فصل: خامسا: الإعجاز بالإخبار عن الغيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.ثالثا: الإعجاز بالأسلوب:

وهذا النوع من الإعجاز يتمثل بالفصاحة وغرابة الأسلوب، والسلامة، من جميع العيوب، ونقل كل من الزركشي والسيوطي هذا الرأي عن الإمام فخر الدين الرازي صاحب مفاتيح الغيب، وهذا الرأي قريب من رأي الباقلاني وابن عطية، ونقل الزركشي عن ابن الحسن حازم القرطاجني صاحب منهاج البلغاء أن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا توجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المحدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه..
وقال (الخطابي) في كتابه بيان إعجاز القرآن: أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس.. وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ.. وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة، لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا منه الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه والرقي في أعلى درجاته.. فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني، من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه.

.رابعا: الإعجاز بما يتركه في النفس من مشاعر:

ذهب بعض العلماء إلى أن الإعجاز شيء لا يمكن التعبير عنه فهو يدرك ولا يمكن وصفه، كالملاحة واستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها، وتدرك بالفطرة السليمة وبإتقان علوم المعاني والبيان وهذا الاتجاه يعتبر الإعجاز أمرا يدرك بالذوق السليم والعلم الصحيح، وتدركه الفطرة، ويشعر فيه الإنسان بالفرحة والسرور.
قال أبو حيان التوحيدي في البصائر:
لم أسمع كلاما ألصق بالقلب وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي، وكان بحرا في العلم، وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المفتي وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.

.خامسا: الإعجاز بالإخبار عن الغيب:

ذهب البعض إلى أن الإعجاز يتمثل في إخبار القرآن عن الغيب كقوله تعالى في أهل بدر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}، وردّ العلماء على هذا القول بأن الآيات التي لا خبر فيها لا إعجاز فيها وهذا رأي باطل...

.سادسا: الإعجاز بكل ذلك:

وهذا القول يعتبر الإعجاز القرآني لا ينحصر في أسلوب أو نظم أو إخبار بغيب أو بما يتركه في النفس من أثر، فالإعجاز شامل وكامل، وهو معجز بكل خصوصيات القرآن، الأسلوبية والتعبيرية والتصويرية والتشريعية والرؤية الشمولية، واعتبر الزركشي أن هذا القول هو قول أهل التحقيق.. فمن الخصوصيات القرآنية الروعة التي يتركها في قلوب السامعين، والخشية التي يشعر بها قارئ القرآن، ومنها جمعه بين صفة الجزالة والعذوبة، ولا تجتمعان غالبا في كلام البشر، لأن جزالة الألفاظ لا توجد إلا بما يشوبها من القوة، والعذوبة تحتاج إلى السلاسة والسهولة، وقد جمع القرآن بين الصفتين، وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز...
وفي موطن الإعجاز لا نملك إلا أن نعتبر الإعجاز القرآني إعجاز تميز وتفوق وسمو وعلو في كل جانب من الجوانب، ولا نهاية لهذا الإعجاز، ولا يحده زمان ولا مكان، ولا يحيط به عقل بشري ولا يمكن إدراك أبعاده ومعرفة خصوصياته.
قال القاضي عياض اليحصبي المتوفى سنة 544 هـ في كتابه (الشفا): اعلم أن القرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:
أولها: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام.
الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته.
الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات.
الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السابقة.
ثم قال: ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه، ومنها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب.

.عناية العلماء بإعجاز القرآن:

أجمع العلماء على أن القرآن هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في أوجه الإعجاز القرآني، وتعددت الآراء والبحوث وتكاثرت المصنفات التي درست الإعجاز في القرآن، ولكل رأيه واجتهاده ولكل رؤيته وفهمه، ومن حق كل باحث وعالم أن يدلي بدلوه، وأن يحاول إبراز ما يراه من أوجه الإعجاز...
وإعجاز القرآن سر لا تدركه العقول، وتقف أمامه حائرة عاجزة، ترى الإعجاز وتحسه وتدركه، ولا تعرف سره وكنهه، فالقرآن من حيث ألفاظه كلام عربي محكم، يفهمه كل عربي، وليس فيه غموض أو إبهام، فكيف يقع الإعجاز في كلام اعتاد العرب سماعه ولماذا وقفوا أمامه حائرين مندهشين مستسلمين، يتحداهم، ويبالغ في التحدي، فلا يستطيعون مجاراته ولا الإتيان بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا بآية من آياته.
ووقف العلماء يبحثون عن سر الإعجاز وحقيقته، فإذا عجزوا عن إدراك ذلك قالوا بأن الله قد صرف العرب عن الإتيان بمثله ومبدأ الصرفة ما هو إلا تسليم العجز، وما هو بالرأي، ولذلك قال جمهور العلماء بفساد هذا الرأي، وأخذوا يبحثون عن أوجه الإعجاز في الألفاظ حينا وفي المعاني حينا آخر، وينظرون في النظم القرآني فيجدون نظما متميزا متفوقا يروقك ويؤنسك، فالألفاظ جميلة معبرة، ملائمة للمعاني، وكأنها أنزلت لكي تصور تلك المعاني أدق تصوير وأجمله.
ومن أقدم الذين كتبوا في الإعجاز في القرن الثالث الهجري أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ، وكان من أبرز كتاب عصره وأكثرهم شهرة، وعرض لمعجزة القرآن في إطار كتبه ومؤلفاته الكثيرة ورسائله العديدة التي تناول فيها معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وتتمثل هذه المعجزة بالقرآن، المعجزة الخالدة، التي تحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم العرب، وعجز العرب عن مواجهة التحدي، والعاقل يتساءل عن أسباب عجز العرب عن مواجهة التحدي، هل لأنهم أدركوا عجزهم، فاستسلموا له لئلا ينكشف عجزهم وتقوى حجة (محمد) عليهم، وقال الجاحظ متسائلا: وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم، وهم أشد خلق الله أنفة، وأفرطهم حمية.
ولم يتكلم الجاحظ عن وجوه الإعجاز، ولم يؤلف في أوجه الإعجاز كما فعل غيره كالباقلاني والجرجاني والرازي والخطابي والرماني، واكتفى ببيان المعجزة القرآنية، محللا ظاهرة عجز العرب عن مواجهة التحدي، متسائلا عن أسباب تخوفهم من هذه المواجهة، وهم أصحاب فصاحة وبلاغة، وأهل خطابة وشعر وبيان وكانت لغتهم في أعلى درجات القوة، فكانوا يملكون من أسباب المواجهة ما لا تملكه الأجيال اللاحقة، وهذا التوقف والتخوف دليل على عجز القوم من كثرة كلامهم وسهولة ذلك عليهم.
ثم قال بعد ذلك:
فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين، مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر.
وهذا الكلام المنسوب إلى الجاحظ لا يمكن أن يستفاد منه أن الجاحظ قد أخذ بمبدإ الإعجاز بالصرفة الذي نسب إلى (النظام) فما نسب إلى الجاحظ يؤكد عجز العرب عن التحدي، لسمو الأسلوب القرآني وعظمة هذا الأسلوب ورقيه وتميزه عن الأساليب العربية فالعرب ما استسلموا وهم قادرون على التحدي، وإنما استسلموا لأنهم وجدوا القرآن معجزة حقيقية لا سبيل إلى إنكارها، فالقرآن معجز بكل ما فيه من أسلوب ومعاني وأحكام وتشريع، وقدرة على التأثير وجمال في النسق القرآني وحكمة في الخطاب وروعة في البيان..
فمن رأى المعجزة في القرآن نظر إلى القرآن نظرة شمولية متكاملة، فأسلوبه لا ينفصل عن معناه، ومعناه لا ينفصل عن الأسلوب وكل لفظة في القرآن معبرة ومحكمة ودالة، ولا يمكن أن تستبدل لفظة بلفظة أو مفردة بأخرى، تلك عظمة القرآن، وهذا هو إعجازه الحقيقي، فمن بحث في الإعجاز فقد بحث في جزئية صغيرة دالة على الإعجاز، فالبلاغة وحدها لا يمكن أن تكون وجه الإعجاز، والفصاحة وحدها لا يمكن أن تكون هي كل الإعجاز، والمعاني مستقلة لا يمكن أن تكون منفصلة عن أسلوب القرآن، فالإعجاز القرآني إعجاز متجدد متنوع واضح، يتمثل في عجز الإنسان عن الإتيان بمثل القرآن أو بمثل آية من آياته، فإذا أتى بآية تحاكي الأسلوب القرآني لفظا وبلاغة فإن من المستحيل أن تحاكيه وتماثله جمالا وتأثيرا ومعاني محكمة ومفردات دالة وألفاظ معبرة..
وبالرغم من كل ما كتب في الإعجاز القرآني من كتب وما ألّف فيه من مصنفات، وما ذكر فيه من وجوه، فإن الكلمات القليلة التي كان الصحابة والتابعون ينطقون بها في مجال القرآن من حيث عظمة هذه المعجزة وسمو هذا الكتاب كانت أكثر تعبيرا وأوضح دلالة وأبرز للإعجاز وأسمى من كل ما كتب وقيل، فالإعجاز القرآني هو إعجاز كتاب أنزله الله على رسوله، ولا يمكن أن يدرس إعجازه في إطار بلاغته ولغته ومفرداته، فذلك مما تأباه العامة بفطرتهم فكتاب الله معجز وكفى...
ولعل هذا ما دفع الجاحظ ومن عاش في زمانه أو من سبقه إلى ذكر إشارات واضحة إلى الإعجاز من غير خوض في أوجه الإعجاز كما أوردها علماء الإعجاز الذين أفردوا لهذا العلم مصنفات مستقلة.
وليس في هذا إدانة لمنهج علماء الإعجاز ولا يعني هذا التقليل من أهمية ما كتبوه وصنفوه، فلقد قاموا بجهد عظيم وخدموا هذا العلم خدمة كبرى، وإنما أود أن أشيد بمنهج الأولين السابقين من العلماء الذين أدركوا من أوجه الإعجاز الشمولي المتكامل ما لم يدركه اللاحقون، وكان فيما كتبوه وسجلوه أبلغ تعبير عن عظمة منهج الأولين في الفهم، وهو منهج يستوعب حقائق الإسلام، ويعطي لكل شيء حقه، ولا يترجم الظواهر العظيمة إلى معايير مادية تتمثل في صور بلاغية، ومفردات لغوية، ومعاني قاموسية.
إن الإنسان يفقه بقلبه وفطرته، وبطريقة تلقائية، ما لا يفقهه أصحاب العقول الكبيرة من فلاسفة وفقهاء ورجال لغة وبيان، وما يفقهه العامة أصحاب الفطرة السليمة أدق وأعمق وأصفى، وهو أقرب للحق وأسمى.
ومع هذا.. فإن من واجبنا أن ننصت لصوت هؤلاء العلماء وهم يضعون معاييرهم العقلية، ويصوغون رؤيتهم العلمية في وجوه من الإعجاز متعددة، وأن نعترف لهم بما كتبوه وسجلوه، وأن نثني على عملهم العظيم، وفي نفس الوقت فإن من واجبهم أن يعترفوا بأن الفطرة السليمة تدرك بالبداهة الإعجاز القرآني، وترى فيه الإعجاز العظيم الذي يتحدى كل أعمال البشر..
وسوف أذكر مناهج بعض العلماء الذين كتبوا في الإعجاز وسوف نجد أن ما قاموا به من أعمال علمية جديرة بأن تكون في موطن الإشادة والإعجاب، وهذا يدل على مدى عناية علماء الإسلام بالقرآن الكريم.

.الإعجاز عند الخطابي:

ممن كتب في الإعجاز أبو سليمان محمد بن إبراهيم الخطابي المتوفى سنة 388 هـ، وكان من أوائل الذين كتبوا في الإعجاز ولا شك أنه تأثر بما كتبه الجاحظ من قبله، واطلع على ما كتبه أبو إسحاق النظام أحد أئمة المعتزلة الذي قال بأن الله تعالى قد صرف العرب عن معارضة كلام الله، وهذا أمر مقبول، إذا تضمن الإقرار بعظمة القرآن من حيث أسلوبه ونظمه ومعانيه، فإن الله تعالى قد تحدى العرب بالقرآن، وأعجز العرب عن الإتيان بمثله، والعجز هنا عجز مادي لتميز القرآن وعظمة أسلوبه ودقة معانيه وعجز محاط بهالة من الرهبة والخشية تمثل في حفظ الله لهذا القرآن، وتعهد بحماية الدعوة وانتصار لرسوله، وفكرة الصرفة ليست مرفوضة من الأساس إذا جاءت في إطارها الصحيح المتمثل في رعاية الله لهذه الرسالة وتدعيم موقفها ومناصرة المسلمين، ولقد ثبت أن الله تعالى قد صرف عن المسلمين أخطارا ودفع عنهم أعداءهم، وشتت شملهم كلما اجتمعوا على الإسلام، وأغشى أبصارهم في مواقف كثيرة، وحمى القرآن من العبث ووحد به كلمة العرب.
وكل قول إذا وقع تفسيره في إطاره الضيق أخل بفكرة الإعجاز وأساء لعظمة القرآن، فمن قال بالصرفة لا يختلف عمن قصر الإعجاز على الصور البلاغية والألفاظ اللغوية من حيث تضييق الخناق على مفاهيم واسعة وإطارات للتفكير ذات أبعاد شمولية، فما أضيق ما ذهب إليه اللغويون والبلاغيون من تفسير الإعجاز، وما أوهن هذا الإعجاز الذي لا يعجز عنه البشر، فالإعجاز أعم وأشمل وأسمى وأعلى من كل وجوه الإعجاز المذكورة في كتب الإعجاز.
ولقد تصدى جمهور العلماء للرد على (النظّام)، وأبانوا عن فساد رأيه وبطلان مذهبه، وهذا أمر لا خلاف فيه، فلا يمكن القول بانتفاء الخصوصية القرآنية الذاتية في الأسلوب والنظم واللغة والبلاغة، ولا يمكن القول أيضا باقتصار الإعجاز على الجوانب اللغوية، ومن رد على (النظّام) ومدرسته وجب عليه أن يرد على المدارس اللغوية أيضا، لأنها نظرت للإعجاز نظرة ضيقة، وسدت الأبواب أمام الظاهرة القرآنية المعجزة.
ولقد أنكر الخطابي فكرة الإعجاز بالصرفة، واعتبر أن الإعجاز لابد إلا أن يكون في إطار الأمور الخارجة عن مجاري العادات فالتحدي لا يكون إلا فيما هو خارج عن القدرة الإنسانية، ولابد إلا أن يكون في إطار النظم والأسلوب، بحيث جاء القرآن جامعا بين الفخامة والعذوبة، وهما ضدان، واجتماع الضدين في النظم القرآني فضيلة وبينة ومعجزة، وأشار إلى أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أحسن المعاني، من توحيد لله وتنزيه له وبيان لأحكام شرعه من تحليل وتحريم وحظر وإباحة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، والإتيان بكل ذلك والجمع بين مختلف الغايات أمر يعجز عنه البشر، ولا تبلغه قدرتهم، ولذلك زاغت أبصارهم واضطربت أفئدتهم فقالوا أنه سحر أو شعر، من حيث عجزهم عن الإتيان بمثله.
وأشار الخطابي في كتابه (بيان إعجاز القرآن) إلى تأثير القرآن على النفوس، فإذا سمعه المؤمنون خروا سجدا وبكيا، واستقرت نفوسهم واطمأنت قلوبهم لكلام الله، وأصابهم من مشاعر الروعة والبشرى ما جعلهم في أمن نفسي وروحي.
وقال (الخطابي) في ذلك مشيرا إلى عظمة المعجزة القرآنية وشمولها:
(قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم.. ويتمثل هذا الجانب في صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما أو منشورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، وفي الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص من القرآن إليه) وأورد أمثلة من تاريخ الدعوة تؤكد عظمة هذا الدور المؤثر، فكم من أعداء للإسلام لما سمعوا القرآن اهتزت قلوبهم وتحولوا من عداء إلى إيمان ودخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم.