فصل: باب في الكفن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب في الكفن:

عَنْ عَائِشةَ رضي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثَلاَثَةِ أثوَاب يَمانيَّةٍ بِيض سَحولية، لَيْسَ فيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَة.
الغريب:
أثواب يمانية: نسجت في اليمن، فنسبت إليه، مفتوح الياء في الأفصح،
سحولية: بيض نقية، ولا تكون إلا من قطن، والنسبة إلى السحل. إما إلى البياض والنقاء، وإما إلى القصّار الذي يبيضها بغسله.
وبعضهم جعلها نسبة إلى قرية في اليمن.
المعنى الإجمالي:
سترة الميت أعظم من سترة الحيّ وأولى بالعناية، ولذا فإن النبي صلى الله عليه أدرج في ثلاث لفائف بيض، ولم يجعل له قميص ولا عمامة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كفن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب ليس معها قميص ولا عمامة. قال النووي: معناه: لم يكفن في قميص ولا عمامة، وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرها، ولم يكن مع الثلاثة شيء. هكذا فسره الشافعي.
2- استحباب البياض والنظافة في الكفن.
3- أن هذه الحال هي أكمل حال لتكفين الميت، لأن الله تعالى. هدى أصحاب نبيه إلى أكمل حال يريدها له، وكما عرفوا ذلك من سنته أيضاً.
4- وفيه جواز الزيادة في الكفن، على اللفافة الواحدة، ولو وجد من يعارض في ذلك من وارثٍ أو غَرِيمٍ.
فائدة:
المستحب في كفن الرجل أن يكون ثلاث لفائف، والمرأة في خمسة أثواب، إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين. والواجب أن يستر جميع بدن الميت.

.باب في صفة تغسيل الميّت وتشييع الجنازة:

الحديث الأول:
عَنْ أمّ عَطِيةَ الأنصَاريَّةِ قَالَتْ: دَخَل عَلَيْنَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفيَتْ ابنتُهُ زَينبُ، فَقَالَ:
«اغْسِلْنَهَا بثَلاَثٍ أوْ خَمس أوْ أكْثرَ مِنْ ذلِكَ، إنْ رَأيتُنَّ ذلِكَ، بمَاء وَسِدْر، وَاجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كافُوراً أوْ شَيْئاً مِنْ كافُور فَإذا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَني».
فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ. فَأعطَانَا حِقْوَهُ فقال: «أشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تعني إزاره».
وفِى رواية: «أوْ سَبْعا» وقال: «إِبْدأنَ بِميَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوضُوء مِنْهَا» وَأنَّ أمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَجَعَلنَا رَأسَهَا ثَلاَثةَ قرونٍ.
الغريب:
رأيتن ذلك: بكسر الكاف، لأن المخاطبة أنثى.
سدر: هو شجر النبق، والذي يغسل به ورقه بعد طحنه.
كافور: نوع من الطيب، من خواصه أنه يصلب الجسد.
آذنني: أي أعلمني.
حقوه: بفتح الحاء وكسرها. موضع شد الإزار، توسعوا فيه فأطلقوه على الإزار نفسه.
أشعرنها إياه: الشعار، بالكسر، ما في الجسد من الثياب، ومعناه: اجعلن إزاري مما في جسدها.
بميامنها: الميامن:- جمع ميمنة بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: {وَأصحَابُ الميمَنَةِ}
المعنى الإجمالي:
لما توفيت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها، دخل النبي صلى الله عليه وسلم على غاسلاتها، وفيهن أم عطية الأنصارية ليعلمهن صفة غسلها، لتخرج من هذه الدنيا إلى ربها، طاهرة نقية فقال:
اغسلنها ثلاثاً، أو خمسا، ليكون قطع غسلهن على وتر أو أكثر من ذلك، إن رَأيْتُنَّ أنها تحتاج إلى الزيادة على الخمس.
وليكون الغسل أنقى، والجسد أصلب، اجعلن مع الماء سدراً، وفي الأخيرة كافورا، لتكون مطيبة بطيب يبعد عنها الهوام، ويشد جسدها.
ووصاهن أن يبدأن بأشرف أعضائها، من الميامن، وأعضاء الوضوء.
وأمرهن- إذا فرغن من غسلها على هذه الكيفية- أن يعلمنه.
فلما فرغن وأعلمنه، أعطاهن إزاره الذي باشر جسده الطاهر، ليشعرنها إياه، فيكون بركة عليها في قبرها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب غسل الميت المسلم، وأنه فرض كفاية.
2- أن المرأة لا يغسلها إلا النساء، وبالعكس، إلا ما استثنى من المرأة مع زوجها، والأمة مع سيدها، فلكل منهما غسل صاحبه.
3- أن يكون بثلاث غسلات، فإن لم يكف، فخمس، فإن لم يكف، زيد على ذلك، وقيد بعض العلماء الزيادة إلى السبع. ولكن المفهوم من قوله: إن رأيتن ذلك التفويض إلى رأيهن بحسب المصلحة والحاجة، ففي رواية الصحيحين أو سبعا أو أكثر من ذلك.
وبعد ذلك إن كان ثَمَّ خارج، سد المحل الذي يخرج منه الأذى.
4- أن يقطع الغاسل غسلاته على وتر، ثلاث، أو خمس، أو سبع.
5- أن يكون مع الماء سدر، لأنه ينقى، ويصلب جسد الميت وأن الماء المتغير بالطاهر باق على طهوريته.
6- أن يطيب الميت مع آخر غسلاته، لئلا يذهب الماء.
ويكون الطيب من كافور، لأنه- مع طيب رائحته- يشد الجسد، فلا يسرع إليه الفساد.
7- البداءة بغسل الأعضاء الشريفة، وهي: الميامن، وأعضاء الوضوء.
8- ضفر الشعر ثلاث ضفائر، وجعله خلف الميت.
9- التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء خاص به، فلا يتعداه إلى غيره من العلماء والصالحين، لأمور كثيرة.
منها: أن هذا الأمر لا يلحقه أحد فيه، لما بينه وبين غيره من الْبَوْنِِ الشاسع.
ثانيا: أن هذه الأشياء توقيفية، لا تشرع إلا بشرع، ولا يوجد من الأدلة ما يُعَدِّيها إلى غيره.
ثالثاً: أن الصحابة يعلمون أن أبا بكر أفضل الأمة، ولم يرد أنهم فعلوا معه ما يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من التسابق على مَاء وَضُوئِهِ، وغيره.
رابعاً: أن التبرك بغيره صلى الله عليه وسلم من الغُلُوِّ الذي هو وسيلة الشرك.
خامساً: أنه فتنة لمن تُبرك به، وطريق إلى تعظيمه نفسه، الذي فيه هلاكه.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال: بَيْنَما رَجُل وَاقِف بِعَرَفَةَ إذْ وَقََعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ- أوْ قَالَ: فَأوْقَصَتْهُ- فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اِغْسِلُوهُ بِمَاء وَسِدْر، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأسَهُ فَإنَّهُ يُبْعَث يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبِّياً».
وفي رواية: «وَلاَ تُخَمرُوا وَجْهَهُ وَلاَ رَأسَهُ»
قال المصنف رضي الله عنه: الوقص، كسر العنق.
غريب الحديث:
وقصته: صرعته فكسرت عنقه.
لا تحنطوه: لا تجعلوا في شيء من غسله أو كفنه حنوطا وهو أخلاط من الطيب تجمع للميت.
لا تخمروا: لا تغطوا يبعث ملبيا: أي يبعث وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، وذلك شعار الإحرام.
المعنى الإِجمالي:
بينما كان رجل من الصحابة واقفاً في عرفة على راحلته في حجة الوداع محرما إذ وقع منها، فانكسرت عنقه فمات.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسلوه كغيره من سائر الموتى، بماء، وسدر. ويكفنوه في إزاره وردائه، اللذين أحرم بهما.
وبما أنه محرم بالحج وآثار العبادة باقية عليه، فقد نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُطيبوه وأن يغطوا رأسه.
وذكر لهم الحكمة في ذلك، وهى أنه يبعثه الله على ما مات عليه، وهو التلبية، التي هي شعار الحج.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب تغسيل الميت، وأنه فرض كفاية.
2- جواز اغتسال المحرم، كما ثبت ذلك في حديث أبي أيوب.
3- الاعتناء بنظافة الميت وتنقيته، إذ أمرهم أن يجعلوا مع الماء سدراً.
4- أن تغير الماء بالطاهرات، لا يخرج الماء عن كونه مطهرا لغيره، إلى كونه طاهراً بذاته غير مطهر لغيره، كما هو المشهور في مذهب أحمد.
بل الصحيح أنه يبقى طاهراً بذاته مطهراً لغيره كما هو مذهب الجمهور، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
5- وجوب تكفين الميت، وأن الكفن مقدم على حق الغريم، والوصيِّ، والوارث.
6- تحريم تغطية رأس الميت المحربم، والوجه للأنثى.
ويؤخذ من قوله: «يبعث ملبيا» بقياس الأولوية، أن ذلك يحرم في حق المحرم الحي. قال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على أن المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الاحرام، وهو مذهب الشافعي وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك وهو مقتضى القياس لانقطاع العبادة وزوال محل التكليف ولكن اتباع الحديث مقدم على القياس.
7- تحريم الطيب على المحرم، حياْ أو ميتا، ذكرا أو أنثى، لأنه ترفُّه، وهو منافٍ للإحرام.
8- أن المحرم غير ممنوع من مباشرة الأشياء التي ليس فيها طيب كالسِّدْرِ، والأشنان، والصابون غير المطيّب، ونحوها.
9- جواز الاقتصار في الكفن على الإزار والرداء.
وبهذا يعلم أنه يكفي للميت لفافة واحدة، لأن الإزار والرداء بقدر اللفافة.
10- فضل من مات محرماً، وأن عمله لا ينقطع إلى يوم القيامة، حين يبعث عليه.
11- أن من شرع في عمل صالح- من طلب علم أو جهاد، أو غيرهما ومن نيته أن يكمله، فمات قبل ذلك- بلغت نيته الطيبة، وجرى عليه ثمرته إلى يوم القيامة.
الحديث الثالث:
عَنْ أبي هُريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسْرِعُوا بالْجَنَازَةِ فَإن تَكُ صَالِحَةً فَخْيرٌ تُقَدمُونَهَا إِليهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذلِكَ فشَرٌّ تضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ».
المعنى الإجمالي:
الإنسان من روح وجسد، وفضله وشرفه، ونفعه، وثمرته في روحه.
فإذا ما فارقت روحه جسده، بقي بلا نفع، ولا فائدة في بقائه بين ظَهْرانَيْ أهله جيفة بل كلما مكثت تشوه منظرها وتعفن ريحها.
لذا أمر الشارع الحكيم بالإسراع في تجهيزها، من التغسيل، والصلاة، والحمل، والدفن.
وأرشدهم إلى حكمة الإسراع بها، وذلك أنها إذا كانت صالحة، فإنها ستقدم إلى الخير والفلاح، ولا ينبغي تعويقها عنه، وهي تقول: قَدِّموني قدموني، وإن كانت سوى ذلك، فهي شر بينكم، فينبغي أن تفارقوه، وتريحوا أنفسكم من عنائه ومشاهدته، فتخففوا منه بوضعه في قبره.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب الإسراع بتجهيز الميت وفي حمله، لكن بغير سرعة يحصل معها ضرر على الجنازة، أو على المشيعين.
2- يقيد الإسراع بما إذا لم يكن الموت فجأة يخشى أن يكون إغماء.
فينبغي أن لا يدفن حتى يتحقق موته، أو يكون في تأخيره مصلحة، من كثرة المصلين، أو حضور أقاربه. ولم يُخش عليه الفساد.
3- فيه طلب مصاحبة الأخيار، والابتعاد عن الأشرار.
4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من كان مظهراً للإسلام فإنه تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة من المناكحة والموارثة وتغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك.
الحديث الرابع:
عَن أم عطيةَ الأنصارية رضيَ الله عنها قالَتْ: نُهينا عن اتّباع الجنائزِ ولم يُعْزَمْ علينا.
المعنى الإجمالي:
أم عطية الأنصارية من الصحابيات الجليلات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن اتباع الجنائز، لما فيهن من شدة الرقة والرأفة، فليس لديهن صبر الرجال وتحملهم للمصائب. ولكن مع هذا فهمت من قرائن الأحوال أن هذا النهي ليس على سبيل العزم والتأكيد، فكأنه لا يفيد تحريم ذلك عليهن.
ما يؤخذ من الحديث:
1- نهي النساء عن اتباع الجنائز، وهو عام في اتباعها إلى حيث تجهيز ويصلى عليها وإلى المقبرة حيث تدفن.
2- علة النهي أن النساء لا يطقن مثل هذه المشاهد المحزنة والمواقف المؤثرة، فربما ظهر منهن من التسخط والجزع ما ينافي الصبر الواجب.
3- الأصل في النهي التحريم إلا أن أم عطية فهمت من قرينة الحال أن نهيهن عن اتباع الجنائز ليس جازما مؤكدا.
4- لكن قال ابن دقيق العيد: قد وردت أحاديث أدل على التشديد في اتباع الجنائز أكثر مما يدل عليه هذا الحديث.

.باب في مَوقِف الإمام من الميت:

عَنْ سمرة بنِ جُنْدَب رضيَ الله عنْهُ قال: صَليتُ وَرَاءَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى امرَأةٍ مَاتَتْ في نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسطهَا.
الغريب:
وسطها: بإسكان السينِ في الرواية.
والفرق ببن ما سكنت سينه، وما حركت، ما قاله الجوهري وهو أن ما صلحت فيه بين يسكن ومالا تصلح فيه، يفتح.
يقال: جلست وسط القوم. بالسكون، وجلست وسَط الدار، بالفتح.
نفاسها: بكسر النون، أي ماتت في مدته أو بسببه.
المعنى الإجمالي:
صَلَّى سمرة بن جندب وراء النبي صلى الله عليه وسلم يخش حين صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام صلى الله عليه وسلم إزاء وسطها وذلك ليسترها عن أعين المصلين أثناء وضعها أمامهم، قبل أن يتخذ لهن المحفة فوق السرير. والله أعلم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الصلاة على الجنازة ومشروعيتها.
2- أن موقف الإمام من المرأة يكون وسطها، سواء ماتت من نفاس أو غيره.
فالعبرة من الحديث وصفها بأنها امرأة، لا بكونها نفساء. فإنه وصف غير معتبر بالاتفاق.
3- أن النفساء- وإن حازت الشهادة بموتها في نفاسها- يصلى عليها فلا تأخذ حكم شهيد المعركة.
4- علل بعضهم الحكمة في الوقوف وسط المرأة بأنه أستر لها من الناس.
فائدة:
موقف الإمام من الرجل إزاء رأسه، لما روى الترمذي وحسنه أن أنساً صَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْد رأسِهِ ثُم صَلَّى عَلَى امرَأةٍ فَقامَ حيَالَ وَسطِ السَّرير.
فَقَال العلاَءُ بنُ زَياد: هكَذَا رَأيتَ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الجَنَازَةِ مقَامَك مِنْهَا، وَمِنَ الرجل مَقَامكَ مِنْه؟.قَالَ: نَعَمْ.
وإذا اجتمع جنائز، فيكفيهن صلاة واحدة.
فإن كانوا نوعاً واحدا، قدم إلى الأمام أفضلهم بعلم أو تُقىً، أو سن.
وإن كانوا رجالا ونساءً، قدم الرجال على النساء.
والصلاة على الجنازة شفاعة من المصلين للميت.
فينبغي إخلاص الدعاء، وإحضار القلب لعل الله أن يتجاوز عنه ويمحو عنه ذنوبه، عند خروجه من الدنيا.

.باب في تحْريم التسخط بالفعل والقول:

الحديث الأول:
عَنْ أبي مُوسَى- عَبْدِ الله بن قَيْس- رضيَ الله عَنْهُ أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَرِيء مِنَ الصَّالِقَةِ والحَالِقةِ وَالشَّاقَّةِ.
قال المصنف: الصالقة، التي ترفع صوتها عند المصيبة.
الحديث الثاني:
عَنْ أبي عَبدِ الله بن مَسعُوُد رضي الله عنه عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس مِنَّا مَنَ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجيُوبَ وَدَعَا بِدَعوى الجَاهِليةِ».
الغريب:
1- الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، بالنَّوْح والعويل.
2- الحالقة: التي تحلق شعرها، أو تنتفه من شدة الجزع والهلع.
3- الشاقة: التي تشق جيبها أو ثوبها تَسَخُّطاً في قضاء الله.
4- دعوى الجاهلية: وذلك بالتفجع كل الميت والنياحة عليه بأنه قاتل النفوس وكهف العشيرة وكافل الأيتام.. إلى غير ذلك من المناقب التي كانوا يعددونها، ومثله الندبة كـ ياسنداه وانقطاع ظهراه وكل قول ينبيء عن السخط والجزع من قدر الله تعالى وحكمته.
5- ضرب الخدود لطمها، وقد جاء بالجمع مناسبة لما بعده.
6- الجيب: ما شق من الثوب لإدخال الرأس.
المعنى الإجمالي:
لله ما أخذ، وله ما أعطى وفي ذلك الحكمة التامة، والتصرف الرشيد.
ومن عارض في هذا ومانعه فكأنما يعترض على قضاء الله وقدره الذي هو عين المصلحة والحكمة وأساس العدل والصلاح.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه من تسخطَ وجزع من قضاء الله فهو على غير طريقته المحمودة، وسنته المنشودة، إذ قد انحرفت به الطريق إلى ناحية الذين إذا مسهم الشر جزعوا وهلعوا، لأنهم متعلقون بهذه الحياة الدنيا فلا يرجون بصبرهم على مصيبتهم ثواب الله ورضوانه.
فهو بريء ممن ضعف إيمانهم فلم يحتلوا وَقّعَ المصيبة حتى أخرجهم ذلك إلى التسخط القولى بالنياحة والندب، أو الفعلي، كنتف الشعور، وشق الجيوب، إحياءً لعادة الجاهلية.
وإنما أولياؤه الذين إذا أصابتهم مصيبة سلَّموا بقضاء الله تعالى، ويقالوا: {إِنَّا لله وإِنا إليه رَاجعُونَ. أولئِكَ عَلَيهِم صَلَوات مِنْ رَبِّهِم وَرَحمَة وَأولئِكَ هُمُ المُهتدُونَ}.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم التسخط من أقدار الله المؤلمة، وإظهار ذلك بالنياحة أو الندب أو الحلق أو الشق أو غير ذلك كَحَثي التراب على الرأس.
2- تحريم تقليد الجاهلية بأمورهم التي لم يقرهم الشارع عليها، ومن جملتها دعاويهم الباطلة عند المصائب.
3- أن هذا الفعل وهذا القول من الكبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تَبَرَّأ ممن عمل ذلك، ولا يتبرأ إلا من فعل كبيرة.
4- لا بأس من الحزن والبكاء، فهو لا ينافي الصبر على قضاء الله. وإنما هو رحمة جعلها الله في قلوب الأقارب والأحِبَّاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم حزن وذرفت عيناه وقال: لا نقول إلا ما يرضي الرب. وبعضهم استحب البكاء.
وللعلماء والعارفين في هذا الباب، آراء يذهبون فيها حسبما تُوحِى إليهم نزعاتهم الدينية.
فائدتان:
الأولى: الإيمان بالله تعالى، وحسن رجاء العبد بره ومثوبته، ظل ظليل يأوي إليه كل من لفحته سمائم الحياة المحرقة، فإنه يجد فيه الراحة والأنس والأمن، لما يرجوه من ثواب الله تعالى وجزيل عطائه للصابرين.
فترخص عنده الحياة وتسهل عليه الأمور ولذا قيل: من عرف الله هانت عليه مصيبته.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجباً للمؤمن، إن أمره كله عجب، إن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء، فصبر، كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن». ولما فقد الناس هذا الظل الوارف من الإيمان بربهم والرجاء لحسن جزائه والأمل في كريم مثوبته صرنا في هذا الزمن نرى. والعياذ بالله- كثرة حوادث الانتحار ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فيقتلون أنفسهم ويعجلون بأرواحهم إلى النار، لأنهم لم يستروحوا هذا الظل الذي يجده المؤمن بربه، الواثق بوعده.
بل عند أتْفَهِ الأسباب يئدون أعمارهم، ولا يدرون بأنهم بتعجلهم المزرى- ينتقلون إلى عذاب أشد مما هم فيه، وأنهم كالمستنجد من الرمضاء بالنار.
فليس لديهم قلب المؤمن الراضي الذي تهون عنده المصائب بجانب ما عند الله من الجزاء الكريم.
الثانية: مذهب أهل السنة والجماعة، أن المسلم لا يخرج من دائرة الإسلام بمجرد فعل المعاصي وإن كبرت، كقتل النفس بغير حق.
ويوجد كثير من النصوص الصحيحة تفيد بظاهرها خروج المسلم من الإسلام لفعله بعض الكبائر، وذلك كهذين الحديثين: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب» إلخ.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم (بريء من الصالقة والحالقة) ومثل: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» كحديث: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه» وحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وغير هذا كثير.
وقد اختلف العلماء في المراد منها.
فمنهم من رأى السكوت عنها، وأن تمر كما جاءت، وذلك أنه يراد بها الزجر والتخويف، فتبقى على تهويلها وتخويفها. ومنهم من أوَّلَهَا.
وأحسن تأويلاتهم ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من أن الإيمان نوعان:
أ- نوع يمنع من دخول النار. ب- ونوع لا يمنع من الدخول، ولكن يمنع من الخلود فيها.
فمن كمل إيمانه وسار على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه الكامل، فهو الذي يمنعه إيمانه من دخول النار.
وقال رحمه الله: إنّ الأشياء لها شروط وموانع، فلا يتم الشيء إلا باجتماع شروطه وانتفاء موانعه.
مثال ذلك إذا رتب العذاب على عمل، كان ذلك العمل موجباً لحصول العذاب ما لم يوجد مانع يمنع من حصوله.
وأكبر الموانع، وجود الإيمان، الذي يمنع من الخلود في النار.
الحديث الثالث:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قالت: لَمَّا اشتَكَى النَبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ بعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَة رَأتْهَا بأرض الحَبَشةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأمُّ حَبيبَةَ أتتا أرْضَ الحَبَشَةَ فَذَكَرَتَا من حُسْنِهَا وَتَصَاوير َ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأسَهُ صلى الله عليه وسلم وَقالَ:
«أولئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصالح بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً ثُمَّ صَورُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَ، أولئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله».
الغريب:
اشتكى: من الشكوى، أي المرض.
الكنيسة: متعبد النصارى وتجمع على كنائس.
شرار: جع شر وهى صفة مشبهة مثل بر.
المعنى الإجمالي:
كانت أم سلمة وأم حبيبة من المهاجرات إلى أرض الحبشة، قبل أن يتزوج بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان في مرضه الذي توفى فيه صلى الله عليه وسلم، ذكرتا له ما رأتاه من كنيسة في مهاجرهما الأول، وما فيها من حسن الزخرفة والتصاوير، فلم يشغله مرضه عليه الصلاة والسلام عن أن يبين ما في عملهم في كنائسهم، وفي موتاهم من المحاذير.
لذا رفع رأسه وقال: إن هؤلاء الذين تذكران من كنائسهم وتصاويرهم كانوا يتعدون الحدود، ويغلون في موتاهم، فإذا مات الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصورُوا تلك الصور.
وبما أن عملهم هذا منافٍ للتوحيد، الذي هو أوجب الواجبات، وضرره لا يقتصر على من هم عليه بل يتعداهم إلى غيرهم من المغرورين الجاهلين، فإن فاعليه شر الخالق عند الله تعالى.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم البناء على القبور، وأنه من التشبه بالمشركين،ومن وسائل الشرك.
2- تحريم التصوير لذي الروح، لاسيما لأهل الصلاح الذين يخشى من صورهم الفتنة.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في التشديد. وهذا القول عندنا باطل قطعا. وصوب الصنعاني قول ابن دقيق العيد.
وقال النووي: تصوير الحيوان من الكبائر، لأنه توعد هذا الوعيد الشديد. إلا أن الممنوع ما كان له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتحاده. قال الصنعاني: وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك. وأيد ابن حجر القول بتحريم ماله ظل وما ليس له ظل أخذاً بحديث أخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع فيها صورة إلا انتزعها».
3- أن من عمل هذا، فهو من شر خلق الله لما في عمله من المحاذير الكثيرة والعواقب الوخيمة عليه وعلى غيره.
4- فيه كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يصرفه عن الموعظة ما يقاسيه من الألم.
الحديث الرابع:
عن عَائشة رَضي الله عَنْهَا قالت قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه:
«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره. غير أنه خُشي أن يُتَّخذ مسجداً.
المعنى الإجمالي:
كانت عائشة رضي الله عنها، هي التي مَرَّضت النبي صلى الله عليه وسلم، مرضه الذي توفى فيه، وهى الحاضرة وقت قبض روحه الكريم.
فذكرت أنه في هذا المرض الذي لم يقم منه، خشي أن يتخذ قبره مسجداً، يصلى عنده، فتجر الحال إلى عبادته من دون الله تعالى. فقال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر من عملهم.
ولذا علم الصحابة رضي الله عنهم مراده، فجعلوه في داخل حجرة عائشة.
ولم ينقل عنهم، ولا عن من بعدهم من السلف، أنهم قصدوا قبره الشريف ليدخلوا إليه فيصلوا ويدعوا عنده.
حتى إذا تبدلت السنة بالبدعة، وصارت الرحلة إلى القبور، حفظ الله نبيه مما يكره أن يفعل عند قبره، فصانه بثلاثة حجب متينة، لا يتسنى لأي مبتدع أن ينفذ خلالها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي الأكيد، والتحريم الشديد، من اتخاذ القبور مساجد، وقصد الصلاة عندها. قال الصنعاني رحمه الله تعالى: إن ذلك ذريعة إلى تعظيم الميت والطواف بقبره والتمسح بأركانه والنداء باسمه، وهذه بدعة عظيمة عمت الدنيا وعبد الناس القبور وعظموها بالمشاهد والقباب، وزادوا على فعل الجاهلية فأسرجوها وجعلوا لها نصيبا من أموالهم؟ كما قال تعالى: {ويجعلون لمالا يعلمون نصيبا مما رزقناهم}.
وذكر أنه قد وردت بعض الأحاديث التي تدل على أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل به السلف شيئا من هذا القبيل فقد أخرج أبو داود عن القاسم بن محمد أنه دخل على عائشة فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة أي قبره وقبر صاجيه، وذكر الصنعاني أن ذلك غير جائز سواء أكان القبر في قبلة المسجد أم غيرها.
2- أن هذا من فعل اليهود والنصارى، فمن فعله فقد اقتفى أثرهم، وترك سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
3- أن الصلاة عند القبر، سواء كانت بمسجد أو بغير مسجد، من وسائل الشرك الأكبر.
4- أن الله تعالى صان نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يُعْمَلَ الشرك عنده، فألهم أصحابه ومن بعدهم، أن يصونوه.
5- أن هذا من وصاياه الأخيرة التي أعدها لآخر أيامه لتحفظ.
الحديث الخامس:
عَنْ أبي هُريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من شَهدَ الْجَنَازَةَ حَتًى يُصَلَى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاط، وَمن شَهدَهَا حَتَّى تُدْفَن فَلَهُ قيرَاطَانِ».
قيل: وَمَا القيرَاطَانِ؟ «قالْ: مِثل الْجَبَلين العظيمَين».
ولـ مسلم: «أصْغَرُهمَا مِثْل جَبل أحُدٍ».
المعنى الإجمالي:
الله تبارك وتعالى لطيف بعباده، ويريد أن يهيىء لهم أسباب الغفران، لاسيما عند مفارقتهم الدنيا، التي هي دار العمل، إلى دار يطوى فيها سجِلُّ أعمالهم.
ولذا فإنه حضَّ على الصلاة على الجنازة وشهودها، لأن ذلك شفاعة تكون سبباً للرحمة.
فجعل لمن صلَّى عليها قيراطا من الثواب، ولمن شهدها حتى تدفن قيراطاً آخر. وهذا مقدار من الثواب عظيم ومعلوم قدره عند الله تعالى.
فلما خَفِي على الصحابة- رَضي الله عنهم- مقداره، قرَّبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أفهامهم، بأن كل قيراط مثل الجبل العظيم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الفضل العظيم في الصلاة على الجنازة وتشييعها حتى تدفن. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المشي أمامها أفضل. قال ابن المنذر: إنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة.
2- أنه يحصل للمصلى والمشيع حتى تدفن، ثواب لا يعلم قدره إلا الله تعالى.
3- أن في الصلاة على الميت، وتشييع جنازته، إحساناً إلى الميت، وإلى المصلى والمشيع.
4- فضل الله تعالى على الميت، حيث حض على تكثير الشفعاء له بأجر من عنده.
5- أن نسبة الثواب بنسبة الأعمال التي يقوم بها العبد.
حيث إنه جعل للمصلى قيراطاً، وللمصلي والمشيِّع، قيراطين.
زيارة القبور:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الزيارة تنقسم إلى قسمين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية، فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بمنزلة الصلاة على جنازته كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المسلين والمؤمنين، وإنا- إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.
وأما الزيارة البدعية فمثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده، أو الدعاء عنده، أو الدعاء به، أو طلب الحوائج منه أو طلبها من الله تعالى عند قبره، أو الاستغاثة به ونحو ذلك. فهذا من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نهى عن ذلك أئمة المسلمين الكبار.