فصل: (مسألة: شرط أهلية الإعارة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[كتاب العارية]

العارية: إباحة الانتفاع بعين من الأعيان. قال ابن الصباغ: وهي مشتقة من عار الشيء: إذا ذهب، ومنه قيل للغلام البطال: عيار.
والأصل في ثبوتها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وفي العارية إعانة.
وقَوْله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]] (6) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. قال ابن مسعود: (الماعون: إعارة الدلو، والقدر، والميزان). وروى عن علي، وابن عمر: (أن الماعون الزكاة).
وأما السنة: فروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة والزعيم غارم».
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر لم يؤد حقها، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ـ وروى: قرق ـ تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما فني أولاها.. عادت إليه أخراها". فقيل: يا رسول الله. وما حقها؟ قال: «إعارة دلوها، ومنحة لبنها يوم وردها، وإطراق فحلها». والقرق: المستوي. قال الشاعر:
كأن أيديهن بالقاع القرق ** أيدي جوار يتعاطين الورق

و(القرقر): مثله.
وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عارية مضمونة مؤداة».
وأجمع المسلمون على جواز العارية.
وأما القياس: فلأنه لما جاز هبة الأعيان.. جاز هبة منافعها.

.[مسألة: شرط أهلية الإعارة]

ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، كما لا تصح هبة الأعيان إلا من جائز التصرف في المال، ولا تصح العارية إلا في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها، كالدور، والأرض، والفحل للضراب، والسلاح، وما أشبه ذلك؛ لأن الخبر ورد بإعارة الدلو، والفحل، والدروع، وهذه الأشياء يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها، وقسنا عليها أمثالها.
وهل تصح إعارة الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان؟ فيه وجهان، بناء على جواز إجارتها لذلك.
وفي جواز إعارة ذوات الأمثال، كالطعام، والدهن، وما أشبهه لغير إتلافها وجهان.
فأما ما لا ينتفع به إلا بإتلاف لعينه، كاستعارة الهربس، والعصيد للأكل.. فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلاف عينه في الحال، وذلك خارج عن مقتضى حكم العارية.

.[فرع: ما يعار من الحيوان]

ويجوز إعارة الحيوان للخدمة، وللركوب، وما أشبهه، كما يجوز إجارته لذلك، ويجوز إعارة الكلب للصيد، كما يجوز إعارة الفحل للضراب، ولا يجوز إعارة الجارية للوطء؛ لأن الوطء لا يكون إلا في ملك أو نكاح. قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير محرم لها للخدمة؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو بها، فيواقعها.
وذكر في "الفروع"، والصيدلاني: أنه يكره إعارتها، فإن كانت كبيرة، أو صغيرة، أو قبيحة.. جاز إعارتها؛ لأنه يؤمن مواقعتها.
ولا يجوز إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لأنه لا يجوز له استخدامه.
ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لأنه يكره له استخدامه.

.[فرع: ليست المنحة إعارة]

قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز استعارة الشاة ليحلبها، ولا إعارة الأشجار لأخذ ثمرتها، كما لا يجوز إجارتها لذلك.
وقال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم»، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة ورق أو هدى زقاقا، أو سقى لبنا.. كان له كعدل رقبة، أو نسمة». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة وكوفا.. فله كذا وكذا».
و(الوكوف): غزيرة اللبن. قال أبو عبيد: وللعرب أربعة أسماء تضعها موضع اسم العارية، وهي: المنحة. والعرية، والإفقار، والإخبال.
فـ (المنحة): أن يمنح الرجل الرجل ناقة أو شاة: فيحتلبها زمانا، ثم يردها.
و(العرية): أن يعري الرجل الرجل ثمرة نخلة من نخيله، فيكون له الثمر عامه ذلك.
و(الإفقار): أن يعطيه دابته، فيركبها ما أحب في سفر، أو حضر، ثم يردها عليه.
و(الإخبال): أن يعطيه ناقته، فيركبها، ويجتز وبرها، ثم يردها.
قال ابن الصباغ: ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، بل يكون إباحة للبن وثمر الشجر؛ لأن الإباحة تصح في الأعيان.
ولا يجوز للمحرم أن يستعير صيدا، كما لا يجوز له تملكه، فإن خالف واستعاره، وتلف في يده.. لزمه الجزاء لحق الله تعالى، والقيمة لمالكه. وإن استعار
محل من محرم صيدا، فإن قلنا: إن ملك المحرم لا يزول عن الصيد.. جاز، ويضمنه بالقيمة، وإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. فقد وجب عليه إرساله، فإذا دفعه إلى المحل.. لم يسقط عنه بذلك ما وجب عليه من الإرسال، ولا يضمنه المستعير بالقيمة للمعير؛ لأنه ليس بملك له، ولا بالجزاء؛ لأنه مأذون له في إتلافه، فإن تلف الصيد في يد المستعير.. وجب على المحرم الجزاء.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أودع محل صيدا عند محرم، فتلف في يده لم.. يلزمه الجزاء؛ لأنه لم يمسكه لنفسه، وإنما أمسكه للمالك.

.[مسألة: صيغة العارية]

ولا تنعقد العارية إلا بالإيجاب والقبول كما نقول في هبة الأعيان، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر، بأن يقول: أعرني، فيسلمها إليه المالك، أو يقول المالك: أعرتك، فيقبضها الآخر، كما نقول في إباحة الطعام.

.[مسألة: يد المستعير يد ضمان]

قال الشافعي: (وكل عارية مضمونة على المستعير وإن تلف من غير تفريط).
وهذا كما قال: إذا قبض المستعير العين المستعارة، فتلف في يده.. فهل يجب عليه ضمانها؟ اختلف الناس فيها على خمسة مذاهب:
فـالأول: ذهب الشافعي إلى: أنها مضمونة على المستعير، سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط، وسواء شرط ضمانها أو أطلق.
وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وبه قال عطاء وأحمد، وإسحاق.
والمذهب الثاني قال ربيعة: العارية مضمونة على المستعير، إلا أن تكون حيوانا، فيموت، فلا ضمان عليه.
والمذهب الثالث قال مالك، وعثمان البتي: (العارية مضمونة على المستعير، إلا أن يكون حيوانا، فلا يضمنه بحال سواء مات حتف أنفه، أو تلف تحت يد المستعير من غير تفريط بنهب، أو غيره).
والمذهب الرابع قال قتادة، وعبيد الله بن الحسن العنبري: إن شرط ضمانها... كانت مضمونة على المستعير، وإن لم يشرط.. كانت أمانة في يده.
والمذهب الخامس قال شريح، والنخعي، والحسن البصري، والثورى، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه: (العارية أمانة في يد المستعير لا يضمنها إلا إذا فرط في تلفها).
دليلنا: ما روى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت» وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية في شركه ثلاثين درعا ـ وقيل: مائة درع ـ يوم حنين، فقال: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعتك إياه لم تغصبني عليه فقال: لا»
فمعنى قول صفوان: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعنك إياه لم تغصبني عليه؟ فقال: «لا».
وروى أنس: «أن امرأة من نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعارت قصعة، فذهبت، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغرمها».
ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه لا على وجه الوثيقة، فضمنه، كالمغصوب.
فقولنا: (مال لغيره) احتراز ممن أخذ مال نفسه من غيره، فإنه غير مضمون عليه.
وقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة، فإن المنفعة فيها للمالك.
وقولنا: (لا على وجه الوثيقة) احتراز من المرتهن إذا قبض الرهن.
ولأنها عين مضمونة بالرد، فكانت مضمونة بالتلف، كالمغصوب.
فقولنا (مضمونة بالرد) أي: أنه يجب عليه مؤنة الرد، وفيه احتراز من الوديعة والرهن، فإنه لا يجب عليه مؤنة الرد، بل عليه أن يخلي بينه وبين العين لا غير، وكذلك العين المستأجرة في أحد الوجهين.
إذا تقرر هذا: فإن استعار عينا. فاستعملها استعمالا مأذونا فيه، فردها وقد نقص شيء من أجزائها، بأن كان ثوبا، فرده، وقد رق ونقصت قيمته بذلك.. لم يجب عليه ضمان ما نقص؛ لأن الإذن في استعماله تضمن الإذن في إتلاف ذلك منه.
وإن هلكت العين المستعارة، أو أتلفها قبل الاستعمال.. وجب عليه ضمانها، فأما إذا استعملها، فنقصت قيمتها بالاستعمال ثم تلفت، فإن كانت من غير ذوات الأمثال..وجب عليه قيمتها، ومتى تقوم عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب.
فعلى هذا: تكون الأجزاء التالفة بالاستعمال تابعة للعين، إن سقط عنه ضمان العين بردها.. سقط عنه ضمان الأجزاء، وإن وجب عليه ضمان العين بتلفها.. وجب عليه ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال.
والثاني: وهو المذهب ـ: أنه يجب عليه قيمتها يوم تلفها؛ لأنا لو قومناها عليه أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف.. أدى إلى أن تجب عليه قيمة الأجزاء التالفة بالاستعمال، وهذا لا يجوز.
وإن استعار منه ثوبا ليلبسه، فلبسه حتى خلق، ولم يبق منه خيط.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو العباس: يلزمه ضمان الأجزاء؛ لأن كل عين ضمن أصلها، ضمن أجزاءها، كالمغصوب.
والثاني: قال الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: لا يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلفه إتلافا مأذونا فيه، فهو كما لو أذن له في أكل طعامه، فأكله.
وإن استعار منه شيئا له مثل، وتلف في يده بغير الاستعمال.. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إن فيما لا مثل له تجب قيمته أكثر ما كانت.. ضمنه هاهنا بمثله، وإن قلنا فيما لا مثل له: تجب قيمته يوم التلف.. ضمن هذا بقيمته يوم التلف.

.[فرع: نتاج العارية]

وإن ولدت العارية عنده.. فهل يكون ولدها مضمونا عليه؟ فيه وجهان، كولد الوديعة، وقد مضى.

.[فرع: إعارة العين غير مملوكة]

وإن استأجر عينا، فأعارها غيره، فتلفت عنده من غير تفريط.. فذكر بعض أصحابنا: أنه لا يجب على واحد منهما ضمانها؛ لأن العين المستأجرة لا تضمن بالتلف من غير تفريط.
وإن غصب رجل من رجل عينا، وأعارها غيره، فاستعملها المستعير، وتلفت عنه.. فللمالك الخيار: بين أن يرجع على الغاصب بقيمتها أكثر ما كانت من حين غصبها إلى أن تلفت، وبأجرة منافعها؛ لأنه تعدى بغصبها، وبين أن يرجع على المستعير بقيمتها أكثر من حين قبضها إلى أن تلفت في يده، وبأجرة منافعها.
فإن علم المستعير بالغصب.. لم يرجع لما غرمه على الغاصب، قولا واحدا؛ لأن التلف حصل في يده. وأما إذا لم يعلم المستعير بالغصب.. نظرت:
فإن استعمل العين المغصوبة مدة، فنقصت أجزاؤها، وأقام المالك بينة عليها.. فإنه ينتزعها، وهو بالخيار: بين أن يرجع على الغاصب بأجرة منافعها من حين غصبها منه، إلى أن أخذها من المستعير، وبأرش ما نقصت، وبين أن يرجع على المستعير بأجرتها من حين قبضها، وبأرش ما نقصت في يده؛ لأنه قد وجد التعدي من كل واحد منهما فيها.
فإن رجع على المستعير في ذلك.. فهل للمستعير أن يرجع بما غرمه على الغاصب؟ فيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (له أن يرجع عليه). وبه قال أحمد؛ لأنه غره، وأدخله في العارية على أن لا يضمن الأجزاء والأجرة.
والثاني: قال في الجديد: (لا يرجع عليه). وهو الصحيح؛ لأن التلف كان في يده.
وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب بذلك فهل للغاصب أن يرجع على المستعير بأرش ما نقصت في يده وبالأجرة مدة إقامتها في يده.
إن قلنا بقوله في القديم في الأولى: لو رجع المالك على المستعير رجع المستعير على الغاصب.. لم يرجع الغاصب هاهنا على المستعير.
وإن قلنا بقوله الجديد: إن المستعير لا يرجع على الغاصب.. رجع الغاصب هاهنا على المستعير.
وأما إذا تلف في يد المستعير.. فللمالك أن يرجع بها على أيهما شاء بقيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها، وبأجرة منافعها، فإن كانت قيمتها يوم التلف أكثر، واختار المالك الرجوع على المستعير بالقيمة، وبالأجرة.. فإن المستعير لا يرجع على الغاصب بقيمتها، قولا واحدا؛ لأنه دخل في العارية على أن تكون مضمونة عليه، وهل يرجع المستعير على الغاصب بما غرم من الأجرة؟ على القولين، الصحيح: لا يرجع.
وإن رجع المالك على الغاصب بهما.. رجع الغاصب على المستعير بالقيمة، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة مدة إقامتها في يده؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه.
وإن كانت قيمة العين يوم قبضها المستعير أكثر، فنقصت بالاستعمال، ثم تلفت في يده، فإن قلنا: إن المستعير يجب عليه قيمة العين أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت.. فهو كما لو كانت قيمتها يوم التلف أكثر، وإن قلنا بالمذهب، وإنه لا يجب على المستعير إلا قيمتها يوم التلف.. فإن المالك إذا اختار الرجوع على المستعير.. فإنه يرجع عليه بقيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت، وأما قدر قيمتها يوم التلف.. فلا يرجع بها المستعير على الغاصب، قولا واحدا، وأما ما زاد على ذلك من القيمة التي غرمها، وأجرة منافعها.. فهل له أن يرجع بما غرمه من ذلك الغاصب؟ فيه قولان، الصحيح: لا يرجع.
وإن رجع المالك بذلك على الغاصب.. فإن الغاصب يرجع على المستعير بقدر قيمتها يوم التلف، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة، وبأرش الأجزاء التالفة في يده بالاستعمال؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه.

.[مسألة: لا يشترط تعيين مدة الإعارة]

وتجوز الإعارة مدة معلومة، ومدة مجهولة؛ لأن العارية عطية لا عوض فيها، فصحت في المعلوم والمجهول، كإباحة الطعام، والوصية، وفيه احتراز من الإجارة.
إذا ثبت هذا: فللمعير أن يرجع في العارية متى شاء، سواء كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة وإن لم تنقض المدة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (إذا أعاره مدة مؤقتة.. لم يجز له أن يرجع فيها قبل انقضاء المدة، وإن أعاره مدة مجهولة.. لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها). وبنى مالك ذلك على أصله: أن الهبة تلزم بالعقد من غير قبض.
دليلنا: أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده، فكان للمعير الرجوع فيها، كما لو لم يقبض العين، ويجوز للمستعير أن يرد العارية متى شاء؛ لأنه ملك الانتفاع بالإباحة، فكان له ردها متى شاء، كما لو أباح له أكل طعامه.
وإن مات المعير، أو جن، أو أغمي عليه، أو حجر عليه للسفه.. انفسخت العارية؛ لأنها عقد جائز، فبطلت بما ذكرناه، كسائر العقود الجائزة.
وإن مات المستعير.. انفسخت العارية؛ لأن الإذن بالانتفاع إنما كان للمستعير دون وراثه، وإذا انفسخت العارية.. وجب على المستعير ردها، ومؤنة الرد عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «عارية مضمونة مؤداة». فوصف العارية بذلك، فدل على: أن ذلك مقتضى حكمها، فإن ردها المستعير إلى المالك، أو إلى وكيله.. برئ من الضمان. وإن ردها إلى ملك المعير، بأن استعار دابة فردها إلى إصطبل المالك..لم يبرأ بذلك.
وقال أبو حنيفة: (يبرأ بذلك).
دليلنا: أنه لم يردها إلى المالك، ولا إلى وكيله، فلم يبرأ بذلك، كما لو غصب مائة عينا، أو سرقها، فردها إلى ملكه.. فإنه لا يبرأ بلا خلاف.

.[مسألة: استعمال عين العارية]

ومن استعار عينا.. فله أن يستوفي منفعتها بنفسه، وبوكيله؛ لأنه نائب عنه، وإن استعار دابة لتركبها امرأته زينب.. فهل له أن يركبها عمرة؟ ينظر فيه:
فإن كانت عمرة أثقل منها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك انتفاع غير مأذون فيه.
وإن كانت عمرة مثلها، أو أخف منها.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجوز، وبه قال أبو حنيفة، كما قلنا في الإجارة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه انتفاع غير مأذون فيه، فلم يجز، كما لو كانت أثقل منها.
وإن استعار دابة ليركبها إلى بلد، فركبها إلى تلك البلد، وجاوز بها إلى بلد أخرى، فقبل أن يجاوز بها البلد المأذون له بالركوب إليه هي مضمونة عليه ضمان العارية، ولا أجرة عليه لذلك، فإذا جاوز بها.. صارت من حين المجاورة مضمونة عليه ضمان الغاصب، ويجب عليه أرش ما نقصت بعد ذلك، وأجرة منافعها، فإن ماتت.. وجب عليه قيمتها أكثر ما كانت حين المجازوة؛ لأنه صار متعديا بالمجاوزة، فإن رجع بها إلى البلد المأذون بالركوب إليه.. لم يزل عنه الضمان.
وقال أبو حنيفة: (يزول عنه الضمان).
دليلنا: أنها صارت مضمونة عليه، فلم يبرأ بالرد إلى غير يد المالك، أو وكيله، كالمغصوب.

.[فرع: تأجير وإعارة العارية]

وإن استعار عينا مدة، فأجرها المستعير تلك المدة.. لم تصح الإجارة؛ لأن الإجارة معاوضة، فلا تصح إلا فيما يملكه، والمستعير لا يملك المنافع، وإنما هي ملك لمالك العين، وقد أباح له إتلافها، فلا يملك أن يملك ذلك غيره.
وإن أعارها المستعير غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لما جاز أن يؤاجر ما استأجره.. جاز أن يعير ما استعاره.
والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن المالك أباح للمستعير الانتفاع، فلا يملك المستعير أن يبيح ذلك لغيره، كما لو أباح له طعاما.. فليس للمباح له أن يبيحه لغيره، ويخالف المستأجر، فإنه يملك المنافع، فلذلك جاز أن يملكها غيره، كمن اشترى شيئا.. فله أن يتصرف فيه بما شاء.

.[فرع: إنفاق المستعير على الحيوان]

قال الصيمري: وإذا استعار حيوانا.. فإن نفقته مدة العارية على المعير؛ لأنه ملكه والنفقة تجب على مالك الرقبة دون مالك المنفعة، كما نقول في الإجارة.
فعلى هذا: إذا استعار حيوانا، فإن أذن المعير للمستعير بالإنفاق عليه، فأنفق عليه.. رجع عليه بما أنفقه؛ لأنه أخرجه بإذنه، وإن لم يأذن له في الإنفاق عليه.. فللمستعير أن يرفع ذلك إلى الحاكم، لينفق عليه من مال المعير إن كان له مال، أو يبيع جزءا من الحيوان المعار، أو يقترض عليه من غير المستعير، أو من المستعير، كما قلنا في الوديعة.

.[مسألة: إعارة الأرض]

ويجوز إعارة الأرض للزراعة، وللبناء، وللغراس؛ لأنه يجوز أن يملك منفعة الأرض لذلك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كمنفعة العبد والدار، فإن قال: أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها.. جاز له أن يزرع فيها ويغرس ويبني؛ لأن الإذن فيها مطلق، فاستباح الجميع.
وإن أعاره الأرض ليزرع فيها، وأطلق.. كان له أن يزرع أي زرع شاء؛ لأن الإذن مطلق، وإن قال: لتزرع الحنطة.. فله أن يزرع الحنطة والشعير؛ لأن ضرر الشعير أقل من ضرر الحنطة في الأرض، وإن قال: لتزرع فيها الشعير.. قال الشيخ أبو حامد: فليس له أن يزرع الحنطة؛ لأنها أكثر ضررا في الأرض من الشعير.. ولا يجوز أن يغرس في الأرض، ولا يبني فيها؛ لأنهما أعظم ضررا في الأرض من الزراعة.
وإن استعار أرضا ليبني فيها، أو يغرس.. كان له أن يزرع فيها. وحكى في "المهذب" وجها آخر: أنه إذا استعارها للبناء.. لم يكن له أن يزرع فيها؛ لأن الزراعة فيها ترخي الأرض. وليس بشيء؛ لأن ضرر البناء والغراس في الأرض أكثر من ضرر الزرع، فإذا زرعها.. فقد استوفي بعض ما أذن له فيه، فجاز، وإن استعارها للبناء.. فهل له أن يغرس فيها؟ أو استعارها للغراس.. فهل له أن يبني فيها؟ وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن ضررهما فيا لأرض سواء؛ لأن الأرض تحفر لهما، ويراد كل واحد منهما للتأبيد.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن ضررهما يختلف في الأرض؛ لأن ضرر الغراس لانتشار عروقه في باطن الأرض، ولا يمنع من الزراعة في ظاهرها، وضرر البناء في ظاهر الأرض دون باطنها؛ لأنه يكون في موضع واحد، ويمنع الزراعة في الأرض.