فصل: (فرع: الجماع في قضاء رمضان)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: الجماع في أيام]

وإن جامع في يومين من شهر رمضان أو في أيام.. وجب لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الأول أو لم يكفر.
وقال أبو حنيفة: (إن وطئ في اليوم الثاني قبل أن يكفر عن الأول.. كفاه لهما كفارة واحدة، وإن كان قد كفر عن الأول.. ففيه روايتان، الصحيح: أن عليه كفارة للثاني).
دليلنا: أنه أفسد صوم يومين من شهر رمضان بالجماع، فلزمه كفارتان، كما لو كانا من شهرين، وإن وطئ في اليوم مرتين.. لزمه للأول كفارة، ولا يلزمه للثاني كفارة.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كفر للأول.. لزمه أن يكفر للثاني، وإن لم يكفر للأول، كفاه كفارة واحدة).
دليلنا: أن الوطء الثاني لم يصادف صوماً، فلم تجب فيه الكفارة.
وإن لم ينو الصوم بالليل، وأصبح.. وجب عليه الإمساك لحرمة الوقت، فإن وطئ فيه.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن وطأه لم يصادف صوما.

.[مسألة: الجماع حال الفجر]

وإن طلع الفجر وهو مجامع، فاستدام مع العلم بالفجر.. وجب عليه القضاء والكفارة، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الكفارة). وبه قال المزني
دليلنا: أنه منع صحة صوم يوم من شهر رمضان بجماع تام أثم فيه، فلزمته الكفارة، كما لو وطئ في أثناء النهار. فقولنا: (منع صحة صوم يوم) حتى لا ينازعونا في الوصف؛ لأنا لو قلنا: إنه أفسد صوم يوم.. ربما قالوا: لا نسلم أنه أفسده، وإنما تركه.
وقولنا: (بجماع تام) احتراز مما لو باشرها فيما دون الفرج، فأنزل.
وقولنا: (أثم فيه) احتراز مما لو ظن أنه ليل، فجامع، ولم يعلم بطلوع الفجر، ثم تبين له بعد النزع أن وطأه صادف النهار.. فإن صومه لا يصح، ويجب عليه القضاء، ولا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكفارة تراد لتكفير الإثم، ولا إثم عليه هاهنا.

.[مسألة: الجماع بعد الأكل ناسيا]

ولو أكل ناسيا فظن أنه أفطر بذلك، ثم جامع.. ففيه وجهان:
أحدهما: - وهو المنصوص -: (أنه لا كفارة عليه)؛ لأنه وطئ وهو يعتقد إباحته، فهو كما لو وطئ في وقت يعتقد أنه ليل، فبان أنه نهار، ويجب عليه القضاء.
والثاني - وهو قول القاضي أبو الطيب - إن عليه الكفارة؛ لأن الذي ظنه-وهو كونه مفطرا بأكل الناسي- لا يبيح له الوطء، بخلاف ما لو ظن أنه الليل.
وإن أصبح المقيم صائما، ثم سافر، فجامع في ذلك اليوم.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه الكفارة).
دليلنا: أن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، فلا تسقط الكفارة، كالسفر القريب.
وإن أصبح الصحيح صائما، ثم مرض وجامع في مرضه.. لم تجب عيه الكفارة؛ لأن المرض يبيح له الفطر.
وإن جامع، ثم سافر.. لم تسقط عنه الكفارة؛ لأن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، وإن جامع، ثم جن، أو مرض، أو حاضت المرأة في ذلك اليوم.. فهل تسقط الكفارة عن الرجل إذا جن أو مرض، وعن المرأة إذا حاضت؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلا يسقطها، كالسفر.
والثاني: تسقط، وبه قال أبو حنيفة، والثوري؛ لأن اليوم يرتبط بعضه ببعض، فإذا خرج آخره عن أن يكون صائما فيه بالجنون أو الحيض، أو خرج عن أن يكون الصوم فيه مستحقا بالمرض.. خرج أوله عن أن يكون صوما أو مستحقا، فلم تجب فيه الكفارة.

.[فرع: الجماع في قضاء رمضان]

إن وطئ في قضاء شهر رمضان.. لم تجب عليه الكفارة.
وقال قتادة: تجب.
دليلنا: أنه جماع في غير نهار شهر رمضان.. فلم تجب فيه الكفارة، كما لو جامع في يوم النذر.

.[مسألة: التأويل في حديث الأعرابي]:

تكلم الشافعي على خبر الأعرابي الذي جامع في نهار شهر رمضان، وأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الشافعي: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذه فتصدق به» يحتمل تأويلين:
أحدهما: أنه ما ملكه إياه، ولكنه تطوع عنه بالتكفير، وأمره بدفعه إلى المساكين، فلما أخبره بحاجته إليه.. أذن له في أن يأكله، ويطعمه عياله، فأفاد هذا التأويل أن التطوع عن الغير بالكفارة بإذنه يجوز.
والتأويل الثاني: يحتمل أنه ملكه إياه، وأمره أن يكفر به، فلما أخبره بحاجته.. أذن له في أكله، فأفاد هذا التأويل أن الكفارة لا تجب إلا في الفاضل عن الكفاية.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعمه عيالك»: فيحتمل ثلاث تأويلات:
إحداهن: أنه أذن له في إطعامه عياله، وتكون كفارة عنه، فأفاد هذا التأويل أن من تطوع عن غيره بالتكفير.. جاز له أن يصرفه إلى عيال المكفر عنه إذا كانوا محتاجين؛ لأنهم كغيرهم، وإنما لا يجوز ذلك إذا كان الذي يخرجها هو المكفر.
والتأويل الثاني: أنه أمره بأن يطعمه عياله، وتكون الكفارة في ذمته إلى أن يجدها.
والتأويل الثالث: أنه أمره أن يطعمه عياله، وتسقط عنه الكفارة.
فخرج من هذين التأويلين الأخيرين للشافعي فيمن وجبت عليه الكفارة بسبب من جهته لا على سبيل البدل، وذلك ككفارة إفساد الصوم، والحج، وكفارة الظهار، والقتل، واليمين، فعجز عنها.. فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط عنه وتكون في ذمته إلى أن يجدها، وهو الصحيح؛ لأن الأعرابي قد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعجزه عن التكفير، فأمر له بعرق فيه تمر، وأمره أن يتصدق به، فلو كانت قد سقطت عنه.. لما احتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دفعها إليه، ولأنها كفارة وجبت بسبب من جهته، فلم تسقط بعجزه، كجزاء الصيد، وفيه احتراز من زكاة الفطر، فإنها لم تجب بسبب من جهته.
والثاني: أنها تسقط عنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن يطعمه عياله، ولم يخبره بأنها في ذمته إلى أن يجدها، ولأنه حق مال يجب لله تعالى لا على وجه البدل، فلم يجب مع العجز، كزكاة الفطر.
فقولنا: (حق مال) احتراز من الصوم على الحائض؛ فإنه ثبت في ذمتها.
وقولنا: (لله) احتراز من دين الآدمي.
وقولنا: (لا على وجه البدل) احتراز من جزاء الصيد.

.[مسألة: صوم المغمى عليه]

إذا نوى الصوم من الليل، فأصبح، ثم أغمي عليه يومين أو ثلاثاً فإن أفاق بعد اليوم الأول.. لا يصح صومه؛ لأنه لم ينو الصوم فيه، وأما اليوم الأول: فقد قال الشافعي في (الصوم): (إذا أفاق في بعض النهار.. أجزأه)
وقال في (الظهار): (إذا كان مفيقاً في أول النهار.. أجزأه).
وقال في " اختلاف العراقيين ": (إذا حاضت المرأة، أو أغمي عليها.. بطل صومها). واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتبر أن يكون مفيقاً في أوله لا غير، وهو قول مالك؛ لأن الصوم يفتقر إلى الإفاقة، كما يفتقر إلى النية، والنية معتبرة بأوله، فكذلك الإفاقة.
والثاني: تعتبر الإفاقة في جميع النهار، وإذا أغمي عليه في جزء منه.. بطل صومه؛ لأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض.
والثالث: تعتبر الإفاقة في جزء من النهار، وهو قول أحمد؛ لأنه إفاقة في جزء من النهار، فأجزأه، كما لو كان مفيقاً في أوله.
وخرج أبو العباس قولاً رابعاً: أنه يعتبر أن يكون مفيقاً في طرفي النهار لا غير، كما يعتبر في الصلاة النية في أولها وآخرها.
وقال أبو العباس: المسألة على قول واحد، وهو أن الإفاقة تعتبر في أوله لا غير، كما قال في (الظهار)، وأما الذي ذكره في (الصيام): فإنه أجمله وبين ذلك في الظهار، وأما الذي ذكره في " اختلاف العراقيين "": فإن ذلك راجع إلى الحيض" لأن من عادة الشافعي أن يجمع بين المسائل، ويعطف بالجواب على بعضها.
وقال المزني: يصح صومه، وإن لم يفق في جزء من النهار، وهو قول أبي حنيفة، كما إذا نام جميع النهار.. فإن صومه يصح.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا نام جميع النهار.. لم يصح صومه، كما إذا أغمي عليه جميع النهار.
وما قالاه لا يصح؛ لأنه إذا أغمي عليه جميع النهار.. فقد وجدت منه النية، دون الترك، فلم يصح صومه، كما لو انفرد الترك عن النية.
وأما النوم: فلا يبطل الصوم؛ لأن النائم مكلف، والمغمى عليه غير مكلف.

.[فرع: طروء الجنون في الصيام]

وإن نوى الصوم، ثم جن أياماً، فإن صوم ما بعد اليوم الأول لا يصح؛ لأنه لم ينو فيه الصوم، وأما صوم اليوم الأول: فحكى صاحب "المهذب" فيه قولين، وصاحب "الإبانة" [ق\ 161] حكاهما وجهين:
أحدهما: أنه كالإغماء؛ لأنه يزيل العقل، ويثبت الولاية على المال، فهو كالإغماء.
فعلى هذا: يكون على الاختلاف المذكور في الإغماء.
والثاني - وهو الصحيح، ولم يذكر في "التعليق" و "الشامل" غيره -: أنه إذا
طرأ الجنون - وإن قل في الصوم- أبطله؛ لأنه يسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض، ولأنه مناف لجميع العبادات، بخلاف الإغماء.

.[مسألة: انغماس الصائم في الماء]

يجوز للصائم أن يصب على رأسه الماء وينغمس فيه، ما لم ينزل إلى حلقه؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً، ثم يغتسل، ثم يصوم»
ويجوز للصائم أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. لم يفطر، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي.
وقال أحمد، وإسحاق: (يكره له أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. أفطر). وحكي عن ابن أبي ليلى، وابن شبرمة: أن الكحل يفطر.
دليلنا: ما روى أبو رافع قال: «نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ونزلت معه، فدعا بكحل إثمد، فاكتحل به في شهر رمضان وهو صائم»، وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره للصائم السعوط، ولم يكره له الكحل»
ولا يستحب للصائم الحجامة؛ لأنها تضعفه، فربما خرج إلى الإفطار وإن احتجم.. لم يفسد صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وأم سلمة، وابن مسعود، والحسن بن علي.
وذهبت طائفة إلى: أنه يفطر، وروي ذلك عن أبي هريرة، وعائشة، وهو قول الأوزاعي، وعطاء، والحسن.
وقال أحمد، وإسحاق: (يفطر الحاجم والمحجوم). واختاره ابن المنذر.
وعن أحمد في الكفارة روايتان.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم محرم»، ولأنه دم خارج من ظاهر البدن، فأشبه دم الفصد.

.[مسألة: العلك للصائم]

قال الشافعي: (وأكره العلك؛ لأنه يحلب الفم).
وجملته: أنه يكره للصائم مضغ العلك والكندر الذي إذا أصابه الماء والريق: اشتد؛ لأنه يجلب ريق الفم ويعطشه، فأما الكندر الذي يتهرى ويتفتت، فلا يجوز له
مضغه، فإن نزل شيء من ذلك إلى جوفه.. فطره، وإن نزل ريحه.. لم يفطره؛ لأن ذلك ليس بجسم، ويكره للصائم مضغ الخبز، فإن كان معه صبي يحتاج إلى مضغ الخبز له.. لم يكره؛ لأنه موضع ضرورة، فإن نزل إلى حلقه.. أفطر.

.[مسألة: القبلة للصائم]

ومن حركت القبلة شهوته، وخاف أن ينزل.. كرهت له وقال الشيخ أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: والكراهة كراهة تحريم، وإن لم تحرك شهوته.. لم يكره.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تكره القبلة للصائم بكل حال)
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تكره له بحال)
دليلنا: ما روي عن عائشة أُم المؤمنين: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل، ويباشر بعض نسائه، وهو صائم، وكان أملككم لإربه، فقيل: من هي إلا أنت؟ فضحكت».
وقد روي: (لإربه) - بالكسر-: وهو العضو، ومنه قولهم: (قطعته إرباً إربا).
وروي: (لأربه) - بالفتح -: وهو الحاجة.
وروى أبو هريرة: «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القبلة للصائم؟ فأباحها له، وسأله آخر عنها، فكرهها له». فيحمل ذلك على: أن الذي كرهها له شاب، والذي أباحها له شيخ.
ولأنه يؤمن الإنزال وإفساد الصوم به في حق الشيخ، والشاب الضعيف، ولا يؤمن ذلك في حق الآخر.

.[مسألة: مكروهات الصيام]

ويكره للصائم اللفظ القبيح، والمشاتمة، والغيبة أكثر مما تكره لغيره، فإن شاتمه غيره، قال: إني صائم؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه.. فليقل: إني صائم، إني صائم»
وحكى عن بعض الناس: أنه قال: لا يتلفظ به؛ لأنه يكون إظهاراً لعبادته؛ فيكون رياء، وإنما يقول ذلك في نفسه.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يحمل هذا على ظاهره، ويتكلم بذلك، ولا يقصد به الرياء، وإنما يقصد به كف الخصومة وإطفاء الشر بينهما، وإن خالف وشاتم.. لم يفطره، وهو قول كافة العلماء إلا الأوزاعي، فإنه قال: (يفطر بذلك)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يفطرن الصائم» فذكر منها الغيبة والنميمة والكذب.
دليلنا: أنه نوع كلام، فلا يفطر به، كسائر أنواع الكلام.
وأما الخبر: فالمراد به: أنه يسقط ثوابه، حتى يصير في معنى المفطر، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لأخيه والإمام يخطب: أنصت.. فلا جمعة له». ولم يرد: أن صلاته تبطل، وإنما أراد: أن ثوابه يسقط، حتى يصير في معنى من لم يصل.

.[مسألة: الوصال للصائم]

يكره الوصال في الصوم، وهو: ترك الأكل والشرب بالليل، وقد كان مباحاً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مكروه في حق غيره، وروي عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أنه كان يواصل) دليلنا: ما روى أنس، قال: «واصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فواصلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لو أن الشهر مد لي لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» فقيل: معنى هذا:
أني أعطى قوة الطاعمين والشاربين. وقيل: أطعم وأسقى من طعام الجنة، وإنما يقع الإفطار بطعام الدنيا. وقيل: معناه: أن محبة الله تعالى تشغلني عن الطعام والشراب، والحب البالغ قد يمنع من الطعام والشراب، وهل يكره كراهية تنزيه أو تحريم؟ فيه وجهان:
أحدهماظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كراهية تحريم؛ لأنه قال: (فرق الله بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم). وذكر عقيبه حديث الوصال، وكذلك ظاهر الحديث يدل على التحريم.
والثاني: من أصحابنا من قال يكره كراهية تنزيه؛ لأنه إنما نهى عنه لأجل المشقة بما يلحقه، وذلك غير متحقق، فلم يتعلق به التحريم.
فإن واصل.. كان صومه صحيحاً؛ لأن النهي لا يختص بالصوم، وإن أخر الإفطار، وواصل من سحر إلى سحر.. جاز؛ لما روى ابن المنذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فأيكم أراد أن يواصل.. فليواصل حتى السحر».

.[مسألة: سحور الصائم]

يستحب للصائم أن يتسحر؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استعينوا بنوم النهار على قيام الليل، وبأكل السحور على صيام النهار»
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تسحروا، فإن في السحور بركة».
ويستحب تأخير السحور إذا تحقق بقاء الليل، وتعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس؛ لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسحر هو وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما فرغا.. قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، فقيل لأنس: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية»
وروى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أُمتي بخير ما عجلوا الفطر»، ولأن في ذلك مخالفة لليهود والنصارى؛ لأنهم يؤخرون الفطر، ولأن الفطر يحصل بغروب الشمس، فلا معنى لتأخير الأكل.
ويستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد.. فعلى الماء؛ لما روى سلمان بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فليفطر على التمر، فإنه بركة، فإن لم يجد.. فعلى الماء، فإنه طهور»
وروى أنس قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن.. فعلى تمرات، فإن لم تكن.. حسا حسوات من ماء»
ويكره للصائم إذا شرب الماء أن يتمضمض ويمج ذلك، ويستحب أن يدعو عند إفطاره، فيقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت؛ لما روى أبو هريرة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بذلك عند إفطاره)
وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه كان يقول عند إفطاره: (يا واسع المغفرة، اغفر لي)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر.. قال: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى»
ويستحب أن يفطر الصائم؛ لما روى زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فطر صائما.. كان له مثل أجره، ولا ينقص من أجر الصائم شيء»

.[مسألة: قضاء الصوم]

إذا كان عليه قضاء من أيام شهر رمضان.. فإن وقت القضاء فيما بينه وبين شهر رمضان الذي بعده، فالمستحب: أن يقضيه في أول ما يمكنه، فإن أخره حتى دخل رمضان آخر، فإن دام عذره بأن كان مسافراً أو مريضا حتى دخل الشهر الثاني.. صام رمضان، ثم يقضي عن الأول بعد رمضان، ولا شيء عليه.
وقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: (يطعم ولا يقضي)
دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يسقط إلى الإطعام مع القدرة على فعله، كالأداء.
وإن لم يكن له عذر في التأخير.. فإنه يصوم رمضان، ثم يقضي ما عليه بعده، ويلزمه مع القضاء عن كل يوم مد، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة (يقضي، ولا شيء عليه).
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان لمرض، ثم لم يقض حتى جاء رمضان آخر.. صام الذي أدرك، ثم قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً»
واعتمد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها على إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن هذا الخبر فيه ضعف.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة: أنهم قالوا: (إذا أخر القضاء حتى جاء رمضان آخر.. فعليه الكفارة). ولا مخالف لهم.
وإن أخره سنتين أو ثلاثاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب لكل سنة مد، قياسا ًعلى السنة الأولى.
والثاني: لا يجب؛ لأن الكفارة وجبت للتأخير فيما بين رمضانين، فلا تجب الفدية بتأخير سنة أخرى.

.[مسألة: استحباب التتابع في القضاء]

والمستحب: أن يقضي ما عليه متتابعاً.
وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان عليه صوم من رمضان.. فليسرده ولا يقطعه» ولأن فيه مبادرة إلى أداء الفرض، ولأنه أشبه بالأداء، فإن قضاه متفرقاً.. جاز، وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، ومعاذ، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي.
وقال علي، وابن عمر، وعائشة: (التتابع واجب) وبه قال الحسن البصري،
وعروة، والنخعي، وداود، إلا أن داود قال: (التتابع ليس بشرط في القضاء).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. ولم يفرق.
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان عليه شيء من رمضان.. فليصمه إن شاء.. متتابعا، وإن شاء.. متفرقا».
وإن كان عليه قضاء اليوم الأول من شهر رمضان، ونوى القضاء عن اليوم الثاني.. فقد خرج الشيخ أبو إسحاق فيها وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأن تعيين اليوم غير واجب.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه، فهو كما لو كان عليه عتق عن كفارة اليمين، فنوى العتق عن كفارة الظهار.