فصل: مسألة: حكم ما لو ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب المرتد

المرتد‏:‏ هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان‏,‏ وعلي ومعاذ وأبي موسى‏,‏ وابن عباس وخالد وغيرهم‏,‏ ولم ينكر ذلك فكان إجماعًا‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا‏,‏ دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن رجع‏,‏ وإلا قتل‏]‏

في هذه المسألة‏:‏ فصول خمسة‏:‏

الفصل الأول‏:‏

أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل روى ذلك عن أبي بكر وعلى رضي الله عنهما وبه قال الحسن والزهري‏,‏ والنخعي ومكحول وحماد‏,‏ ومالك والليث والأوزاعي‏,‏ والشافعي وإسحاق وروى عن على والحسن‏,‏ وقتادة أنها تسترق لا تقتل ولأن أبا بكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم‏,‏ وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة‏,‏ فلم ينكر فكان إجماعا وقال أبو حنيفة‏:‏ تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا تقتلوا امرأة‏)‏ ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي‏,‏ فلا تقتل بالطارئ كالصبى ولنا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ رواه البخاري وأبو داود وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني‏,‏ والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)‏ متفق عليه وروى الدارقطني ‏(‏أن امرأة يقال لها‏:‏ أم مروان ارتدت عن الإسلام‏,‏ فبلغ أمرها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت‏)‏ ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل‏,‏ فيقتل كالرجل وأما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية فإنه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية‏,‏ ولذلك نهى الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الأصلى الطارئ بدليل أن الرجل يقر عليه ولا يقتل أهل الصوامع‏,‏ والشيوخ والمكافيف ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الطارئ بخلافه‏,‏ والصبى غير مكلف بخلاف المرأة وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم‏,‏ وإنما أسلم بعضهم والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على إسلامه‏,‏ منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

أن الردة لا تصح إلا من عاقل فأما من لا عقل له‏,‏ كالطفل الذي لا عقل له والمجنون ومن زال عقله بإغماء‏,‏ أو نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه‏,‏ فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير خلاف قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم‏,‏ على أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمدا‏,‏ كان عليه القود إذا طلب أولياؤه وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاث عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ‏,‏ وعن المجنون حتى يفيق‏)‏ أخرجه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن ولأنه غير مكلف‏,‏ فلم يؤاخذ بكلامه كما لو لم يؤاخذ به في إقراره ولا طلاقه‏,‏ ولا إعتاقه وأما السكران والصبى العاقل‏,‏ فنذكر حكمهما فيما بعد إن شاء الله‏.‏

الفصل الثالث‏:‏

أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي‏,‏ وعطاء والنخعي ومالك‏,‏ والثوري والأوزاعي وإسحاق‏,‏ وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وروى عن أحمد رواية أخرى أنه لا تجب استتابته‏,‏ لكن تستحب وهذا القول الثاني للشافعي وهو قول عبيد بن عمير وطاوس ويروى ذلك عن الحسن لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ولم يذكر استتابته وروى أن معاذا قدم على أبي موسى‏,‏ فوجد عنده رجلًا موثقا فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ رجل كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود قال‏:‏ لا أجلس حتى يقتل‏,‏ قضاء الله ورسوله قال‏:‏ اجلس قال‏:‏ لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل متفق عليه ولم يذكر استتابته ولأنه يقتل لكفره‏,‏ فلم تجب استتابته كالأصلى ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن وقال عطاء‏:‏ إن كان مسلما أصليا‏,‏ لم يستتب وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب ولنا حديث أم مروان‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أن تستتاب وروى مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى‏,‏ فقال له عمر‏:‏ هل كان من مغربة خبر‏؟‏ قال‏:‏ نعم رجل كفر بعد إسلامه فقال‏:‏ ما فعلتم به‏؟‏ قال‏:‏ قربناه فضربنا عنقه فقال عمر‏:‏ فهلا حبستموه ثلاثًا‏,‏ فأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب‏,‏ أو يراجع أمر الله‏؟‏ اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم ولأنه أمكن استصلاحه‏,‏ فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس وأما الأمر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة‏,‏ بدليل ما ذكرنا وأما حديث معاذ فإنه قد جاء فيه‏:‏ وكان قد استتيب ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ عليه وفي رواية‏:‏ فدعاه عشرين ليلة أو قريبا من ذلك‏,‏ فجاء معاذ فدعاه وأبي فضرب عنقه رواه أبو داود ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان‏,‏ بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم وشيوخهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روى ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال مالك وإسحاق‏,‏ وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر‏:‏ إن تاب في الحال وإلا قتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن المنذر لحديث أم مروان‏,‏ ومعاذ ولأنه مصر على كفره أشبه بعد الثلاث وقال الزهري‏:‏ يدعى ثلاث مرات‏,‏ فإن أبي ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي وقال النخعي‏:‏ يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والإجماع وعن علي‏,‏ أنه استتاب رجلًا شهرا ولنا حديث عمر ولأن الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال‏,‏ فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها وأولى ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها‏,‏ وإنها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لقول عمر‏:‏ هلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا‏؟‏ ويكرر دعايته‏,‏ لعله يتعطف قلبه فيراجع دينه‏.‏

الفصل الرابع‏:‏

أنه إن لم يتب قتل لما قدمنا ذكره وهو قول عامة الفقهاء ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل‏,‏ ولا يحرق بالنار وقد روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم خالد والأول أولى لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله‏)‏ يعني النار أخرجه البخاري‏,‏ وأبو داود وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ‏)‏ ‏.‏

الفصل الخامس‏:‏

أن مفهوم كلام الخرقي أنه إذا تاب قبلت توبته‏,‏ ولم يقتل أي كفر كان وسواء كان زنديقا يستسر بالكفر‏,‏ أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي والعنبري ويروى ذلك عن علي وابن مسعود‏,‏ وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال‏:‏ إنه أولى على مذهب أبي عبد الله والرواية الأخرى‏,‏ لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك والليث‏,‏ وإسحاق وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين واختار أبو بكر أنه لا تقبل توبة الزنديق لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏ والزنديق لا تظهر منه علامة تبين رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرا للإسلام‏,‏ مسرا للكفر فإذا وقف على ذلك فأظهر التوبة‏,‏ لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الإسلام وأما من تكررت ردته‏,‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا‏}‏ وروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلًا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة فرجع إلى ابن مسعود‏,‏ فذكر ذلك له فبعث إليهم فأتى بهم‏,‏ فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم‏,‏ إلا رجلًا منهم يقال له ابن النواحة قال‏:‏ قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى‏,‏ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ وروي ‏(‏أن رجلًا سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المسلمين فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ أليس يشهد أن لا إله إلا الله‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏,‏ ولا شهادة له قال‏:‏ أليس يصلي‏؟‏ قال‏:‏ بلى ولا صلاة له فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ أولئك الذين نهانى الله عن قتلهم‏)‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا‏}‏ وروى أن مخشى بن حمير كان في النفر الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتاب إلى الله تعالى فقبل الله توبته‏,‏ وهو الطائفة التي عنى الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة‏}‏ فهو الذي عفا الله عنه وسأل الله تعالى أن يقتل في سبيله‏,‏ ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كف عن المنافقين بما أظهروا من الشهادة‏,‏ مع إخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون‏}‏ وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع استسرارهم بكفرهم وأما قتله ابن النواحة‏,‏ فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين أنه ما زال عما كان عليه من كفره ويحتمل أنه قتله لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- له حين جاء رسولا لمسيلمة‏:‏ ‏(‏لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك‏)‏ فقتله تحقيقا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد روى أنه قتله لذلك وفي الجملة‏,‏ فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرا أم باطنا‏,‏ فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرًا عظيمًا‏}‏

فصل

وقتل المرتد إلى الإمام حرًا كان أو عبدًا وهذا قول عامة أهل العلم‏,‏ إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد فإن لسيده قتله لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم‏)‏ ولأن حفصة قتلت جارية سحرتها ولأنه حق الله تعالى‏,‏ فملك السيد إقامته على عبده كجلد الزانى ولنا أنه قتل لحق الله تعالى فكان إلى الإمام‏,‏ كرجم الزانى وكقتل الحر وأما قوله‏:‏ ‏(‏وأقيموا الحدود‏)‏ فلا يتناول القتل للردة فإنه قتل لكفره‏,‏ لا حدا في حقه وأما خبر حفصة فإن عثمان تغيظ عليها وشق ذلك عليه وأما الجلد في الزنى‏,‏ فإنه تأديب وللسيد تأديب عبده بخلاف القتل فإن قتله غير الإمام‏,‏ أساء ولا ضمان عليه لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك وعلى من فعل ذلك التعزير لإساءته وافتياته‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وكان ماله فيئًا بعد قضاء دينه‏]‏

وجملته‏,‏ أن المرتد إذا قتل أو مات على ردته فإنه يبدأ بقضاء دينه‏,‏ وأرش جنايته ونفقة زوجته وقريبه لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها وأولى ما يوجد من ماله‏,‏ وما بقي من ماله فهو فيء يجعل في بيت المال وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه لورثته من المسلمين‏,‏ وعنه أنه لقرابته من أهل الدين الذي انتقل إليه وقد مضت هذه المسألة‏:‏ مستوفاة في الفرائض بما أغنى عن ذكرها ها هنا‏.‏

فصل

ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر‏:‏ أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم فعلى هذا إن قتل أو مات زال ملكه بموته‏,‏ وإن راجع الإسلام فملكه باق له وقال أبو بكر‏:‏ يزول ملكه بردته وإن راجع الإسلام عاد إليه تمليكا مستأنفا لأن عصمة نفسه وماله إنما تثبت بإسلامه‏,‏ فزوال إسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته‏,‏ فوجب أن يملكوا ماله بها وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ ماله موقوف إن أسلم تبينا بقاء ملكه وإن مات أو قتل على ردته تبينا زواله من حين ردته قال الشريف أبو جعفر‏:‏ هذا ظاهر كلام أحمد وعن الشافعي ثلاثة أقوال كهذه الثلاثة ولنا‏,‏ أنه سبب يبيح دمه فلم يزل ملكه كزنى المحصن‏,‏ والقتل لمن يكافئه عمدًا وزوال العصمة لا يلزم منه زوال الملك بدليل الزانى المحصن‏,‏ والقاتل في المحاربة وأهل الحرب فإن ملكهم‏,‏ ثابت مع عصمتهم ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه‏,‏ لكن يباح قتله - لكل أحد من غير استتابة - وأخذ ماله - لمن قدر عليه - لأنه صار حربيا‏,‏ حكمه حكم أهل الحرب وكذلك لو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة إمام المسلمين زالت عصمتهم في أنفسهم وأموالهم لأن الكفار الأصليين لا عصمة لهم في دارهم‏,‏ فالمرتد أولى‏.‏

فصل

ويؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين وإن كان له إماء جعلن عند امرأة ثقة لأنهن محرمات عليه‏,‏ فلا يمكن منهن وذكر القاضي أنه يؤجر عقاره وعبيده وإماؤه والأولى أن لا يفعل لأن مدة انتظاره قريبة‏,‏ ليس في انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه من أجلها فإنه ربما راجع الإسلام‏,‏ فيمتنع عليه التصرف في ماله بإجارة الحاكم له وإن لحق بدار الحرب أو تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم ما يرى الحظ فيه‏,‏ من بيع الحيوان الذي يحتاج إلى النفقة وغيره وإجارة ما يرى إبقاءه والمكاتب يؤدي إلى الحاكم‏,‏ فإذا أدى عتق لأنه نائب عنه‏.‏

فصل

وتصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوف إن أسلم تبينًا أن تصرفه كان صحيحًا وإن قتل أو مات على ردته كان باطلًا وهذا قول أبي حنيفة وعلى قول أبي بكر‏,‏ تصرفه باطل لأن ملكه قد زال بردته وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في الآخر‏:‏ إن تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الأقوال الثلاثة وإن تصرف بعد الحجر عليه‏,‏ لم يصح تصرفه كالسفيه ولنا أن ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفًا‏,‏ كتبرع المريض‏.‏

فصل

وإن تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح وما منع الإقرار على النكاح‏,‏ منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة وإن زوج لم يصح تزويجه لأن ولايته على موليته قد زالت بردته وإن زوج أمته‏,‏ لم يصح لأن النكاح لا يكون موقوفا ولأن النكاح وإن كان في الأمة فلا بد في عقده من ولاية صحيحة بدليل أن المرأة لا يجوز أن تزوج أمتها‏,‏ وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له فإنه أدنى حالًا من الفاسق الكافر‏.‏

فصل

وإن وجد من المرتد سبب يقتضي الملك‏,‏ كالصيد والاحتشاش والاتهاب‏,‏ والشراء وإيجار نفسه إجارة خاصة أو مشتركة‏,‏ ثبت الملك له لأنه أهل للملك وكذلك تثبت أملاكه ومن قال‏:‏ إن ملكه يزول لم يثبت له ملكًا لأنه ليس بأهل للملك ولهذا زالت أملاكه الثابتة له‏,‏ فإن راجع الإسلام احتمل أن لا يثبت له شيء أيضًا لأن السبب لم يثبت حكمه واحتمل أن يثبت الملك له حينئذ لأن السبب موجود وإنما امتنع ثبوت حكمه‏,‏ لعدم أهليته فإذا وجدت تحقق الشرط‏,‏ فيثبت الملك حينئذ كما تعود إليه أملاكه التي زالت عنه عند عدم أهليته فعلى هذا إن مات‏,‏ أو قتل ثبت الملك لمن ينتقل إليه ملكه لأن هذا في معناه‏.‏

فصل

وإن لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه كالحكم فيمن هو في دار الإسلام‏,‏ إلا أن ما كان معه من ماله يصير مباحا لمن قدر عليه كما أبيح دمه‏,‏ وأما أملاكه وماله الذي في دار الإسلام فملكه ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه وقال أبو حنيفة‏:‏ يورث ماله كما لو مات لأنه قد صار في حكم الموتى‏,‏ بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه ولنا أنه حى فلم يورث كالحربى الأصلى وحل دمه لا يوجب توريث ماله‏,‏ بدليل الحربى الأصلى وإنما حل ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فأشبه مال الحربى الذي في دار الحرب‏,‏ وأما الذي في دار الإسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار الإسلام‏,‏ أو عند مودعه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن ترك الصلاة دعى إليها ثلاثة أيام فإن صلى‏,‏ وإلا قتل جاحدًا تركها أو غير جاحد‏]‏

قد سبق شرح هذه المسألة‏:‏ في باب مفرد لها ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدا لوجوبها‏,‏ إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام‏,‏ والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك‏,‏ وتثبت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر وأما إذا كان الجاحد لها ناشئا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها‏,‏ وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها وهي الزكاة والصيام والحج لأنها مبانى الإسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى‏,‏ إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها والإجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للإسلام‏,‏ يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته‏.‏

فصل

ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين‏,‏ وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنى‏,‏ وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر لما ذكرنا في تارك الصلاة وإن استحل قتل المعصومين‏,‏ وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك‏,‏ وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم‏,‏ وفعلهم لذلك متقربين به إلى الله تعالى وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه متقربا بذلك‏,‏ ولا يكفر المادح له على هذا المتمنى مثل فعله فإن عمران بن حطان قال فيه يمدحه لقتل على‏:‏

يا ضربة من تقى ما أراد بها ** إلا ليبلغ عند الله رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى ** البرية عند الله ميزانا

وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة‏,‏ ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم‏,‏ واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا وقد روى أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها فأقام عمر عليه الحد‏,‏ ولم يكفره وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها‏,‏ مستدلين بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية فلم يكفروا وعرفوا تحريمها فتابوا‏,‏ وأقيم عليهم الحد فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة‏,‏ ويستحله بعد ذلك وقد قال أحمد‏:‏ من قال‏:‏ الخمر حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا فأما إن أكل لحم خنزير‏,‏ أو ميتة أو شرب خمرا لم يحكم بردته بمجرد ذلك‏,‏ سواء فعله في دار الحرب أو دار الإسلام لأنه يجوز أن يكون فعله معتقدا تحريمه كما يفعل غير ذلك من المحرمات‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وذبيحة المرتد حرام وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب‏]‏

هذا قول مالك‏,‏ والشافعي وأصحاب الرأي وقال إسحاق‏:‏ إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته ويحكى ذلك عن الأوزاعي لأن عليا رضي الله عنه قال‏:‏ من تولى قوما فهو منهم ولنا‏,‏ أنه كافر لا يقر على دينه فلم تحل ذبيحته‏,‏ كالوثنى ولأنه لا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم فإنه لا يقر بالجزية ولا يسترق ولا يحل نكاح المرتدة وأما قول على‏:‏ فهو منهم فلم يرد به أنه منهم في جميع الأحكام بدليل ما ذكرنا‏,‏ ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح نسائهم مع توليتهم للنصارى‏,‏ ودخولهم في دينهم ومع إقرارهم بما صولحوا عليه فلأن لا يعتقد ذلك في المرتدين أولى إذا ثبت هذا‏,‏ فإنه إذا ذبح حيوانا لغيره بغير إذنه ضمنه بقيمته حيا لأنه أتلفه عليه وحرمه‏,‏ وإن ذبحه بإذنه لم يضمنه لأنه أذن في إتلافه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏والصبى إذا كان له عشر سنين وعقل الإسلام فأسلم فهو مسلم‏]‏

وجملته أن الصبى يصح إسلامه في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه‏,‏ وإسحاق وابن أبي شيبة وأبو أيوب وقال الشافعي وزفر‏:‏ لا يصح إسلامه حتى يبلغ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ‏)‏ حديث حسن ولأنه قول تثبت به الأحكام‏,‏ فلم يصح من الصبى كالهبة ولأنه أحد من رفع القلم عنه فلم يصح إسلامه كالمجنون‏,‏ والنائم ولأنه ليس بمكلف أشبه الطفل ولنا‏,‏ عموم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏)‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏,‏ فأبواه يهودانه أو ينصرانه حتى يعرب عنه لسانه‏,‏ إما شاكرا وإما كفورا‏)‏ وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبى ولأن الإسلام عبادة محضة فصحت من الصبى العاقل‏,‏ كالصلاة والحج ولأن الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الإسلام‏,‏ وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الأليم فلا يجوز منع الصبى من إجابة دعوة الله مع إجابته إليها‏,‏ وسلوكه طريقها ولا إلزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار‏,‏ وسد طريق النجاة عليه مع هربه منها ولأن ما ذكرناه إجماع فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا‏,‏ وقال‏:‏

سبقتكم إلى الإسلام طرًا ** صبيًا ما بلغت أوان حلم

ولهذا قيل‏:‏ أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان على ومن النساء خديجة‏,‏ ومن العبيد بلال وقال عروة‏:‏ أسلم على والزبير وهما ابنا ثمان سنين‏,‏ وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن الزبير لسبع أو ثمان سنين ولم يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أحد إسلامه من صغير ولا كبير فأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏رفع القلم عن ثلاث‏)‏ فلا حجة لهم فيه‏,‏ فإن هذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذلك والإسلام يكتب له لا عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة‏,‏ فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وإن لم تجب عليه وكذلك غيرها من العبادات المحضة فإن قيل‏:‏ فإن الإسلام يوجب الزكاة عليه في ماله ونفقة قريبه المسلم‏,‏ ويحرمه ميراث قريبه الكافر ويفسخ نكاحه قلنا‏:‏ أما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء وتحصين المال والثواب‏,‏ وأما الميراث والنفقة فأمر متوهم وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين‏,‏ وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم إن هذا الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء الدارين والخلود في الجحيم‏,‏ فينزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن قوت ما يأكله وكلفة تحريك فيه لما كان بقاؤه به لم يعد ضررا‏,‏ والضرر في مسألتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من ذلك بكثير إذا ثبت هذا فإن الخرقي اشترط لصحة إسلامه شرطين أحدهما أن يكون له عشر سنين لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بضربه على الصلاة لعشر والثاني‏:‏ أن يعقل الإسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له‏,‏ وأن محمدًا عبده ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فإن الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد الإسلام وإنما كلامه لقلقة بلسانه‏,‏ لا يدل على شيء وأما اشتراط العشر فإن أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا ذلك‏,‏ ولم يحدوا له حدا من السنين وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى ما حصل لا حاجة إلى زيادة عليه وروى عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فإسلامه إسلام وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏مروهم بالصلاة لسبع‏,‏‏)‏ فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدًا لصحة إسلامهم وقال ابن أبي شيبة‏:‏ إذا أسلم وهو ابن خمس سنين‏,‏ جعل إسلامه إسلامًا ولعله يقول إن عليًا أسلم وهو ابن خمس سنين لأنه قد قيل‏:‏ إنه مات وهو ابن ثمان وخمسين فعلى هذا يكون إسلامه وهو ابن خمس لأن مدة النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بعث إلى أن مات ثلاث وعشرون سنة وعاش على بعد ذلك ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون‏,‏ فإذا ضممت إليها خمسا كانت ثمانية وخمسين وقال أبو أيوب‏:‏ أجيز إسلام ابن ثلاث سنين من أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه وهذا لا يكاد يعقل الإسلام‏,‏ ولا يدرى ما يقول ولا يثبت لقوله حكم فإن وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الإسلام‏,‏ وعقله إياه صح منه كغيره والله أعلم‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإن رجع وقال‏:‏ لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الإسلام‏]‏

وجملته أن الصبى إذا أسلم وحكمنا بصحة إسلامه لمعرفتنا بعقله بأدلته‏,‏ فرجع وقال‏:‏ لم أدر ما قلت لم يقبل قوله ولم يبطل إسلامه الأول وروى عن أحمد‏,‏ أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام قال أبو بكر‏:‏ هذا قول محتمل لأن الصبى في مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقًا قال‏:‏ والعمل على الأول لأنه قد ثبت عقله للإسلام‏,‏ ومعرفته به بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم‏,‏ وهذا يحصل به معرفة عقله ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله وتصرفاته وعرفنا جنون المجنون وعقل العاقل بما يصدر عنه من أفعاله وأقواله وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد دعواه وهكذا كل من تلفظ بالإسلام‏,‏ أو أخبر عن نفسه به ثم أنكر معرفته بما قال لم يقبل إنكاره‏,‏ وكان مرتدا نص عليه أحمد في مواضع إذا ثبت هذا فإنه إذا ارتد صحت ردته وبهذا قال أبو حنيفة وهو الظاهر من مذهب مالك وعند الشافعي‏:‏ لا يصح إسلامه ولا ردته وقد روى عن أحمد أنه يصح إسلامه‏,‏ ولا تصح ردته لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاث عن الصبى حتى يبلغ‏)‏ وهذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذنب ولا شيء ولو صحت ردته لكتبت عليه وأما الإسلام فلا يكتب عليه‏,‏ إنما يكتب له ولأن الردة أمر يوجب القتل فلم يثبت حكمه في حق الصبى كالزنى ولأن الإسلام إنما صح منه لأنه تمحض مصلحة‏,‏ فأشبه الوصية والتدبير والردة تمحضت مضرة ومفسدة فلم تلزم صحتها منه فعلى هذا‏,‏ حكمه حكم من لم يرتد فإذا بلغ فإن أصر على الكفر‏,‏ كان مرتدا حينئذ‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام فإن ثبت على كفره قتل‏]‏

وجملته أن الصبي لا يقتل سواء قلنا بصحة ردته‏,‏ أو لم نقل لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنى والسرقة في سائر الحدود ولا يقتل قصاصا فإذا بلغ‏,‏ فثبت على ردته ثبت حكم الردة حينئذ فيستتاب ثلاثا‏,‏ فإن تاب وإلا قتل سواء قلنا‏:‏ إنه كان مرتدا قبل بلوغه أو لم نقل‏,‏ وسواء كان مسلما أصليا فارتد أو كان كافرا فأسلم صبيا ثم ارتد‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب‏,‏ لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق‏]‏

وجملته أن الرق لا يجرى على المرتد سواء كان رجلًا أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب أو أقام بدار الإسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا لحقت المرتدة بدار الحرب‏,‏ جاز استرقاقها لأن أبا بكر سبى بني حنيفة واسترق نساءهم وأم محمد ابن الحنفية من سبيهم ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ولأنه لا يجوز إقراره على كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل ولم يثبت أن الذين سباهم أبو بكر كانوا أسلموا‏,‏ ولا ثبت لهم حكم الردة فإن قيل‏:‏ فقد روى عن على أن المرتدة تسبى قلنا‏:‏ هذا الحديث ضعيف ضعفه أحمد فأما أولاد المرتدين فإن كانوا ولدوا قبل الردة فإنهم محكوم بإسلامهم تبعا لآبائهم‏,‏ ولا يتبعونهم في الردة لأن الإسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم في الكفر‏,‏ فلا يجوز استرقاقهم صغارا لأنهم مسلمون ولا كبارا لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم بعد كفرهم فهم مسلمون وإن كفروا فهم مرتدون‏,‏ حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق وأما من حدث بعد الردة فهو محكوم بكفره‏,‏ لأنه ولد بين أبوين كافرين ويجوز استرقاقه لأنه ليس بمرتد نص عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر ويحتمل أن لا يجوز استرقاقهم لأن آباءهم لا يجوز استرقاقهم ولأنهم لا يقرون بالجزية‏,‏ فلا يقرون بالاسترقاق وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إن ولدوا في دار الإسلام لم يجز استرقاقهم وإن ولدوا في دار الحرب‏,‏ جاز استرقاقهم ولنا أنهم لم يثبت لهم حكم الإسلام فجاز استرقاقهم‏,‏ كولد الحربيين بخلاف آبائهم فعلى هذا إذا وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب‏,‏ وإن كان في دار الإسلام لم يقر بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب‏,‏ لم يقر بها لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن فأما من كان حملا حين ردته فظاهر كلام الخرقي أنه كالحادث بعد كفره وعند الشافعي هو كالمولود لأنه موجود‏,‏ ولهذا يرث ولنا أن أكثر الأحكام إنما تتعلق به بعد الوضع فكذلك هذا الحكم‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الإسلام بعد البلوغ‏,‏ استتيب ثلاثا فإن لم يتب قتل‏]‏

قوله‏:‏ الذين وصفت يعني الذين ولدوا قبل الردة فإنهم محكوم بإسلامهم‏,‏ فلا يسترقون ومتى قدر على الزوجين أو على أولادهما استتيب منهم من كان بالغا عاقلا‏,‏ فإن لم يتب قتل ومن كان غير بالغ انتظرنا بلوغه ثم استتبناه‏,‏ فإن لم يتب قتل وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب‏.‏

فصل

ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم‏,‏ صاروا دار حرب في اغتنام أموالهم وسبى ذراريهم الحادثين بعد الردة وعلى الإمام قتالهم‏,‏ فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة الصحابة ولأن الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم‏,‏ فيكثر الضرر بهم وإذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويتبع مدبرهم‏,‏ ويجهز على جريحهم وتغنم أموالهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تصير دار حرب حتى تجمع فيها ثلاثة أشياء أن تكون متاخمة لدار الحرب لا شيء بينهما من دار الإسلام الثاني‏:‏ أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمى آمن الثالث‏:‏ أن تجرى فيها أحكامهم ولنا‏,‏ أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب - كما لو اجتمع فيها هذه الخصال -‏,‏ أو دار الكفرة الأصليين‏.‏

فصل

وإن قتل المرتد من يكافئه عمدًا فعليه القصاص نص عليه أحمد والولى مخير بين قتله والعفو عنه فإن اختار القصاص‏,‏ قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله وإن كان القتل خطأ‏,‏ وجبت الدية في ماله لأنه لا عاقلة له قال القاضي‏:‏ وتؤخذ منه الدية في ثلاث سنين لأنها دية الخطإ فإن قتل أو مات أخذت من ماله في الحال لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له ويحتمل أن تجب الدية عليه حالة لأنها إنما أجلت في حق العاقلة تخفيفا عليهم‏,‏ لأنهم يحملون عن غيرهم على سبيل المواساة فأما الجانى فتجب عليه حالة لأنها بدل عن متلف‏,‏ فكانت حالة كسائر أبدال المتلفات‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعًا له‏]‏

وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي‏:‏ إذا أسلم أبواه أو أحدهما‏,‏ وأدرك فأبي الإسلام أجبر عليه ولم يقتل وقال مالك‏:‏ إن أسلم الأب‏,‏ تبعه أولاده وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن ولد الحربيين يتبع أباه دون أمه بدليل الموليين إذا كان لهما ولد‏,‏ كان ولاؤه لمولى أبيه دون مولى أمه ولو كان الأب عبدا أو الأم مولاة فأعتق العبد‏,‏ لجر ولاء ولده إلى مواليه ولأن الولد يشرف بشرف أبيه وينتسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه‏,‏ فوجب أن يتبع أباه في دينه أي دين كان وقال الثوري إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه فأيهما اختاره كان على دينه ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه أن تسلم‏,‏ فخيره النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أبيه وأمه ولنا أن الولد يتبع أبويه في الدين فإن اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما‏,‏ كولد المسلم من الكتابية ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى ويترجح الإسلام بأشياء منها أنه دين الله الذي رضيه لعباده‏,‏ وبعث به رسله دعاة لخلقه إليه ومنها أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق وأداء الجزية‏,‏ وفي الآخرة من سخط الله وعذابه ومنها أن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ومن لا يعرف حاله فيها‏,‏ وإذا كان محكوما بإسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل كولد المسلمين‏,‏ ولأنه مسلم فإذا رجع عن إسلامه وجب قتله لقوله عليه السلام ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ وبالقياس على غيره ولنا على مالك‏,‏ أن الأم أحد الأبوين فيتبعها ولدها في الإسلام كالأب‏,‏ بل الأم أولى به لأنها أخص به لأنه مخلوق منها حقيقة‏,‏ وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في الرق والحرية والتدبير والكتابة ولأن سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون أبيه‏,‏ وهذا يعارض ما ذكره وأما تخيير الغلام فهو في الحضانة لا في الدين‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له الميراث وكان مسلما بموت من مات منهما‏]‏

يعني إذا مات أحد أبوى الولد الكافرين صار الولد مسلما بموته وقسم له الميراث وأكثر الفقهاء على أنه لا يحكم بإسلامه بموتهما ولا موت أحدهما لأنه يثبت كفره تبعا‏,‏ ولم يوجد منه إسلام ولا ممن هو تابع له فوجب إبقاؤه على ما كان عليه ولأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من خلفائه‏,‏ أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الإسلام بموت أبيه مع أنه لم يخل زمنهم عن موت بعض أهل الذمة عن يتيم ولنا قول النبي‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏,‏ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه‏)‏ متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية‏,‏ فوجب إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها ولأن المسألة‏:‏ مفروضة فيمن مات أبوه في دار الإسلام وقضية الدار الحكم بإسلام أهلها‏,‏ ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان فإذا عدما أو أحدهما‏,‏ وجب إبقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها وإنما قسم له الميراث‏,‏ لأن إسلامه إنما ثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما فلم يتقدم الإسلام المانع من الميراث على استحقاقه‏,‏ ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيد العبد له‏:‏ إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكون الإسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث‏,‏ وهذا فيما إذا كان في دار الإسلام لأنه متى انقطعت تبعيته لأبويه أو أحدهما ثبت له حكم الدار فأما دار الحرب‏,‏ فلا نحكم بإسلام ولد الكافرين فيها بموتهما ولا موت أحدهما لأن الدار لا يحكم بإسلام أهلها وكذلك لم نحكم بإسلام لقيطها‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن شهد عليه بالردة‏,‏ فقال‏:‏ ما كفرت فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء‏]‏

الكلام في هذه المسألة‏:‏ في فصلين‏:‏

الفصل الأول‏:‏

أنه إذا شهد عليه بالردة من تثبت الردة بشهادته‏,‏ فأنكر لم يقبل إنكاره واستتيب فإن تاب‏,‏ وإلا قتل وحكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة أن إنكاره يكفى في الرجوع إلى الإسلام ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو أقر بالكفر ثم أنكره‏,‏ قبل منه ولم يكلف الشهادتين كذا ها هنا ولنا‏,‏ ما روى الأثرم بإسناده عن على رضي الله عنه أنه أتى برجل عربى قد تنصر فاستتابه‏,‏ فأبي أن يتوب فقتله وأتى برهط يصلون وهم زنادقة‏,‏ وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا‏:‏ ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم‏,‏ ولم يستتبهم ثم قال‏:‏ أتدرون لم استتبت النصرانى‏؟‏ استتبته لأنه أظهر دينه فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة‏,‏ فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة ولأنه قد ثبت كفره فلم يحكم بإسلامه بدون الشهادتين‏,‏ كالكافر الأصلى ولأن إنكاره تكذيب للبينة فلم تسمع كسائر الدعاوي فأما إذا أقر بالكفر ثم أنكر‏,‏ فيحتمل أن نقول فيه كمسألتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الحد وجب بقوله‏,‏ فقبل رجوعه عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه عنه‏,‏ كالزنى لو ثبت بقوله فرجع كف عنه‏,‏ وإن ثبت ببينة لم يقبل رجوعه‏.‏

فصل

وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك‏,‏ والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر‏:‏ ولا نعلم أحدا خالفهم‏,‏ إلا الحسن قال‏:‏ لا يقبل في القتل إلا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها إلا أربعة‏,‏ قياسًا على الزنى ولنا أنها شهادة في غير الزنى فقبلت من عدلين‏,‏ كالشهادة على السرقة ولا يصح قياسه على الزنى فإنه لم يعتبر فيه الأربعة لعلة القتل‏,‏ بدليل اعتبار ذلك في زنى البكر ولا قتل فيه وإنما العلة كونه زنى‏,‏ ولم يوجد ذلك في الردة ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنى يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

أنه إذا ثبتت ردته بالبينة‏,‏ أو غيرها فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لم يكشف عن صحة ما شهد عليه به‏,‏ وخلى سبيله ولا يكلف الإقرار بما نسب إليه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل‏)‏ متفق عليه ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلى فكذلك إسلام المرتد‏,‏ ولا حاجة مع ثبوت إسلامه إلى الكشف عن صحة ردته وكلام الخرقي محمول على من كفر بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- أو جحدهما معا فأما من كفر بغير هذا‏,‏ فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده ومن أقر برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنكر كونه مبعوثا إلى العالمين لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمدًا رسول الله إلى الخلق أجمعين أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الإسلام وإن زعم أن محمدًا رسول مبعوث بعد غير هذا‏,‏ لزمه الإقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده‏,‏ ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده وكذلك إن جحد نبيا أو آية من كتاب الله تعالى أو كتابًا من كتبه‏,‏ أو ملكًا من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله أو استباح محرمًا فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده وأما الكافر بجحد الدين من أصله‏,‏ إذا شهد أن محمدا رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان إحداهما‏,‏ يحكم بإسلامه لأنه روي ‏(‏أن يهوديًا قال‏:‏ أشهد أن محمدًا رسول الله ثم مات فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ صلوا على صاحبكم‏)‏ ولأنه لا يقر برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا وهو مقر بمن أرسله وبتوحيده لأنه صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به‏,‏ وقد جاء بتوحيده والثانية أنه إن كان مقرًا بالتوحيد كاليهود حكم بإسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه‏,‏ وقد ضم إليه الإقرار برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- فكمل إسلامه وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين‏,‏ لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعا وإن قال‏:‏ أشهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رسول الله لم نحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبينا وإن قال‏:‏ أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي‏:‏ يحكم بإسلامه بهذا‏,‏ وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنهما اسمان لشيء معلوم معروف وهو الشهادتان فإذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما وروى المقداد‏,‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلنى فضرب إحدى يدي بالسيف‏,‏ فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال‏:‏ أسلمت أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها‏؟‏ قال‏:‏ لا تقتله‏,‏ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها‏)‏ وعن عمران بن حصين قال‏:‏ ‏(‏أصاب المسلمون رجلًا من بني عقيل‏,‏ فأتوا به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ يا محمد إني مسلم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح‏)‏ رواهما مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي‏,‏ أو من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ما هو عليه فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون‏,‏ ومنهم من هو كافر‏.‏

فصل

وإذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال‏:‏ لم أرد الإسلام فقد صار مرتدًا ويجبر على الإسلام نص عليه أحمد في رواية جماعة ونقل عن أحمد‏,‏ أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام لأنه يحتمل الصدق فلا يراق دمه بالشبهة‏,‏ والأول أولى لأنه قد حكم بإسلامه فيقتل إذا رجع كما لو طالت مدته‏.‏

فصل

وإذا صلى الكافر حكم بإسلامه‏,‏ سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام أو صلى جماعة أو فرادى وقال الشافعي‏:‏ إن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه وإن صلى في دار الإسلام‏,‏ لم يحكم بإسلامه لأنه يحتمل أنه صلى رياء وتقية ولنا أن ما كان إسلاما في دار الحرب كان إسلاما في دار الإسلام كالشهادتين ولأن الصلاة ركن يختص به الإسلام‏,‏ فحكم بإسلامه به كالشهادتين واحتمال التقية والرياء يبطل بالشهادتين وسواء كان أصليا أو مرتدا وأما سائر الأركان من الزكاة والصيام والحج‏,‏ فلا يحكم بإسلامه به فإن المشركين كانوا يحجون في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى منعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ‏(‏لا يحج بعد العام مشرك‏)‏ والزكاة صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلى ما يؤخذ من المسلمين‏,‏ ولم يصيروا بذلك مسلمين وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولأن الصيام ليس بفعل‏,‏ إنما هو إمساك عن أفعال مخصوصة في وقت مخصوص وقد يتفق هذا من الكافر كاتفاقه من المسلم‏,‏ ولا عبرة بنية الصيام لأنها أمر باطن لا علم لنا به بخلاف الصلاة فإنها أفعال تتميز عن أفعال الكفار‏,‏ ويختص بها أهل الإسلام ولا يثبت الإسلام حتى يأتى بصلاة يتميز بها عن صلاة الكفار من استقبال قبلتنا‏,‏ والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم ولا فرق بين الأصلى والمرتد في هذا لأن ما حصل به الإسلام في الأصلي‏,‏ حصل به في حق المرتد كالشهادتين فعلى هذا لو مات المرتد فأقام ورثته بينة أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث‏,‏ إلا أن يثبت أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة أو كتاب أو نبي‏,‏ أو ملك أو نحو ذلك من البدع التي ينتسب أهلها إلى الإسلام فإنه لا يحكم بإسلامه بصلاته لأنه يعتقد وجوب الصلاة‏,‏ ويفعلها مع كفره فأشبه فعله غيرها والله أعلم‏.‏

فصل

وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن‏,‏ فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعًا‏,‏ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه فإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام وبهذا قال أبو حنيفة‏,‏ والشافعي وقال محمد بن الحسن‏:‏ يصير مسلمًا في الظاهر وإن رجع عنه قتل إذا امتنع عن الإسلام لعموم قوله‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها‏,‏ عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏ ولأنه أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي إذا أكره عليه ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه‏,‏ فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ وأجمع أهل العلم على أن الذمي - إذا أقام على ما عوهد عليه -‏,‏ والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه‏,‏ كالإقرار والعتق وفارق الحربى والمرتد فإنه يجوز قتلهما وإكراههما على الإسلام بأن يقول‏:‏ إن أسلمت وإلا قتلناك فمتى أسلم‏,‏ حكم بإسلامه ظاهرا وإن مات قبل زوال الإكراه عنه فحكمه حكم المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتى به‏,‏ كما لو أكره المسلم على الصلاة فصلى وأما في الباطن فيما بينهم وبين ربهم‏,‏ فإن من اعتقد الإسلام بقلبه وأسلم فيما بينه وبين الله تعالى فهو مسلم عند الله‏,‏ موعود بما وعد به من أسلم طائعا ومن لم يعتقد الإسلام بقلبه فهو باق على كفره‏,‏ لا حظ له في الإسلام سواء في هذا من يجوز إكراهه ومن لا يجوز إكراهه‏,‏ فإن الإسلام لا يحصل بدون اعتقاده من العاقل بدليل أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويقومون بفرائضه‏,‏ ولم يكونوا مسلمين‏.‏

فصل

ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك‏,‏ وأبو حنيفة والشافعي وقال محمد بن الحسن‏:‏ هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته‏,‏ ولا يرثه المسلمون إن مات ولا يغسل ولا يصلى عليه‏,‏ وهو مسلم فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله‏}‏ وروى ‏(‏أن عمارًا أخذه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه‏,‏ ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبكى فأخبره‏,‏ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ إن عادوا فعد‏)‏ وروي أن الكفار كانوا يعذبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجابهم إلا بلال‏,‏ فإنه كان يقول‏:‏ أحد أحد وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عفي لأمتى عن الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يثبت حكمه‏,‏ كما لو أكره على الإقرار وفارق ما إذا أكره بحق فإنه خير بين أمرين يلزمه أحدهما‏,‏ فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه فإذا ثبت أنه لم يكفر فمتى زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه‏,‏ فإن أظهره فهو باق على إسلامه وإن أظهر الكفر حكم أنه كفر من حين نطق به لأننا تبينا بذلك أنه كان منشرح الصدر بالكفر من حين نطق به مختارا له وإن قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر‏,‏ وكان محبوسا عند الكفار ومقيدا عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته لأن ذلك ظاهر في الإكراه وإن شهدت أنه كان آمنا حال نطقه به‏,‏ حكم بردته فإن ادعى ورثته رجوعه إلى الإسلام لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل بقاؤه على ما هو عليه وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم الخنزير لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه‏,‏ كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها وإن قال بعض ورثته‏:‏ أكله مستحلا له أو أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه لا يستحقه ويدفع إلى مدعى إسلامه قدر ميراثه لأنه لا يدعى أكثر منه‏,‏ ويدفع الباقي إلى بيت المال لعدم من يستحقه فإن كان في الورثة صغير أو مجنون دفع إليه نصيبه‏,‏ ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة إليه‏.‏

فصل

ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما روى خباب‏,‏ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إن كان الرجل من قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بمنشار‏,‏ فيوضع على شق رأسه ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه‏,‏ ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه‏)‏ وجاء تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏ أن بعض ملوك الكفار أخذ قوما من المؤمنين‏,‏ فخد لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه نارا ثم قال‏:‏ من لم يرجع عن دينه فألقوه في النار فجعلوا يلقونهم فيها‏,‏ حتى جاءت امرأة على كتفها صبي لها فتقاعست من أجل الصبى فقال الصبى‏:‏ يا أمه اصبري‏,‏ فإنك على الحق فذكرهم الله تعالى في كتابه وروى الأثرم عن أبي عبد الله أنه سئل عن الرجل يؤسر‏,‏ فيعرض على الكفر ويكره عليه أله أن يرتد‏؟‏ فكرهه كراهة شديدة‏,‏ وقال ما يشبه هذا عندي الذين أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم وذلك لأن الذي يكره على كلمة يقولها ثم يخلى‏,‏ لا ضرر فيها وهذا المقيم بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه‏,‏ واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات‏,‏ وإن كان امرأة تزوجوها واستولدوها أولادا كفارا وكذلك الرجل‏,‏ وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيقى والانسلاخ من الدين الحنيفى‏.‏ C_H2 TITLE="مسألة:من ارتد وهو سكران">

مسألة

قال: [ ومن ارتد وهو سكران، لم يقتل حتى يفيق، ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته، فإن مات في سكره، مات كافرا]

اختلفت الرواية عن أحمد، في ردة السكران ؛ فروي عنه أنها تصح. قال أبو الخطاب: وهو أظهر الروايتين عنه. وهو مذهب الشافعي. وعنه، لا يصح. وهو قول أبي حنيفة ؛ لأن ذلك يتعلق بالاعتقاد والقصد، والسكران لا يصح عقده ولا قصده، فأشبه المعتوه، ولأنه زائل العقل، فلم تصح ردته كالنائم، ولأنه غير مكلف، فلم تصح ردته كالمجنون. والدليل على أنه غير مكلف، أن العقل شرط في التكليف، وهو معدوم في حقه، ولهذا لم تصح استتابته. ولنا، أن الصحابة رضي الله عنهم، قالوا في السكران: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدوه حد المفتري. فأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره، وأقاموا مظنتها مقامها، ولأنه يصح طلاقه، فصحت ردته كالصاحي. وقولهم " ليس بمكلف " ممنوع فإن الصلاة واجبة عليه، وكذلك سائر أركان الإسلام، ويأثم بفعل المحرمات. وهذا معنى التكليف، ولأن السكران لا يزول عقله بالكلية، ولهذا يتقي المحذورات، ويفرح بما يسره، ويساء بما يضره، ويزول سكره عن قرب من الزمان، فأشبه الناعس، بخلاف النائم والمجنون، وأما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه، ليكمل عقله، ويفهم ما يقال له، وتزال شبهته إن كان قد قال الكفر معتقدا له، كما تؤخر استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه، ويؤخر الصبي إلى حين بلوغه وكمال عقله، ولأن القتل جعل للزجر، ولا يحصل الزجر في حال سكره. وإن قتله قاتل في حال سكره لم يضمنه ؛ لأن عصمته زالت بردته. وإن مات أو قتل، لم يرثه ورثته، ولا يقتله حتى يتم له ثلاثة أيام، ابتداؤها من حين ارتد، فإن استمر سكره أكثر من ثلاث، لم يقبل حتى يصحو، ثم يستتاب عقيب صحوه، فإن تاب وإلا قتل في الحال. وإن أسلم في سكره صح إسلامه، ثم يسأل بعد صحوه، فإن ثبت على إسلامه، فهو مسلم من حين أسلم ؛ لأن إسلامه صحيح، وإن كفر فهو كافر من الآن ؛ لأن إسلامه صح، وإنما يسأل استظهارا، وإن مات بعد إسلامه في سكره، مات مسلما .

فصل

ويصح إسلام السكران في سكره سواء كان كافرا أصليا أو مرتدا لأنه إذا صحت ردته مع أنها محض مضرة وقول باطل‏,‏ فلأن يصح إسلامه الذي هو قول حق ومحض مصلحة‏,‏ أولى فإن رجع عن إسلامه وقال‏:‏ لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى مقالته وأجبر على الإسلام‏,‏ فإن أسلم وإلا قتل ويتخرج أن لا يصح إسلامه بناء على القول بأن ردته لا تصح‏,‏ فإن من لا تصح ردته لا يصح إسلامه كالطفل والمعتوه‏.‏

فصل

ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له وإن ارتد في صحته‏,‏ ثم جن لم يقتل في حال جنونه لأنه يقتل بالإصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالإصرار‏,‏ ولا يمكن استتابته ولو وجب عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وها هنا يسقط برجوعه ولأن القصاص إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له‏,‏ فنظير مسألتنا أن يجن المستحق للقصاص فإنه لا يستوفى حال جنونه‏.‏

فصل

ومن أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي‏,‏ سواء لحق بدار الحرب في ردته أو لم يلحق بها وقال قتادة في مسلم أحدث حدثا‏,‏ ثم لحق بالروم ثم قدر عليه‏:‏ إن كان ارتد درئ عنه الحد وإن لم يكن ارتد‏,‏ أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة والثوري إلا حقوق الناس لأن ردته أحبطت عمله‏,‏ فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن فعل ذلك في حال شركه ولأن الإسلام يجب ما قبله ولنا‏,‏ أنه حق عليه فلم يسقط بردته كحقوق الآدميين وفارق ما فعله في شركه‏,‏ فإنه لم يثبت حكمه في حقه وأما قوله‏:‏ ‏(‏الإسلام يجب ما قبله‏)‏ فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد ما قبل ردته أفضى إلى كون الردة - التي هي أعظم الذنوب - مكفرة للذنوب وأن من كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر ثم يسلم فتكفر ذنوبه‏,‏ وتسقط حدوده

فصل

فأما ما فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال‏:‏ سألته عن رجل ارتد عن الإسلام فقطع الطريق‏,‏ وقتل النفس ثم لحق بدار الحرب فأخذه المسلمون فقال‏:‏ تقام فيه الحدود ويقتص منه وسألته عن رجل ارتد فلحق بدار الحرب‏,‏ فقتل بها مسلما ثم رجع تائبا وقد أسلم‏,‏ فأخذه وليه يكون عليه القصاص‏؟‏ فقال‏:‏ قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو مشرك وكذلك إن سرق وهو مشرك ثم توقف بعد ذلك وقال‏:‏ لا أقول في هذا شيئا وقال القاضي‏:‏ ما أصاب في ردته من نفس أو مال أو جرح‏,‏ فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة أو لم يكن لأنه التزم حكم الإسلام بإقراره فلم يسقط بجحده كما لا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده والصحيح أن ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في جماعة ممتنعة‏,‏ لا يضمنه لما ذكرناه في آخر الباب الذي قبل هذا وما فعله قبل هذا أخذ به‏,‏ إذا كان مما يتعلق به حق آدمي كالجناية على نفس أو مال لأنه في دار الإسلام فلزمه حكم جنايته‏,‏ كالذمى والمستأمن وأما إن ارتكب حدا خالصا لله تعالى كالزنى وشرب الخمر‏,‏ والسرقة فإنه إن قتل بالردة سقط ما سوى القتل من الحدود لأنه متى اجتمع مع القتل حد‏,‏ اكتفى بالقتل وإن رجع إلى الإسلام أخذ بحد الزنى والسرقة لأنه من أهل دار الإسلام‏,‏ فأخذ بهما كالذمى والمستأمن وأما حد الخمر فيحتمل أن لا يجب عليه لأنه كافر‏,‏ فلا يقام عليه حد الخمر كسائر الكفار ويحتمل أن يجب لأنه أقر بحكم الإسلام قبل ردته وهذا من أحكامه فلم يسقط بجحده بعده والله أعلم‏.‏

فصل

ومن ادعى النبوة‏,‏ أو صدق من ادعاه فقد ارتد لأن مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه قومه‏,‏ صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الأسدى ومصدقوه وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله ‏)‏ ‏.‏

فصل

ومن سب الله تعالى‏,‏ كفر سواء كان مازحا أو جادا وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله‏,‏ أو كتبه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ وينبغي أن لا يكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك‏,‏ فإنه إذا لم يكتف ممن سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتوبة فممن سب الله تعالى أولى‏.‏

فصل

في السحر‏:‏ وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا في بدن المسحور أو قلبه‏,‏ أو عقله من غير مباشرة له وله حقيقة فمنه ما يقتل‏,‏ وما يمرض ويأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه‏,‏ وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بين اثنين وهذا قول الشافعي وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏}‏ وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إن كان شيئا يصل إلى بدن المسحور‏,‏ كدخان ونحوه جاز أن يحصل منه ذلك فأما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل إلى بدنه شيء‏,‏ فلا يجوز ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن ذلك يخرق العادات فإذا جاز من غير الأنبياء‏,‏ بطلت معجزاتهم وأدلتهم ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد‏}‏ يعني السواحر اللاتى يعقدن في سحرهن وينفثن عليه‏,‏ ولولا أن السحر له حقيقة لما أمر الله تعالى بالاستعاذة منه وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه‏}‏ وروت عائشة رضي الله عنها ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وأنه قال لها ذات يوم‏:‏ أشعرت أن الله تعالى أفتانى فيما استفتيته‏؟‏ أنه أتانى ملكان فجلس أحدهما عند رأسي‏,‏ والآخر عند رجلى فقال‏:‏ ما وجع الرجل‏؟‏ قال‏:‏ مطبوب قال‏:‏ من طبه‏؟‏ قال‏:‏ لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر‏,‏ في بئر ذي أروان‏)‏ ذكره البخاري وغيره جف الطلعة‏:‏ وعاؤها والمشاطة‏:‏ الشعر الذي يخرج من شعر الرأس أو غيره إذا مشط فقد أثبت لهم سحرا وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده‏,‏ فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متواترا لا يمكن جحده وروى من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه وأما إبطال المعجزات فلا يلزم من هذا لأنه لا يبلغ ما يأتى به الأنبياء عليهم السلام‏,‏ وليس يلزم أن ينتهى إلى أن تسعى العصى والحبال إذا ثبت هذا فإن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم قال أصحابنا‏:‏ ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته وروى عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر‏,‏ فإن حنبلا روى عنه قال‏:‏ قال عمى في العراف والكاهن والساحر‏:‏ أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلها فإنه عندي في معنى المرتد‏,‏ فإن تاب وراجع يعني يخلى سبيله قلت له‏:‏ يقتل‏؟‏ قال‏:‏ لا يحبس لعله يرجع قلت له‏:‏ لم لا تقتله‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان يصلي‏,‏ لعله يتوب ويرجع وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله وقوله في معنى المرتد يعني الاستتابة وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر وقال الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر‏,‏ مثل التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس أو اعتقد حل السحر‏,‏ كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل المتواتر والإجماع عليه وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها‏,‏ بمحضر من الصحابة ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها ولأنه شيء يضر بالناس‏,‏ فلم يكفر بمجرده كأذاهم ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏ أي وما كفر سليمان أي وما كان ساحرا كفر بسحره وقولهما‏:‏ إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه فتكفر بذلك وقد روى هشام بن عروة عن أبيه‏,‏ عن عائشة أن امرأة جاءتها فجعلت تبكى بكاء شديدا‏,‏ وقالت‏:‏ يا أم المؤمنين إن عجوزا ذهبت بى إلى هاروت وماروت فقلت‏:‏ علمانى السحر فقالا‏:‏ اتقى الله ولا تكفرى فإنك على رأس أمرك فقلت‏:‏ علمانى السحر فقالا‏:‏ اذهبى إلى ذلك التنور‏,‏ فبولى فيه ففعلت فرأيت كأن فارسا مقنعا في الحديد خرج منى حتى طار فغاب في السماء‏,‏ فرجعت إليهما فأخبرتهما فقالا‏:‏ ذلك إيمانك فذكرت باقى القصة إلى أن قالت‏:‏ والله يا أم المؤمنين ما صنعت شيئا غير هذا‏,‏ ولا أصنعه أبدا فهل لي من توبة‏؟‏ قالت عائشة‏:‏ ورأيتها تبكى بكاء شديدا فطافت في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - وهم متوافرون - تسألهم هل لها من توبة‏؟‏ فما أفتاها أحد‏,‏ إلا أن ابن عباس قال لها‏:‏ إن كان أحد من أبويك حيا فبريه وأكثرى من عمل البر ما استطعت وقول عائشة قد خالفها فيه كثير من الصحابة‏,‏ وقال على رضي الله عنه الساحر كافر ويحتمل أن المدبرة تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها ويحتمل أنها سحرتها بمعنى أنها ذهبت إلى ساحر سحر لها‏.‏

فصل

وحد الساحر القتل روى ذلك عن عمر وعثمان بن عفان‏,‏ وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله‏,‏ وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة ومالك ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر ورواية عن أحمد قد ذكرناها فيما تقدم‏,‏ ووجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة سحرتها‏,‏ ولو وجب قتلها لما حل بيعها ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق‏)‏ ولم يصدر منه أحد الثلاثة‏,‏ فوجب أن لا يحل دمه ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏حد الساحر‏,‏ ضربه بالسيف‏)‏ قال ابن المنذر‏:‏ رواه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وروى سعيد‏,‏ وأبو داود في ‏"‏ كتابيهما ‏"‏ عن بجالة قال‏:‏ كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة‏:‏ اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم‏,‏ وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة ولأنه كافر فيقتل للخبر الذي رووه‏.‏

فصل

وهل يستتاب الساحر‏؟‏ فيه روايتان إحداهما‏,‏ لا يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا وفي الحديث الذي رواه هشام بن عروة عن أبيه‏,‏ عن عائشة أن الساحرة سألت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم متوافرون هل لها من توبة‏؟‏ فما أفتاها أحد ولأن السحر معنى في قلبه‏,‏ لا يزول بالتوبة فيشبه من لم يتب والرواية الثانية‏,‏ يستتاب فإن تاب قبلت توبته لأنه ليس بأعظم من الشرك والمشرك يستتاب‏,‏ ومعرفته السحر لا تمنع قبول توبته فإن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم من أوليائه في ساعة ولأن الساحر لو كان كافرا فأسلم صح إسلامه وتوبته‏,‏ فإذا صحت التوبة منهما صحت من أحدهما كالكفر ولأن الكفر والقتل إنما هو بعمله بالسحر‏,‏ لا بعلمه بدليل الساحر إذا أسلم والعمل به يمكن التوبة منه‏,‏ وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده يمكن التوبة منه كالشرك وهاتان الروايتان في ثبوت حكم التوبة في الدنيا‏,‏ من سقوط القتل ونحوه فأما فيما بينه وبين الله تعالى وسقوط عقوبة الدار الآخرة عنه‏,‏ فتصح فإن الله تعالى لم يسد باب التوبة عن أحد من خلقه‏,‏ ومن تاب إلى الله قبل توبته لا نعلم في هذا خلافا‏.‏

فصل

والسحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحرا مثل فعل لبيد بن الأعصم‏,‏ حين سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مشط ومشاطة وروينا في مغازى الأموى أن النجاشى دعا السواحر فنفخن في إحليل عمارة بن الوليد فهام مع الوحش‏,‏ فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمسكه إنسان فقال‏:‏ خلنى وإلا مت فلم يخله‏,‏ فمات من ساعته وبلغنا أن بعض الأمراء أخذ ساحرة فجاء زوجها كأنه محترق فقال‏:‏ قولوا لها تحل عنى فقالت‏:‏ ائتونى بخيوط وباب فأتوها به‏,‏ فجلست على الباب حين أتوها به وجعلت تعقد وطار بها الباب‏,‏ فلم يقدروا عليها فهذا وأمثاله مثل أن يعقد الرجل المتزوج فلا يطيق وطء زوجته‏,‏ هو السحر المختلف في حكم صاحبه فأما الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن ويأمرها فتطيعه‏,‏ فهذا لا يدخل في هذا الحكم ظاهرا وذكره القاضي وأبو الخطاب في جملة السحرة وأما من يحل السحر فإن كان بشيء من القرآن‏,‏ أو شيء من الذكر والإقسام والكلام الذي لا بأس به فلا بأس به وإن كان بشيء من السحر‏,‏ فقد توقف أحمد عنه قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر فقال‏:‏ قد رخص فيه بعض الناس قيل لأبي عبد الله‏:‏ إنه يجعل الطنجير ماء ويغيب فيه‏,‏ ويعمل كذا فنفض يده كالمنكر وقال‏:‏ ما أدرى ما هذا‏؟‏ قيل له‏:‏ فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر‏؟‏ فقال‏:‏ ما أدرى ما هذا‏؟‏ وروى عن محمد بن سيرين‏,‏ أنه سئل عن امرأة يعذبها السحرة فقال رجل‏:‏ أخط خطا عليها وأغرز السكين عند مجمع الخط‏,‏ وأقرأ القرآن فقال محمد‏:‏ ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدرى ما الخط والسكين‏؟‏ وروى عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه‏,‏ فقال‏:‏ إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقال أيضا‏:‏ إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل فهذا من قولهم يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة ولأنهم لا يسمون به‏,‏ وهو مما ينفع ولا يضر‏.‏

فصل

فأما الكاهن الذي له رئى من الجن تأتيه بالأخبار والعراف الذي يحدس ويتخرص‏,‏ فقد قال أحمد في رواية حنبل في العراف والكاهن والساحر‏:‏ أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل قيل له يقتل‏؟‏ قال‏:‏ لا‏,‏ يحبس لعله يرجع قال‏:‏ والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث‏,‏ لأن السحر شعبة من الكفر وقال‏:‏ الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما وحديث عمر اقتلوا كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الإسلام وهذا يدل على أن كل واحد منهما فيه روايتان إحداهما‏,‏ أنه يقتل إذا لم يتب والثانية لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد اختلف فيه‏,‏ فهذا بدرء القتل عنه أولى‏.‏

فصل

فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل لسحره إلا أن يقتل به - وهو مما يقتل به غالبا - فيقتل قصاصا وقال أبو حنيفة‏:‏ يقتل لعموم ما تقدم من الأخبار‏,‏ ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمى كالقتل ولنا ‏(‏أن لبيد بن الأعصم سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يقتله‏)‏ ولأن الشرك أعظم من سحره ولا يقتل به‏,‏ والأخبار وردت في ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلى وقياسهم ينتقض باعتقاد الكفر والمتكلم به‏,‏ وينتقض بالزنى من المحصن فإنه لا يقتل به الذمى عندهم ويقتل به المسلم والله أعلم‏.‏