فصل: كتاب الزكاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب الزكاة:

الزكاة- في اللغة، النماء والتطهر بمعنى الزيادة والطهارة.
وفي الشرع- حق واجب في مال خاص:- وهو بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والنقدان، وعروض التجارة، لطائفة مخصوصة، وهم الأقسام الثمانية المذكورون في سورة التوبة، في وقت خاص، وهو تمام الحَول.
وسميت في الشرع زكاة، لوجود المعنى اللغوي فيها، وهو تنمية المال، وتطهيره وتطهير صاحبه.
وهي أحد أركان الدين، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح يقتضيها.
ولوجوبها شروط، أهمها الإسلام، فلا تجب على كافر، وإن كان يخاطب عنها في الآخرة، ويعذب على تركها.
وثانيها- ملك النصاب، ويأتي بيان مقداره إن شاء الله تعالى.
وثالثها- مُضى الحَول إلا في الخارج من الأرض، فحوله حصوله، كما يأتي:
وهي من محاسن الإسلام، الذي جاء بالمساواة، والتراحم، والتعاطف، والتعاون، وقطع دابر كل شرٍّ يهدد الفضيلة والأمن والرخاء، وغير ذلك من مقومات البقاء لصلاح الدنيا والآخرة.
فقد جعلها الله طهرة لصاحبها من رذيلة البخل، وتنمية حسية ومعنوية من آفة النقص، ومساواة بين خلقه بما خوَّلهم من مال، وإعانة من الأغنياء لإخوانهم الفقراء، الذين لا يقدرون على ما يقيم أودهم من مال، ولا قوة لهم على عمل. وتحقيقا للسلام، الذي لا يستقر بوجود طائفة جائعة، ترى المال المحرومة منه، وتأليفا للقلوب، وجمعاً للكلمة حينما يجود الأغنياء على الفقراء بنصيب من أموالهم. وبمثل هذه الفريضة الكريمة يُِعْلَمُ:
أن الإسلام هو دين العدالة الاجتماعية، الذي يكفل للفقير العاجز العيش والقوت، وَلِلغني حرية التملك مقابل سعيه وكدحه.
وهذا هو المذهب المستقيم الذي به عمارة الكون، وصلاح الدين والدنيا.
فلا شيوعية متطرفة، ولا رأسمالية ممسكة شحيحة. وقد حذر الله من منع الزكاة في نصوص كثيرة، وتوعد على ذلك بالعذاب الشديد، فمن ذلك قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، يطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}.
وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، يطوقه يوم القيامة ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك».
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بن عباس رَضيَ الله عَنْهمَا قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لمُعَاذِ بن جَبَل حِينَ بَعَثَهُ إلى اليمَنِ: «إنك ستأتي قوْما أهل الكتاب، فَإذَا جئتهم فادعُهم إِلى أنْ يشهدوا أنْ لاَ إله إلا الله وَأن محمدا رسولُ الله فَإن هُم أطَاعُوا لَكَ بِذلِكَ فأخْبِرْهُم أن الله قد فَرَض عَلَيهم خمس صَلَوَاتٍ في كل يَوم وليلة. فَإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذلك، فَأخبِرهُمْ أن الله قَدْ فَرَضَ عَليهم صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أغنِيَاِئهمْ فترَدُّ عَلَى فُقَرَائِهمْ. فَإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلكَ، فَإيَّاكَ وكرَائمَ أمْوَالِهم. وَاتقِ دَعْوَةَ المَظْلُوم، فَإنهُ لَيْسَ بينهَا وَبينَ الله حِجَابٌ».
المعنى الإجمالي:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، داعياً ومعلما، وقاضياً، فبين له صلى الله عليه وسلم صفة الدعوة والحكمة الرشيدة.
فأخبره- أولا- عن حال من سيقدم عليهم، لأن لكل أناس خطابا يلائمهم.
فأخبره أنهم أهل الكتاب، عندهم علم وحجج يجادلون بها، ليأخذ لهم الأهبة.
ثم أمره أن يدعوهم بالأهم فالأهم.
فأهم شيء، الشهادتان، لأنهما الأساس، الذي لا يقوم بناء بدونه.
فلا تصح العبادات إن لم يوجد الإقرار قلباً وقالبا بهما.
ثم أمره إذا أطاعوه بهما، أن يدعوهم إلى أهم العبادات وهى الصلوات الخمس المكتوبة.
ثم يبين لهم- بعد التزام الصلاة- فريضة، الزكاة التي هي قرينة الصلاة، وهي العبادة المالية بعد العبادة البدنية، وأن القصد منها، المواساة بين المسلمين، ولذا فإنها تؤخذ من الأغنياء، فترد على الفقراء.
ثم يبين له مالهم من حق الإنصاف والعدل. بعد التزامهم بأداء الزكاة.
وهي أن لا يأخذ الزكاة من الكرام الطيبات، بل يأخذ من الوسط، لأن مبناها على المواساة.
وبما أن للساعي سلطة، يخشى أن يستغلها في ظلم الرعية فقد حذره من الظلم، لئلا يدعو عليه المظلوم الذي تجد دعوته أبواب السماء مفتحة، فتلج حتى تصل إلى الحكم العدل، فينتصف لصاحبها الذي طلب حقه منه، وهو مجيب دعوة المضطرين.
الأحكام المأخوذة من الحديث:
1- قوله: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب» هو توطئة وتمهيد للوصية باستجماع همته في دعوتهم، فإن أهل الكتاب لديهم علم، ولا يخاطبون كما يخاطب جهال المشركين.
2- الاستعداد بالحجج والعلم، لمجادلة أعداء الدين، ورد شبههم الباطلة.
3- تعلم وتعليم حسن الدعوة إلى الله تعالى، لتكون الدعوة بالحكمة.
4- الدعوة إلى الله، تكون بالأهم فالأهم.
5- أن أهم شيء هو التوحيد، لأنه الأساس الذي لا تصح العبادات بدونه. وهذا هو المراد من تقديم الدعوة أولا إلى التوحيد والإيمان.
6- أن الصلوات الخمس تأتي في المرتبة الثانية، لأنها عمود الدين.
7- أن الزكاة تأتى في الدرجة الثالثة. ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الأركان إلا ثلاثة مع أنه بعث معاذا بعد فرض الصوم والحج وفى هذا نكتة أجاب عنها العلماء بأن قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} هو من سورة براءة التي نزلت بعد فرض الصوم والحج قطعا، فكأن الحديث مساوقة لهذه اللفتة القرآنية. هذا مع إجماع العلماء على أن أركان الإسلام خمسة لا يتم إلا بها كلها.
8- أنه لا ينتقل من دعوة إلى أخرى، حتى يطاع في الأولى.
9- أن الزكاة مواساة، لأنها تؤخذ من الأغنياء لتعطى الفقراء.
10- أنه لا يحل للساعي أن يأخذ من الجيد العالي، بل يأخذ الوسط إلا إذا سمح بذلك رب المال، بلا حياء ولا إكراه، فالحق له وقد بذله.
11- أن يخشى الساعي من ظلم الناس، فإن ظلمهم سبب في دعائهم عليه الذي لا يرده الله تعالى، لأنه طلب العدل والحكم، والله أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين. وفي الحديث دليل على فداحة الظلم.
12- مشروعية بعث الإمام السعاة لجبى الزكاة. وأن الذمة تبرأ بدفعها للإمام أو سعاته.
13- في الاقتصار على الصلوات الخمس، دليل على عدم وجوب الوتر.
14- جواز صرف الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية.
15- قوله: «على فقرائهم» استدل به على عدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر.
والصحيح جواز نقلها، لاسيما مع المصلحة، بأن يكون له أقارب فقراء في غير بلد المال، أو إعانة على جهاد أو علم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عماله على الصدقة فيأتون بها المدينة ليفرقها فيها وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد. والمشهور من مذهبه القول الأول.
16- ومما يضعف القول بعدم نقلها أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر، فقد وردت مخاطبتهم بالصلاة، لا يختص بهم الحكم قطعاً.
الحديث الثاني:
عَنْ أبى سَعِيدٍ الخُذري رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: قالَ رسُولُ الله:
«ليسَ فِيمَا دُونَ خَمْس أوَاقٍ صَدَقَة، وَلاَ فَيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَة».
الغريب:
أواق: مفردها أوقية. والأوقية تعادل أربعين درهماً، ويأتي ضبط النصاب بالعملة الحاضرة إن شاء الله.
ذَوْد: الذود، ليس له مفرد من لفظه، ويطلق على الثلاث من الإبل إلى العشر.
أوسق: الوسق بفتح الواو على المشهور. وأصله في اللغة الحمل.
والمراد به هنا، ستون صاعا بالصاع النبوى، ويأتي تحديد النصاب في مكيالنا الحاضر.
دون: أقل. وقد بينتها رواية مسلم: «ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق».
المعنى الإجمالي:
الزكاة، مواساة بين الأغنياء والفقراء، ولذا فإنها لا تؤخذ ممن ماله قليل لا يعد به غنيا.
فالشارع بين أدنى حد لمن تجب عليه. وأما من يملك دون الحد الأدنى. فإنه فقير لا يؤخذ منه شيء.
فصاحب الفضة، لا تجب عليه حتى يكون عنده خمس أواق، وكل أوقية أربعون درهماً، فيكون نصابه منها مائتى درهم.
وصاحب الإبل لا تجب عليه الزكاة حتى يكون عنده خمس فصاعداً، ومادون ذلك ليس فيها زكاة.
وصاحب الحبوب والثمار، لا تجب عليه حتى يكون ما عنده خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فيكون نصابه ثلاثمائة صاع.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الزكاة على من عنده الأنصبة المذكورة، أو شيء منها وتحديد الأنصبة مواساة بين الأغنياء والفقراء.
2- عدم وجوبها، على من قصر ماله عن هذه التحديدات. وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما تنبت الأرض. والإمام مالك يسامح بالنقص اليسير.
3- إذا بلغت الفضة مئتى درهم، ففيها ربع عشرها، وإذا بلغت الإبل- خمساً، ففيها شاة، والعشر شاتان، والخسة عشر، ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه.
فإذا بلغت خمسا وعشرين، ففيها بنت مخاض من الإبل، وما بين ذلك وقص، ليس فيه زكاة، ثم تؤخذ في أسنان الإبل كما فصل في حديث أنس. وإذا بلغت الحبوب أو الثمار خمسة أوسق، وهو ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.
فإن كانت تسقى بكلفة، كالسواني والمكائن، ففيها نصف العشر.
وإن كانت تسقى بلا كلفة كالأنهار والعيون الجارية على وجه الأرض، ومثله الأرتوازي الذي يفيض ماؤه على وجه الأرض، ففيها العشر. لقوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالسانية نصف العشر» أخرجه مسلم من حديث جابر.
4- لم يذكر في الحديث الذهب لأن غالب عملتهم الفضة وأخرج أبو داود عن على مرفوعا: «ليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارا» قال ابن حجر: هو حسن وقال ابن عبد البر: الإجماع على أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً.
5- الزكاة تجب في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر عن الأئمة، مالك والشافعي وأحمد. أما أبو حنيفة فأوجبها حتى في الخضروات. والقول الأول أرجح، لأن ما يكال ويدخر هو الذي كملت فيه النعمة ولما روى الدارقطني مرفوعا: «لا زكاة في الخضروات» وهو حديث ضعيف. إلا أن له ما يعضده.
بيان مقدار زكاة النقدين في عملتنا الحاضرة:
نصاب الذهب عشرون مثقالا إسلاميا، والمثقال وثلثا المثقال، بوزن، جنيه إنجليزي أو جنيه سعودي.
فيكون نصاب الذهب فيهما اثنى عشر جنيها سعودياً أو إنجليزياً لأن وزنهما واحد.
ونصاب الفضة، مئتا درهم، وبالريال الفرنسى اثنان وعشرون ريالا، وبالريال العربي السعودي، خمسة وخمسون ريالا.
بيان مقدار زكاة الحبوب والثمار في مكيالنا الحاضر:
نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً نبوياً. فيكون النصاب بالصاع النبوي ثلاثمائة صاع.
والصاع النبوي أقل من الكيلة الحجازية والصاع النجدي بالخمس وخمس الخمس.
فيكون مقدار نصاب زكاة الحبوب والثمار بالصاع النجدي والكيلة الحجازية، مِئَتيْ صاع وثمانية وعشرين صاعا، ومثاله الكيلة. والله أعلم.
لحديث الأول:
عَنْ أبي هريرة رضيَ الله عنهُ أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس عَلَى المسلم في عبدِهِ وَلاَ فَرَسهِ صَدَقَة». وفي لفظ: «إِلا زكاة الفطر في الرقيق».
المعنى الإجمالي:
تقدم أن الزكاة، مبناها على المساواة والعدل، لذا أوجبها الله تعالى في أموال الأغنياء النامية والمعدة للنماء، كالخارج من الأرض، وعروض التجارة.
أما الأموال التي لا تنمو- وهي باقية للقنية والاستعمال- فهذه ليس فيها زكاة على أصحابها.
وذلك كمركبه، من فرس، وبعير، وسيارة، وكذلك عبده المعد للخدمة، وفرشه وأوانيه المعدة للاستعمال.
لكن يستثنى من ذلك زكاة الفطر للعبد، فإنها تجب وإن لم يعدّ للتجارة، لأنها متعلقة بالبدن لا بالمال.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن الزكاة لا تجب في العبد الذي للخدمة والفرس المعدة للركوب قال ابن القيم في تهذيب السنن. إنما سقطت الصدقة عن الخيل والرقيق إذا كانت للخدمة والركوب. فأما ما كان منها للتجارة ففيه الزكاة في قيمتها.
2- أن زكاة الفطر واجبة للعبد مطلقا، سواء أكان للخدمة أم للتجارة. لأنها متعلقة بعينه لا بقيمته كأموال العروض.
3- أن كل ما أعد للاستعمال والاقتناء، لا تجب فيه الزكاة، لأنها مبنية على المساواة وإذا لم ينم المال، أكلته الزكاة فيتضرر صاحبه.
4- ما تقدم من كون الزكاة لا تجب إلا في المال النامي، هو مأخذ الذين لا يوجبون الزكاة في الحُلي المعد للاستعمال، وهو مأخذ جيد.
ولكن ورد في الذهب والفضة نصوص توجب قوة القول بوجوب الزكاة في الحُلي مطلقا، لذا فالاحتياط إخراج الزكاة عنه.
5- بمثل هذه المقارنات الشرعية بين حق الفقير والغنى، تعلم سماحة هذه الشريعة وعدل أحكامها، ونظرها في أحوال الناس بعين المصلحة العامة {وَمَنْ أحْسَنُ مِن الله حُكْماً لِقَوم يوقنُونَ}.
الحديث الثاني:
عَنْ أبي هريرة رضي الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله قَال: «العَجمَاءُ جُبَار، وَالبِئْرُ جُبار، والمَعْدِنُ جُبَار، وفي الركَازِ الخمس».
الجبار: الهدر الذي لاشيء فيه. والعجماء: الدابة البهيم.
الغريب:
العَجماء: بفتح العين، وإسكان الجيم، ممدودة- وهى البهيمة.
سميت عجماء لأنها لا تتكلم.
المعدن: هو المكان الذي تستخرج منه الجواهر وأمثالها.
جبار: بضم الجيم، يعني هدر، لا ضمان فيه.
الركاز: بكسر الراء، وتخفيف الكاف، آخره زاى، أي المركوز (المغروز) في الأرض وهو دفن الجاهلية.
المعنى الإجمالي:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء التي يحصل فيها تلف خارج عن قدرة الإنسان وتسببه وإهماله، وأنه ليس عليه- من جراء إتلافها- شيء.
وذلك كالبهيمة التي لم يفرط في إرسالها، ولم يكن متصرفا فيها فتتلف زرعاً أو تضر أحداً بعضٍّ أو ضرب بيدها، أو رَمْح برجلها.
وكذلك لو أمر إنسانا بدون إكراه له، أو تغرير به، بنزول في بئر، أو عمل، فلا ضمان على الآمر، لأنه لم يحصل منه تَعَد ولا تفريط.
أما لو أكرهه على ذلك، أو كان يعلم أن في هذه الأشياء ونحوها خطراً فغره ولم يعلم بذلك، فإن عليه الضمان.
ثم ذكر أن من وجد كنزا قليلا أو كثيرا، فعليه إخراج خمسه، لأنه حصله بلا كلفة ولا تعب.
فشكرا لله تعالى ومواساةً لإخوانه المسلمين، يجب عليه أن يخرج منه الخمس، لأنه كالفيء الذي يحصل من مال الكفار بلا كلفة. وهكذا تلاحظ الشريعة العدل والإنصاف في أحكامها، فتقدم قدر الزكاة فيما يحتاج إلى كلفة ومشقة ومؤنة، واختلافه حسب ذلك.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أنه لا ضمان في البهيمة إذا لم يكن صاحبها متصرفا فيها، أو لم يرسلها ليلا.
فإن تسبب صاحبها بما أتلفت، أو أرسلها ليلا فأفسدت على الناس زرعهم، فعليه الضمان.
فقد قيد العلماء إطلاق هذا الحديث بأدلة أخرى، بضمان المتسبب، وهو مذهب الجمهور. وذكر ابن دقيق العيد اختلاف العلماء في عموم الهدر، ووصل إلى القول بأن جناية البهيمة هدر إذا لم يكن ثمة تقصير من المالك أو ممن هي تحت يده. وقال: وينزل الحديث على ذلك.
2- أنه لا ضمان فيما أتلفت بئره أو معدنه إذا لم يكن مكرها النازل أو العامل أو عالماً بأن في ذلك خطراً فغره ولم يعلمه.
فإن أكره أحدا على النزول في بئر، أو الصعود لشجرة أو نحو ذلك، أو لم يكرهه، ولكن فيه خطر ولم يعلمه، فعليه الضمان، لأن التلف حصل بسبب إكراهه، أو من تغريره.
3- أنه يجب إخراج الخمس مما وجد من الكنوز، قليلا كان الموجود، أو كثيرا.
4- خصه بعض العلماء بما عليه علامة كفار، بأن يكون من زمن الجاهلية وذكر الصنعاني قيدا ثانيا هو أن يكون في أرض موات أو ملك أحياه الواجد، فإن كان في أرض مملوكة فليس بركاز، وإنما هو لقطة.
5- أن يخرج الخمس من حين يجده، كما هو ظاهر الحديث فإن النماء فيه متكامل. وما تكامل فيه النماء لا يعتبر فيه الحول، فإن الحول مدة مضروبة لتحصيل النماء. قال النووي: وعدم اشتراط الحول بالركاز إجماع.
6- الظاهر من الحديث، أنه يخرج منه لا من قيمته، سواء كان من ذهب، أو فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غير ذلك.
7- بهذه الميزات يعلم أن شبهه بالفيء أقرب من شبهه بالزكاة.
ولذا قال كثير من العلماء: إن مصرفه مصرف الفيء، يصرف في المصالح العامة، لا مصرف الزكاة الذي يجعل في الأقسام الثمانية. لأن الزكاة قد فارق الزكاة بالأمور الآتية:
1- الزكاة لا تخرج إلا من نصاب محدود، فما فوقه، أما الركاز فيخرج الخمس من قليله أو كثيره.
2- الركاز يخرج من عينه، أما العروض فتخرج زكاتها نقوداً.
3- الركاز حوله وجوده، أما الزكاة فلها حول محدد معلوم لا تجب قبله.
4- مصرف الركاز مصرف الفيء في المصالح العامة، والزكاة تصرف في الأوجه الثمانية المعروفة.
5- الركاز فيه الخمس، والزكاة أكثر ما فيها العشر وأقل ما فيها ربع العشر.
الحديث الثالث:
عَنْ أبي هُريرةَ رضي الله عَنْهُ قالَ: بَعَثَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلى الصَدَقةِ فَقِيلَ منع ابنُ جَمِيل، وَخَالِدُ بن الوَليدِ، وَالعبَّاسُ عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَنْقِمُ ابنُ جَمِيل إلا أنْ كَانَ فَقِيراً فَأغنَاهُ الله تَعَالى.
وَأمَّا خَالِد فَإنّكُم تَظْلِمُونَ خالداً، فَقَدِ احْتبسَ أدرَاعَهُ وأعْتَادَهُ في سَبِيلِ الله. وَأمَّا العَبَّاسُ فَهيَ عَلى وَمِثلُهَا».
ثم قال: «يَا عُمَرُ، أمَا عَلِمتَ أنَّ عَمَّ الرجل صِنْوُ أبيهِ».
الغريب:
ما ينقم إلا أن كان فقيرا فأغناه الله ينقم بكسر القاف: معناه، ما ينكر وهذا السياق معناه عند البلاغيين، تأكيد الذم بما يشبه المدح وهو من لطيف الكلام.
أعتاده: مفرده عتاد بفتح العين والأعتاد آلات الحرب من السلاح وغيره. صنو أبيه: هذا تشبيه للأخوين فأكثر من أب واحد، وهم فروعه، كالنخلتين فأكثر، تفترقان من أصل واحد، والصنو بكسر الصاد، هو المثل.
ابن جميل: بالجيم المفتوحة بعدها ميم مكسورة سماه بعضهم حسيناً وبعضهم عبد الله.
المعنى الإجمالي:
بعث النبي صلى الله عليه سلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجباية الزكاة كعادته في بعث السُّعاة، فجاء عمر إلى العباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وابن جميل،. يريد منهم الزكاة، فمنعوا أدائها.
فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكى هؤلاء الثلاثة.
فقال صلى الله عليه وسلم: أما ابن جيل، فليس له من العذر في منعها إلا أنة كان فقيراً فأغناه الله فقابل نعمة الله كفراً، وشكر نكراً.
وأما خالد فإنكم تظلمونه بقولكم منع الزكاة وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، فكيف يقع منع الزكاة من رجل تقرب إلى الله تعالى بإنفاق ما لا يجب عليه ثم هو يمنع ما أوجبه الله عليه فإن هذا بعيد.
وإما لأنه جعلها أدوات قنية يستعملها في الجهاد والأشياء التي للقنية ليس فيها زكاة، لأنها ليست من الأموال النامية بالتجارة وغيرها.
وأما العباس، فقد تحملها صلى الله عليه وسلم عنه.
ويحتمل أن ذلك لمقامه ومنزلته. ويدل عليه قوله: «أما علمت أن عَمَّ الرجل صنوُ أبيه؟».
وإما لأنه قدم زكاته لعامين فقد تسلمها النبي صلى الله عليه وسلم.
ويدل عليه ما ورد بسند ضعيف عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل مِنَ العَباس صَدَقَتَهُ سَنتيْن.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية بعث الإمام السعاة لجباية الزكاة.
2- جواز شكوى من امتنع من الزكاة إلى من يجبره على أدائها.
ومثله في الشكوى كل ممتنع عن واجب، أو فاعل محرماً.
3- قبح من جحد نعمة الله عليه شرعا، وعقلا.
4- أن الأشياء الموقوفة في سبيل الله، أو المعدة للاستعمال، ليس فيها زكاة. وذلك على أن عذره في منع الزكاة هو جعلها وقفا في سبيل الله أو على معنى أنه جعلها معدة للاستعمال والقنية.
5- جواز جعل الأشياء المنقولة وقفا لله تعالى وفى سبيله.
6- أما الاعتذار عن العباس، فيحتمل إفادة جواز تعجيل الزكاة، ويحتمل إفادة جواز تحمل الزكاة عمن وجبت عليه.
ويبعد أن يمنع العباس الزكاة لغير عذر.
7- تعظيم العم، كبير حقه لأنه بمنزلة الأب.
الحديث الرابع:
عَنْ عَبْدِ الله بن زَيد بن عَاصِمٍ المَازِني رضيَ الله عَنْهُ قال: لما أفَاء الله عَلَى نَبِيهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْن قسَمَ في الناس وَفي الْمُؤَلَّفةِ قُلُوُبهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأنْصَار شَيْئاً. فَكَأنَّهم وَجَدُوا في أنْفُسِهِمْ، إِذْ لَم يَصِبْهُمْ مَا أصَابَ الناسَ، فَخَطَبَهُمْ فقال: «يَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، ألم أجِدكم ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ الله بي؟ وَكُنْتُمْ متَفَرقِينَ فَألَّفَكُمُ الله بي؟ وَعَالَةً فَأغنَاكُمُ الله؟».كُلمَا قالَ شَيئاً، قَالوا: الله وَرَسُولُهُ أمَنُّ. قال: «مَا يَمنَعُكم أنْ تُجِيبُوا رَسولَ الله؟» قالوا: الله وَرَسُولُهُ أمَنُّ. قال: «لَو شئْتمْ لقلْتم: جئتَنَا بِكَذَا وَبكَذَا، ألا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ الناسُ بالشاةِ والبعيِرِ، وَتَذْهَبُونَ بالنبيِّ إِلى رِحَالِكُم؟ لَولاَ الهجرة لَكُنتُ أمرأ مِنَ الأنصَارِ، وَلو سَلَكَ النَاسُ وَاديا أو شعْبا، لَسَلَكتُ وادِيَ الأنصَارِ وَشِعْبَهَاالأنصَارُ شِعَارٌ. والناس دِثَار. إِنَّكُم ستَلْقَونَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْني عَلى الحَوض».
الغريب:
حنين: واد في طريِق مكة- الطائف- المتجه مع السيل الكبير وحنين واقع بين الشرائع وقرية الزيمة ويسمى الآن وادي يدعان. وقد وقعت فيه معركة ضارية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هوازن ومعهم ثقيف في شوال من السنة الثامنة من الهجرة.
المؤلفة قلوبهم: هم قوة يتألفون على الإسلام، بإعطائهم من الغنائم أو الصدقات، ليتمكن الإسلام من قلوبهم، أو لكونهم زعماء ذوى نفوذ وأتباع يسلمون بإسلامهم، أو ليدفعوا بجاههم وقوتهم عن الإسلام.
عالة: فقراء.
أمن: أفعل تفضيل من المنّ: معناه أكثر منة علينا وأعظم. وما أظن التفضيل مقصودا، وإنما هو صفة مشبهة باسم الفاعل.
شعار: هو الثوب الذي يلي الجسد، وهو بكسر السين المعجمة.
دثار: هو الثوب الذي فوق الشعار، وهو بكسر الدال المهملة.
أثرة: بفتح الهمزة والثاء، والأثرة الاستئثار بالشيء المشترك.
ومعناه: أنه سيأتي من يستأثر بالدنيا عنكم مع حقكم فيها، فاصبروا.
الشَّعْب: اسم لما انفرج بين جبلين.
المعنى الإجمالي:
التقى المسلمون بالمشركين في حنين فكانت الهزيمة على المشركين، فغنم المسلمون أموالهم.
وكان قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة، قوم من سادات العرب، الذين أسلموا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم.
فأعطاهم صلى الله عليه وسلم من الغنيمة عطية جزلة ليتألفهم على الإسلام فينكف- بسبب ذلك شر كبير عن المسلمين وليرغبوا في الإسلام، فيدخل معهم عشائرهم.
ولم يعط الأنصار شيئا منها، اتكالا إلى ما زين الله به قلوبهم من الإيمان، الذي لا يزيده عطاء الدنيا، ولا ينقصه الحرمان منها.
ولكن محبة ما أبيح لهم منها، وما حصلوه بسيوفهم وجهادهم، أوجد في قلوبهم شيئاً، إذ رأوا غنائمهم تقسم على غيرهم، ولا يعطون منها، ولم يفطنوا للحكمة الرشيدة المقصودة.
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ما في نفوسهم جمعهم فخطبهم وقال:
يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟.
وكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ.
فلما ذكرهم نعمته التي جاءتهم على يده من الهداية التي هي أعظم مطلوب، والألفة بعد حروبهم الطاحنة، ومشاجراتهم المهلكة، ونعمة الغنى بعد الفقر،
وذلك بالغنائم، وعمار أسواق المدينة ذلك بالتجارة والزراعة لأنها صارت عاصمة الإسلام وذلك بعد الفقر، الذي كانوا فيه أيام الجاهلية..
ومن كرم خلقه صلى الله عليه وسلم وحبه للعدل، ذكرهم بما لهم من أياد بيض على الإسلام والمسلمين، إذ آووا المهاجرين، ونصروهم بعد أن عاداهم وتجهَّم لهم أقرب الناس إليهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فوجدوا عندهم المأوى والنصرة، وكرم الضيافة، حتى أنسوهم- بمواساتهم- بلادهم وأهليهم.
ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يسليهم عن حطام الدنيا، بما فيه خير الدنيا والآخرة فقال:
ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟.
فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن رضوا وأعينهم مغرورقة بدموع الفرح بهذا الفضل الكبير والبشارة العظمى، وبدموع الندم والعتب على أنفسهم وتلاقت أرواحهم الصافية بروح نبيهم الطاهرة.
ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطمئن قلوبهم، ويشرح صدورهم، ويعلن على الناس فضائلهم ومناقبهم الكريمة، لِمَا لهم من فضل السَّبْقِ بالإيمان والإيواء والنصرة لرسول الله ودين الله فقال:
لولا الهجرة لكنتُ امْرَأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعْبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار بالنسبة للرسول والدين، والناس من ورائهم، دثار، فهم أولى به.
وبهذه الموعظة البليغة، والشرف العظيم، الذي نوّه به في حق الأنصار، علموا وعلم غيرهم من الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمهم من الغنائم ويُعطهَا من هو دونهم إيمانا وسابقة وفضلا، إلا اتكالا على ماوقر في قلوبهم من الإيمان الراسخ، وإيثار الآخرة على الدنيا.
ثم ذكر علامة من علامات النبوة، وهي أنه سيستأثر بالدنيا عليهم غيرهم، فلا يهيجهم ذلك، ويثير حفائظ نفوسهم، فإن متاع الدنيا قليل وليصبروا حتى يلاقوه على الحوض، فإن الصبر الجميل من أسباب وروده مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تحققت هذه المعجزة النبوية بعد انتهاء عهد الراشدين.
اللهم ألحقنا بهم ووالدينا ومشايخنا وأقاربنا والمسلمين. برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة، بحسب رأى الإمام واجتهاده.
2- جواز حرمان من وثق بدينه، تبعاً للمصلحة العامة.
3- أن الرغبة في الأشياء الدنيوية لاتخل بإيمان الراغب وإخلاصه، إذا كان لم يعمل لأجل الدنيا فقط. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤنبهم على رغبتهم.
4- مشروعية الموعظة والخطبة في المناسبات وتبيين الحق.
5- أن القائد، والأمير، وأصحاب الولايات، لا يتصرفون في الشؤون العامة، من غير أن يبينوا للرعية مقصدهم فيها.
6- كون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة وبركة على الأمة، لاسيما الأنصار.
7- ما للأنصار رضي الله عنهم من فضل الإيمان والنصرة لله ورسوله، أوجبت استئثارهم بالنبي عليه السلام، كما أوجبت محبته لهم وتقديمهم على غيرهم.
8- علامة من علامات النبوّة، فإٍن ما ذكره مما سيقع على الأنصار، وقع من بعض الملوك الذين لم يعرفوا لهم حرمة وسابقة.
9- أن الصبر الجميل على المصائب، من أسباب ورود الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة:
لم يظهر لي مناسبة واضحة لإيراد المؤلف هذا الحديث في كتاب الزكاة. ولعل ذلك متابعة لمسلم حيث أخرجه في باب الزكاة من صحيحه.
أو لعله أراد أن يبينَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيام رسالته، وبعد ما أعز الله الإسلام وقواه، أعطى المؤلفة قلوبهم من الغنيمة.
فيقاس على الغنيمة أن يعطوا من الزكاة خلافا لمن يرى من العلماء سقوط نصيبهم من الزكاة بعد أن أعز الله الإسلام، كأبي حنيفة وأصحابه.
والصحيح، جواز إعطائهم تأليفا لهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو من مفردات مذهبه.
وليس عند المسقطين لسهمهم ما يعارضون به فعل النبي صلى الله عليه وسلم وآية براءة التي هي من آخر القرآن نزولا.