فصل: (مسألة: صوم يوم الشك)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: نذر صوم الدهر]

إذا نذر صوم الدهر، ثم أفطر في رمضان لعذر، وزال العذر.. كان عليه أن يقضي ما أفطر في رمضان؛ لأنه آكد من النذر.
وهل يكون نذره منعقدا في أيام القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ والطبري في "العدة":
أحدهما: لا يكون منعقدا؛ لأن ترك القضاء إذا كان معصية.. صارت تلك الأيام كشهر رمضان.
فعلى هذا: يأتي بقضاء رمضان، ولا يلزمه لأجل النذر شيء.
والثاني: يكون النذر فيها منعقدا؛ لأنه كان له أن يصوم فيها عن نذره، فشابهت سائر الأيام.
فعلى هذا: إذا قضى شهر رمضان.. هل يلزمه لأجل القضاء شيء؟ قال أبو العباس: يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يلزمه شيء، كمن أفطر في رمضان بعذر، ودام عذره حتى مات.
والثاني: يلزمه الإطعام؛ لأنه كان يقدر على أن يصومه عن النذر.
فإذا لم يصمه عنه.. لزمه أن يأتي بفدية عنه، وله أن يخرج الفدية في حياته؛ لأنه قد أيس من القدرة عن الإتيان به، فكان كالشيخ الهم.
وهكذا: إذا نذر صوم الدهر، ثم لزمه صوم كفارة.. كان الحكم مثل هذا؛ لأنها تجب عليه شرعاً، وإن كان بسبب من جهته، فكان آكد من النذر الذي يوجبه على نفسه.

.[مسألة: القضاء عن الميت]

إذا كان عليه قضاء من شهر رمضان، فلم يصم حتى مات.. نظرت:
فإن دام العذر إلى أن مات.. لم يجب أن يطعم عنه، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال قتادة، وطاوس: يطعم عنه لكل يوم مسكين.
دليلنا: أنه فرض لم يتمكن من أدائه إلى الموت.. فسقط حكمه، كالحج.
وإن مات بعد أن تمكن من قضائه.. ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يصوم عنه وليه). وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام.. صام عنه وليه»، ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال، فدخلتها النيابة بعد الوفاة، كالحج.
فإذا قلنا بهذا: فصام عنه الولي، أو أمر أجنبيا، فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة.. جاز، وإن صام عنه أجنبي بغير إذن الولي.. ففيه وجهان، حكاهما في "الفروع".
والمشهور: أنه لا يصح.
والثاني: قال في الجديد: (لا يصح أن يصام عنه، بل يطعم عنه الولي لكل يوم مسكينا). وهو الصحيح؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام.. أطعم عنه وليه عن كل يوم مداً لمسكين»، ولأن الصوم عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة، فلم تدخلها النيابة بعد الوفاة، كالصلاة، وعكسه الحج.
وأما الخبر: فمعناه: فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام.
فإن مات بعد ما أدركه شهر رمضان آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مد واحد، وبه قال مالك؛ لأنه إذا أخرج مدا بدل الصوم.. فقد زال التفريط بالتأخير، فلم يجب لأجله شيء.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه مدان: مد للصوم، ومد للتأخير؛ لأنه قد وجب عليه مد بالتأخير إلى دخول شهر رمضان، فإذا مات.. وجب عليه مد بدل الصوم.
قال أبو داود في "سننه ": وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقولن أحدكم: إني صمت رمضان كله، أو قمته كله» ". قال: فلا أدري أكره التزكية؟ أو قال ذلك؛ لأنه لا بد له من نومة أو رقدة.
والله أعلم

.[باب صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصيام فيها]

وليلة القدر يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال، والمستحب: أن يصومها متتابعة، فإن صامها متفرقة.. جاز، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك؛ خوف أن يلحق بالفريضة).
قال مالك: (ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها)
دليلنا: ما روى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال.. فكأنما صام الدهر كله». قال أصحابنا: وهذا صحيح في الحساب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصوم شهر رمضان يقوم مقام ثلاثمائة يوم، وهو عشرة أشهر، فإذا صام ستة أيام بعده.. قامت مقام ستين يوماً، وذلك شهران، وذلك كله عدد أيام السنة.

.[مسألة: صوم عرفة]

ويستحب لغير الحاج صوم يوم عرفة؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوم يوم عاشوراء كفارة سنة، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين: سنة قبلها ماضية، وسنة بعدها مستقبلة»
قال الصيمري: ومعنى ذلك: أنه يغفر له ذنب ذلك الزمان، أو بمعنى أنه يوفق للعمل الصالح في ذلك الزمان، ولا يستحب ذلك للحاج.
وروي عن عائشة، وابن الزبير: أنهما كانا يصومانه. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وقال عطاء: أصوم في الشتاء، وأفطر في الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة.
وقال أبو حنيفة (يستحب صيامه، إلا أن يضعف عن الدعاء).
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة»، وروت أم الفضل بنت الحارث: «أن ناساً اختلفوا عندها في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة: هل هو صائم، أو مفطر؟ فأرسلت إليه بقدح من لبن، وهو قائم على بعيره بعرفة، فشربه».
ولأن الدعاء في هذا اليوم مستحب، والصوم يضعفه عن الدعاء.. فلم يستحب. ويستحب أن يصوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، ومن الناس من قال: يوم عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، واليهود يعظمون يوم عاشوراء، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نحن أحق بموسى منهم»، فصامه، وأمر الناس بصيامه».
واليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون: هو يوم العاشر من المحرم، ولا خلاف أنه ليس بواجب في وقتنا.
واختلف أصحابنا: هل كان واجبا في أول الإسلام؟ على قولين:
فـالأول: منهم من قال: إنه لم يكن واجبا، وإنما كان مستحبا؛ لما روي: «أن معاوية قدم إلى المدينة، فخطب الناس، وقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ هذا يوم عاشوراء، سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لم يكتب علينا صيامه، وأنا صائم، فمن شاء.. صام، ومن شاء.. أفطر».
والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: (إنه كان واجبا، ثم نسخ)؛ لما روت عائشة: «أن قريشا كانت تصوم في هذا اليوم، فصامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان.. ترك صيامه».
ويستحب أن يصوم اليوم التاسع من المحرم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا التاسع والعاشر، ولا تتشبهوا باليهود».
وروي في لفظ آخر: «لئن عشت إلى قابل.. لأصومن التاسع والعاشر».
ويستحب أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال «وصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر..».
وقالت حفصة أم المؤمنين: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأُخرى»
وقالت عائشة: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبالي من أي أيام الشهر يصوم»، أي: هذه الثلاث.
وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان صائماً.. فليصم الأيام البيض»
فقيل هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. هذا هو المشهور.
وقال الصيمري: وقيل: هي الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر.
ويستحب أن يصوم يوم الاثنين والخميس؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومهما)، ويقول: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس»، وكان يقول: «ولدت في يوم الاثنين، وفيه أنزل علي القرآن»

.[مسألة: صوم الدهر]

ولا يكره صوم الدهر، إذا أفطر في أيام النهي، ولم يخف ضرراً من الصوم، ولو يضيع فيه حقاً عليه.
وقال بعض الناس: يكره
وقال أبو يوسف: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه يضعفه عن العبادة، ويشبه التبتل الذي نهي عنه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عمن صام الدهر؟ فقال: «لا صام ولا أفطر».
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام الدهر.. فقد وهب نفسه من الله تعالى».
وأما قوله: «لا صام ولا أفطر»: فيحتمل أنه أراد: إذا لم يفطر في أيام النهي، ويحتمل أن يكون: لأن صائم الدهر يعتاد ذلك، فلا تلحقه المشقة بالصيام، فيكون الصوم والفطر عنده سواء.
وإن خاف ضررا يلحقه، أو ضياع حق عليه.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء يزور أبا الدرداء، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت له: إن أخاك لا حاجة له في شيء من الدنيا، فلقيه سلمان، فقال: إن لربك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فذكر ذلك أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذلك».
ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه». فإن صامت بغير إذنه.. صح صومها، والثواب إلى الله سبحانه وتعالى.

.[مسألة: استحباب إتمام الصيام]

إذا دخل في صوم تطوع، أو صلاة تطوع.. استحب له إتمامهما، فإن خرج منهما.. جاز، سواء كان بعذر أو بغير عذر، ولا قضاء عليه، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأحمد، وإسحاق.
وقال الأوزاعي وأبو حنيفة: (إذا أفسدهما، وخرج منهما قبل إتمامهما.. فعليه القضاء. والمنصوص: أنه لا يجوز له الخروج)
ومن أصحابنا من قال: يجوز.
وقال مالك: (إن خرج منها بعذر.. فلا قضاء عليه، وإن كان بغير عذر.. فعليه القضاء)
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله، خبأنا لك حيساً، فقال: «أما إني كنت أريد الصوم، ولكن قربيه»، فأكل، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر»
«وروت أم هانئ: قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فناولني فضل شرابه فشربته، فقلت: يا رسول الله، إني كنت صائمة، وإني كرهت أن أرد سؤرك؟
فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن كان قضاء رمضان، فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً، فإن شئت.. فاقضي، وإن شئت.. فلا تقضيه»

.[مسألة: صوم يوم الشك]

ولا يجوز صوم يوم الشك عن شهر رمضان، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة.
وقال أحمد: (إن كانت السماء مصحية.. لم يجز صيامه، وإن كانت متغيمة.. وجب صيامه عن شهر رمضان). وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، ومعاوية، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء ابنة أبي بكر
وقال الحسن، وابن سيرين: إن صام الإمام... صامت الرعية، وإن لم يصم الإمام.. لم تصم الرعية.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستقبلوا الشهر بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يوماً»
فإن صامه عن تطوع.. نظرت:
فإن وافق عادة له، بأن كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فوافق ذلك يوم الشك، أو كان يصوم الدهر.. جاز صومه للخبر، وإن صامه تطوعاً من غير موافقة عادة له.. لم يصح؛ لأنه قربة، فلا يصح بفعل معصية، وإن صامه عن نذر أو قضاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان.. فقد عصى أبا القاسم». ولم يفرق.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب الطبري، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يصح؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب.. كان الفرض أولى، كالوقت الذي نهي عن الصلاة فيه.
إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا انتصف شعبان.. فلا صيام حتى يكون رمضان». واختلف أصحابنا في معناه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: معناه إذا أراد صوم يوم الشك عن التطوع الذي لا عادة له به، فإن وصله بما قبل النصف.. جاز، وإن وصله بما بعد النصف.. لم يجز.
وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يكون ليتقوى به المفطر على صوم رمضان؛ لأن دليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتقدموا الشهر بيوم ولا بيومين» يجوز أن يتقدمه بأكثر من ذلك.
إذا تقرر هذا: فقال المسعودي [في "الإبانة" ق\157] يوم الشك هو أن يختلف الناس في هلال رمضان، مثل: «أن يقول العبيد والصبيان: رأينا، فلم نقض بقولهم، فأما إذا لم يختلفوا.. فالشك غير متصور.

.[مسألة: إفراد يوم الجمعة بالصوم]

وهل يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم؟ فيه وجهان:
أحدهما قال الشيخ أبو حامد: يكره، إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. واختاره صاحب "المهذب".
وهو قول الزهري، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن أبي هريرة؛ لما روي «عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه قال: (رأيت جابر بن عبد الله، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: هل نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: إي ورب هذا البيت».
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: «صمت أمس"؟ قالت: لا، قال: «أفتريدين أن تصومي غداً؟ "، قالت: لا، قال: «فأفطري».
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده»، ولأنه إذا صام يوماً قبله، قوي عليه، فلم يجهده يوم الجمعة.
والوجه الثاني: لا يكره، وهو المنصوص في رواية المزني، واختاره ابن الصباغ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه يوم لا يكره صومه إذا صام قبله أو بعده، فلم يكره إفراده بالصوم، كسائر الأيام، وعكسه الأيام التي نهي عن صيامها.
قال ابن الصباغ: وتأول الشافعي هذه الأخبار على من كان الصوم يضعفه ويمنعه من الطاعة، يعني: يوم الجمعة.

.[مسألة: صوم العيدين]

وأما يوم النحر ويوم الفطر: فيحرم صومهما؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الأضحى: فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر: ففطركم عن صيامكم»
فإن صام فيهما.. لم يصح صومه، وإن نذر صومهما.. لم ينعقد نذره.
وقال أبو حنيفة: (يحرم صومهما، وإن نذر صومهما.. انعقد نذره، ولزمه أن يصوم غيرهما، وإن صام فيهما.. أجزأه، وإن صام فيهما عن نذر مطلق.. لم يجزه).
دليلنا: أنه نذر صوماً محرماً، فلم ينعقد نذره، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها.

.[مسألة: صوم أيام التمتع]

وهل يصح صوم المتمتع في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يجوز) لما روي عن ابن عمر، وعائشة: أنهما قالا: (لم يرخص في صوم أيام التشريق، إلا لمتمتع لم يجد الهدي)
والثاني: قال في الجديد: (لا يجوز). وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه أنه من شهر رمضان»
فإن قلنا بالقول القديم.. فهل يجوز أن يصوم فيها تطوعاً عن غير التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل يوم صح صومه عن التمتع.. صح صومه عن غير التمتع، كسائر الأيام.
والثاني: لا يجوز؛ لما ذكرناه عن ابن عمر، وعائشة: (أنه لم يرخص في صومها، إلا لمتمتع لم يجد الهدي).

.[فرع: الجود في رمضان وغيره]

والجود مستحب في جميع الأوقات لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «الجنة دار الأسخياء»
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا»
ويستحب الإكثار من الجود والإفضال في شهر رمضان لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، فيعرض عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، فإذا لقيه.. كان أجود من الريح المرسلة بالخير»

.[مسألة: فضل ليلة القدر]

ليلة القدر ليلة شريفة معظمة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
قال الشافعي: و(القدر): الحكم، وسميت: ليلة القدر؛ لأن الله تعالى يقدر
فيها ما يكون في تلك السنة، من خير، ومصيبة، ورزق، وغير ذلك). والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].
قال الشافعي: (معناه: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر).
وروى الشيخ أبو حامد في "التعليق": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان وقام ليلة القدر.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»
إذا ثبت هذا: فإن ليلة القدر باقية في شهر رمضان، لم ترفع إلى الآن، وهي في العشر الأواخر منه؛ لما «روى أبو ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ليلة القدر رفعت مع الأنبياء، أم هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هي باقية إلى يوم القيامة"، قال: فقلت: أفي رمضان، أم في غيره؟ فقال: «في شهر رمضان"، فقلت: في العشر الأول، أم الثاني، أم الثالث؟ فقال: «بل في العشر الأواخر»
إذا ثبت هذا: فيستحب طلبها في كل ليلة من العشر الأواخر، وهي في الليلة الحادي والعشرين أظهر.
ونقل المزني أو ليلة الثالث والعشرين).
وقال المزني: أرى أنها تختلف في كل سنة في العشر الأواخر.
قال ابن عمر: (هي ليلة ثلاث وعشرين). وذهب أبي بن كعب إلى: (أنها ليلة الخامس والعشرين، أو السابع والعشرين)
وقال أبو قلابة: (إنها تتقلب في كل ليلة منها).
وقال مالك: (هي في العشر الأواخر، وليس فيها تعيين).
وقال ابن عباس: (هي ليلة السابع والعشرين). واحتج: بأن سورة القدر ثلاثون كلمة، وقوله: (هي) تمام السبع والعشرين، فدل على: أنها ليلة السابع والعشرين.
دليلنا أنها تطلب في العشر: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر»
وروى أبو سعيد الخدري أيضاً: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أريت هذه الليلة، وأردت أن أخبركم، فتلاحى رجلان، فأنسيتها، لكني سجدت صبيحتها في ماء وطين».
قال أبو سعيد: «كان المطر في تلك الليلة، وكان المسجد عليه عريش، فوكف، فمر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته أثر الماء والطين صبيحة ليلة إحدى وعشرين»
وقال عبد الله بن أنيس: «مر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين صبيحة ليلة ثلاث وعشرين»
وأما قول ابن عباس: فـ (ليلة القدر) هي الكلمة الخامسة، وهي أصرح من قوله: (هي)، ولا يدل على وجودها فيها.
وصفتها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء، مثل الطشت لا شعاع لها.
وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما الدعاء فيها: «فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله، إن وافقتها.. بم أدعو؟ فقال: «قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني»