فصل: (مسألة: شرط وجوب الصوم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[كتاب الصيام]

الصوم في اللغة: هو الإمساك والكف عن كل شيء، يقال لمن سكت ولم يتكلم: صائم، قال الله تعالى في قصة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]. يعني: صمتا. ويقال: صامت الشمس: إذا وقفت للزوال، وصامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، قال الشاعر النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأُخرى تعلك اللجما

يعني: خيلا واقفة عن السير، وخيلًا غير واقفة، بل في الحرب.
وأما الصوم في الشرع: فهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع.
وهو من الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع بنقصان.
والأصل في وجوبه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ثم بين ما ذلك الصيام؟ فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وأما السنة: فما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».
وروى طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام... إلى أن قال: فما افترض الله علي من صوم؟ قال: «شهر رمضان».
وهو إجماع لا اختلاف بين الأُمة في وجوبه.
إذا ثبت هذا: فاختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - لم سمي: رمضان؟ فقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: سمي بذلك؛ لأنه يرمض الذنوب ويحرقها.
وحُكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: إنما سمي بذلك؛ لأنه وافق ابتداء الصوم زمنًا حارًا، فكان يرمض فيه الفصيل. يعني: يحترق من شدة الحر.
إذا تقرر ما ذكرناه: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: جاء شهر رمضان». وهذا يقتضي أنه يكره أن يقال: جاء رمضان.
ثم روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا.. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «جاء رمضان الشهر المبارك». وهذا بخلاف الخبر الأول.
قال أصحابنا: فيحتمل أنه يريد: يكره أن يقال: حاء رمضان من غير قرينة تدل على أنه الشهر، فإن قرنه بقرينة بما يدل على أنه الشهر، من ذكر الصوم، أو الشهر.. لم يكره.
واختلف الناس في أول ما فرض الله تعالى من الصوم:
فقيل: (إن أول ما فرض الله تعالى من الصيام صوم عاشوراء)
وقيل: لم يكن فرضًا، وإنما كان تطوعًا.
وحُكي عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر»، وهي الأيام التي قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان) وكان الناس في أول الإسلام إذا صاموا.. يحل لهم الطعام والشراب والجماع من حين تغيب الشمس إلى أن يصلوا العشاء، أو يناموا، فإن صلوا العشاء، أو ناموا قبل ذلك.. حرم عليهم إلى القابلة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية [البقرة: 187].
وكانوا في أول الإسلام يخير المطيق منهم للصوم: بين أن يصوم، أو يفطر ويفدي عن كل يوم مدا من طعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184].
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وروي عن ابن عباس: (أن قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] إنما نزلت في الشيخ الهم والشيخة الهمة، فأما الشبان الذين يطيقون الصوم: فكان لازمًا لهم). والصحيح هو الأول.

.[مسألة: شروط وجوب الصوم]

ويتحتم وجوب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل طاهرٍ قادر مقيم.
فأما الكافر: فإن كان أصليا.. فلا خلاف أنه لا يصح منه في حال كفره، ولا خلاف أنه لا يجب عليه القضاء بعد الإسلام، وهل هو مخاطب به في حال كفره، ويأثم بتركه؟ فيه وجهان لأصحابنا، مضى ذكرهما.
وإن كان مرتدًا.. فلا يصح منه في حال الردة، ولكنه يأثم بتركه، وإذا أسلم.. وجب عليه قضاؤه؛ لأنه قد التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط بالردة.
وأما الصبي: فلا يجب عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه عبادة بدنية،
فلم يجب على الصبي كالصلاة، ولا تدخل عليه العدة، فإنها تجب على الصغيرة؛ لأنها ليست من أفعال البدن، وإنما هي مرور الزمان، فإذا بلغ الصبي حد التمييز، وكان يطيق الصوم وجب على الولي أن يأمره بفعله، فإذا قارب البلوغ.. كان له أن يضربه إذا لم يصم، كما قلنا: في الصلاة، فإذا بلغ.. لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر؛ لأن زمان الصغر يطول، فلو أُو لزم بقضائه.. شق وضاق.
وأما المجنون: فلا يجب عليه فعله في حال جنونه؛ للخبر، فإن أفاق بعد مضي رمضان.. لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون.
وقال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما في أحد الروايتين: (يجب عليه قضاؤه) وحكي ذلك عن أبي العباس ابن سريج.
وقيل: لا يصح ذلك عن أبي العباس.
دليلنا: أنه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف؛ لنقص، فلم يجب قضاؤه، كما لو فات في حال الصغر.
فقولنا: (لنقص) احتراز من الصوم الفائت في المرض. وإن زال عقله بالإغماء.. لم يجب عليه قضاؤه في الحال؛ لأنه لا يصح منه، وإن أفاق.. وجب عليه القضاء؛ لأن الإغماء ليس بنقص، ولهذا يجوز على الأنبياء، فهو كالمرض. والجنون نقص، ولهذا لا يجوز على الأنبياء، فشابه الصغر والكفر.
وإن أسلم الكافر في أثناء نهار رمضان.. استحب له إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولا يجب عليه؛ لأنه أفطر بعذر، وهل يجب عليه قضاء هذا النهار؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص -: (أنه لا يجب عليه)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله»، ولأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصوم، فهو كمن أدرك من الوقت قدر ركعة، ثم جن.
والثاني: من أصحابنا من قال: يلزمه قضاؤه، وهو قول أحمد، وإسحاق، والماجشون؛ لأنه أدرك جزءًا من الوقت ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بصوم يوم، فوجب أن يقضيه بيوم، كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد، وأراد الصوم.. فإنه يصوم عنه يومًا وإن أفاق المجنون في أثناء نهار صوم رمضان.. لم يجب عليه إمساك بقية النهار، وهل يلزمه قضاء هذا اليوم؟ فيه وجهان، كالوجهين اللذين ذكرناهما في الكافر.
والمنصوص: (أنه لا يلزمه).
وقال أبو حنيفة، والثوري: (يلزمه قضاء ما فاته من الشهر).
قال أبو العباس: وقد حكى المزني هذا في المأثور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يصح عنه، وهو يدل أن الحكاية التي حُكيت عن أبي العباس إذا أفاق بعد شهر.. أنه يلزمه قضاؤه، لا تصح عنه.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق».
ولأن الجنون لو دام جميع الشهر.. يسقط قضاؤه، فكذلك إذا دام في بعضه.
وإن بلغ الصبي في أثناء شهر رمضان... نظرت:
فإن بلغ بالليل.. لزمه صوم ما بقي منه، وإن بلغ في أثناء النهار، وكان مفطرًا أول النهار.. لم يلزمه إمساك ما بقي من النهار، ولكن يستحب له، وهل يجب عليه قضاؤه؟ فيه وجهان، كالوجهين في الكافر والمجنون. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وأما المسعودي [في "الإبانة"ق\ 160] فقال: إذا أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان، وكان مفطرًا.. فهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يلزمهم ذلك؛ لأن من لم يلزمه الصوم في أول النهار.. لم يلزمه في آخره، كالحائض إذا طهرت، والمسافر إذا قدم وقد أكل.
والثاني: يلزمهم إمساك بقية النهار؛ لأنهم صاروا مخاطبين في بعض النهار، فجعل كأنهم خوطبوا في أوله، فيلزمهم التشبه بالصائمين وإن لم يصح صومهم؛ لأنهم لم ينووا الصوم.
والثالث: يلزم الكافر دون المجنون والصبي؛ لأن الكافر غير معذور في كفره، وهما معذوران في إفطارهما.
والرابع: يلزم الكافر والصبي دون المجنون؛ لأن الصبي والكافر كان يصح صومهما إذا أتيا بشرائطه، دون المجنون؛ فلما لم يفعلا في أوله.. لزمهما التشبه بالصائمين في آخره.
وهل يلزمهم قضاء هذا اليوم؟ على هذه الأربعة الأوجه.
وإن بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان وهو صائم.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص -: (أنه يلزمه الإتمام، ولا يجب عليه القضاء)؛ لأنه صار من أهل الوجوب في أثنائه، فلزمه إتمامه، كما لو دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه.
والثاني: يستحب له الإتمام، ويجب عليه القضاء؛ لأنه لم ينو صوم الفرض من أوله.

.[مسألة: صوم الحائض والنفساء]

وأما الحائض والنفساء: فلا يصح صومهما، ولا يجوز لهما أن يمسكا بنية الصوم، فإن فعلتا.. أثمتا؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصم، ولم تصل، وذلك نقصان دينها»، فإذا طهرتا.. وجب عليهما قضاء الصوم؛ لما روي «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت في الحيض: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة».
فإن طهرتا في أثناء شهر رمضان.. لم يجب عليهما إمساك بقية النهار.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (يلزمهما إمساك بقية النهار).
دليلنا: أنهما أفطرتا بعذر، فلم يلزمهما إمساك بقية النهار.

.[مسألة: صوم الشيخ العجوز]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأما الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة اللذان لا يقدران على الصوم: فيجوز لهما الإفطار).
قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بذلك: أنه لا يمكنهما أن يمسكا يومهما عن الطعام والشراب؛ لأنه ما من أحد إلا ويمكنه هذا، وإنما يريد به: أنهما تلحقهما بذلك المشقة الشديدة، فلكل واحد منهما أن يفطر، وهل يلزمه أن يفدي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه، وبه قال مالك، وأبو ثور؛ لأنه يسقط عنه فرض الصوم، فلم تجب عليه الفدية، كالصبي والمجنون.
والثاني: يلزمه، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهم، إلا أن أبا حنيفة قال: (يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمر).
وقال أحمد رحمة الله عليه: (يطعم مدًا من بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير).
وعندنا: يطعم عن كل يوم مدًا من طعام.
ووجهه: أن الناس كانوا مخيرين في أول الإسلام بين أن يصوموا، وبين أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مدًا من طعام، فنسخ ذلك في حق من يطيق الصوم، وبقيت الرخصة في حق من لا يطيقه. وروي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وأما المريض: فإن كان مرضًا لا يرجى زواله، وأجهده الصوم.. فهو كالشيخ الذي يجهده الصوم، وإن كان مرضًا يرجى زواله، فٍإن كان مرضًا يسيرًا لا يشق معه الصوم.. لم يجز له الإفطار
وقال داود: (يجوز له الإفطار).
دليلنا: أنه لا يخاف المشقة من الصوم، فلم يجز له الإفطار، كالصحيح.
وإن كان يخاف التلف من الصوم، أو زيادة العلة.. جاز له الإفطار، فإذا برئ وجب عليه القضاء.
وقال عطاء، وأحمد: (لا يفطر حتى يغلب).
وقال الشعبي: لا يفطر حتى يخشى أو يغلب.
وقال الأوزاعي: (إذا خشي على نفسه.. جاز له أن يشرب الماء).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
وقد ثبت أن المسافر يجوز له أن يفطر وإن لم يكن مغلوبًا، فكذلك هذا مثله، فإن أصبح صائمًا، وهو صحيح، ثم مرض.. جاز له أن يفطر؛ لأن العذر موجود.

.[مسألة: الصوم في السفر]

وأما المسافر: فإن كان سفره لا يبلغ ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي.. لم يجز له أن يفطر، وإن كان يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي في غير معصية.. جاز له أن يفطر؛ للآية.
وقال بعض الناس: يجوز له الإفطار في السفر الطويل والقصير.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام). وقد مضى ذكر ذلك في (القصر).
فإن صام المسافر.. صح صومه.
وقال أبو هريرة: (لا يصح صومه). وبه قال داود وأهل الظاهر، والشيعة.
دليلنا: ما روي: «أن حمزة بن عمرو الأسلمي: قال: يا رسول الله، أصوم في السفر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن شئت.. فصم، وإن شئت.. فأفطر» وروي «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن قال: (سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم».
إذا ثبت هذا: فإن كان ممن لا يجهده الصوم.. فالأفضل أن يصوم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك: عن أنس، وعثمان بن أبي العاص.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (الفطر أفضل)، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وحكاه الطبري في "العدة" وجهًا لبعض أصحابنا. والمشهور من المذهب هو الأول.
والدليل عليه: ما روى سلمة بن المحبق: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع.. فليصم رمضان حيث أدركه» ولأن من خير بين الصوم والإفطار.. كان الصوم أفضل، كالمتطوع.
وإن كان يجهده الصوم.. فالأفضل أن يفطر؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر
برجل في سفره تحت ظل شجرة يرش عليه الماء، فسأل عنه، فقالوا: صائم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصيام في السفر».

.[فرع: القضاء في رمضان للمسافر]

فإن صام المسافر في رمضان عن غير رمضان، كالنذر والكفارة والقضاء.. لم يصح صومه، ولم يقع عن رمضان، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: (يقع عما نواه).
دليلنا: أنه يخير بين الإفطار والصوم، فلم يصح صومه فيه عن غير رمضان، كالمريض.

.[فرع: السفر بدخول رمضان]

وإن دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم.. جاز له أن يسافر، ولا يتحتم عليه الصوم.
وقال أبو مجلز: (إذا حضر شهر رمضان.. فلا يسافرن أحد، فإن كان لا بد.. فليصم إذا سافر).
وقال عبيدة السلماني، وسويد بن غفلة: يتحتم عليه الصوم بقية الشهر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر، ولم يفرق بين أن يسافر في رمضان أو قبله.

.[فرع: إفطار الصائم في السفر]

وإن نوى المسافر الصوم، ثم أراد أن يفطر في أثناء النهار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يفطر، كالصحيح إذا أصبح صائمًا، ثم مرض.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له الإفطار في هذا النهار؛ لأنه قد دخل في فرض المقيم، فهو كما لو أحرم المسافر بالصلاة، ونوى الإتمام.. فإنه لا يجوز له قصرها.
وإن أصبح صائمًا في الحضر، ثم سافر.. لم يجز له أن يفطر في هذا النهار، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي.
وقال أحمد، وإسحاق، وداود، والمزني: (يجوز له أن يفطر). واختاره ابن المنذر؛ ل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من المدينة عام الفتح حتى أتى كراع الغميم، فأفطر» دليلنا: أن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا، غلب حكم الحضر، كالصلاة.
وأما الخبر: فإنما أفطر بكراع الغميم في اليوم الثاني؛ لأن بينه وبين المدينة كثيرًا.
ولو نوى الحاضر الصوم قبل الفجر، ثم سافر، ولا يدري هل سافر قبل الفجر، أو بعده؟ قال الصيمري: لم يجز له أن يفطر.
ولو سافر بعد الفجر، وقبل أن ينوي الصوم.. لزمه إمساك ذلك اليوم؛ لأنه سافر بعد أن تعين عليه الصيام، ولا يجزئه عن الصوم؛ لأنه لم ينوه.

.[فرع: زوال العذر في أثناء الصوم]

إذا قدم المسافر بلده في أثناء نهار رمضان، وهو مفطر، أو برئ المريض، وقد كان أفطر، أو طهرت الحائض أو النفساء.. لم يلزمهم إمساك بقية النهار.
وقال أبو حنيفة: يلزمهم إمساك بقية النهار)
دليلنا: أن من لم يلزمه الإمساك أول النهار، لا في الظاهر ولا في الباطن.. لم يلزمه إمساك بقيته، كما لو دامت هذه الأعذار.
وإن قدم المسافر، أو أقام وهو صائم، أو برئ المريض وهو صائم.. فهل يلزمهما إتمام الصوم؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي على بن أبي هريرة -: أنه لا يلزمهما؛ لأنه أبيح لهما الفطر أول النهار، ظاهرًا أو باطنًا، فأبيح لهما في آخره، كما لو أفطرا.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو ظاهر النص -: أنه يلزمهما إتمام الصوم؛ لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص، فهو كما لو استفتح الصلاة في السفر، ثم أقام أو اتصل بدار إقامته. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\ 160] الوجهان إذا قدم، ولم ينو الصوم من
الليل، ولم يفطر. فأما إذا كان قد نوى الصوم من الليل، وقدم قبل أن يأكل.. لزمه إتمام الصوم، وجهًا واحدًا.

.[فرع: وطء المسافر المفطر]

وإن قدم المسافر وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض في ذلك اليوم.. جاز له وطؤها.
وقال الأوزاعي: (لا يجوز).
دليلنا: أنه أبيح لهما الإفطار، فلا يحرم وطؤها، كما لو كانا مسافرين.

.[مسألة: صوم الحامل والمرضع]

وإن خافت الحامل والمرضع على أنفسهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، دون الكفارة، كالمريض.
وإن خافتا على ولديهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، وفي الفدية ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو الصحيح -: أن عليهما الكفارة لكل يوم مد من طعام، وبه قال أحمد بن حنبل، إلا أنه يقول: (مد من بر، أو مدان من تمر أو شعير).
والدليل على ما ذكرناه: ما روي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهما قالا: (الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما.. أفطرتا، وأطعمتا مكان كل يوم مسكينًا). ولا يعرف لهما مخالف.
والقول الثاني: تجب الفدية على المرضع دون الحامل، وهي إحدى الروايتين عن مالك؛ لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها، فهي كالمريض، بخلاف المرضع.
والثالث - حكاه أبو علي في "الإفصاح"، وليس بمشهور -: أنه لا يجب على واحدة منهما كفارة، وهو قول الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة؛ لأنه إفطار لعذر، فلم تجب به الكفارة، كإفطار المريض.
وروي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أنهما قالا: (لا تجب عليهما الكفارة دون القضاء)
دليلنا: أنه إفطار بعذر يزول، فوجب فيه القضاء، كالمرض.

.[مسألة: شرط وجوب الصوم]

ولا يجب صوم رمضان إلا بدخول الشهر، ودخول الشهر يعلم بأمرين: إما برؤية الهلال، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، هذا قول كافة الفقهاء.
وقال بعض الناس: يعلم دخوله بذلك، ويعلم بالحساب والنجوم: أن الهلال قد أهل، فيلزمه، وهذا ليس بصحيح، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يومًا».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة ثلاثين».
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أتى كاهنا أو عرافا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد». وهذا يمنع من الرجوع إلى قول المنجمين.