏ ما روى ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول‏:‏ ‏(‏لبيك عن شبرمة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ من شبرمة‏؟‏ قال‏:‏ قريب لي قال‏:‏ هل حججت قط‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة‏)‏ رواه الإمام أحمد‏,‏ وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه ولأنه حج عن غيره قبل الحج عن نفسه‏,‏ فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقي عليه بعضها‏,‏ وهاهنا لا يجوز أن يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه ولا يطوف عن غيره من لم يطف عن نفسه إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه‏,‏ فأشبه ما لو لم يحج‏.‏

فصل‏:‏

وإن أحرم بتطوع أو نذر من لم يحج حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام وبهذا قال ابن عمر وأنس‏,‏ والشافعي وقال مالك والثوري وأبو حنيفة‏,‏ وإسحاق وابن المنذر‏:‏ يقع ما نواه وهو رواية أخرى عن أحمد وقول أبي بكر‏,‏ لما تقدم ولنا أنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوقع عن فرضه كالمطلق ولو أحرم بتطوع‏,‏ وعليه منذورة وقعت عن المنذورة لأنها واجبة فهي كحجة الإسلام‏,‏ والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين فأشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا‏,‏ فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة الإسلام وقعت عن حجة الإسلام لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه وإن استناب رجلين في حجة الإسلام‏,‏ ومنذور أو تطوع فأيهما سبق بالإحرام وقعت حجته عن حجة الإسلام‏,‏ وتقع الأخرى تطوعا أو عن النذر لأنه لا يقع الإحرام عن غير حجة الإسلام ممن هي عليه‏,‏ فكذلك من نائبه‏.‏

فصل‏:‏

إذا كان الرجل قد أسقط فرض أحد النسكين عنه دون الآخر جاز أن ينوب عن غيره‏,‏ فيما أدى فرضه دون الآخر وليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا فرض الحج عن أنفسهما فهما كالحر البالغ في ذلك وأولى منه ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون الفرض لأنهما من أهل التطوع دون الفرض‏,‏ ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه وعلى هذا لا يلزمهما رد ما أخذا لذلك كالبالغ الحر الذي قد حج عن نفسه‏.‏

فصل‏:‏

إذا أحرم بالمنذورة من عليه حجة الإسلام‏,‏ فوقعت عن حجة الإسلام فالمنصوص عن أحمد أن المنذورة لا تسقط عنه وهو قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنها حجة واحدة‏,‏ فلا تجزئ عن حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة ويحتمل أن يجزئ لأنه قد أتى بالحجة ناويا بها نذره‏,‏ فأجزأته كما لو كان ممن أسقط فرض الحج عن نفسه وقد نقل أبو طالب عن أحمد‏,‏ في من نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فأحرم عن النذر وقعت عن المفروض‏,‏ ولا يجب عليه شيء آخر وهذا مثل ما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره‏,‏ على رواية وهذا قول ابن عباس وعكرمة وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس وعكرمة أنهما قالا في رجل نذر أن يحج‏,‏ ولم يكن حج الفريضة قال‏:‏ يجزئ لهما جميعا وسئل عكرمة عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ يقضي حجة عن نذره وعن حجة الإسلام‏,‏ أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر ومن النذر‏؟‏ قال‏:‏ وذكرت قولي لابن عباس‏,‏ فقال‏:‏ أصبت أو أحسنت‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن حج وهو غير بالغ فبلغ أو عبد فعتق‏,‏ فعليه الحج ‏]‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بقوله خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه‏,‏ ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليهما سبيلا كذلك قال ابن عباس‏,‏ وعطاء والحسن والنخعي‏,‏ والثوري ومالك والشافعي‏,‏ وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال الترمذي‏:‏ وقد أجمع أهل العلم عليه وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج‏,‏ وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه‏,‏ فإن أعتق فعليه الحج‏)‏ رواه سعيد في ‏"‏سننه‏"‏‏,‏ والشافعي في ‏"‏مسنده‏"‏ عن ابن عباس من قوله ولأن الحج عبادة بدنية‏,‏ فعلها قبل وقت وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت‏,‏ وكما لو صلى ثم بلغ في الوقت‏.‏

فصل‏:‏

فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة‏,‏ أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة‏,‏ وأتما المناسك أجزأهما عن حجة الإسلام لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج ولا فعلا شيئا منها قبل وجوبه وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان‏,‏ أجزأهما أيضا عن حجة الإسلام كذلك قال ابن عباس وهو مذهب الشافعي وإسحاق وقاله الحسن في العبد وقال مالك‏:‏ لا يجزئهما واختاره ابن المنذر وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا يجزئ العبد فأما الصبي‏,‏ فإن جدد إحراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبا‏,‏ فلا يجزئ عن الواجب كما لو بقيا على حالهما ولنا أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فأجزأه‏,‏ كما لو أحرم تلك الساعة قال أحمد‏:‏ قال طاوس عن ابن عباس‏:‏ إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته فإن أعتق بجمع‏,‏ لم تجزئ عنه وهؤلاء يقولون‏:‏ لا تجزئ ومالك يقوله أيضا وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاما‏,‏ وما أعلم أحدا قال لا يجزئه إلا هؤلاء والحكم فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة وإن لم يعودا‏,‏ أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الإسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض‏,‏ ولا دم عليهما لأنهما حجا تطوعا بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا فإن قيل‏:‏ فلم لا قلتم إن الوقوف الذي فعلاه يصير فرضا كما قلتم في الإحرام الذي أحرم به قبل البلوغ يصير بعد بلوغه فرضا‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما اعتددنا له بإحرامه الموجود بعد بلوغه‏,‏ وما قبل بلوغه تطوع لم ينقلب فرضا ولا اعتد له به فالوقوف مثله‏,‏ فنظيره أن يبلغ وهو واقف بعرفة فإنه يعتد له بما أدرك من الوقوف ويصير فرضا دون ما مضى‏.‏

فصل‏:‏

وإذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف‏,‏ أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور‏,‏ فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها‏,‏ فأشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما‏,‏ سواء كانا موسرين أو معسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده‏.‏

فصل‏:‏

والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق‏,‏ حكم الصبي يبلغ في جميع ما فصلناه إلا أن هذين لا يصح منهما إحرام ولو أحرما لم ينعقد إحرامهما لأنهما من غير أهل العبادات‏,‏ ويكون حكمهما حكم من لم يحرم‏.‏

فصل‏:‏

وقد بقي من أحكام حج العبد أربعة فصول‏:‏ أحدها في حكم إحرامه الثاني في حكم نذره للحج الثالث‏,‏ في حكم ما يلزمه من الجنايات على إحرامه الرابع حكم إفساده وفواته

الفصل الأول في إحرامه‏:‏

وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب‏,‏ فإن فعل انعقد إحرامه صحيحا لأنها عبادة بدنية فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده‏,‏ كالصلاة والصوم ولسيده تحليله في إحدى الروايتين لأن في بقائه عليه تفويتا لحقه من منافعه بغير إذنه فلم يلزم ذلك سيده‏,‏ كالصوم المضر ببدنه وهذا اختيار ابن حامد وإذا حلله منه كان حكمه حكم المحصر والثانية ليس له تحليله وهو اختيار أبي بكر لأنه لا يمكنه التحلل من تطوعه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح لأنه التزم التطوع باختيار نفسه‏,‏ فنظيره أن يحرم عبده بإذنه وفي مسألتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فأما إن أحرم بإذن سيده فليس له تحليله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه‏,‏ فكان له الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية ولنا أنه عقد لازم‏,‏ عقده بإذن سيده فلم يكن لسيده منعه منه كالنكاح‏,‏ ولا يشبه العارية لأنها ليست لازمة ولو أعاره شيئا ليرهنه فرهنه‏,‏ لم يكن له الرجوع فيه ولو باعه سيده بعدما أحرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه سواء لأنه اشتراه مسلوب المنفعة فأشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة‏,‏ فأشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وإن لم يعلم فله الفسخ لأنه يتضرر بمضي العبد في حجه لفوات منافعه‏,‏ إلا أن يكون إحرامه بغير إذن سيده ونقول‏:‏ له تحليله فلا يملك الفسخ لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الإحرام ثم رجع قبل أن يحرم‏,‏ وعلم العبد برجوعه قبل الإحرام فهو كمن لم يؤذن له وإن لم يعلم حتى أحرم فهل يكون حكمه حكم من أحرم بإذن سيده‏؟‏ على وجهين‏,‏ بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم على روايتين‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

إذا نذر العبد الحج‏,‏ صح نذره لأنه مكلف فانعقد نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لأن فيه تفويت حق سيده الواجب فمنع منه‏,‏ كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروي عن أحمد أنه قال‏:‏ لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة‏,‏ لا على التحريم لما ذكرنا ويحتمل التحريم لأنه واجب فلم يملك منعه منه كسائر الواجبات والأول أولى فإن أعتق‏,‏ لزمه الوفاء به بعد حجة الإسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة الإسلام كالحر إذا نذر حجا‏.‏

الفصل الثالث: في جناياته‏:‏

وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده‏,‏ فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب‏,‏ أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا وأذن له في إهدائه وقلنا‏:‏ إنه يملكه فهو كالهدي الواجب‏,‏ لا يتحلل إلا به وإن قلنا‏:‏ لا يملكه ففرضه الصيام وإن أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي أن على سيده تحمل ذلك عنه لأنه بإذنه فكان على من أذن فيه‏,‏ كما لو فعله النائب بإذن المستنيب وليس بجيد لأن الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه‏,‏ كالمرأة إذا حجت بإذن زوجها ويفارق من حج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وإن تمتع أو قارن بغير إذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وإن أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال له‏,‏ فهو كالمعسر من الأحرار‏.‏

الفصل الرابع‏:‏

إذا وطئ العبد في إحرامه قبل التحلل الأول فسد ويلزمه المضي في فاسده‏,‏ كالحر لكن إن كان الإحرام مأذونا فيه فليس لسيده إخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه‏,‏ فلم يكن له منعه من فاسده وإن كان الإحرام بغير إذنه فله تحليله منه لأنه يملك تحليله من صحيحه‏,‏ فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه‏,‏ أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح منه‏,‏ كالصلاة والصيام ثم إن كان الإحرام الذي أفسده مأذونا فيه فليس له منعه من قضائه لأن إذنه في الحج الأول إذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه‏,‏ احتمل أن لا يملك منعه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل أن له منعه منه لأنه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير إذنه فكذلك هذا فإن أعتق قبل القضاء‏,‏ فليس له فعله قبل حجة الإسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام وبقي القضاء في ذمته وإن عتق في أثناء الحجة الفاسدة‏,‏ وأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لو كان صحيحا أجزأه فكذلك قضاؤه وإن أعتق بعد ذلك‏,‏ لم يجزئه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لا يجزئه فكذلك قضاؤه والمدبر والمعلق عتقه بصفة‏,‏ وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا حج بالصغير‏,‏ جنب ما يتجنبه الكبير وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه ‏]‏

وجملة ذلك أن الصبي يصح حجه فإن كان مميزا أحرم بإذن وليه‏,‏ وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه فيصير محرما بذلك وبه قال مالك والشافعي وروي عن عطاء والنخعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا ينعقد إحرام الصبي‏,‏ ولا يصير محرما بإحرام وليه لأن الإحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر ولنا‏,‏ ما روى ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏رفعت امرأة صبيا فقالت‏:‏ يا رسول الله‏,‏ ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ نعم ولك أجر‏)‏ رواه مسلم وغيره من الأئمة وروى البخاري عن السائب بن يزيد‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏حج بي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن سبع سنين‏)‏ ولأن أبا حنيفة قال‏:‏ يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه صحيحا والنذر لا يجب به شيء بخلاف مسألتنا والكلام في حج الصبي في فصول أربعة‏:‏ في الإحرام عنه أو منه‏,‏ وفيما يفعله بنفسه أو بغيره وفي حكم جناياته على إحرامه‏,‏ وفيما يلزمه من القضاء والكفارة

الفصل الأول في الإحرام‏:‏

إن كان مميزا أحرم بإذن وليه وإن أحرم بدون إذنه لم يصح لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه‏,‏ كالبيع وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم‏,‏ صح ومعنى إحرامه عنه أنه يعقد له الإحرام فيصح للصبي دون الولي كما يعقد النكاح له فعلى هذا يصح أن يعقد الإحرام عنه سواء كان محرما أو حلالا ممن عليه حجة الإسلام‏,‏ أو كان قد حج عن نفسه فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ولك أجر‏)‏ ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الإحرام قال الإمام أحمد في رواية حنبل‏:‏ يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره ابن عقيل‏,‏ وقال‏:‏ المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين وقال القاضي‏:‏ ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله والإحرام يتعلق به إلزام مال‏,‏ فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شيء له فأما غير الأم والولي من الأقارب‏,‏ كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم أما الأجانب‏,‏ فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

إن كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله‏,‏ ولا ينوب غيره عنه فيه كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما‏,‏ وما عجز عنه عمله الولي عنه قال جابر‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجاجا ومعنا النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان‏)‏ رواه سعيد‏,‏ في ‏"‏سننه‏"‏ ورواه ابن ماجه في ‏"‏سننه‏"‏ فقال‏:‏ فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ورواه الترمذي‏,‏ قال‏:‏ فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان قال ابن المنذر‏:‏ كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك وبه قال عطاء‏,‏ والزهري ومالك والشافعي‏,‏ وإسحاق وعن ابن عمر‏:‏ أنه كان يحج صبيانه وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه وعن أبي إسحاق‏,‏ أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة رواهما الأثرم قال الإمام أحمد‏:‏ يرمي عن الصبي أبواه أو وليه قال القاضي‏:‏ إن أمكنه أن يناول النائب الحصى ناوله وإن لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده فيرمي عنه وإن وضعها في يد الصغير ورمى بها‏,‏ فجعل يده كالآلة فحسن ولا يجوز أن يرمي عنه إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه وأما الطواف فإنه إن أمكنه المشي مشى‏,‏ وإلا طيف به محمولا أو راكبا فإن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة ولأن الطواف بالكبير محمولا لعذر يجوز فالصغير أولى ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا‏,‏ أو حراما ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه لأن الطواف للمحمول لا للحامل‏,‏ ولذلك صح أن يطوف راكبا على بعير وتعتبر النية في الطائف به فإن لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لأنه لما لم تعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الإحرام فإن نوى الطواف عن نفسه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه‏,‏ كالحج إذا نوى به عن نفسه وغيره واحتمل أن يقع عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد منهما عن نفسه‏,‏ لكون المحمول أولى واحتمل أن يلغو لعدم التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين وأما الإحرام فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير‏,‏ وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء‏:‏ يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلى عنه‏.‏

الفصل الثالث: في محظورات الإحرام‏:‏

وهي قسمان ؛ ما يختلف عمده وسهوه ، كاللباس والطيب ، وما لا يختلف ، كالصيد ، وحلق الشعر ، وتقليم الأظفار ‏.‏ فالأول ، لا فدية على الصبي فيه ؛ لأن عمده خطأ ‏.‏ والثاني ، عليه فيه الفدية ‏.‏ وإن وطئ أفسد حجه ، ويمضي في فاسده ‏.‏ وفي القضاء عليه وجهان ، أحدهما ، لا يجب ؛ لئلا تجب عبادة بدنية على من ليس من أهل التكليف ‏.‏ والثاني ، يجب ؛ لأنه إفساد موجب للفدية ، فأوجب القضاء ، كوطء البالغ ، فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام ‏.‏ فإن أحرم بالقضاء قبلها ، انصرف إلى حجة الإسلام ‏.‏ وهل تجزئه عن القضاء ‏؟‏ ينظر ، فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئا من الوقوف بعد بلوغه ، أجزأ عنهما جميعا ، وإلا لم يجزئه ، كما قلنا في العبد على ما مضى ‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ فيما يلزمه من الفدية‏:‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أن جنايات الصبيان لازمة لهم في أموالهم وذكر أصحابنا في الفدية التي تجب بفعل الصبي وجهين أحدهما في ماله لأنها وجبت بجنايته أشبهت الجناية على الآدمي والثاني على الولي‏,‏ وهو قول مالك لأنه حصل بعقده أو إذنه فكان عليه كنفقة حجه فأما النفقة‏,‏ فقال القاضي‏:‏ ما زاد على نفقة الحضر ففي مال الولي لأنه كلفه ذلك ولا حاجة به إليه وهذا اختيار أبي الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن النفقة كلها على الصبي لأن الحج له‏,‏ فنفقته عليه كالبالغ ولأن فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له‏,‏ ويتمرن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب والأول أولى فإن الحج لا يجب في العمر إلا مرة ويحتمل أن لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه للتمرن عليه‏,‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

إذا أغمي على بالغ لم يصح أن يحرم عنه رفيقه وبه قال الشافعي وأبو يوسف‏,‏ ومحمد وقال أبو حنيفة‏:‏ يصح ويصير محرما بإحرام رفيقه عنه استحسانا لأن ذلك معلوم من قصده‏,‏ ويلحقه مشقة في تركه فأجزأ عنه إحرام غيره ولنا أنه بالغ‏,‏ فلم يصر محرما بإحرام غيره كالنائم ولو أنه أذن في ذلك وأجازه‏,‏ لم يصح فمع عدم هذا أولى أن لا يصح‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله ‏]‏

أما إذا طيف به محمولا لعذر‏,‏ فلا يخلو إما أن يقصدا جميعا عن المحمول فيصح عنه دون الحامل بغير خلاف نعلمه‏,‏ أو يقصدا جميعا عن الحامل فيقع عنه أيضا ولا شيء للمحمول أو يقصد كل واحد منهما الطواف عن نفسه‏,‏ فإنه يقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل وقال أبو حنيفة‏:‏ يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة‏,‏ فأجزأ الطواف عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئا ولأنه لو حمله بعرفات‏,‏ لكان الوقوف عنهما كذا ها هنا وهذا القول حسن ووجه الأول أنه طواف أجزأه عن المحمول فلم يقع عن الحامل‏,‏ كما لو نويا جميعا المحمول ولأنه طواف واحد فلا يقع عن شخصين‏,‏ والراكب لا يقع طوافه إلا عن واحد وأما إذا حمله في عرفة فما حصل الوقوف بالحمل فإن المقصود الكون في عرفات‏,‏ وهما كائنان بها والمقصود ها هنا الفعل وهو واحد‏,‏ فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه‏,‏ فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من الطواف لا يقف على حمله فصار المحمول مقصودا لهما‏,‏ ولم يخلص قصد الحامل لنفسه فلم يقع عنه لعدم التعيين وقال أبو حفص العكبري‏,‏ في ‏"‏شرحه‏"‏‏:‏ لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع عن اثنين وليس أحدهما أولى به من الآخر وقد ذكرنا أن المحمول به أولى لخلوص نيته لنفسه‏,‏ وقصد الحامل له ولا يقع عن الحامل لعدم التعيين فإن نوى أحدهما نفسه دون الآخر صح الطواف له وإن عدمت النية منهما‏,‏ أو نوى كل واحد منهما الآخر لم يصح لواحد منهما‏.‏