فصل: ذكر الرؤوس الثمانية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


  الجزء الأول

 ذكر الرؤوس الثمانية

اعلم أنَّ عادة القدماء من المُعلمين قد جرت أنْ يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب وهي‏:‏ الغرض والعنوان والمنفعة والمرتبة وصحة الكتاب ومن أيّ صناعة هو وكم فيه من أجزاء وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه فنقول‏:‏ أما الغرض في هذا التأليف فإنه جمع ما تفرّق من أخبار أرض مِصْر وأحوال سكانها كي يلتئم من مجموعها معرفة جمل أخبار إقليم مِصر وهي التي إذا حصلت في ذهن إنسان اقتدر على أن يخبر في كل وقت بما كان في أرض مِصْر من الآثار الباقية والبائدة ويقص أحوال من ابتدأها ومن حلها وكيف كانت مصائر أمورهم وما يتصل بذلك على سبيل الاتباع لها بحسب ما تحصل به الفائدة الكلية بذلك الأثر‏.‏

العنوان المتطاولة والأعوام الكثيرة فتتهذب بتدبر ذلك نفسه وترتاض أخلاقه فيحب الخير ويفعله ويكره الشرّ ويتجنبه ويعرف فناء الدنيا فيحظى بالإعراض عنها والإقبال على ما يبقى‏.‏

وأم المرتبة هذا الكتاب فإنه من جملة أحد قسمي العلم اللذين هما العقليّ والنقليّ فينبغي أنْ يتفرّغ لمطالعته وتدبر مواعظه بعد إتقان ما تجب معرفته من العلوم النقلية والعقلية فإنه يحصل بتدبره لمن أزال الله أكِنةَ قلبه وغشاوة بصره نتيجة العلم بما صار إليه أبناء جنسه بعد التخوّل في الأموال والجنود من الفناء والبيود فإذا مرتبته بعد معرفة أقسام العلوم العقلية والنقلية ليعرف منه كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبل‏.‏

وأما الواضع هذا الكتاب ومُرتب فاسمه أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد ويُعرف بالمقريزي رحمه الله تعالى ولد بالقاهرة المعزية من ديار مصر بعد سنة ستين وسبعمائة من سني الهجرة وأما من أي علم هذا الكتاب فإنه من علم الأخبار وبها عرفت شرائع الله تعالى التي شرعها وحفظت سنن أنبيائه ورسله ودون هداهم الذي يقتدى به من وفقه اللّه تعالى إلى عبادته وهداه إلى طاعته وحفظه من مخالفته وبها نقلت أخبار من مضى من الملوك والفراعنة وكيف حل بهم سخط الله تعالى لما أتوا ما نهوا عنه وبها اقتدر الخليقة من أبناء البشر على معرفة ما دونوه من العلوم والصنائع وتأتي لهم على ما غاب عنهم من الأقطار الشاسعة والأمصار النائية وغير ذلك مما لا ينكر فضله ولكل أمّة من أمم العرب والعجم على تباين آرائهم واختلاف عقائدهم أخبار عندهم معروفة مشهورة ذائعة بينهم ولكل مِصْر من الأمصار المعمورة حوادث قد مرت به يعرفها علماء ذلك المصر في كل عصر ولو استقصيت ما صنف علماء العرب والعجم في ذلك لتجاوز حدّ الكثرة وعجزت القدرة البشرية عن حصره‏.‏

وأما أجزاءه أولها‏:‏ يشتمل على جمل من أخبار أرض مِضر وأحوال نيلها وخراجها وجبالها‏.‏

وثانيها‏:‏ يشتمل على كثير من مدنها وأجناس أهلها‏.‏

وثالثها‏:‏ يشتمل على أخبار فسطاط مِصر ومن ملكها‏.‏

رابعها‏:‏ يشتمل على أخبار القاهرة وخلائقها وما كان لهم من الآثار‏.‏

وخامسها‏:‏ يشتمل على ذكر ما أدركت عليه القاهرة وظواهرها من الأحوال‏.‏

وسادسها‏:‏ يشتمل على ذكر قلعة الجبل وملوكها‏.‏

وسابعها‏:‏ يشتمل على ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب إقليم مصر‏.‏

وقد تضمن كل جزء من هذه الأجزاء السبعة عدة أقسام‏.‏

وأما أيّ أنحاء التعاليم التي قصدت في هذا الكتاب فإني سلكت فيه ثلاثة أنحاء وهي النقل من الكتب المصنفة في العلوم والرواية عمن أدركت من شيخه العلم وجلة الناس والمشاهدة لما عاينته ورأيته‏.‏

فأما النقل من داوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم فإني أعزو كل نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه لأخلص من عهدته وأبرأ من جريرته فكثيرًا ممن ضمني وإياه العصر واشتمل علينا المصر صار لقلة إشرافه على العلوم وقصور باعه في معرفة علوم التاريخ وجهل مقالات الناس يهجم بالإنكار على ما لا يعرفه ولو أنصف لعلم أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع عليه ولا يحتاج في الشريعة إليه وحسب العالم أنْ يعلم ما قيل في ذلك ويقف عليه‏.‏

وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ فإني في الغالب والأكثر أصرح باسم من حدّثني إلا أن لا يحتاج إلى تعيينه أو أكون قد أنسيته وقلّ ما يتفق مثل ذلك‏.‏

وأمّا ما شاهدته فإني أرجو أن كون ولله الحمد غير متهم ولا ظنين وقد قلت في هذه الرؤوس الثمانية ما فيه قنع وكفاية ولم يبق إلا أنْ أشرع فيما قصدت وعزمي أن أجعل الكلام في كل خط من الأخطاط وفي كل أثر من الآثار على حدة ليكون العلم بما يشتمل عليه من الأخبار أجمع وأكثر فائدة وأسهل تناولًا واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفوق كلّ ذي علم عليم‏.‏

 فصل وذكر أسبابها في ديوان جمعه‏:‏ أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ ثم كتب بعده القاضي أبو عبد اللّه محمد بن سلامة القضاعيّ كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدّة فدثر أكثر ما ذكر‏.‏

ولم يبق إلا يلمع وموضع بلقع بما حل بمصر من سني الشدة المستنصرية من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة من الغلاء والوباء فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها واستولى الخراب على عمل فوق من الطرفين بجانبي الفسطاط الغربيّ والشرقيّ‏.‏

فأما الغربيّ فمن قنطرة بني وائل حيث الوراقات الآن قريبًا من باب القنطرة خارج مدينة مصر إلى الشرف المعروف الآن بالرصد وأنت مار إلى القرافة الكبرى‏.‏

وأما الشرقيّ فمن طرف بركة الحبش التي تلي القرافة إلى نحو جامع أحمد بن طولون ثم دخل أمير الجيوش بحر الجمالي مصر في سنة ست وستين وأربعمائة وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد أبادهم الوباء والتباب وشتتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلا بقايا من الناس كأنهم أموات قد اصفرّت وجوهم وتغيرت سحنهم من غلاء الأسعار وكثرة الخوف من العسكرية وفساد طوائف العبيد والملحية ولم يجد من يزرع الأراضي‏.‏

هذا والطرقات قد انقطعت بحرًا وبرًّا إلا بخفارة وكلفة كثيرة وصارت القاهرة أيضًا يبابًا داثرة فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرض وكل من وصلت قدرته إلى عمارة أن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر وعمروا بها في القاهرة وكان هذا أوّل وقت اختط الناس فيه بالقاهرة‏.‏

ثم كان المنبه بعد القضاعي على الخطط والتعريف بها تلميذه أبو عبد اللّه محمد بن بركات النحويّ في تأليف لطيف نبه فيه الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي على مواضع قد اغتصبت وتملكت بعدما كانت أحباسًا ثم كتب الشريف محمد بن أسعد الجواني كتاب النقط بعجم ما أشكل من الخطط نبه فيه على معالم قد جهلت وآثار قد دثرت وآخر من كتب في ذلك القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج كتاب إيعاظ المتأمّل وإيقاظ المتغفل في الخطط بيّن فيه جملًا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمائة قد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمائة ثم في وباء سنة إحدى وستين ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمائة‏.‏

وكتب القاضي محيي الدين عبد اللّه بن عبد الظاهر كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة ففتح فيه بابأ كانت الحاجة داعية إليه ثم تزايدت العمارة من بعده في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة وظواهرها إلى أن كادت تضيق على أهلها حتى حل بها وباء سنة تسع وأربعين وسنة إحدى وستين ثم غلاء سنة ست وسبعين فخربت بها عدّة أماكن فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة شمل الخراب القاهرة ومصر وعامّة الإقليم وسأورد من ذكر الخطط ما تصل إليه قدرتي إن شاء اللّه تعالى‏.‏

ذكر طرف من هيئة الأفلاك اعلم أنه لما كانت مصر قطعة من الأرض تَعَيَّن قبل التعريف بموقعها من الأرض وتبيين موضع الأرض من الفلك أن أذكر طرفًا من هيئة الأفلاك ثم أذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها وأذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم وأذكر حدودها واشتقاقها وفضائلها وعجائبها وكنوزها وأخلاق أهلها وأذكر نيلها وخلجانها وكُورِها ومبلغ خراجها وغير ذلك ممَّا يتعلق بها قبل الشروع في ذكر خطط مصر والقاهرة فأقول‏:‏ علم النجوم ثلاثة أقسام‏:‏ الأوّل‏:‏ معرفة تركيب الأفلاك وكمية الكواكب وأقسام البروج وأبعادها وعظمها وحركتها ويقال لهذا القسم‏:‏ علم الهيئة‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ علم الزيج وعلم التقويم‏.‏

والقسم الثالث‏:‏ معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج على الحوادث قبل كونها ويسمى هذا القسم علم الأحكام والغرض هنا إيراد نُبَذ من علم الهيئة تكون توطئة لما يأتي ذكره‏.‏

اعلم أن الكواكب أجسام كريات والذي أدرك منها الحكماء بالرصد ألف كوكب وتسعة وعشرون كوكبًا وهي على قسمين سيارة وثابتة‏.‏

فالسيارة سبعة وهي‏:‏ زحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزهرة وعطا رد زُحلٌ شرى مرّيخهُ من شمسهِ فتزاهرتْ بعطارد الأقمارُ ويقال لهذه السبعة‏:‏ الخُنَّس وقيل‏:‏ إنها التي عناها اللّه تعالى بقوله‏:‏ ‏"‏ فلا أقسم بالخَنس الجواري الكُنس ‏"‏ التكوير والتي عناها اللّه تعالى بقوله‏:‏ ‏"‏ فالمدبرات أمرًا ‏"‏ النازعات وقيل لها‏:‏ الخنس لاستقامتها في سيرها ورجوعها وقيل لها‏:‏ الكنس لأنها تجري في البروج ثم تكنس أي تستتر كما يكنس الظبي وقيل‏:‏ الكنس والخنس منها خمسة وهي‏:‏ ما سوى الشمس والقمر سميت بذلك من الانحناس وهو الانقباض وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ الشيطان يوسوس للعبد فإذا ذكر اللّه خنس ‏"‏ أي انقبض ورجع فيكون الخنس على هذا في الكواكب بمعنى الرجوع وسميت بالكنس من قولهم‏:‏ كنس الظبي إذا دخل الكناس وهو مقرّة فالكنس على هذا في الكواكب بمعنى اختفائها تحت ضوء الشمس ويقال لهذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانًا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية وتتبع الغربية في رأي العين فيكون هذا الارتداد لها شبه التحير وهذه الأسماء التي لهذه الكواكب يُقال‏:‏ إنها مشتقة من صفاتها‏.‏

فزحل مشتق من زحل فلان إذا أبطأ سمي بذلك لبطء سيره وقيل‏:‏ للزحل والزحل الحقد وهو بزعمهم يدل على ذلك ويقال‏:‏ إنه المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب ‏"‏ الطارق‏.‏

والمشتري سُمي بذلك لحسنه كأنه اشترى الحسن لنفسه وقيل‏:‏ لأنه نجم الشراء والبيع ودليل الريح والمال في قولهم‏.‏

والمرّيخ مأخوذ من المرخ وهو شجر يحتك بعض أغصانه ببعض فيوري نارًا سمي بذلك لاحمراره وقيل‏:‏ المرّيخ سهم لا ريش له إذا رُمي به لا يستوي في ممرّه وكذا المرّيخ فيه التواء كثير في سيره ودلالته بزعمهم تشبه ذلك والشمس لما كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية لأنهم من فوقها وثلاثة سفلية لأنهم من تحتها سميت بذلك لأنّ الواسطة التي في المخنقة تسمى شمسة والزهرة من الزاهر وهو الأبيض النير من كل شيء وعطارد هو النافذ في كل الأمور ولذلك يقال له أيضًا الكاتب فإنه كثير التصرف مع ما يقارنه ويلابسه من الكواكب والقمر مأخوذ من القمرة وهي البياض والأقمر الأبيض‏.‏

ويقال لزحل كيوان وللمشتري تبر والبرجيس أيضًا وللمريخ بهرام وللشمس مهر وللزهرة أياهيد وسدحت أيضًا ولعطارد هرمس وللقمر ماه وقد جمعت في بيت واحد وهو هذا‏:‏ لا زلت تبقى وترقى للعلى أبدًا ما دام للسبعة الأفلاك أحكام مهروماه وكيوان وتبر معًا وهرمس وأياهيد وبهرام ويقال‏:‏ لما عدا هذه الكواكب السبعة من بقية نجوم السماء الكواكب الثابتة‏.‏

سميت بذلك لثباتها في الفلك بموضع واحد وقيل‏:‏ لبطء حركتها فإنها تقطع الفلك بزعمهم بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة‏.‏

ولكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة فلك من الأفلاك يخصه والأفلاك أجسام كريات مشقات بعضها في جوف بعض وهي تسعة أقربها إلينا فلك القمر وبعده فلك عطارد ثم بعده فلك الزهرة وبعده فلك الشمس وفوقه فلك المريخ ثم فلك المشتري وفوقه فلك زحل ثم فلك الثوابت وفيه كل كوكب يرى في السماء سوى السبعة السيارة ومن فوق فلك الثوابت الفلك المحيط وهو الفلك التاسع ويسمى الأطلس وفلك الأفلاك وفلك الكل وقد اختلف في الأفلاك فقيل‏:‏ هي السموات وقيل‏:‏ بل السموات غيرها وقيل‏:‏ بل هي كرية وقيل غير ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ الفلك الثامن هو الكرسي والفلك التاسع هو العرش وقيل غير ذلك‏.‏

وهذا الفلك التاسع دائم الدوران كالدولاب ويدور في كل أربعة وعشرين ساعة مستوية دورة واحدة ودورانه يكون أبدًا من المشرق إلى المغرب ويدور بدورانه جميع الأفلاك الثمانية وما حوته من الكواكب دورانًا حركته قسرية لإدارة التاسع لها وعن حركة التاسع المذكور يكون الليل والنهار فالنهار مدة بقاء الشمس فوق أفق الأرض والليل مدة غيبوبة الشمس تحت أفق الأرض وفلك الكواكب الثابتة مقسوم باثني عشر قسمًا كحجز البطيخة كل قسم منها يقال له‏:‏ برج وهي‏:‏ الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والد لو والحوت‏.‏

وكل برج من هذه البروج الإثني عشر ينقسم ثلاثين قسمًا يقال‏:‏ لكل قسم منها درجة وكل درجة من هذه الثلاثين مقسومة ستين قسمًا يقال لكل قسم منها دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين مقسومة ستين قسمًا يقال لكل قسم منها ثانية وهكذا إلى الثوالث والروابع والخوامس إلى الثواني عشر وما فوقها من الأجزاء وكل ثلاثة بروج تسمى فصلًا‏.‏

فالزمان على ذلك أربعة فصول‏:‏ وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء‏.‏

وجهات الأقطار أربعة‏:‏ الشرق والغرب والشمال والجنوب‏.‏

والأركان أربعة‏:‏ النار والهواء والماء والتراب‏.‏

والطبائع أربعة‏:‏ الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة‏.‏

والأخلاط أربعة‏:‏ الصفراء والسوداء والبلغم والدم‏.‏

والرياح أربعة‏:‏ الصبا والدبور والشمال والجنوب‏.‏

فالبروج منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار على الليل وهي‏:‏ الحمل والثور والجوزاء وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار وهي‏:‏ السرطان والأسد والسنبلة وثلاثة خريفية هابطة في الجنوب زائدة الليل على النهار وهي‏:‏ الميزان والعقرب والقوس وثلاثة شتوية صاعدة في الجنوب آخذة النهار من الليل وهي‏:‏ الجدي والدلو والحوت والفلك المحيط كما تقدم دائم الدوران كالدولاب يدور أبدًا من المشرق إلى المغرب فوق الأرض ومن المغرب إلى المشرق تحتها فيكون دائمًا نصف الفلك وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة فوق الأرض ونصفه الآخر وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة تحت الأرض وكلما طلعت من أفق المشرق درجة من درجات الفلك التي عدّتها ثلثمائة وستون درجة غرب نظيرها في أفق المغرب من البرج السابع فلا يزال دائمًا ستة بروج طلوعها بالنهار وستة بروج طلوعها بالليل والأفق عبارة عن الحدّ الفاصل من الأرض بين المرئيّ والخفيّ من السماء والفلك يدور على قطبين شماليّ وجنوبيّ كما يدور الحق على قطبي المخروطة ويقسم الفلك خط من دائرة تقسمه نصفين متساويين بعدهما من كلا القطبين سواء وتسمى هذه الدائرة دائرة معدّل النهار فهي تقاطع فلك البروج ودائرة فلك البروج تقاطع دائرة معدّل النهار ويميل نصفها إلى الجانب الشمالي بقدر أربع وعشرين درجة تقريبًا وهذا النصف فيه قسمة البروج الستة الشمالية وهي من أوّل الحمل إلى آخر السنبلة ويميل نصفها الثاني عنها إلى الجنوب بمثل ذلك وفيه قسمة البروج الستة الجنوبية‏.‏

وهي من أوّل برج الميزان إلى آخر برج الحوت وموضع تقاطع هاتين الدائرتين أعني دائرة معدل النهار ودائرة فلك البروج من الجانبين هما‏:‏ نقطتا الاعتدالين أعني رأس الحمل ورأس الميزان ومدار الشمس والقمر وسائر النجوم على محاذاة دائرة فلك البروج دون دائرة معدّل النهار وتمرّ الشمس على دائرة معدّل النهار عند حلولها بنقطتي الاعتدالين فقط لأنها موضع تقاطع الدائرتين وهذا هو خط الاستواء الذي لا يختلف فيه الزمان بزيادة الليل على النهار ولا النهار على الليل‏.‏

لأنّ ميل الشمس عنه إلى كلا الجانبين الشماليّ والجنوبيّ سواء فالشمس تدور الفلك وتقطع الإثني عشر برجًا في مدّة ثلثمائة وخمسة وستين يومًا وربع يوم بالتقريب‏.‏

وهذه هي‏:‏ مدّة السنة الشمسية وتقيم في كل برج ثلاثين يومًا وكسرًا من يوم وتكون أبدًا بالنهار ظاهرة فوق الأرض وبالليل بخلاف ذلك وإذا حلت في البروج الستة الشمالية التي هي‏:‏ الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة فإنها تكون مرتفعة في الهواء قريبة من سمت رؤوسنا وذلك زمن فصل الربيع وفصل الصيف وإذا حلت في البروج الجنوبية وهي‏:‏ الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت كان فصل الخريف وفصل الشتاء وانحطت الشمس وبعدت عن سمت الرؤوس‏.‏

وزعم وهب بن منبه أن أوّل ما خلق اللّه تعالى من الأزمنة الأربعة الشتاء فجعله باردًا رطبًا وخلق الربيع فجعله حارًا رطبًا وخلق الصيف فجعله حارًا يابسًا وخلق الخريف فجعله باردًا يابسًا وأوّل الفصول عند أهل زماننا الربيع ويكون فصل الربيع عندما تنتقل الشمس من برج الحوت وقد اختلف القدماء في البداية من الفصول فمنهم من اختار فصل الربيع وصَيَّرهُ أوّل السنة ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الصيفيّ ومنهم من اختار تقديم الاعتدال الخريفيّ ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الشتويّ فإذا حلت أوّل جزء من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان وانصرف الشتاء ودخل الربيع وطاب الهواء وهبّ النسيم وذاب الثلج وسالت الأودية ومدّت الأنهار فيما عدا مصر ونبت العشب وطال الزرع ونما الحشيش وتلألأ الزهر وأوراق الشجر وتفتح النور واخضرّ وجه الأرض ونتجت البهائم ودرت الضروع وأخرجت الأرض زخرفها وازينت وصارت كصبية شابة قد تزينت للناظرين وللّه درّ القائل وهو الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليعمريّ رحمه اللّه تعالى‏:‏ واستنشقوا لهوا الربيع فإنه نعم النسيم وعنده ألطاف يغذي الجسوم نسيمه وكأنه روح حواها جوهر شفاف وقال ابن قتيبة‏:‏ ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه النور والورد ولا يعرفون الربيع غيره والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامّة الربيع ثم فصل القيظ وهو الذي تدعوه العامّة الصيف ومن العرب من يسمي الفصل الذي يعتدل وتحرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأوّل ويسمى الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمام والنور الربيع الثاني وكلهم مجتمعون على أن الربيع هو الخريف فإذا حلت الشمس آخر برج الجوزاء وأوّل برج السرطان تناهي طول النهار وقصر الليل وابتدأ نقص النهار وزيادة الليل وانصرم فصل الربيع ودخل فصل الصيف واشتدّ الحرّ وحمى الهواء وهبت السمائم ونقصت المياه إلا بمصر ويبس العشب واستحكم الحب وأدرك حصاد الغلال ونضجت الثمار وسمنت البهائم واشتدّت قوّة الأبدان ودرت أخلاف النعم وصارت الأرض كأنها عروس فإذا بلغت آخر برج السنبلة وأوّل برج الميزان تساوى الليل والنهار مرّة ثانية وأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان وانصرم فصل الصيف ودخل فصل الخريف فبرد الهواء وهبت الرياح وتغير الزمان وجفت الأنهار وغارت العيون واصفرّ ورق الشجر وصرّمت الثمار ودرست البيادر واختزن الحبّ واقتنى العشب واغبرّ وجه الأرض إلا بمصر وهزلت البهائم وماتت الهوامّ وانحجرت الحشرات وانصرف الطير والوحش يريد البلاد الدافئة وأخذ الناس يخزنون القوت للشتاء وصارت الدنيا كأنها امرأة كهلة قد أدبرت وأخذ شبابها يولي وللّه درّ القائل وهو الإمام عز الدين أبو الحسن أحمد بن عليّ ابن معقل الأزديّ المهلبيّ الحمصيّ حيث يقول‏:‏ للّه فصل الخريف المستلذ به برد الهواء لقد أبدى لنا عجبا أهدى إلى الأرض من أوراقه ذهبًا والأرض من شأنها أن تهدي الذهبا وقال أيضًا‏:‏ للّه فصل الخريف فصلًا رقت حواشيه فهو رائق فبرد هذا ولون هذا يلذه ذائق ووامق وقال أيضًا‏:‏ أتى فصل الخريف بكل طيب وحسن معجب قلبًا وعينا أرانا الدوح مصفرًّا نضارًا وصافي الماء مبيضًا لجينا فأحسن كلّ إحسان إلينا وأنعم كلَّ إنعام علينا وقال آخر يذم الخريف‏:‏ خذ في التدثر في الخريف فإنه مستو بل ونسيمه خطاف يجري مع الأجسام جَري حياتها كصديقها ومن الصديق يخاف وقال آخر‏:‏ يا عائبًا فصل الخريف وغائبًا عن فضله في ذمه لزمانه لا شيء ألطف منه عندي موقعًا أبدًا يعرّي الغصن من قمصانه وتراه يفرش تحته أثوابه فأعجب لرأفته وفرط حنانه وألذ ساعات الوصال إذا دنا وقت الرحيل وحان حين أوانه النهار في الزيادة والليل في النقصان وانصرم فصل الخريف وحلَّ فصل الشتاء واشتدّ البرد وخشن الهواء وتساقط ورق الشجر ومات أكثر النبات وغارت الحيوانات في جوف الأرض وضعف قوى الأبدان وعَري وجه الأرض من الزينة ونشأت الغيوم وكثرت الأنداء وأظلم الجوّ وكلح وجه الأرض إلا بمصر وامتنع الناس من التصرّف وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد لحنا منها الموت‏.‏

فإذا بلغت آخر برج الحوت وأوّل برج الحمل عاد الزمان كما كان عام أوّل وهذا دأبه ذلك تقدير العزيز العليم وتدبير الخبير الحكيم لا إله إلاّ هو‏.‏

وقد شبه بطليموس فصل الربيع بزمان الطفولية وفصل الصيف بالشباب والخريف بالكهولة والشتاء بالشيخوخة وعن حركة الشمس وتنقلها في البروج الإثني عشر المذكورة تكون أزمان السنة وأوقات اليوم من الليل والنهار وساعاتهما وعن حركة القمر في البروج الإثني عشر تكون الشهور القمرية والسنة القمرية فالقمر يدور البروج الإثني عشر ويقطع الفلك كله في مدة ثمانية وعشرين يومًا وبعض يوم ويقيم في كل برج يومين وثلث يوم بالتقريب ويقيم في كلّ منزلة من منازل القمر الثمانية والعشرين منزلة يومًا وليلة فيظهر عند إهلاله من ناحية الغرب بعد غروب جرم الشمس ويزيد نوره في كل ليلة قمر نصف سبع حتى يكمل نوره ويمتلئ في ليلة الرابع عشر من إهلاله ثم يأخذ من الليلة الخامسة عشر في النقصان فينقص من نوره في كل ليلة نصف سبع كما بدا إلى أن يمحق نوره في آخر الثمانية وعشرين يومًا من إهلاله ويمر في هذه المدة منذ يفارق الشمس ويبدو في ناحية الغرب ويستمرّ إلى أن يجامعها بثمانية وعشرين منزلة وهي‏:‏ السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة و ا لعوا و السماك و الغفر و الزبانا والإكليل و القلب و الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدّم والفرغ المؤخر وبطن الحوت‏.‏

ولحساب ذلك كتب موضوعة وفيما ذكر كفاية والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏