فصل: (فرع: ضامن الدية من الغارمين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: سهم الرقاب]

وسهم للرقاب؛ للآية.
و (الرقاب): هم المكاتبون، فيعطون من الزكاة ما يؤدونه في الكتابة، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وسعيد بن جبير، والليث، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وذهبت طائفة: إلى أن الرقاب هاهنا العبيد، فيشترى بسهمهم من الصدقات عبيد، ويعتقون. ذهب إليه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: ابن عباس، ومن التابعين: الحسن، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد وأبو عبيد، وأبو ثور رحمة الله عليهم.
وقال الزهري: يقسم ذلك نصفين: نصفا يدفع إلى المكاتبين، ونصفا يشترى به عبيد ممن صلى وصام، وقدم إسلامهم، فيعتقون.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60].
فأمر بوضع الصدقة في الرقاب، وهذا إنما يصح على قولنا؛ لأن الصدقة تدفع إليهم، وتوضع فيهم، فأما على قولهم: فإنما تدفع إلى سادتهم لا إليهم.
إذا ثبت هذا: فإن كان مع المكاتب ما يفي بمال الكتابة.. لم يعط شيئا من الزكاة؛ لأنه لا حاجة به إليه.
وإن لم يكن معه شيء، وقد حل عليه نجم.. أعطي ما يؤدي فيما عليه.
وإن لم يكن معه شيء، ولم يحل عليه نجم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يعطى؛ لأن الدين غير لازم له، فلا حاجة به إلى ما يعطاه.
والثاني: يعطى؛ لأن النجم يحل عليه، والأصل: عدم المال معه.
فإن دفع من عليه الزكاة إلى السيد بإذن المكاتب.. جاز، وإن دفع إليه بغير إذن المكاتب.. لم يجز، وإن دفع إلى المكاتب بإذن السيد، أو بغير إذنه.. جاز.
وإن دفع إلى المكاتب شيء من الزكاة، وأراد أن يصرفه في غير مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: منع منه؛ لأن القصد إعتاقه، فلا يحوز له تفويته، فإن أراد المكاتب أن يتجر به؛ ليحصل بذلك الوفاء بما عليه.. لم يمنع منه؛ لأنه يتوصل به إلى أداء ما عليه، فإن دفع إليه شيئا فأعتقه السيد، أو تبرع عليه أجنبي، فأدى عنه، أو عجز نفسه، فإن كان المال باقيا في يد المكاتب.. قال أصحابنا البغداديون: إن لرب المال أن يسترجع منه ما أعطاه؛ لأن المقصود العتق، ولم يحصل، وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق\ 457] في ذلك قولين:
أحدهما: له أن يسترجع منه؛ لما ذكرناه.
والثاني: ليس له أن يسترجع منه؛ لأنه قد كان مستحقا له حين الأخذ.
وإن قبض السيد منه ذلك، ثم أعتقه.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه لا يسترد من السيد؛ لاحتمال أنه قد كان أعتقه للذي قد قبضه منه، وإن عجزه المولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يسترد من السيد؛ لأنه كان مستحقا له وقت الأخذ.
والثاني: يسترجع منه؛ لأن العتق لم يحصل له.
وإن ادعى المكاتب أنه مكاتب، وأنكر السيد: فإن أقام بينة.. حكم له بصحة الكتابة، وأعطي من الزكاة؛ لأنه قد ثبت أنه مكاتب، وإن لم يقم بينة.. حلف السيد، ولم يعط من الزكاة؛ لأنه لم تثبت كتابته، وإن صدقه السيد على الكتابة.. ففيه وجهان:
أحدهما يعطى؛ لأن السيد أقر على نفسه، فقبل.
والثاني: لا يعطى؛ لاحتمال أن يكون قد واطأ السيد، ليعطى من الزكاة.

.[مسألة: سهم الغارمين]

وسهم للغارمين؛ للآية.
والغارمون ضربان: ضرب ادانوا لمصلحة ذات البين، وضرب ادانوا لمصلحة أنفسهم.
فأما الذين ادانوا لمصلحة ذات البين: فضربان:
الأول: ضرب تحملوا مالا في دم مقتول بأن يوجد قتيل بين قريتين، فادعى أولياؤه على أهل قرية: أنهم قتلوه، فأنكروا، فخيف إراقة الدماء والشر بينهم بسببه، فجاء رجل، فتحمل ديته لوليه في ذمته، واستدان من غيره، ودفع إليه، فهذا يجوز له أخذ الزكاة من سهم الغارمين مع الغنى أو الفقر.
فأما إذا دفع من ماله: فليس بغارم؛ لأنه لا يسمى بعد القضاء: غارمًا.
والأصل فيه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو غارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه».
فأما إذا تحمل في غير القتل، بل بذهاب المال، قال الشيخ أبو حامد: بأن توجد بهيمة متلفة، فخيف وقوع الفتنة بسببها، فتحمل رجل قيمتها لمالكها، واستدان، ودفع.. فله أن يأخذ من سهم الغارمين مع الفقر، وهل له أن يأخذ منها مع الغنى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يأخذ؛ لأنه إنما أخذ في الدم؛ لحرمة الدم، وهذا لا يوجد في غيره.
والثاني: له أن يأخذ؛ للآية والخبر، ولأنه غرم لإصلاح ذات البين، فأشبه إذا تحمل دية مقتول.
وإن جرى بين اثنين خصومة في مال بدين، فبادر رجل، وضمن ذلك الدين عمن هو عليه بإذنه، فإن كان الضامن والمضمون عنه فقيرين.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق\ 457] فله أخذ الصدقة. وإن كان المضمون عنه موسرًا.. فليس للضامن أخذ الصدقة، بل يرجع على المضمون عنه. وإن كان المضمون عنه فقيرًا، والضامن موسرًا.. فهل له أخذ الصدقة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق\ 457]. الأصح: له ذلك.
والضرب الثاني أما من غرم لمصلحة نفسه: فإن استدان لطاعة الله، أو مباح.. فله أن يأخذ مع الفقر، وهل له أن يأخذ مع الغنى؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يأخذ، وهو الصحيح؛ لأنه يأخذ ذلك لحاجته إلينا، فلم يأخذ مع الغنى، كالفقراء والمساكين.
والثاني: يأخذ مع الغنى؛ لأنه غارم في غير معصية، فأشبه الغارم لذات البين. وإن استدان لمعصية، فإن كان مقيما على المعصية.. لم يعط، غنيًا كان أو فقيرًا؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان قد تاب من المعصية.. لم يعط مع الغنى، وهل يعطى مع الفقر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعطى؛ لأنه قد تاب منها.
والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يؤمن أن يعاودها.
إذا ثبت هذا: فكل من ذكرناه من الغارمين: أنه يعطى مع الغنى، فإن كان يملك عروضًا بلا نضوض.. فله أخذ الزكاة مع غناه بالعروض، وإن كان يملك نضوضًا.. فهل له أخذ الزكاة مع غناه بالنضوض؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\ 458]:
أحدهما: له ذلك، كما له أخذها إذا كان غنيًا بالعروض.
والثاني: ليس له ذلك. والفرق بينهما: أنه يحتاج إلى العروض، وهي الأثاث والضياع للتجمل، إذ هي أملاك ظاهرة، فأما النضوض: فلا يحتاج إليها؛ لأن مروءته لا تذهب بذهابها، وهو غني بها، فلزمه قضاء الدين بها. والأول أصح.

.[فرع: ضامن الدية من الغارمين]

قال الصيمري: إذا ضمن الرجل دية مقتول عن قاتل غير معروف.. أُعطي مع الفقر والغنى، وإن ضمن الدية عن قاتل معروف.. أُعطي مع الفقر، ولا يعطى مع الغنى، ولا يعطى الغارم إذا كان الدين مؤجلا قبل حلول الأجل.

.[فرع: دين الميت من الغارمين]

إذا مات رجل، وعليه دين، ولا تركة له.. فهل يجوز قضاؤه من سهم الغارمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول الصيمري -: أنه لا يجوز؛ وهو قول النخعي، وأبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم؛ لأن المزكي يحتاج أن يملك المعطى، ولا يمكن هاهنا.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " -: أنه يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الغارمين [التوبة: 60]. ولم يفرق بين الحي والميت.
ولأنه يجوز التبرع بقضاء دينه فجاز له قضاء دينه من الزكاة، كالحي.

.[فرع: دين المعسر زكاة]

وإن كان لرجل على معسر دين، فأراد من له الدين أن يحتسب بدينه عليه من زكاته.. ففيه وجهان:
أحدهما: وبه قال القاضي أبو القاسم الصيمري -: أنه لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما؛ لأن ذمته قد اشتغلت بالزكاة، فلا تبرأ ذمته إلا بأن يقبض ذلك منه.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " - أنه يجوز، وهو قول الحسن البصري، وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم رده إليه.. جاز، فكذلك إذا لم يقبضه منه، كما لو كانت له عنده وديعة، ودفعها عن الزكاة إليه.. فإنه لا فرق: بين أن يقبضها منه، وبين أن يحتسبها من زكاته من غير إقباض. والأول أظهر.
إذا ثبت هذا: فإن دفع الزكاة إلى الفقير بشرط أن يقبضه إياها.. لم يصح الدفع، وإن نويا ذلك بأنفسهما.. لم يضره.

.[فرع: ادعاء الغرم]

وإن جاء رجل، وادعى: أنه غارم، فإن كان لذات البين.. فأمره ظاهر، فلا يقبل حتى يقيم البينة، وإن كان لمصلحة نفسه، فإن أقام البينة على ذلك.. أُعطي، وإن لم يقم البينة، ولكن صدقة من له الدين.. فهل يعطى؟ فيه وجهان، كالوجهين في المكاتب إذا صدقه سيده.

.[مسألة: سهم سبيل الله]

وسهم في سبيل الله؛ للآية.
وسبيل الله - عندنا -: هم المجاهدون الذين يغزون إذا نشطوا، دون المرتزقة المرتبين في ديوان السلطان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال أحمد: (سبيل الله هو الحج).
دليلنا: أن كل موضع ذكر سبيل الله عز وجل، فإنه يعقل منه المجاهدون، دون الحج، فوجب حمل الآية على ذلك.
فإن أراد رجل من المرتزقة المرتبين أن يصير من أهل الصدقات الذين يغزون إذا نشطوا.. جعل منهم. وإن أراد رجل من أهل الصدقات أن يصير من المرتزقة.. لم يعط من الصدقة، وأُعطي من الفيء، ولا حق للمرتزقة في سهم الصدقات؛ لأن أرزاقهم يأخذونها من الفيء.
فإن كان رجل منهم عاملًا على الصدقة.. فهل يعطى منها؟ فيه وجهان:
الأول: إن قلنا: إن ما يأخذه العامل زكاة.. لم يعط.
والثاني: إن قلنا: أجرة.. أعطي.
وإن احتاج المسلمون إلى من يعينهم في أمر الكفار، ولا مال في بيت المال، وفيه الصدقة.. ففيه قولان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق\ 458]:
أحدهما: لا يجوز صرف الصدقة إلى المرتزقة؛ لأن أهلها والمرتزقة متغايران.
والثاني: يصرف إليهم من سهم سبيل الله تعالى؛ لأن الله تعالى جعله للغزاة، والمرتزقة غزاة.
إذا ثبت هذا: فإن الغازي يُعطى مع الفقر والغنى، وحكى في " المعتمد ": أن أبا حنيفة قال: (لا يأخذ مع الغنى). وكذلك قال في الغارم لإصلاح ذات البين.
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة». فذكر: لغارم أو لغاز.
ويُعطى الغازي ما يحتاج إليه للسلاح، والفرس، والخادم إن كان فارسًا، وحمولة له تحمله إن كان سفره تقصر فيه الصلاة، وهل يشترى له السلاح والفرس والحمولة، ويدفع إليه، أو يدفع له ثمنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: - وهو قول المسعودي في "الإبانة" [ق\ 459]-: أن الإمام بالخيار: بين أن يشتري له ذلك، ويملكه إياه، وبين ألا يملكه ذلك، بل يسلبه في سبيل الله، وإن شاء استعار له، أو استأجر له.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه لا يشتريه الإمام، ولكن يُعطي الغازي ما يخصه، ويشتري هو بنفسه.
قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا: إن استأذن الإمام الغازي ليشتري له ذلك من الصدقة.. جاز، ويدفع إليه نفقة ذهابه وإقامته في الغزو ورجوعه، وكم يُعطى من النفقة؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\458]:
أحدهما: ما زاد على نفقة الحاضر، لأجل السفر؛ لأن نفقة الحاضر تجب في ماله.
والثاني: جميع النفقة.
قلت: وهذان الوجهان كالوجهين في قدر نفقة عامل القراض، إذا قلنا: تجب له النفقة في مال القراض، فإن دفع إلى الغازي مال ولم يغز.. استرجع منه؛ لأنه ليس بغاز. وإن غزا وقتر على نفسه، فرجع ومعه بقية مما دفع إليه.. لم يسترجع منه، كما لو دفع إلى فقير قدر كفايته، فقتر على نفسه حتى حصل فيه فضل.. فإنه لا يسترجع منه.

.[مسألة: سهم ابن السبيل]

وسهم لابن السبيل؛ للآية.
و (ابن السبيل): هو المنشئ للسفر من بلده، أو المجتاز بغير بلده. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\ 459] هل يُعطى المجتاز بغير بلده؟
إن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. أُعطي، وإلا فلا.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (ابن السبيل: هو المجتاز).
فأما من ينشئ السفر من بلده: فليس بابن السبيل.
دليلنا: أنه مريد لسفر لا معصية فيه، فهو كالمجتاز.
إذا ثبت هذا: فإن كان سفره لواجب أو طاعة.. أٌعطى، وإن كان لمعصية.. لم يعط؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان لمباح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يُعطى؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
والثاني يُعطى؛ لأنه سفر جائز، فهو كسفر الطاعة.
فإن كان منشئًا للسفر من بلده.. نظرت:
فإن كان غنيًا.. لم يُعط شيئًا.
وإن كان فقيرًا.. أُعطى ما يحتاج إليه لذهابه ورجوعه.
وهل يُعطى نفقة إقامته في البلد الذي يقصده.. نظرت:
فإن كانت إقامته أقل من أربعة أيام.. أُعطي؛ لأنه في حكم المسافرين.
وإن كانت أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. لم يُعط نفقة إقامته من سهم ابن السبيل؛ لأنه قد خرج عن أن يكون مسافرًا. وهل يُعطى للحمولة؟ ينظر فيه:
إن كان سفره مما يُقصر فيه الصلاة.. أُعطي للحمولة؛ لأنه يحتاج إليها، وإن كان سفره لا تقصر فيه الصلاة.. لم يعط لها إلا إذا كان عاجزًا عن المشي.. فيعطى لها.
وإن كان ابن السبيل مجتازًا.. نظرت:
فإن كان معه مال يكفيه.. لم يُعط؛ لأنه غني به، وإن كان لا مال معه، أو معه مال لا يكفيه، ولكن له مال في بلده.. دفع إليه ما يبلغه بلده؛ لأنه محتاج إلى ما يأخذه.
وإن احتاج ابن السبيل إلى كسوة في سفره.. أُعطي لها؛ لأنه يحتاج إليها، كالنفقة.
فإن دفع إلى ابن السبيل ما يحتاج إليه، فلم يسافر.. استرجع منه.
وإن سافر وقتر على نفسه في النفقة، فرجع من سفره، وقد بقي معه بقية مما دفع إليه.. استرجع منه.
والفرق بينه وبين الغازي حيث قلنا: إنه لا يسترجع منه: أن الغازي يأخذ ما يأخذه على وجه العوض، وابن السبيل يأخذه لحاجته إليه، وقد زالت حاجته.
فإن جاء رجل، وادعى: أنه يريد الغزو أو السفر.. قبل منه، وأعطي؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته.

.[مسألة: تسوية العطاء بين الأصناف]

ويجب أن يسوي بين الأصناف، ولا يفضل صنفًا على صنف؛ لأن الله تعالى ساوى بينهم، فما خص الصنف الواحد.. فالمستحب: أنه يعم به جميع الصنف على قدر حاجاتهم إن أمكن، والمستحب: أن يخص قرابته المحتاجين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة على المسلم صدقة، وعلى ذي القرابة صدقة وصلة».
وأقل ما يجزئ: أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة منهم.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يدفع ذلك كله إلى واحد).
دليلنا: أن الله تعالى ذكر ذلك بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة، فلا يجوز الاقتصار على ما دونهم.
ويستحب أن يساوي بين الثلاثة من الصنف، فإن فاضل بين الثلاثة.. جاز، فإن دفع نصيب الصنف إلى واحد أو اثنين.. ضمن نصيب من لم يُعطه من الثلاثة، وفي قدر ما يضمنه للواحد قولان:
أحدهما: القدر المستحب، وهو الثلث؛ لأنه يستحب دفعه إليه.
والثاني: أقل جزء من السهم؛ لأنه لو اقتصر على دفعه في الابتداء.. أجزأه.

.[فرع: من اجتمع فيه أسباب يعطى بسبب]

وإن اجتمع في شخص واحد سببان، وطلب أن يأخذ بهما.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يعطى بهما، ويخير في أيهما يأخذ).
وقال فيمن يجبي الصدقات ممن يليه، ويدفع العدو: (يُعطى من سهم سبيل الله، ومن سهم المؤلفة).
واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
ف الأول: منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يُعطى بهما؛ لأنه جمع معناهما.
والثاني: يُعطى بأحدهما؛ لأنه شخص واحد.
والطريق الثاني منهم من قال: يعطى بأحدهما، قولا واحدا، والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن يجبي الصدقات، ويقاتل العدو، فإنما أراد: أن يُعطى من يجبي الصدقة من سهم المؤلفة، ومن يدفع العدو من سهم سبيل الله.
و الطريق الثالث منهم من قال: إن كان يستحق بسببين متجانسين، لحاجتنا إليه، أو لحاجته إلينا.. لم يعط بهما، وإنما يعطى بأحدهما، وإن كان يستحق بأحدهما لحاجتنا إليه، وبالآخر لحاجته إلينا أُعطى بهما.
والذين يأخذون لحاجتنا إليهم: المؤلفة، والغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون، والغزاة، والباقون يأخذون لحاجتهم إلينا، وهذا كما نقول فيمن اجتمع فيه جهتا فرض في الميراث: فإنه لا يُعطى بهما، كالأخت للأب والأم، فإنها لو كانت أختًا لأب.. لأخذت النصف، ولو كانت أختا لأم.. لأخذت السدس، ولم تعط بهما.
ولو اجتمع في شخص جهة فرض، وجهة تعصيب، كالزوج إذا كان ابن عم.. فإنه يُعطى بهما، فكذلك هذا مثله.

.[مسألة: نقل الزكاة]

قال الشافعي: (ولا تخرج الصدقات من بلد، وفيه أهله).
وجملة ذلك: أن من وجبت عليه الزكاة.. فإنه يفرقها في أصناف بلد المال، فإن نقلها عنهم إلى أصناف بلد آخر.. ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأبي العالية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60]. ولم يفرق.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومالك، والثوري رحمة الله عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم».
وهكذا: لو أوصى بثلث ماله للمساكين، وأطلق.. فهل يجوز نقلها عن مساكين البلد؟ على هذين القولين:
فمنهم من قال: القولان في جواز النقل، فأما الإجزاء: فإنه يجزئه، قولا ً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الإجزاء، وهو الأصح.
واختلفوا في الموضع الذي ينقل إليه:
فمنهم من قال: القولان إذا نقل عن البلد إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، فأما إذا نقل إلى دون ذلك.. فيجوز، قولًا واحدًا؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح.
إذا ثبت هذا: وقلنا: لا يجوز النقل.. فلا يخلو المزكي: إما أن يكون حضريًا، أو بدويًا.
فإن كان حضريًا، كأهل الأمصار والقرى الذين يستوطنونها على الدوام.. فموضع الصدقة أهل المصر وأهل القرية.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا كان في سواد البلد من هو من أهله على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كالحاضر في البلد؛ لأن من كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو من حاضريه.
فإن كان البلد واسعًا، كالبصرة ومصر.. قال الصيمري: فليس كلهم جيرانه، بل جيرانه من قرب إليه، واتصل به.
وقد اختلف في حد الجوار: فقيل: هم القبيلة. وقيل: هم أهل الدرب. وقيل: هم من يجمعهم المسجد. وقيل: من بينك وبينه أربعون دارًا. قال: ومن أصحابنا من حده بذلك. والصحيح: أنه ليس بتحديد، بل هو على سبيل التقريب، لاختلاف الدور والأماكن.
فإن نقل صدقته من جيرانه إلى أقصى طائفة من بلده، إلا أنه لم يفارق البلد.. جاز، قولًا واحدًا.
قال الصيمري: ويجوز أن يخرج على قولين، ويجوز أن يقال:
إذا قلنا: إذا نقلها إلى بلد آخر أجزأه.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا ثم: لا يجوز.. فهاهنا وجهان، والصحيح: أنه يجوز، قولا واحدًا.