فصل: ترتيب السور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.ترتيب السور:

تختلف السورة عن الآية، فالسورة تطلق على طائفة من الآيات المتصلة ذات بداية ونهاية، ووفق ترتيب محكم دقيق، وكلمة السورة مأخوذة من سور البناء المكون من قطع متلاحقة، أو من سور المدينة الذي يحيط بأبنيتها المجتمعة، أو من السوار لإحاطته بالساعد.
قال ابن جني: (إنما سميت سورة لارتفاع قدرها، لأنها كلام الله تعالى، وفيها معرفة الحلال والحرام، ومنه رجل سوار أي معربد، لأنه يعلو بفعله ويشتط، ويقال: أصلها من السورة وهي الوثبة).
قال الجعبري: (حد السورة قرآن يشتمل على آي ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات، فإن قيل: فما الحكمة في تقطيع القرآن سورا؟ قلت: هي الحكمة في تقطيع السور معدودات، لكل آية حد ومطلع، حتى تكون كل سورة بل كل آية فنا مستقلا وقرآنا معتبرا).
وقال الزمخشري: (الفوائد في تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة، وكذلك أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور، وما أوحاه إلى أنبيائه سورة، وبوب المصنفون في كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم، منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخر من أن يكون بابا واحدا، ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر، كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله).
واختلف العلماء في ترتيب السور هل هو توقيفي أو اجتهادي، قال ابن فارس: (جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة، وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور، فهو توقيفي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه).
وقال أبو بكر بن الأنباري: (أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين، فأنساق السور كأنساق الآيات والحروف، كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن).
وقال الكرماني في البرهان: (ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب).
وقال الطيبي: (أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ).
وذهب الزركشي في البرهان إلى أن العلماء اختلفوا في ترتيب السور على ما هو عليه هل هو توقيف أو من فعل الصحابة إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: ترتيب السور اجتهادي، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء ومنهم مالك والقاضي أبو بكر بن الطيب، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الأمر إلى أمته.
القول الثاني: ترتيب السور توقيفي: واعتبر الزركشي أن الخلاف بين القول الأول والثاني يرجع إلى اللفظ، لأن الصحابة ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما قاله مالك فمن قال بالاجتهاد اعترف بأن الصحابة ألفوا القرآن بحسب ما سمعوه، والخلاف بين التوقيف القولي أو الاستناد الفعلي كما يقول الزركشي.
القول الثالث: التفصيل: فبعض القرآن علم ترتيب سوره في حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والبعض الآخر فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
وقال أبو جعفر النحاس: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويلاحظ أن الخلاف لفظي وظاهري كما قال الزركشي، بين من قال بالتوقيف والاجتهاد، فمن قال بالاجتهاد اعترف أن الصحابة راعوا في الترتيب ما كان عليه الأمر في عهده صلى الله عليه وسلم من حيث وضوح الترتيب بالنسبة لمعظم القرآن، وربما وقع الاجتهاد في بعض السور التي لم يتضح فيها الترتيب، وكان لابد من الاجتهاد في الأمر، والاجتهاد ليس في الترتيب، وإنما في ترجيح ما كان عليه الأمر في عهد النبوة، ولهذا اختلف ترتيب مصحف عثمان عن ترتيب مصحف ابن مسعود، الذي جعل سورة النساء مقدمة على سورة آل عمران، ويبدو أن اللجنة الرباعية التي أعدت مصحف عثمان رجحت تقديم سورة آل عمران على النساء، ورأت أن ذلك الترتيب هو الأرجح في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يؤكد التوقيف في كل ما يتعلق بالقرآن أن الصحابة التزموا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الاجتهاد في أي أمر يتعلق بالقرآن، والتوقف عند حدود النقل الثابت، ويؤكد هذه الحقيقة أن الصحابة لم يضيفوا البسملة إلى أول سورة (براءة) ولم يكن يحق لهم ذلك، ولم يجتهدوا في الأمر، حتى إن بعضهم ظن أن سورة براءة هي جزء من سورة الأنفال السابقة لها، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتفريق بين السورتين، ولم يضف إليها البسملة، واختلفوا في تفسير سقوط البسملة في (سورة براءة) وقال بعضهم: السبب في ذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا نقض عهد لم يكتبوا البسملة في كتاب النقض، ونزلت براءة بنقض العهد الذي كان للكفار، ولما قرئت خلت من البسملة، إيذانا لهم بما اعتادوه في مثل هذه المواقف.

.عدد سور القرآن:

أجمع العلماء على أن عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وقيل: مائة وثلاث عشرة سورة عند من جعل الأنفال وبراءة سورة واحدة.
وطلب الحجاج بن يوسف من قراء البصرة أن يحصوا له كلمات القرآن وحروفه، فمكثوا أربعة أشهر يعدون الكلمات والحروف بالشعير، وأجمعوا على أن كلمات القرآن سبع وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وحروف القرآن ثلاث مائة وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا.
وأما عدد الآيات فهو ستة آلاف آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك، مائتان وأربع آيات، أو مائتان وتسع عشرة آية، أو مائتان وخمس وعشرون، أو مائتان وست وثلاثون:
وأطول سورة في القرآن هي البقرة وأقصر سورة هي الكوثر، وأطول آية هي آية الدين، وأقصر آية هي (والضحى).
وتعلم الآية بتوقيف من الشارع الحكيم، كما هو الشأن بالنسبة للسور القرآنية، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر كتاب الوحي بمراعاة ذلك، ولولا ذلك التوقيف الشرعي لما أمكن بالاجتهاد أن تكون هناك آيات طويلة أو قصيرة، لصعوبة وضع معيار ثابت لذلك، فبعض الآيات كلمة واحدة، وبعضها آيات طوال.
وأكد الزمخشري ذلك بقوله: الآيات علم توقيفي لا مجال للقياس فيه، والأرجح أن نقول إن كل ما يتعلق بالقرآن توقيفي، وبخاصة ما يتعلق بالرسم والترتيب والآيات والسور، والاجتهاد قليل، وهو معتمد على نقل أو رواية راجحة أو قرينة ثابتة يستعان بها في معرفة التوقيف.
وحاول بعض العلماء ذكر الفائدة من معرفة الآيات والفواصل، وأن ذلك ضروري في بعض الأحكام الفقهية، في قراءة آية كاملة في خطبة الجمعة، وفي صلاة من جهل فاتحة الكتاب وفي معرفة مواطن الوقف، وقال البخاري: (لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة)، وبخاصة وإن من الصعب ضبط الكلمات والحروف لاختلاف مفهوم الكلمة من حيث الحقيقة والمجاز.
وإذا انتفت الفائدة من بعض ما انصرف العلماء إليه من بيان الكلمات والحروف، فإن ذلك مؤشر واضح الدلالة على عظمة الجهود التي بذلها العلماء في ضبط كل ما يتعلق بالقرآن، رسما وترتيبا وجمعا ورواية. تأكيدا لمكانة هذا القرآن العظيم في نفوس المسلمين، وحرصا منهم على صيانته من أي عبث يسيء إليه.
ومن العبث إثارة شبهات حول القرآن، ومحاولة الرد عليها، لأن ذلك مما أصبح متجاوزا، وليست هناك فائدة من إثارة تلك الشبهات التي رد عليها العلماء ردّا موضوعيا بالأدلة العلمية، ومن حق المسلم أن يرفض كل جديد فيما يتعلق بالجدل المرتبط بقطعية القرآن، ولا وسيلة لإرضاء خصوم القرآن إلا بعد التسليم بكل ما يثيرونه من شبهات، وهذا مطلب يأباه المسلم ويرفضه، ويجب أن تقتصر الدراسات القرآنية على بيان تاريخ القرآن، ومراحل جمعه وتوثيقه، وأن ينصرف الاهتمام إلى ما يساعد الباحثين على معرفة جوانب الإعجاز في القرآن واكتشاف الجديد من معانيه وحكمه وأحكامه، وهذا باب كبير وعالم فسيح ولا نهاية له، لأن التفسير القرآني متواصل ومتجدد مع تجدد الخطاب القرآني، والبشر متكافئون في قدراتهم الذهنية، والأجيال مطالبة بأن تسهم في خدمة القرآن وفي استنباط أحكامه وحكمه.

.مناسبة الآيات والسور:

المناسبة في اللغة المقاربة، يقال: فلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب وهو القريب، ومنه المناسبة في العلة في باب القياس، والعقول البشرية تدرك أهمية المناسبة بين الأشياء المتجاورة والمتجانسة، ولا يمكن إغفال أهمية التقارب بين الأشياء، فهناك على وجه التأكيد علاقات بين الأضداد والنظائر، وأحيانا تدرك تلك العلاقات إذا قام دليل يؤكدها أو يشير إليها، وأحيانا لا تدرك تلك العلاقات، لخفائها أو لعجز العقل عن إدراكها، والعقول البشرية ليست متساوية في إمكاناتها، فما يمكن إدراكه لدى البعض لا يمكن إدراكه لدى البعض الآخر، للتفاوت في القدرات.
ومن هذا المنطلق حاول بعض العلماء البحث عن أوجه المناسبة بين الآيات والسور، من حيث التجاور والتتابع، أو من حيث تسمية أسماء السور، والمناسبة ليست أمرا محددا، ولهذا تحتاج إلى قدرة وبديهة وحسن تأمل.
وأشاد بعض علماء القرآن والتفسير بأهمية التناسب بين الآيات، واعتبروا ذلك علما مستقلا جديرا بالعناية والتأمل.
وقال الزركشي في البرهان:
(وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء).
وقال العز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ:
(المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه).
وقال الإمام الرازي في تفسيره:
ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته.
وقال أيضا:
(أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط).
وقال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين:
(ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه).
وقال أبو الحسن الشهراباني:
أول من أظهر ببغداد علم المناسبة، ولم نكن سمعناه من غيره، هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة.
وقد ألف عدد من العلماء في علم المناسبة، منهم أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتابه البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن، وبرهان الدين البقاعي في كتابه: (نظم الدرر في تناسب الآي والسور) والسيوطي في كتابه: (تناسق الدرر في تناسب السور).

.المناسبة مظهر من مظاهر الإعجاز:

والمناسبة تؤكد التوقيف بالنسبة لترتيب الآيات والسور، وهي مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني الذي يؤكد الترابط بين الآيات والحكمة في تسلسل المعاني، وإلحاق فكرة بأخرى، وربط حكم بآخر، مما يؤكد وجود نسق قرآني مترابط متلاحم يسعى بعضه في تأكيد البعض الآخر وتوضيحه، للوصول إلى معنى مقصود وحكمة مبتغاة، وغاية مرجوة... والمناسبة تؤكد الترابط والتكامل في الآيات والسور، ولا يمكن تصور انفكاك الآيات عن بعضها، لأن ذلك يخل بالنسق القرآني المعجز، وعجز البشر عن إدراك وجه المناسبة لا يعني انعدام الترابط، ولهذا تتفاوت قدرات المفسرين في تلمس المناسبة المؤدية إلى غاية، ويحتاج علم المناسبة إلى إشراقة روحية تعين المفسر على تلمس عظمة الترتيب القرآني، ومهما بلغ العقل في درجة إدراكه، فإنه يعجز أحيانا عن إدراك أوجه للتقارب والتجانس تحتاج إلى صفاء نفسي وروحي، يوقظ قدرات القلب على الفهم والإدراك.
وعلم المناسبة علم ذاتي لا يخضع لمعايير مادية، فما كان واضح التقارب والتماثل كما هو الشأن في النظائر والأضداد واقتران المسببات بالأسباب والمعلولات بالعلل لا يحتاج إلى كثير جهد لوضوح أوجه العلاقة والترابط، وما كان ظاهر الانقطاع والانفصال بين الآيات يحتاج إلى عمق نظر وحسن تأمل، لإدراك وجه العلاقة واكتشاف ما غمض من أوجه الترابط.
ومن العوامل الأساسية في فهم أوجه المناسبة بين الآيات والسور أن يحيط المفسر بالقرآن، وأن يستوعب مقاصده وغاياته، وأن يفهم أغراضه وأساليبه، وأن ينظر للقرآن نظرة شمولية متكاملة، بحيث تكتشف التوجهات القرآنية، وتعلم أساليب القرآن في التربية والتوجيه.