فصل: سورة الفتح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (24- 38):

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} تفهم مواعظ القرآن، وأحكامه، أخبرنا عقيل ابن محمّد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمّد بن جرير، حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضح، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: ما من النّاس أحدٌ إلاّ وله أربع أعين: عينان في وجهه لدنياه، ومعيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب. وما من أحدٌ إلاَّ وله شيطانٌ متبطّن فقار ظهره، عاطف عنقه على عاتقه، فاغرٌ فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيراً أبصرت عيناه اللّتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب، فيعمل به، وإذا أراد الله بعبد شرّاً طمس عليهما، فذلك قوله: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}.
وبه عن ابن جرير، حدّثنا بشير، حدّثنا حمّاد بن زيد، حدّثنا هشام بن عبده عن أبيه، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتّى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتّى ولي فاستعان به.
{إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} قال قتادة: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد وهم يعرفونه ويجدون نعته مكتوباً عندهم، وقال ابن عبّاس والضحّاك والسدي: هم المنافقون.
{الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} زيّن لهم {وأملى لَهُمْ} قرأ أبو عمرو بضم الألف وفتح الياء على وجه ما لم يُسمَّ فاعله. وقرأ مجاهد، ويعقوب بضمّ الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنّه يفعل ذلك بهم وهو اختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون {وأملى} بفتح الألف بمعنى وأملى الله لهم وهو اختيار أبي عبيدة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} يعني هؤلاء المنافقين أو اليهود {قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} وهم المشركون. {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر} في مخالفة محمّد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد.
{والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} قرأ أهل الكوفة إلاّ أبو بكر بكسر الألف على الفعل، غيرهم بفتحها على جمع السر.
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ} بالتاء قراءة العامّة، وقرأ عيسى بن عمر {توفّيهم} بالياء. {الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} عند الموت، نظيرها في الأنفال والنحل. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شك، يعني المنافقين {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} أحقادهم على المؤمنين، واحدها ضغن، فيبديها لهم حتّى يعرفوا نفاقهم. {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} أي لأعلمناكهم، وعرفناكهم، ودللناك عليهم، تقول العرب: سأُريك ما أصنع بمعنى سأُعلمك، ومنه قوله تعالى: {بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105].
{فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} بعلامتهم، قال أنس بن مالك: ما أخفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنّا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم النّاس، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كلّ واحد منهم مكتوب هذا منافق.
فذلك قوله: {بِسِيمَاهُمْ}.
وقال ابن زيد: قد أراد الله إظهار نفاقهم، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلاّ أن يمسكوا بلا إله إلاّ الله، فلمّا أبوا أن يمسكوا إلاّ بلا إله إلاّ الله، حُقنت دماؤهم، ونَكحوا، ونكحوا بها.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} قال ابن عبّاس: في معنى {القول}: الحُسن في فحواه. القرظي: في مقصده ومغزاه. واللحن وجهان: صواب، وخطأ، فأمّا الصواب فالفعل منه لحن يلحن لحناً، فهو لحن إذا فطن للشيء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض»، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً، فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، وفي الخبر أنّه قيل لمعاوية: إنّ عبيد الله بن زياد يتكلّم بالفارسية، فقال: أليس طريفاً من ابن أخي أن يلحن في كلامه أي يعدل به من لغة إلى لغة، قال الشاعر:
وحديث الذه هو ممّا ** ينعت الناعتون يوزن وزنا

منطق صائب وتلحن أحيا ** ناً وخير الحديث ما كان لحنا

يعني ترتل حديثها.
{والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} بالجهاد {حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} قرأ العامّة كلّها بالنون لقوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد: 30]. وروى أبو بكر والمفضل، عن عاصم كلّها بالياء. وقرأ يعقوب، {ونبلوا} ساكنة الواو ردّاً على قوله: {نعلم}.
قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللّهم لا تبلنا، فإنّك إن بلوتنا هتكت أستارنا، وفضحتنا.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} قال ابن عبّاس: هم المطعمون يوم بدر، نظيره قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [الأنفال: 36]... الآية.
{ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} بمعصيتها، قال مقاتل والثمالي: لا تمنوا على رسول الله فتبطلوا أعمالكم، نزلت في بني أسد. وسنذكر القصة في سورة الحجرات إن شاء الله. وقيل: بالعجب والرياء.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} قيل: هم أصحاب القليب، وحكمها عام {فَلاَ تَهِنُواْ} تضعفوا {وتدعوا إِلَى السلم} إلى الصلح {وَأَنتُمُ الأعلون} لأنّكم مؤمنون محقّون.
{والله مَعَكُمْ} قال قتادة: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} قال ابن عبّاس وقتادة والضحّاك وابن زيد: لن يظلمكم. مجاهد: لن ينقصكم أعمالكم بل يثيبكم عليها، ويزيدكم من فضله، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله» أي ذهب بهما.
{إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ} ربّكم. {أَمْوَالَكُمْ} لا يسألكم الأجر، بل يأمركم بالإيمان، والطاعة ليثيبكم عليها الجنّة، نظيره قوله: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} [الذاريات: 57].. الآية، وقيل: {ولا يسألكم} محمّد صدقة أموالكم، نظيره قوله: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ...} [ص: 86] وقيل: معنى الآية ولا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلّها إنّما يسألانكم غيضاً من فيض، ربع العشر فطيبوا بها نفساً، وإلى هذا القول ذهب ابن عُيينة وهو اختيار أبي بكر بن عبدش، قال: حكى لنا ابن حبيب عنه، يدلّ عليه سياق الآية.
{إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} فيجهدكم ويلحّ ويلحفكم عليها، وقال ابن زيد: الإحفاء أن تأخذ كلّ شيء بيدك.
{تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قال قتادة: قد علم الله تعالى أنّ في مسألة المال خروج الأضغان {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني} عن صدقاتكم وطاعتكم {وَأَنتُمُ الفقرآء} إليها {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} في الطواعية، بل يكونوا أطوع لله تعالى وأمثل منكم، قال الكلبي: هم كندة والنخع. الحسن: هم العجم. عكرمة: فارس والروم. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد ابن الحسين بن عبد الله بن منجويه الدينوري، حدّثنا عمر بن الخطّاب، حدّثنا عبدالله بن الفضل، حدّثنا يحيى بن أيّوب، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عبد الله بن نجيح، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال أُناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله مَنْ هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن إن تولّينا استبدلوا، ثمّ لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان وقال: «هذا وقومه، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلّقاً بالثريا لناله لتناوله رجال من فارس».

.سورة الفتح:

مدنية، وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وستّون كلمة، وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفاً.
أخبرنا عبيدالله بن محمّد الزاهد بقراءتي عليه، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا أبو الأشعث، حدّثنا أبو المعتمر، قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة، عن أنس، قال: لمّا رجعنا من غزوة الحديبية، قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله تعالى عليه: {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً} الآية كلّها.
فقال رسول الله: «لقد نزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً».
أخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل القهندري بقراءتي عليه، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا محمّد بن يحيى، قال: وفيما قرأت على عبدالله بن نافع وحدّثني مطرف، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطّاب ح يسير معه ليلاً، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثمّ سأله فلم يجبه، قال عمر: فحرّكت بعيري حتّى تقدّمت أمام الناس، وخشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد أُنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس»، ثمّ قرأ: {إِنَّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر}.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه الثقفي، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي، حدّثنا محمّد بن عبدالملك، قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: سمعت المسعودي يذكر، قال: بلغني أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً} في التطوّع حفظ ذلك العام.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 9):

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا هنّاد بن السري، حدّثنا يونس بن بكير، حدّثنا علي بن عبد الله التيمي يعني أبا جعفر الرازي، عن قتادة، عن أنس {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: فتح مكّة، وقال مجاهد والعوفي: فتح خيبر، وقال الآخرون: فتح الحديبية.
روى الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلاّ يوم الحديبية.
وروى إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكّة، وقد كان فتح مكّة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر.
أخبرنا عقيل بن محمّد الفقيه أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي، أخبرهم، عن محمّد بن جرير، حدّثنا موسى بن سهل الرملي، حدّثنا محمّد بن عيسى، حدّثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري، قال: سمعت أبي يحدِّث، عن عمّه عبد الرّحمن بن يزيد، عن عمّه، مجمع بن حارثة الأنصاري وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا انصرفنا عنها، إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض النّاس لبعض: ما بال النّاس؟ قالوا: أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي عليه السلام واقفاً على راحلته عند كراع العميم، فلمّا اجتمع إليه الناس، قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}. فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم والّذي نفسي بيده إنّه لفتح». فقسم صلى الله عليه وسلم الخمس بخيبر على أهل الحديبية، لم يدخل فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه العدل، حدّثنا أبو محمّد عبدالله بن محمّد بن شنبه، حدّثنا عبيدالله بن أحمد الكسائي، حدّثنا الحارث بن عبد الله، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: فتح الحديبية، غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محلّه، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال مقاتل بن حيان: يسّرنا لك يُسراً بيّناً، وقال مقاتل بن سليمان: لمّا نزل قوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} [الأحقاف: 9] فرح بذلك المشركون، والمنافقون، وقالوا: كيف نتّبع رجلاً لا يدري ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلاّ واحد، فأنزل الله تعالى بعدما رجع من الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أي قضينا لك قضاءً بيّناً.
{لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فنسخت هذه الآية تلك الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد نزلت عليَّ آية ما يسرّني بها حمر النعم».
وقال الضحاك: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وقال الحسن: فتح الله عليه بالإسلام.
{لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} قال أبو حاتم: هذه لام القسم، لما حذفت النون من فعله كسرت اللام ونُصبَ فعلها بسببها بلام كي، وقال الحسين بن الفضيل: هو مردود إلى قوله: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} و{لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي} وقال محمّد بن جرير: هو راجع إلى قوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} [النصر: 1-3] {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} قبل الرسالة {وَمَا تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه السورة.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبدالله الحافظ، حدّثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدرّاج، حدّثنا حامد بن شعيب، حدّثنا شريح بن يونس، حدّثنا محمّد بن حميد، عن سفيان الثوري {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} ما عملت في الجاهلية {وَمَا تَأَخَّرَ} كلّ شيء لم تعمله.
وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِك} يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك {وَمَا تَأَخَّرَ} ديوان أُمّتك بدعوتك. سمعت الطرازي يقول: سمعت أبا القاسم النصر آبادي يقول: سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول: في قول الله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، قال: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه.
{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي ويثبتك عليه، وقيل: يهدي بك. {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} غالباً. وقيل: مُعزّاً. {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} الرحمة، والطمأنينة {فِي قُلُوبِ المؤمنين} قال ابن عبّاس: كلّ سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلاّ التي في البقرة.
{ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عبّاس: بعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة، فلمّا صدّقوا زادهم الصيام، فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة، فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ، ثمّ زادهم الجهاد، ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك، وقوله تعالى: {ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان.
وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحقّ.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن المبارك، حدّثنا يونس بن محمّد، حدّثنا شيبان، عن قتادة في قوله سبحانه: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال أنس بن مالك: إنّها نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أُنزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً» فقرأها على أصحابه، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا رسول الله، قد بيّن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} قال أهل المعاني: وإنّما كرّر اللام في قوله: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات} بتأويل تكرير الكلام مجازه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} إنّا فتحنا لك {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} أي لن ينصر الله محمّداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} بالذلّ والعذاب {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً * إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها بالياء واختاره أبو عبيد، قال: لذكر الله المؤمنين قبله، وبعده، فأمّا قبله فقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} وقرأها الآخرون بالتاء واختاره أبو حاتم.
{وَتُعَزِّرُوهُ} وقرأ محمّد بن السميقع بزايين، وغيره بالراء أي لتعينوه، وتنصروه. قال عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، أخبرنا علي بن محمّد بن محمّد بن أحمد البغدادي، أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد الشيباني، أخبرنا عيسى بن عبد الله البصري بهراة، حدّثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدّثنا القاسم بن يزيد الحرمي، حدّثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن يحيى بن سعيد القطان، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَتُعَزِّرُوهُ}، قال لنا: ماذا كُم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: لتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ وتعظّموه وتفخموه. وهاهنا وقف تام.
{وَتُسَبِّحُوهُ} أي وتسبحوا الله بالتنزيه والصلاة. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.