فصل: (فرع: قلع المستعير الغراس)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: الرجوع عن الأرض المعارة للبناء]

وإن أعاره أرضا ليبني فيها، أو تغرس، فبنى فيها، أو غرس، ثم رجع المعير عن العارية، أو كانت العارية مقدرة بمدة.. فليس للمستعير أن يبني ويغرس فيها بعد الرجوع، ولا بعد انقضاء المدة؛ لأنه إنما ملك ذلك بالإذن، وقد زال الإذن، فإن غرس بعد ذلك.. كان كما لو غصبها، فغرس فيها، أو بنى، على ما سيأتي في (الغصب) وأما ما غرس وبنى قبل الرجوع، وقبل انقضاء المدة.. فهل يلزمه قلعه؟ ينظر فيه:
فإن شرط المعير على المستعير قلع البناء والغراس عند الرجوع، أو عند انقضاء المدة.. لزمه قلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم». وإذا قلع.. لم يكن له أن يطالب المعير بما نقص البناء والغراس بالقلع، ولا المعير أن يطالبه بتسوية الأرض من آثار القلع؛ لأن كل واحد منهما قد رضي على نفسه بما يدخل عليه من الضرر بذلك لما شرط القلع.
وإن لم يشرط عليه القلع.. نظرت:
فإن كانت قيمة الغراس والبناء لا تنقص بالقلع.. لزم المستعير أن يقلع؛ لأنه يمكن رد الأرض المعارة فارغة من غير إضرار بالمستعير وهل يلزمه تسوية الأرض؟ يحتمل أن يكون على وجهين يأتي ذكرهما.
وإن نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع، فإن اختار المستعير أن يقلعه.. كان له ذلك، ولا يمنعه المعير منه؛ لأنه عين ماله، وهل يلزم المستعير تسوية الأرض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه ذلك؛ لأنه لما أذن له بالغراس والبناء.. تضمن ذلك الرضا بحفر الأرض عند القلع؛ لأنه يعلم أن له أن يقلع.
والثاني: يلزمه ذلك؛ لأن ذلك حصل برضا المستعير، بدليل: أنه لو امتنع من القلع.. لم يجبر عليه.
وإن لم يختر المستعير القلع.. كان المعير بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يبذل قيمة الغراس والبناء قائما ويتملكه، أو يقلعه ويدفع أرش ما نقص بالقلع، أو يطالبه بأجرة الأرض؛ لأن الضرر يزول عن المستعير بذلك.
فإن بذل المستعير قيمة الأرض ليتملكها مع الغراس والبناء.. لم يجبر المعير على ذلك لأن الأرض لا تتبع الغراس والبناء، بدليل: أنه لو باعه غراسا، أو بناء في الأرض.. لم تدخل الأرض في البيع، والبناء والغراس يتبعان الأرض، بدليل: أنه لو باعه أرضا فيها بناء، أو غراس.. دخلا في البيع.
فإن طلب المعير أجرة الأرض من المستعير، فامتنع المستعير من بذل الأجرة.. فهل يلزمه قلع البناء والغراس؟ فيه وجهان، حكاهما في "المهذب":
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان.
والثاني: يلزمه؛ لأن بعد الرجوع لا يجوز له الانتفاع من غير أجرة.
وإن لم يبذل المعير قيمة الغراس والبناء، ولا أرش النقص، ولا رضي بالأجرة، وطالب بقلع الغراس والبناء.. لم يجبر المستعير على القلع، سواء كانت الإعارة مطلقة أو مقيدة بمدة.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الإعارة مطلقة.. فله مطالبته بقلعه أي وقت شاء، ولا ضمان على المعير، وإن كانت مقيدة.. فليس له مطالبته بالقلع قبل انقضاء المدة من غير ضمان) دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق». وهذا غير ظالم، فوجب أن يكون له حق.
ولأنه غرس مأذون فيه، ولم يشرط عليه القلع، فلم يلزمه القلع من غير عوض، كما لو كانت العارية مؤقتة.
إذا ثبت هذا: ولم يبذل المعير العوض، ولا رضي المستعير بالقلع.. فإن الغراس يقر في الأرض، فإن اتفقا على البيع.. بيعا، ويقسم الثمن بينهما على قيمة الغراس والأرض، فيقوم الغراس قائما وهو في غير ملك الغارس، ثم تقوم الأرض وفيها الغراس، ولا يكون الغراس داخلا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، وإن امتنعا من البيع.. أقر الغراس، ويقال لهما: انصرفا، فلا حكم لكما عندنا حتى تصطلحا على شيء، وللمعير أن يدخل إلى أرضه، ويغرس، ويزرع في بياضها، ويستظل تحت غرس المستعير؛ لأنه ملكه، ولكن لا يستند إلى جذوع غرس المستعير، وإن أراد بيع أرضه من المستعير وغيره.. كان له ذلك؛ لأنهما ملكه.
وأما المستعير: فإن أراد دخول الأرض للتفرج والاستراحة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الأرض للمعير، وقد رجع في عاريتها، وإن أراد دخولها لسقي الشجر، وأخذ الثمرة، وإصلاحها.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المعير قد رجع في عارية الأرض، ولم يبق للمستعير إلا إقرار الغراس في مواضعه، فلم يكن له التخطي في ملك غيره.
والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الإعارة للغراس تقتضي التأبيد، ولا يحصل التأبيد فيها إلا بالسقي، والإصلاح.
وإن باع المستعير غراسه من مالك الأرض.. صح بيعه، وجها واحدا، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه عليه غير مستقر؛ لأن للمعير أن يبذل قيمته ويتملكه، فلم يصح بيعه من غيره.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه باع ملكه، وجواز انتزاعه لا يمنع صحة البيع، كما لو اشترى شقصا فيه شفعة، فباعه.

.[فرع: قلع المستعير الغراس]

إذا أذن في غراس شجرة، فغرسها، فانقلعت.. فهل له أن يعيد غرسها في موضعها من غير إذن؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الإذن اختص بالأولى.
والثاني: له ذلك؛ لأن الإذن قائم ما لم يرجع عنه.

.[فرع: حمل السيل الحب إلى أرض الجار]

إذا كان لرجل حب حنطة أو شعير، أو جوز، أو لوز، أو نوى، أو شجر، فحمله السيل أو الريح إلى أرض غيره، فنبت.. فإنه يكون ملكا لصاحب الحب؛ لأنه عين ماله، وإنما زاد، فصار كما لو كان له بيض فحضنته دجاجة لغيره، وفرخ.
فإن أراد صاحب الشجر قلعه من أرض غيره.. كان له ذلك، ولزمه تسوية ما حصل في الأرض من الحفر؛ لأنه حصل لتخليص ملكه، فهو كما لو كان له فصيل، فدخل إلى دار غيره، وكبر، ولم يقدر على إخراجه إلا بنقض الباب.. فإنه ينقض الباب لإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب.
وإن طالب صاحب الأرض صاحب الشجر بقلعه من غير ضمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن مالك الشجر غير مفرط في إنباته بأرض غيره، فصار كما لو استعار منه أرضا، فغرس فيها.
فعلى هذا يكون: حكمه حكم العارية في ضمان العوض، وهو أن مالك الأرض بالخيار: بين أن يبذل لمالك الشجر قيمته فيتملكه، أو يقلعه ويضمن أرش ما نقص بالقلع، أو يقره في الأرض ويطالبه بأجرة أرضه.
والثاني: أن مالك الشجر يجبر على قلعه، ولا يلزم مالك الأرض له عوض، وهو الصحيح؛ لأنه حصل في الأرض بغير اختيار مالك الأرض، فصار كما لو انتشرت أغصان شجرته إلى هواء أرض غيره، فإذا قلع الشجر.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه.

.[فرع: طلب المعير الأرض قبل الحصاد]

وإن أعاره أرضا ليزرع فيها، فزرع فيها، فرجع المعير في الأرض قبل أن يبلغ الزرع وقت الحصاد.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الغراس فيما ذكرناه، من التبقية، والقلع، والأرش.
والثاني: أنه يجبر المعير على تبقيته إلى الحصاد بأجرة المثل؛ لأن له وقتا ينتهي إليه.. بخلاف الغراس.

.[مسألة: استعار الجدار ليثبت فيه خشبه]

إذا استعار منه حائطا ليضع عليه الخشب في التسقيف.. جاز؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه يراد للبقاء، فجازت العارية له، كاستعارة الأرض للغراس والبناء، فإن رجع المعير في العارية قبل وضع الجذوع.. صح الرجوع؛ لأنه لا ضرر على المستعير في الرجوع.
قال ابن الصباغ: وهكذا: إذا رجع بعد وضع الجذوع وقبل البناء عليها.. صح الرجوع، ووجب، على المستعير رفعها؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
وإن وضع الجذوع، وبنى عليه، ثم رجع المعير.. فهل له أن يطالبه بقلعها، ويضمن له أرش ما يدخل عليه من النقص؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي:
أحدهما ـ قال في "الفروع": وبه الفتوى ـ: أن ذلك كما قلنا فيمن أعار غيره أرضا للبناء أو الغراس، فبنى فيها، أو غرس.
والثاني ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره ـ: ليس له ذلك؛ لأنه إذا قلعها.. انقلع ما في ملك المستعير، وليس له أن يقلع شيئا من ملك المستعير بضمان القيمة، بخلاف الغراس، فإن قال المعير: أنا أدفع قيمة الأجذاع وأتملكها.. لم يكن له ذلك، والفرق بينهما وبين الغراس: أنه إذا دفع قيمة الغراس.. انتفع به؛ لأنه في ملكه، وهاهنا لا ينتفع بما يدفع عنه القيمة، وهو أطراف الأجذاع؛ لأن أطرافها الأخرى في ملك المستعير. قال الصيدلاني: وإن استعار من جاره حائطين، فوضع عليهما خشب ساباط.. فللمعير أن يرجع بشرط أن يضمن النقص؛ لأن الحائطين له، فلا ضرر على المستعير بذلك، بخلاف ما إذا كان أحد الحائطين للمستعير.
فإن انهدم الحائط المعار.. قال ابن الصباغ: فإن بناه المعير بغير آلته الأولى.. لم يكن للمستعير رد الأخشاب عليه بغير إذنه، وإن بناه بآلته الأولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: له أن يعيد خشبه بغير إذنه، لأن العارية تقتضي التأبيد.
والثاني: ليس له أن يعيدها بغير إذنه، وهو الصحيح؛ لأنه إنما لم يكن له الرجوع قبل الانهدام؛ لأن على المستعير الضرر بذلك، وهاهنا لا ضرر عليه.
وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي الوجهين: إذا انهدم الحائط فأعيد، من غير تفصيل.
قال المحاملي: وكذلك إذا هدمه صاحبه.
وهكذا الوجهان: إذا سقطت الجذوع ولم تنكسر.. فهل له إعادتها بغير إذنه؟ على الوجهين، وإن انكسرت تلك الأجذاع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": ليس له إعادة مثلها، وذكر ابن الصباغ: أنها على الوجهين الأولين.

.[فرع: جهل كيفية وضع الجذور على الحائط]

وإن وجدت أجذاع لرجل على حائط غيره، أو شجرة في أرض غيره، ولم يعرف سبب ذلك.. لم يكن له المطالبة بقلع ذلك؛ لأن الظاهر أنها وضعت بملك، وإن انقلعت، أو قلعها.. كان له إعادة مثل ذلك، وجها واحدا، وقد ذكرناه.

.[فرع: استعارة أرض لدفن أو حفر بئر]

وإن أعار أرضه لدفن ميت، فدفن فيها.. لم يكن له المطالبة بإخراجه؛ لأن الميت لا يحول، ولأن في ذلك هتكا لحرمته. وإن استعار منه أرضا ليحفر فيها بئرا، أو مدفنا.. صحت العارية؛ لأنها منفعة تملك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كسائر المنافع. فإذا نبع الماء.. جاز له أخذه؛ لأن الماء يستباح بالإباحة؛ فإن رجع المعير في العارية بعد الحفر.. فهل يصح رجوعه؟
لا أعرف فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنه يبن على القولين في العمل من المفلس، هل هو كالعين، أو ليس كالعين؟
فإنه قلنا: إنه كالعين.. لم يملك الرجوع إلا بشرط أن يضمن له قيمة عمله.
وإن قلنا: إنه ليس كالعين.. كان له الرجوع من غير ضمان قيمة العمل.

.[مسألة: استعار شيئا ليرهنه]

إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بدين عليه، فرهنه.. ففيه قولان:
أحدهما: أن حكمه حكم العارية، وليس بضمان؛ لأنه قبض ملك غيره بإذنه لينفرد بمنفعته، فكان عارية، كما لو استعاره للخدمة، ولأن الضمان: ما تعلق به الحق بذمة الضامن، وهاهنا لم يتعلق بذمة مالك العبد حق، فلم يكن ضمانا.
والقول الثاني: أن حكمه حكم الضمان، وهو اختيار الشاشي، وهو الأصح؛ لأن العارية ما أفادت المنفعة للمستعير، وهاهنا منفعة العبد للسيد، فثبت أنه ضمان، ولأن أعيان الأموال تحل محل الذمم بدلالة جواز التصرف فيها، كجوازه في الذمة، فلما جاز أن يضمن الإنسان حقا في ذمته.. جاز أن يضمنه في عين ماله.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن حكمه حكم العارية.. فهل يصح عقد الرهن عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما قال أبو العباس: لا يصح الرهن؛ لأن العارية عقد جائز، والرهن عقد لازم، فلا يجوز أن يستباح بالعقد الجائز العقد اللازم.
والثاني: قال سائر أصحابنا: يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه عارية غير لازمة؛ لأن للمعير أن يطالبه بفكه أي وقت شاء، ولأن العارية قد تكون لازمة، وهو إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذعا، فوضعه، وبنى عليه.
فإذا قلنا بهذا: فرجع مالك العبد عن العارية، فإن كان قبل الرهن، أو بعد الرهن وقبل أن يقبضه المرتهن.. صح رجوعه، ولا يصح رهنه ولا قبضه بعد ذلك؛ لأن العارية قد بطلت بالرجوع، وإن رجع بعد الرهن والإقباض..لم ينفسخ الرهن؛ لأنه قد لزم بالقبض، ولا يفتقر على هذا القول إلى تعيين قدر الدين وجنسه ومحله عند العارية؛ لأن العارية تصح لمنفعة مطلقة ومقيدة، إلا أنه إن ذكر جنس الدين، وحلوله، أو أجله.. لم يجز أن يرهنه بغير ذلك الجنس، ولا أن يرهنه، بخلاف ما عينه عند العارية، من الحلول، أو التأجيل؛ لأنه أذن له في انتفاع مخصوص، فلم يجز له أن ينتفع به في غير ذلك، ولأنه قد يكون على المالك ضرر في المخالفة، وهو أنه إذا أذن له ليرهنه في الدراهم، فرهنه بالدنانير.. فربما كانت الدراهم أسهل في القضاء، وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه بمؤجل.. فلأن المالك لم يرض بأن يحال بينه وبين عبده إلى الأجل، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه بدين حال.. فربما لا يجد الراهن الدين حالا، فيباع العبد بالدين، فيؤدي ذلك إلى إضرار بمالك العبد لم يرض به.
وإن أذن له ليرهنه بمائة درهم، فرهنه بخمسين درهما.. صح؛ لأن الخمسين تناولها الإذن، وإن رهنه بمائتين.. ففيه طريقان:
الأول: من أصحابنا من قال: هل يصح رهنه بالمائة المأذون فيها؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
والثاني: منهم من قال: لا يصح رهنه بها، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه خالفه في إذنه، فلم يصح تصرفه، كما لو قال لوكيله: بع هذا العبد، فباعه مع عبد آخر للموكل.. فلا يصح بيع واحد منهما.
وإن قلنا: إن حكمه حكم الضمان.. لم يصح حتى يبين جنس الدين وقدره ومحله عند العارية؛ لأن الضمان لا يصح في غير معلوم، فإن أذن له ليرهنه بدين مقدر من جنس إلى أجل مقدر، أو حال.. لم يجز رهنه بغير ذلك، إلا أن يرهنه بأقل من القدر المأذون فيه، بأن يأذن له في أن يرهنه بمائة درهم، فيرهنه بخمسين درهما، فيصح؛ لما ذكرناه.

.[فرع: أعاره عبدا ليرهنه بدين حال]

وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه به.. فللسيد مطالبته بفكاكه على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فللمعير أن يرجع متى شاء، وإن قلنا: إنه ضمان.. فله مطالبته بتخليص عبده؛ لئلا يباع، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه به.. فهل له مطالبته بفكاكه قبل الحلول؟
إن قلنا: إنه عارية... فله مطالبته؛ لأن للمعير أن يرجع في العارية المؤقتة قبل انقضائها.
وإن قلنا: إنه ضمان.. لم يكن له المطالبة بفكاكه قبل الأجل، كما لو ضمن عنه دينا إلى أجل.. فليس له مطالبة المضمون عنه بتخليصه قبل الأجل.
إذا ثبت هذا: فإن قضى الراهن الدين من ماله انفك الرهن، ووجب عليه رده إلى مالكه، وإن لم يقض الدين وحل الأجل ولم يكن معه ما يقضي به الدين.. بيع العبد في الدين، وبماذا يرجع السيد على المستعير؟ ينظر فيه:
فإن بيع العبد بقيمته.. رجع عليه السيد بقدر قيمته، أو بالدين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فالعارية تضمن بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. فالضامن يرجع بالدين الذي غرمه.
وإن بيع بأقل من قيمته مما يتغابن الناس بمثله، فإن قلنا: إنه عارية.. رجع عليه بكمال قيمته؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به العبد؛ لأنه هو القدر الذي غرمه.
فإن بيع بأكثر من قيمته، فإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به، وإن قلنا: إنه عارية.. ففيه وجهان:
أحدهما: قال عامة أصحابنا: يرجع عليه بقيمته لا غير؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها.
والثاني: قال القاضي أبو الطيب: يرجع عليه بجميع ما بيع به وحكى ذلك ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن ثمن العبد ملك لصاحبه، ولهذا لو أسقط المرتهن حقه من الرهن.. كان جميع الثمن للسيد. وإن أراد المالك بيع العبد.. قال الطبري: فإن قلنا: إنه عارية.. فله ذلك، وإن قلنا: إنه ضمان.. فليس له ذلك.

.[فرع: تلف العارية في يد المرتهن]

وإن تلف العبد في يد المرتهن بغير تفريط منه، أو جنى، فبيع في الجناية، فإن قلنا: إنه ضمان.. لم يرجع السيد على المستعير بشيء؛ لأنه لم يقض عنه شيئا، وإن قلنا: إنه عارية.. رجع السيد على المستعير بقيمة العبد.

.[فرع: قضاء سيد العبد الدين]

فإن قضى سيد العبد الدين عن المستعير.. صح قضاؤه؛ لأنه يجوز أن يقضي عن غير دينه، وينفك الرهن، كما لو قضاه الراهن، فإن قضاه بغير إذن الراهن. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالتفضل عنه، وإن قضاه بإذنه.. كان له أن يرجع عليه؛ لأنه ضمن بإذنه، وقضى بإذنه، فإن كان الحق مؤجلا، فاستأذنه السيد في قضائه وتعجيله، فقضاه عنه معجلا.. كان له أن يرجع في الحال، فإن اختلفا في الإذن.. فالقول قول الرهن؛ لأن الأصل عدم الإذن، فإن شهد المرتهن للسيد في إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا)

.[مسألة: رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين العبد المستعار]

إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجلين، عند كل واحد منهما نصفه بخمسين، بعقد واحد.. صح، فإن قضى أحدهما خمسين..انفك نصف العبد؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين.
وهكذا: إذا استعار رجلان من رجل عبدا ليرهناه بمائة، فرهناه عند رجل بمائة بعقد واحد، فقضاه أحدهما خمسين.. انفك نصف العبد؛ لم ذكرناه.
وإن استعار رجل من رجلين عبدا بينهما نصفين، ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجل بمائة دينار، فدفع إليه خمسين لينفك نصيب أحدهما.. ففيه قولان:
أحدهما: لا ينفك منه شيء لأن الراهن واحد، والمرتهن واحد، والحق واحد.. فلم ينفك بعضه بقضاء بعض الدين، كما لو استعاره من واحد.
والثاني: ينفك نصف؛ لأن كل واحد منهما لم يأذن في رهن نصيبه إلا بخمسين. فإذا قلنا بهذا: نظر في المرتهن:
فإن علم أن العبد لسيدين.. فلا خيار له في البيع إن كان الرهن مشروطا في بيع؛ لأنه دخل على بصيرة.
وإن لم يعلم فهل له الخيار في البيع؟ قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأنه حصل له رهن جميع العبد، وإنما انفك بعضه بالقضاء بعد ذلك.
والثاني: له الخيار؛ لأنه دخل في البيع على أن لا ينفك شيء من الرهن إلا بقضاء جميع الدين، ولم يحصل له ذلك.

.[مسألة: اختلاف راكب الدابة وصاحبها]

إذا دفع إلى رجل دابة، فركبها، ثم اختلفا: فقال مالك الدابة: أكريتكها إلى موضع كذا، بكذا وكذا، وقال الراكب: بل أعرتنيها.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.
فإن كانت باقية.. نظرت:
فإن كان اختلافهما عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول الراكب مع يمنيه: إنه ما استأجرها، بلا خلاف؛ لأن مالك الدابة يدعي على الراكب عقد الإجارة، والأصل عدمها، فيحلف الراكب، وترد الدابة.
وإن كان اختلافهما بعد أن مضى زمان لمثلها أجرة.. فقد قال الشافعي في " المختصر،"[3/33]، و"الأم" [3/218] (القول قول الراكب مع يمينه)، وقال في (المزارعة) [من "الأم" 3/247] (إذا دفع رجل إلى آخر أرضا، فزرعها، ثم اختلفا: فقال المالك: أكريتكها بكذا، وقال من بيده الأرض: بل أعرتنيها.. فالقول قول مالك الأرض). واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين:
فـالأول: منهم من حملهما على ظاهرهما، وقال: إذا اختلفا في الدابة فالقول قول الراكب، وإذا اختلفا في الأرض.. فالقول قول مالك الأرض، وفرق بينهما: بأن العادة قد جرت بأن الناس يعيرون دوابهم للركوب، فكان القول قول الراكب؛ لأن الظاهر معه، ولم تجر العادة أن الناس يعيرون أراضيهم للزراعة، وإنما يكرونها، فكان القول قول المالك؛ لأن؛ الظاهر معه.
والطريق الثاني منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين، وبه قال عامة أصحابنا، وهو الصحيح:
أحدهما: أن القول قول المالك، وهو قول مالك، واختيار المزني؛ لأن المنافع تجري مجرى الأعيان: بدليل: أنه يصح العقد عليها، وتضمن بالغصب، وتصح الوصية بها، كالأعيان، ثم لو اختلفا في عين الدابة والأرض: فقال من هي بيده: وهبتنيها، وقال المالك: بل بعتكها.. فالقول قول المالك، فكذلك هذا مثله.
والثاني: أن القول قول الراكب، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على: أن المنافع تلفت في يد الراكب وملكه، وصار المالك يدعي عليه عوض المنافع، وهو منكر، فكان القول قول المنكر كما لو كان في يده دار، وأقر غيره له بها، وادعى عليه أنه باعها منه، وأنكر من بيده الدار البيع.. فالقول قوله مع يمينه، ويخالف إذا اختلفا في هبة الدار وبيعها؛ لأن هناك اتفقا على: أن الملك لمن انتقلت منه، واختلفا في كيفية خروجه منه، فكان القول قول المالك في كيفية خروجه منه، وهاهنا المنفعة قد حكم أنها قد حدثت في ملك الراكب ويده، وادعى عليه المالك عوضا الأصل عدمه.
فإن قلنا: القول قول مالك.. نظرت:
فإن حلف.. استحق الأجرة، وأي أجرة يستحق؟ فيه وجهان:
أحدهما: الأجرة المسماة التي ادعاها؛ لأنه قد حلف عليها.
والثاني: يستحق أجرة المثل، وهو المنصوص في "الأم" [3 218]؛ لأنهما لو اتفقا على عقد الإجارة، واختلفا في قدر الأجرة.. لم يستحق المسمى، فبأن لا يستحق المسمى، ولم يتفقا على قدر الإجارة أولى.
ويحتمل أن يكون فيها وجه ثالث: وهو أنه يستحق أقل الأمرين، من المسمى، أو أجرة المثل؛ لأنه إن كان المسمى أكثر.. لم يستحق الزيادة عليه؛ لأنه لا يجوز أن يستحق ذلك بدعواه أو يمينه، وإن كانت أجرة المثل أكثر.. لم يستحق الزيادة على المسمى؛ لأنه لا يدعيها.
فإن نكل المالك عن اليمين.. لم يحلف الراكب يمين الرد، وأنه أعاره إياه؛ لأنه لا يدعي شيئا، فيحلف عليه.
قال الطبري في "العدة": فإن أراد المالك استحلاف الراكب: أنه ما أستأجرها منه.. كان له ذلك، كما لو ادعى على رجل دينا، وأقام شاهدا واحدا.. فإن له أن يحلف مع شاهده، وله أن لا يحلف مع شاهده، ويستحلف خصمه: أنه لا يستحق عليه الدين، كذلك هذا مثله.
وإن قلنا: القول قول الراكب.. نظرت:
فإن حلف: إنه ما استأجرها.. سقطت عنه المطالبة.
وإن نكل عن اليمين.. ردت على المالك، فإن حلف.. فقد قال عامة أصحابنا: استحق الأجرة المسماة التي ادعاها، وجها واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه، أو محل البينة عليه، وأيهما كان.. فإن المسمى يثبت به. وقال المحاملي: فيما يستحقه من الأجرة الوجهان الأولان.
وإن اختلفا بعد تلف الدابة.. نظرت:
فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة، فإن المالك ادعى عقد
الإجارة ـ ولو صح عقدها.. لانفسخت بموت الدابة عقيب الدفع ـ فلا تصح دعواه للأجرة؛ لأن الراكب يقر له بقيمة الدابة، وهو لا يدعيها. قال الشيخ أبو حامد: فيقال لمالك الدابة: قد أقر لك بقيمة الدابة، فإن شئت.. فصدقه أنك أعرته الدابة، وخذ قيمتها منه، وإن لم تصدقه.. فلا شيء لك.
وإن تلفت الدابة بعد أن مضت مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أجرة ما مضى، ولا يدعي القيمة، والراكب ينكر الأجرة، ويقر له بالقيمة، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: ينظر فيه:
فإن كانت الأجرة والقيمة سواء.. فإن الحاكم يأخذ ذلك من الراكب، ويدفعه إلى المالك من غير يمين؛ لأنهما قد اتفقا على استحقاق مالك الدابة لذلك، وإن اختلفا في سببه، فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة.. ألزمه الحاكم دفع قدر الأجرة، وقيل للمالك: أنت لا تدعي الزيادة على قدر الأجرة، فإن أردت أن تستحقه.. فأقر أنك أعرته، ولم تؤاجره، وإن كانت الأجرة أكثر من القيمة.. ألزمه الحاكم أن يدفع إليه قدر القيمة، وكان الحكم في الزيادة على الطريقين إذا كانت الدابة باقية.
ومنهم من قال: يسقط إقراره بالقيمة؛ لأنه أقر بها لمن لا يدعيها، والمالك يدعي الأجرة، والراكب ينكر، ومن القول قوله؟ على الطريقين إذا كانت الدابة باقية.