فصل: باب صدقة الفِطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب صدقة الفِطر:

نسبت إلى الفطر من باب نسبة المسبب إلى سببه، وقد أجمع العلماء على وجوبها، وشرعها الله تعالى لحكم عظيمة وفوائد كثيرة.
منها:- أنها طهرة للصائم. وشكر لله تعالى على أن منّ عليه بتكميل صيام شهر رمضان، وشكراً له أيضاً على أن متعه بدوران الحول عليه، ونعمه تتوالى عليه، التي أعظمها نعمة الإسلام والإيمان.
ومنها:- أنها مواساة دين الفقراء والأغنياء، إذا أعطوهم شيئاً من أموالهم اغتنوا في ذلك اليوم عن الاشتغال بطلب قوتهم، وترفعوا عن مذلة السؤال في يوم يحب كل الناس فيه التظاهر بالغني، ويشاركونهم في الأفراح المباحة- والله لطيف بعباده وهو الحكيم الخبير.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا: قال فَرَضَ النبي صلى الله عليه وسلم صَدَقةَ الفِطرِ- أو قال: رمضان- عَلَى الذَّكر وَالأنثى وَالحُرِّ والمملوك، صَاعاً من تمر، أوْ صَاعا مِن شَعِير.
قال: فَعدَلَ الناسُ بِهِ نِصْفَ صَاع من بُرٍّ عَلَى الصغِيرِ وَالكبَير.
وفي لفظ: أنْ تؤَدَّى قبْلَ خُرُوج الناس إلَى الصلاَة،
الحديث الثاني:
عَنْ أبي سَعِد الخدْرِيِّ رضي الله عَنْة قال: كُنا نعطيهَا في زَمَن النبي صلى الله عليه وسلم، صَاعاً مِنْ طَعَام أو صَاعاً مِنْ تَمر، أو صَاعا مِنْ شَعِير، أو صَاعاً مِنْ أقطٍ، أوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ.
فَلِمَّا جَاءََ معاوِية وَجَاءت السَّمْرَاءُ قال: أرَى مُدّاً مِنْ ِ هذه يعدل مُدَّيْنِ.
قال أبو سعيد: أما أنا فَلاَ أزَال أخْرجُهُ كَمَا كُنْتُ أخْرجُهُ عَلى عَهدِ رَسول الله صلى الله عليه وسلم.
الغريب:
الأقط: مثلث الهمزة، وهو يعمل من اللبن المخيض يطبخ حتى يتبخر ماؤه ثم يجفف، وأحسنه ما كان من لبن الغنم.
السمراء: يريد بها الحنطة.
المعنى الإجمالي:
أوجب النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على جميع المسلمين الذين تفضل الصدقة عن قوتهم في ذلك اليوم، كبيرهم، وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، حر هم وعبدهم، أن يخرجوا صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير.
فلما وردت على المدينة الحنطة السمراء في زمن معاوية، وقدم المدينة حاجاً، قال: أرى أن مُدّاً من الحنطة عن مدين من غيرها يغنى لجودتها ونفعها.
فأما أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فهو يقول: كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، والطعام- عندهم- هو الحنطة، وكذلك صاعاً من أقط، وصاعاً من زبيب فلا أزال أخرج الصاع من الحنطة وغيرها كما كنت أخرجه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إيثاراً للاتِّباع.
وليحصل بالصدقة الإغناء المطلوب، أمر أن تؤدى إلى الفقير قبل خروج الناس إلى الصلاة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب زكاة الفطر وهو إجماع المسلمين لقوله: (فرض).
2- أن تخرج عن كل مسلم صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد.
3- أنها لا تجب عن الجنين، واستحب كثير من العلماء إخراجها عنه.
فقد ورد عن الصحابة أنه كان يعجبهم إخراجها عن الحمل. وكان عثمان يخرجها عن الحمل أيضاً.
4- ظاهر الحديث، تحديد الإخراج من الأشياء المذكورة.
والمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجزئ غير هذه الأشياء مع وجود شيء منها.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية جواز إخراجها من قوت بلده، ولو قدر على الأصناف المذكورة، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول أكثر العلماء. وأفضل هذه الأصناف وغيرها من أنواع الأطعمة، أنفعها للمتصدَّق عليه، لأنه الذي يحصل به الإغناء المطلوب في ذلك اليوم.
5- ظاهر حديث أبي سعيد، أن الواجب صاع، سواء أكان من الحنطة أم من غيرها.
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور.
وذهب أبو حنيفة، إلى أنه يجزيء من الحنطة نصف صاع، وابن القيم يميل في الهدى إلى تقوية أدلته. واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: هو قياس قول أحمد في الكفارات.
قلت: والأحوط، المذهب الأول.
6- والأفضل إخراجها فجر يوم العيد قبل الصلاة، وهو قول فقهاء المذاهب الأربعة.
فإن أخرجها بعد الصلاة فعند الحنابلة يكره يوم العيد ويحرم بعده عند الحنابلة، وعند غيرهم من جماهير الفقهاء.
وعند ابن حزم تحريم تأخيرها عن الصلاة لما روي البخاري: «وَأمَرَ بِهَا أن تؤَدَّى قبْل خُرُوج الناس إِلَى الصَّلاَةِ».
ولما روى أبو داود وابن ماجه: «فَمنْ أدَّاها قبل الصلاة، فَهِيَ زَكاة مَقْبُولَة وَمَنْ أدَّاهَا بَعدَ الصَّلاَة فَهيَ صَدَقَة مِنَ الصدَقاتِ»، والحق أن أبا محمد أسعدهم بإصابة الدليل والقول به.
7- وهل يجوز تقديمها قبل صلاة العيد؟.
ذهب أبو حنيفة: إلى جواز تقديمها لِحَول أو حولين، قياسا على زكاة المال.
وذهب الشافعي إلى جواز تقديمها من أول رمضان.
وذهب مالك إلى أنه لا يجوز تعجيلها مطلقا، كالصلاة قبل وقتها.
وذهب الحنابلة إلى جواز تعجيلها قبل العيد بيومين. لما روى البخاري: (كَانوا يُعطُونَ قبلَ الفِطر بيوم أو يومين) يريد بذلك الصحابة. ولأنه لا يحصل الإغناء في ذلك اليوم إلا إذا قدمت للفقير بنحو يوم أو يومين، ليعدها ليوم العيد، ولأنه إذا أخرها إلى قبيل الصلاة يخشى أن لا يجد صاحبها الذي يستحقها فيفوت وقتها المطلوب.
ولهذه الاعتبارات الصحيحة فإن شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي رحمه الله تعالى، يرى استحباب تقديمها بيوم أو يومين.

.كتاب الصيَام:

أصله في اللغة: الإمساك.
وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات مع النية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وصيام شهر رمضان، هو الركن الثالث من أركان الإسلام.
والصيام من أفضل العبادات، لأنه تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة:
1- الصبر على طاعة الله 2- والصبر عن معاصي الله 3- والصبر على أقدار الله المؤلمة.
ولأن الله تعالى نسب الصوم إلى نفسه، ووعد بالجزاء عليه من قِبَلِه سبحانه.
ولأنه سرٌّ بين الرب وببن عبده، فهو من أعظم الأمانات.
أما حِكَمه وأسراره فليس في مقدور هذه النبذة المختصرة أن تبين ذلك.
وإنما أشير إلى قليل من كثير، ليعلم القارئ شيئاً من أسرار الله في شرعه، فيزداد إيماناً ويقيناً في وقت تزعزعت فيه العقائد، وتضعضع فيه الإيمان. فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
فمن تلك الحكم السامية عبادة الله، والخضوع له، ليكون الصائم مُقْبلاً على الله تعالى، خاضعاً خاشعاً بين يديه، حينما ينكر سلطان الشهوة.
فإن القوة تغرى بالطغيان والبطر {كَلاَّ إِنَّ الإنسانَ لَيَطْغَى أنْ رآهُ استغنى}.
فليعلم أنه ضعيف فقير، بين يدي الله حينما يرى ضعفه وعجزه فينكر في نفسه الكبر والعظمة، فيستكين لربه، ويلين لخلقه.
ومنها، حكم اجتماعية، من اجتماعهم على عبادة واحدة، في وقت واحد، وصبرهم جميعاً، قويهم وضعيفهم، شريفهم ووضيعهم، غنيهم وفقيرهم، على معاناتها وتحملها، مما يسبب ربْطَ قلوبهم وتآلف أرواحهم، وَلَمِّ كلمتهم.
وليس شيء أقوى من هذه الإرادة المتينة، التي لا تحكمها أقوى الدعايات.
كما أنه سبب عطف بعضهم على بعض، ورحمة بعضهم بعضاً، حينما يُحِس الغنَي ألم الجوع ولَدْغَ الظَّمأ.
فيتذكر أن أخاه الفقير يعاني هذه الآلام دَهْرَه كله، فيجود عليه من ماله بشيء يزيل الضغائن والأحقاد، ويحل محلها المحبة والوئام، وبهذا يتم السِّلْمُ بين الطبقات.
ومنها، حكم أخلاقية تَربوِية، فهو يعلِّم الصبر والتحمل، ويقوي العزيمة والإرادة، ويُمَرِّن على ملاقاة الشدائد وتذليلها، والصعاب وتهوينها.
ومنها حكم صِحَّيَّة، فإن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.
ولابد للمعدة أن تأخذ فترة استراحة واستجمام، بعد تعب توالي الطعام عليها، واشتغالها بإصلاحه.
هذه نبَذة يسيرة إلى شيء من حكم الله تعالى وأسراره.
واستقصاء ما يحيط به العقل البشري يحتاج إلى تصانيف مستقلة، وفضلاً عما لا يعلمه إلا الله تعالى من الأسرار الحكيمة الرشيدة.
الحديث الأول:
عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَئن، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ».
الغريب:
لا تَقَدَّموا: بفتح التاء والدال، على حذف تاء المضارعة، لأن أصله لا تتقدموا..
المعنى الإجمالي:
الشارع الحكيم يريد التمييز بين العبادات والعادات، ويريد أن يميز بين فروض العبادات ونوافلها ليحصل الفرق ببن هذا وذاك.
لذا فإنه نهى عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين أو نحو ذلك ليكون مفطراً مستعداً لصيام شهر رمضان، إلا من كان له عادة من صوم كيوم الخميس أو الاثنين أو قضاء تضايق وقته، أو نذر لزمه، فليصمه لأنه تعلق بسببه. بخلاف نفل الصيام المطلق فأقل ما فيه الكراهة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين.
2- الرخصة في ذلك لمن صادف قبل رمضان له عادة صيام، كيوم الخميس والاثنين.
3- من حكمة ذلك- والله أعلم- تمييز فرائض العبادات من نوافلها، والاستعداد لرمضان بنشاط ورغبة، وليكون الصيام شعار ذلك الشهر الفاضل المميز به.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضي الله عنهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إذا رَأَيْتمُوه فَصُومُوا، وَإذا رَأَيْتُمُوه فَأفْطِروُا، فَإنْ غُمَّ عَليْكم فاقْدُرُوا لَهُ».
الغريب:
غم عيكم: بالبناء للمجهول استتر عليكم بحاجب، من غيم وغيره (غم) بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم.
فاقدروا له: يعني قدروا له في الحساب، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وقيل: معناه اقدروا ضيقوا، بأن يضيق على شعبان، فيجعل تسعاً وعشرين يوماً.
وعلى هذين التفسيرين، حصل الخلاف الآتي:
ويجوز الضم والكسر في (دال)- اقدروا له.
قوله: «فصوموا» يريد أن ينوى الصيام وتبيت تلك النية إلى الغد. وكذلك في قوله: «فأفطروا».
المعنى الإجمالي:
أحكام الشرع الشريف تبني على الأصل، فلا يعدل عنه إلا بيقين.
ومن ذلك أن الأصل بقاء شعبان، وأن الذمة بريئة من وجوب الصيام، ما دام أن شعبان لم تكمل عدته ثلاثين يوماً، فيعلم أنه انتهى، أو يرى هلال رمضان، فيعلم أنه دخل.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أناط صيام شهر رمضان، وفطره برؤية الهلال.
فإن كان هناك مانع من غيم، أو قتر، أو نحوهما، أمرهم أن يقدروا حسابه.
وذلك بأن يتموا شعبان ثلاثين، ثم يصوموا. لأن هذا بناء على أصل بقاء ما كان على ما كان.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في مغيب الهلال غيم، أو قتر، أو نحوهما من الأشياء المانعة لرؤيته.
فالمشهور في مذهب الإمام أحمد الذي قال كثير من أصحابه: إنه مذهبه- هو وجوب صومه من باب الظن والاحتياط، واستدلوا على ذلك بقوله: فاقدروا له وفسروها بمعنى: ضيقوا على شعبان، فقدروه تسعة وعشرين يوماً.
وهذه الرواية عن الإمام أحمد من المفردات، وهي مروية عن جملة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء.
وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه.
واختار هذا القول، شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: المنقولات الكثيرة المستفيضة عن أحمد، على هذا.
وقال صاحب الفروع: لم أجد عن أحمد صريح الوجوب ولا أمر به ولا يتوجه إضافته إليه.
واختار هذه الرواية من كبار أئمة المذهب أبو الخطاب، وابن عقيل.
ودليل هذا القول ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: «صُومُوا لِرُؤيتهِ، وأفْطِروُا لِرؤيتهِ، فَإن غُمَّ عَلَيكم فَأكْمِلوا عِدَّةَ شعْبَانَ ثَلاِثين يَوماً».
وهذا الحديث وأمثاله يبين أن معنى فاقدروا له، يعني قدروا حسابه بجعل شعبان ثلاثين يوماً.
وقد حقق ابن القيم هذا الموضوع في كتابه الهدي ونصر قول الجمهور، ورد غيره، وبين أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة قول صريح، إلا عن ابن عمر الذي مذهبه الاحتياط والتشديد. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن إيجاب صوم يوم الشك لا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه وإن كان بعضهم قد اعتقد أن من مذهبه إيجاب صومه. ومذهبه الصريح المنصوص عليه هو جواز فطره وجواز صومه وهو مذهب أبي حنيفة ومذهب كثير من الصحابة والتابعين. وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب ولا محرم.
واختلفوا فيما إذا رُئي الهلال ببلد، فهل يلزم الناس جميعاً الصيام أم لا؟.
فالمشهور عن الإمام، أحمد وأتباعه، وجوب الصوم على عموم المسلمين في أقطار الأرض، لأن رمضان ثبت دخوله، وثبتت أحكامه، فوجب صيامه، وهو من مفردات مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً.
وذهب بعضهم إلى عدم وجوبه، وأن لكل أهل بلد رؤيتهم، وهو مذهب القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وإسحاق.
لما روى كريب: قال قدمت الشام، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة.
ثم قدمت المدينة في آخر الشهر. فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فأخبرته.
فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.
فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟.
فقال: لا. هكذا أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
وذهب الشافعي في المشهور عنه إلى التفصيل.
وهو أنه، إن اختلفت المطالع، فلكل قوم حكم مطلعهم. وإن اتفقت المطالع، فحكمهم واحد في الصيام والإفطار، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وذكر الشيخ محمد بن عبد الواهب ابن المراكشي في كتابه العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال أنه إذا كان البعد بين البلدين أقل من 2226 من الكيلو مترات فهلالهما واحد، وإن كان أكثر فلا.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن صيام شهر رمضان معلق برؤية الناس أو بعضهم للهلال، وردَّ ابن دقيق العيد تعليق الحكم به على حساب المنجمين وبين الصنعاني أنه لو توقف الأمر على حسابهم لم يعرفه إلا قليل من الناس. والشرع مبني على ما يعرفه الجماهير.
2- وكذلك الفطر معلق بذاك.
3- أنه إن لم يُرَ الهلال لم يصوموا إلا بتكميل شعبان ثلاثين يوماًً. وكذلك لم يفطروا إلا بتكميل رمضان ثلاثين يوماً.
4- إنه إن حصل غيم أو قتر، قدروا عدة شعبان تمام ثلاثين يوماً. وقال الصنعاني: جمهور الفقهاء وأهل الحديث على أن المراد من: «فاقدروا له»، إكمال عدة شعبان ثلانين يوماً كما فسره في حديث آخر.
5- أنه يجب الصيام يوم الثلاثين من شعبان، مع الغيم ونحوه.
الحديث الثالث:
عَنْ أنس ْبنِ مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمْ: «تَسَحًرُوا فَإن في السَّحُور بَرَكَةً»
الغريب:
سحور بفتح السين، ما يتسحر به، وبضمها الفعل.
والبركة مضافة إلى كل من الفعل وما يتسحر به جميعاً.
المعنى الإجمالي:
يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسحر، الذي هو الأكل والشرب وقت السحر، استعداداً للصيام، ويذكر الحكمة الإلهية فيه، وهى حلول البركة، والبركة تشمل منافع الدنيا والآخرة.
فمن بركة السحور، ما يحصل به من الإعانة على طاعة الله تعالى في النهار.
فإن الجائع والظامئ، يكسل عن العبادة.
ومن بركة السحور أن الصائم إذا تسحر لا يمل إعادة الصيام، خلافاً لمن لم يتسحر، فإنه يجد حرجاً ومشقة يثقلان عليه العودة إليه.
ومن بركة السحور، الثواب الحاصل من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن بركته أيضاً، أن المتسحر يقوم في آخر الليل، فيذكر الله تعالى، ويستغفره، ثم يصلي صلاة الفجر جماعة.
بخلاف من لم يتسحر. وهذا مشاهد.
فإن عدد المصلين في صلاة الصبح مع الجماعة في رمضان أكثر من غيره من أجل السحور.
ومن بركة السحور، أنه عبادة، إذا نوي به الاستعانة على طاعة الله تعالى، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولله في شرعه حكم وأسرار.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب السحور وامتثال الأمر الشرعي بفعله.
2- لما يحصل فيه من البركة، فلا ينبغي تركه، والبركة تُحْمَلُ على الفعل وعلى المتسحر به. ولا يعدُّ هذا من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين وإنما يستفاد من صيغتي الفتح والضم.
3- ظاهر الأمر الوجوب، ولكن ثبوت الوصال عن النبي صلى الله عليه وسلم يصرف الأمر إلى الاستحباب.
4- يرى الصوفية أن مدة تناول السحور كمدة لإفطار، وهذا مخل بالحكمة من الصوم وهي كسر شهوتي الطعام والنكاح، ولا يمكن ذلك إلا بتقليل الغذاء. وأجاب عليهم الآخرون بأن حكمة الصوم ليست منوطة بتقليل الطعام والشراب بل بامتثال أمر الله تعالى.
الحديث الرابع:
عَنْ انس بْنِ مَالِكٍ عَنْ زيْد بْن ثَابِتٍ رَضَي الله عَنْهُمَا قال: تَسَحَّرْنَا مَع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلاةِ.
قال أنس: قُلْتُ لِزيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيةٍ.
الغريب:
الأذان: يريد به. الإقامة.
ويبين ذلك ما في الصحيحين عن أنس عن زيد قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة.
قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين آية.
المعنى الإجمالي:
يروي أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما: أن زيداً تسحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يتسحر قبيل الصبح.
ولذا فإنه- لما تسحر- قام إلى صلاة الصبح، فسأل أنس زيداً: كم كان بين الإقامة والسحور؟ قال: قدر خمسين آية.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أفضلية تأخير السحور إلى قبيل الفجر.
2- المبادرة بصلاة الصباح، حيث قربت من وقت الإمساك.
3- أن وقت الإمساك هو طلوع الفجر، كما قال الله تعالى: {كُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخَيْطٌ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
بهذا نعلم أن ما يجعله الناس من وقتين، وقت للإمساك، ووقت لطلوع الفجر، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي وسوسة من الشيطان، ليلبس عليهم دينهم، وإلا فإن السنة المحمدية أن الإمساك يكون على أول طلوع الفجر.
الحديث الخامس:
عَنْ عَائِشَةَ وَأمُّ سَلَمَةَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا:
أنً رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُدْركُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنٌبٌ مِنْ أهلِهِ. ثُمَّ يَغتَسِلُ وَيصُومُ.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بجامع في الليل، وربما أدركه الفجر وهو جنب لم يغتسل،
ويتم صومه ولا يقضي.
وهذا الحكم في رمضان وغيره، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يخالفهم إلا قليل ممن لا يعتد بخلافهم، وقد حكى بعضهم الإجماع على هذا القول.
ما يؤخذ من الحديث:
1- صحة صوم من أصبح جنباً، من جماع في الليل.
2- يقاس على الجماع الاحتلام بطريق الأولى، لأنه إذا كان مرخصاً فيه من المختار، فغيره أولى.
3- أنه لا فرق بين الصوم الواجب والنفل، ولا بين رمضان وغيره.
4- جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل طلوع الفجر.
وأخذ بعضهم جواز الصيام من الجنب من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِيَامِ الرَفَثُ إلى نِسَائِكم} لأن الآية تقتضي جواز الجماع في ليل الصيام كله. ومن جملته، الجزء الذي قبيل الفجر. بحيث لا يتسع للغسل، فمن ضرورته الإصباح جنباً، وهذه دلالة الإشارة عند الأصوليين.
5- فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانهن إلى الأمة.
فقد نقلن عن النبي صلى الله عليه وسلم من العلم الشيء الكثير النافع، لاسيما الأحكام الشرعية المنزلية التي لا يطلع عليها إلا هن من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهن وأرضاهن.
الحديث السادس:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مَنْ نَسيَ وهُوَ صَاِئمٌ فَأكَلَ أوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فإنَّمَا أطعَمَهُ الله وَسَقَاهُ».
المعنى الإجمالي:
بنيت هذه الشريعة على اليسر والسهولة، والتكليف بقدر الطاقة، وعدم المؤاخذة بما يخرج عن الاستطاعة أو الاختيار.
ومن ذلك أن من أكل أو شرب. أو فعل مفطراً غيرهما في نهار رمضان أو غيره من الصيام، فليتم صومه، فإنه صحيح، لأن هذا ليس من فعله المختار، وإنما هو من الله الذي أطعمه وسقاه.
اختلاف العلماء:
الجمهور من العلماء على أن الأكل والشرب من الناسي لا يفسد الصيام.
والخلاف بينهم في الجماع: هل له حكم الأكل والشرب بعدم الإفساد أم لا؟.
فذهب الإمام أحمد وأتباعه إلى أن الجماع مفسد للصيام، ولو كان من الجاهل أو الناسي.
وإذا كان في نهار رمضان فهو موجب للكفارة، وهو من مفردات مذهب أحمد.
ودليلهم على ذلك مفهوم الحديث الذي اقتصر على الأكل والشرب دون الجماع، مما يدل على مخالفته لهما.
ولأن النسيان في الجماع بعيد، بخلاف الأكل والشرب.
وذهب الأئمة، أبو حنيفة، والشافعي، وداود، وابن تيمية وغيرهم، إلى أنه لا يفسد الصيام. واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولاً: لما روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة»
قال ابن حجر: وهو صحيح. والإفطار عام في الجماع وغيره.
ثانياً: العمومات الواردة في مثل قوله تعالى: {ربَّنَا لا تُؤاخِذْنَا إن نسينا أو أخطأنا} «وعفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
ثالثاً: أن المخالفين في صحة الصوم يوافقون على سقوط الإثم عنه.
وإذا كان معذوراً فإن العذر شامل، ولا وجه للتفريق.
وأجابوا عن دليل الحنابلة بأن تعليق الحكم في الأكل والشرب من باب تعليق الحكم باللقب، فلا يدل على نفيه عما عداه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- صحة صوم من أكل أو شرب أو جامع ناسياً.
2- أنه ليس عليه إثم في أكله وشرابه، لأنه ليس له اختيار.
3- معنى إطعامه من الله تعالى وسقيه، أنه وقع من غير اختيار، وإنما الله الذي قدر له ذلك بنسيانه صيامه.
الحديث السابع:
عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَال: بَينماَ نَحن جُلُوسْ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ جَاءه رَجلٌ فقَالَ: يَا رَسولَ الله، هَلَكتُ. فقال: «ما أهلَكَكَ؟» أو مَالكً؟.قال: وَقَعْتُ على امْرَأْتِي، وأنا صائمٌ (وفي رواية: أصبتُ أهلي في رَمَضَانَ). فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تعتقها؟» قال: لا. قال: «فهل تستطِعُ أن تصوم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعْين؟» قال: لا. قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟» قال: لا. قال: فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم.
فبينما نَحْنُ على ذلك إذْ أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَق فيهِ تَمرٌ والعرق: المَكْتَلُ.. قال: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» قالَ: أنا. قال: «خُذْ هذَا فتصَدَّق بِهِ»، فقال: أعلى أفقَرَ منِّي يَا رَسُولَ اللّه؟ فَوَ الله مَا بَيْنَ لا بَتَيْها- يريد الحَرَّتَيْنِ- أهْلُ بَيْتٍ أفْقَر مِنْ أهل بَيْتي. فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قَالَ: «أطْعِمْهُ أهْلَكَ».
الحَرَّةُ: الأرْضُ، َتَرْكَبُهَا حجارة سود.
الغريب:
بينما: ظرف زمان يغلب أن يضاف إلى جملة اسمية.
بعرق: العرق بفتحتين: هو الزنبيل، يعمل من سعف النخل، وقدروها- هنا- بما يسع خمسة عشر صاعاً.
اللابة: هي الحرة: وهي الأرض التي تعلوها حجارة سود.
والمدينة النبوية بين حرتين، شرقية وغربية.
المِكْتَل: القفة من الخوص وهي قفص من ورق النخل.
المعنى الإجمالي:
جاء سلمة بن صخر البياضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خائفاً فقال: هلكت.
فقال له: ما أهلكك؟ قال: إنه وقع على امرأته وهو صائم في نهار رمضان فلم يعنِّفْه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: هل تجد رقبة تعتقها كفارة لما وقع منك؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، وهل أصابني ما أصابني إلا من صيام، لأن به شبقاً لا يقدر معه على ترك الجماع وهو نوع مرض.
قال: فهلِ تجد طعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أو غيره؟
قال: لا.
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ومكث، وإذا بأحد من الصحابة (على عادتهم) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزنبيل من تمر، يسع خسة عشر صاعاً ليتصدَّق به النبي صلى الله عليه وسلم: فقال أين السائل؟ فقال: أنا.
فقال: خذ هذا التمر فتصدق به ليكون كفارة على ما اقترفت من الإثم.
فما كان من الرجل الذي جاء خائفاً مبهوتاً- بعد أن وجد عند رسول الله الأمن والطمأنينة- إلا أن طمع في فضل الله تعالى، على يد أرحم الناس بالناس، فقال: أأتصدق به على أفقر مني يا رسول الله؟.
ثم أقسم أنه ليس في المدينة أحد أفقر منه لما يراه من شدة الضيق عليه.
عند ذلك تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حاله، كيف جاء خائفاً يلتمس السلامة فرجع آمناً، معه ما يطعمه أهله، ثم أذن له بإنفاقه على أهله.
فصلوات الله وسلامه عليه.
اختلاف العلماء:
يرى عامة العلماء، وجوب الكفارة على من جامع متعمداً.
واختلفوا في الناسي، وتقدم أن الصحيح أنه ليس عليه كفارة.
واختلفوا: هل وجوب الكفارة على التخيير أو الترتيب؟.فذهب مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنهما: إلى أنها على التخيير لما في الصحيحين عن أبي هريرة: «أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً» وأوجب تخييره.
وذهب الجمهور من العلماء، كالشافعي وأبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد، والثوري والأوزاعي: إلى أنها على الترتيب، مستدلين بحديث الباب وجعلوا حديث التخيير مجملاً، يبينه حديث الترتيب ليحصل العمل بهما جميعاً.
ولو أخذ بحديث التخيير لم يمكن العمل بحديث الترتيب مع أن كليهما صحيح.
واختلفوا هل تسقط الكفارة مع العجز عنها، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو أحد قَولي الشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرجل أن يطعم التمر أهله. ولو كان كفارة عنه ما جاز ذلك.
وذهب الجمهور إلى أنها لا تسقط بالإعسار، لأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل ظاهره عدم سقوطها لأنه لما سأله عن أنزل درجات الكفارة- وهي الإطعام وقال: لا أجد- سكت ولم يبرئ ذمته منها، والأصل أنها باقية وقياساً لهذه الكفارة على سائر الكفارات والديون، من أنها لا تسقط بالإعسار.
أما الترخيص له في إطعامه أهله، فقد قال بعض العلماء: إن المكفر إذا كفر عنه غيره، جاز أن يأكل منه ويطعم أهله.
لأحكام المأخوذة من الحديث:
1- أن الوطء في نهار رمضان من الفواحش المهلكات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على قوله: «هلكت» ولم يكن كذلك، لهوَّن عليه الأمر.
2- أن الواطئ عمداً يجب عليه الكفارة، وهي على الترتيب، عتق رقبة فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكيناً.
3- أن الكفارة لا تسقط مع الإعسار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقطها عنه بفقره، وليس في الحديث ما يدل على السقوط.
4- جواز التكفير عن الغير ولو من أجنبي.
5- أن له الأكل منها وإطعامها أهله ما دامت مخرجة من غيره.
6- ظاهر الحديث أنه لا فرق في الرقبة بين الكافرة والمؤمنة، وبهذا أخذ الحنفية.
والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لابد من إيمانها، ويكون الحديث مقيَّداً بالنصوص التي فيها كفارة القتل، فإنه ذكر فيها الإيمان.
7- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم الوفادة عليه فقد جاءه هذا الرجل خائفاً وجلاً، فراح فرحاً، معه ما يطعم منه أهله.
8- أن من ارتكب معصية لا حدَّ فيها، ثم جاء تائباً نادماً، فإنه لا يعزر.
خلاصة فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال:
يُفطِّر بالنص والإجماع الأكلُ والشربُ والجماعُ. وثبت بالسنة والإجماع أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، ولكن تقضي الصيام. وقال صلى الله عليه وسلم: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» فدل على أن نزول الماء من الأنف يفطر الصائم. فال الخطابي: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وفي أن من استقاء عامداً فعليه القضاء، ومن احتلم بغير اختياره، كالنائم لم يفطر بالاتفاق، وأما من استمنى فأنزل فإنه يفطر. قد ثبت بدلالة الكتاب السنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، ويكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومثل هذا لا تبطل عبادته، فالصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف.
وأما الكحل والحقنة وما يقطر في الإحليل، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم: فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويُفْسَدُ الصوم بها لكان هذا مما يجب بيانه على الرسول، ولو ذكر ذلك لعلِمَهُ الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلا علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك والحديث المروي في الكحل ضعيف. والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر لم يكن معهم حجة إلا القياس، وأقوى ما احتجوا به: «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» وهو قياس ضعيف، وذلك أن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزيل العطش، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب. فالصائم نهي عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب التقوِي، وليس كذلك الكحل والحقنة، ومداواة الجائفة والمأمومة، فإنها لا تغذي البتة.
أما الجماع فإنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: «يدع شهوته وطعامه من أجلى» فترك الإنسان شهوته عبادة مقصودة يثاب عليها، وإنزال المني يجري مجرى الاستفراغ، فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وكونه يضعف البدن يجعل إفساده للصوم أعظم من إفساده الأكل.
والعلماء متنازعون في الحجامة هل تفطر أو لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ. وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، والقول بأنها تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهؤلاء أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله: «وهو صائم» وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم، وبأنه بأي وجه أراد إخراج الدم فقد أفطر.
والسواك جائز بلا نزاع، لكن اختلف العلماء في كراهيته بعد الزوال، ولكن لم يقم على تلك الكراهية دليل شرعي يصلح أن يخصص عموم نصوص السواك.
وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطر. وأما للحاجة فلا يكره.