فصل: كتاب الحج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


كتاب الحج

لما كان مركبا من المال والبدن وكان واجبا في العمر مرة أخره ولمراعاة ترتيب حديث الصحيحين ‏{‏بني الإسلام على خمس وختم بالحج» وفي رواية ختم بالصوم وعليها اعتمد البخاري في تقديم الحج على الصوم وهو في اللغة بفتح الحاء وكسرها وبهما قرئ في التنزيل القصد إلى معظم لا مطلق القصد كما ظنه الشارح وجعله كالتيمم وفي الفقه ما ذكره بقوله‏:‏ ‏(‏هو زيارة مكان مخصوص في زمان مخصوص بفعل مخصوص‏)‏ والمراد بالزيارة الطواف والوقوف والمراد بالمكان المخصوص البيت الشريف والجبل المسمى بعرفات والمراد بالزمان المخصوص في الطواف من طلوع الفجر يوم النحر إلى آخر العمر وفي الوقوف زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر وبهذا التقرير ظهر أن الحج اسم لأفعال مخصوصة من الطواف الفرض والوقوف في وقتهما محرما بنية الحج سابقا كما سيأتي أن الإحرام شرط واندفع به ما قرره الشارح من فهم كلام المصنف على أنه في الشريعة جعل لقصد خاص مع زيادة وصف فإن المصنف لم يتعرض للقصد وإنما عرفه بالزيارة وهي فعل لا قصد بدليل ما في عمدة الفتاوى إذا حلف ليزورن فلانا غدا فذهب ولم يؤذن له لا يحنث، ولو لم يستأذن ورجع يحنث‏.‏ ا هـ‏.‏ فلا بد من الذهاب مع الاستئذان وسلم من بحث المحقق ابن الهمام على المشايخ من أن التعريف بالقصد الخاص تعريف له بشرطه وليوافق تعريف بقية العبادات فإن الصلاة اسم لأفعال مخصوصة هي القيام والقراءة والركوع والسجود والصوم اسم للإمساك الخاص والزكاة اسم للإيتاء المخصوص فليكن الحج اسما لأفعال مخصوصة ولا يراد بالزيارة البيت فقط فإنه حينئذ يصير الحج اسما للطواف فقط وليس كذلك فإن ركنه شيئان الطواف بالبيت والوقوف بعرفة بالشرط السابق ويشكل عليه ما قالوا إن المأمور بالحج إذا مات بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة فإنه يكون مجزئا بخلاف ما إذا رجع قبله فإنه لا وجود للحج إلا بوجود ركنيه ولم يوجدا فينبغي أن لا يجزئ الآمر سواء مات المأمور أو رجع وسببه البيت؛ لأنه يضاف إليه ولهذا لم يتكرر الحج على المكلف وشرائطه ثلاثة شرائط وجوب وشرائط وجوب أداء وشرائط صحة فالأولى ثمانية على الأصح الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والوقت والقدرة على الزاد والقدرة على الراحلة والعلم بكون الحج فرضا وقد ذكر المصنف منها ستة وترك الأول والأخير والعذر له كغيره أنهما شرطان لكل عبادة وقد يقال كذلك العقل والبلوغ والعلم المذكور يثبت لمن في دار الإسلام بمجرد الوجود فيها سواء علم بالفرضية، أو لم يعلم ولا فرق في ذلك بين أن يكون نشأ على الإسلام فيها، أو لا فيكون ذلك علما حكميا ولمن في دار الحرب بإخبار رجلين أو رجل وامرأتين، ولو مستورين أو واحد عدل وعندهما لا تشترط العدالة والبلوغ والحرية فيه وفي نظائره الخمسة كما عرف أصولا وفروعا والثانية خمسة على الأصح صحة البدن وزوال الموانع الحسية عن الذهاب إلى الحج وأمن الطريق وعدم قيام العدة في حق المرأة وخروج الزوج، أو المحرم معها والثالثة أعني شرائط الصحة أربعة الإحرام بالحج والوقت المخصوص والمكان المخصوص والإسلام ومنهم من ذكر بدل الإحرام النية وهذا أولى لاستلزامه النية وغيرها‏.‏

وواجباته أعني التي يلزم بترك واحد منها دم إنشاء الإحرام من الميقات ومد الوقوف بعرفة إلى الغروب والوقوف بالمزدلفة فيما بين طلوع فجر يوم النحر إلى طلوع الشمس والحلق، أو التقصير والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط وكونه بعد طواف معتد به ورمي الجمار وبداية الطواف من الحجر الأسود والتيامن فيه والمشي فيه لمن ليس له عذر يمنعه منه والطهارة فيه من الحدث الأصغر والأكبر وستر العورة وأقل الأشواط السبعة وهي ثلاثة وبداية السعي بين الصفا والمروة من الصفا والمشي فيه لمن ليس له عذر وذبح الشاة للقارن، أو المتمتع وصلاة ركعتين لكل أسبوع وطواف الصدر والترتيب بين الرمي والحلق والذبح يوم النحر وتوقيت الحلق بالمكان وتوقيته بالزمان وفعل طواف الإفاضة في أيام النحر وما عدا هذه المذكورات مما سيأتي بيانه مفصلا سنن وآداب وأما محظوراته فنوعان ما يفعله في نفسه وهو الجماع وإزالة الشعر وقلم الأظافر والتطيب وتغطية الرأس والوجه ولبس المخيط وما يفعله في غيره وهو حلق رأس الغير والتعرض للصيد في الحل والحرام وأما قطع شجر الحرم فلا ينبغي عده مما نحن فيه كما في النهاية فإن حرمته لا تتعلق بالحج ولا بالإحرام كذا في فتح القدير وقد يقال إنه كصيد الحرم وقد عده من محظوراته فلا بدع في أن يكون حراما بجهتين كما لا يخفى ولمن أراد الحج مهمات ينبغي الاعتناء بها وهي البداية بالتوبة بشروطها من رد المظالم إلى أهلها عند الإمكان وقضاء ما قصر في فعله من العبادات والندم على تفريطه في ذلك والعزم على عدم العود إلى مثل ذلك والاستحلال من ذوي الخصومات والمعاملات وتحصيل رضا من يكره السفر بغير رضاه وفي الخلاصة معزيا إلى العيون إذا أراد الابن أن يخرج إلى الحج وأبوه كاره لذلك إن كان الأب مستغنيا عن خدمته فلا بأس به وإن كان محتاجا يكره وكذا الأم في السير الكبير إذا لم يخف عليه الضعف فلا بأس به وكذا إن كرهت خروجه زوجته ومن عليه نفقته وإن لم يكن عليه نفقته فلا بأس به مطلقا وفي النوازل إن كان الابن أمرد صبيح الوجه للأب أن يمنعه عن الخروج حتى يلتحي وإن كان الطريق مخوفا لا يخرج وإن لم يكن أمرد‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي فتح القدير والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما ويكره الخروج للغزو والحج لمديون وإن لم يكن له مال يقضي به إلا أن يأذن الغريم فإن كان بالدين كفيل بإذنه لا يخرج إلا بإذنهما وإن بغير إذنه فبإذن الطالب وحده‏.‏ ا هـ‏.‏ وهذا كله في حج الفرض أما في حج النفل فطاعة الوالدين أولى مطلقا كما صرح به في الملتقط ويشاور ذا رأي في سفره في ذلك الوقت لا في نفس الحج فإنه خير وكذا يستخير الله في ذلك ويجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه يسقط الفرض عنه معها وإن كانت مغصوبة ولا تنافي بين سقوطه وعدم قبوله فلا يثاب لعدم القبول ولا يعاقب في الآخرة عقاب تارك الحج ولا بد له من رفيق صالح يذكره إذا نسي ويصبره إذا جزع ويعينه إذا عجز وكونه من الأجانب أولى من الأقارب عند بعض الصالحين تبعدا من ساحة القطيعة ويرى المكارى ما يحمله ولا يحمل أكثر منه إلا بإذنه وقد ذكر عن بعض السلف ويقال إنه الشافعي وقيل ابن المبارك وقيل ابن القاسم صاحب الإمام مالك أنه دفع إليه مطالعة ليحملها إلى إنسان فامتنع من حملها بدون إذن المكاري لكونه لم يشارطه على ذلك ورعا من فاعله وكذا يحترز من تحميلها فوق ما تطيق ومن تقليل علفها المعتاد بلا ضرورة، ولو مملوكة له وفي إجارة الخلاصة حمل البعير مائتان وأربعون منا وحمل الحمار مائة وخمسون منا قالوا ولا يشارك في الزاد واجتماع الرفقة كل يوم على طعام أحدهم أحد وينبغي أن يستثنى ما إذا علمت المسامحة بينهما فله المشاركة وإلا شارك فالاستحلال من الشركاء مخلص وتجريد السفر عن التجارة أحسن، ولو اتجر لا ينقص ثوابه كالغازي إذا اتجر كما ذكره الشارح في السير وأما عن الرياء والسمعة والفخر ظاهرا، أو باطنا ففرض وخلط التجارة بهذا القسم كما في فتح القدير مما لا ينبغي وأما الركوب في المحمل فكرهه بعضهم خوفا مما ذكرنا ولم يكرهه بعضهم إذا تجرد عن ذلك ففي التحقيق لا اختلاف وركوب الجمل أفضل ويكره الحج على الحمار والظاهر أنها تنزيهية بدليل أفضلية ما قابله والمشي أفضل من الركوب لمن يطيقه ولا يسيء خلقه وأما حج النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فلأنه كان القدوة فكانت الحاجة ماسة إلى ظهوره ليراه الناس وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في محله ولا يماكس في شراء الأدوات والزاد ويستحب أن يجعل خروجه يوم الخميس، أو يوم الاثنين ويفعل ما ذكره العلماء في آداب السفر‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فرض مرة على الفور‏)‏ أي فرض الحج في العمر مرة واحدة في أول سني الإمكان والفور في اللغة من فور القدر غليانها وفعل ذلك من فوره أي من وجهه ذلك وهو من فور القدر قبل أن تسكن قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏من فورهم هذا‏}‏ ولم يذكر المصنف فرضيته قصدا؛ لأنها من المسائل الاعتقادية فليست من مسائل الفقه؛ لأن مسائله ظنية وإنما ذكره توطئة لما بعده ودليله القرآني ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏ والسنة كثيرة وأما كونه لا يتعدد فلأن سببه وهو البيت كذلك وأما تكرر وجوب الزكاة مع اتحاد المال فلأن سببه هو النامي تقديرا وتقدير النماء دائر مع حولان الحول إذا كان المال معدا للاستنماء في الزمان المستقبل وتقدير النماء الثابت في هذا الحول غير تقدير النماء في حول آخر فالمال مع هذا النماء غير المجموع منه ومن النماء الآخر فيتعدد حكما كتعدد الوجوب بتعدد النصاب ولرواية أحمد مرفوعا‏:‏ «الحج مرة فمن زاد فهو تطوع‏}‏ وأما كونه على الفور فهو قول أبي يوسف وأصح الروايتين عن أبي حنيفة وعند محمد يجب على التراخي والتعجيل أفضل كذا في الخلاصة وتحقيقه أن الأمر إنما هو طلب المأمور به ولا دلالة له على الفور ولا على التراخي فأخذ به محمد وقواه بأنه عليه السلام حج سنة عشر وفرضية الحج كانت سنة تسع فبعث أبا بكر حج بالناس فيها ولم يحج هو إلى القابلة وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فقالا الاحتياط في تعيين أول سني الإمكان؛ لأن الحج له وقت معين في السنة والموت في سنة غير نادر فتأخيره بعد التمكن في وقته تعريض له على الفوات فلا يجوز وبهذا حصل الجواب عن تأخيره عليه الصلاة والسلام إذ لا يتحقق في حقه تعريض الفوات وهو الموجب للفور؛ لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ وبهذا التقرير علم أن الفورية ظنية؛ لأن دليل الاحتياط ظني ومقتضاه الوجوب فإذا أخره وأداه بعد ذلك وقع أداء ويأثم بالتأخير لترك الواجب وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا أخره فعلى الصحيح يأثم ويصير فاسقا مردود الشهادة وعلى قول محمد لا وينبغي أن لا يصير فاسقا من أول سنة على المذهب الصحيح بل لا بد أن يتوالى عليه سنون؛ لأن التأخير في هذه الحالة صغيرة؛ لأنه مكروه تحريما ولا يصير فاسقا بارتكابها مرة بل لا بد من الإصرار عليها وإذا حج في آخر عمره ارتفع الإثم اتفاقا قال الشارح ولو مات ولم يحج أثم بالإجماع ولا يخفى ما فيه فإن المشايخ اختلفوا على قول محمد فقيل يأثم مطلقا وقيل لا يأثم مطلقا وقيل إن خاف الفوات بأن ظهرت له مخائل الموت في قلبه فأخره حتى مات أثم وإن فجأه الموت لا يأثم وينبغي اعتماد القول الأول وتضعيف القول الثاني؛ لأنه حينئذ يفوت القول بفرضية الحج؛ لأن فائدتها الإثم عند عدم الفعل سواء كان مضيقا، أو موسعا اللهم إلا أن يقال فائدتها على هذا القول وجوب الإيصاء عليه قبيل موته فإذا لم يوص يأثم لترك هذا الواجب لا لترك الحج وعلم من قوله فرض مرة أن ما زاد عليها فهو تطوع ويشهد له الحديث السابق وعند الشافعية أن الحج لا يوصف بالنفلية بل المرة الأولى فرض عين وما زاد ففرض كفاية؛ لأن من فروض الكفاية أن يحج البيت كل عام ولم أره لأئمتنا بل صرحوا بالنفلية فقالوا حج النفل أفضل من الصدقة ولا يخفى أنه إذا نذر الحج فإنه يصير فرضا أيضا ومن فروعه ما في الخلاصة رجل قال لله علي مائة حجة لزمته كلها، ولو قال أنا أحج لا حج عليه، ولو قال إذا دخلت الدار فأنا أحج يلزمه عند الشرط ولو قال المريض إن عافاني الله تعالى من مرضي هذا فعلي حجة فبرئ لزمته حجة وإن لم يقل علي حجة لله؛ لأن الحجة لا تكون إلا لله، ولو برأ وحج جاز عن حجة الإسلام، ولو نوى غير حجة الإسلام صحت نيته‏.‏ ا هـ‏.‏ وظاهره أنه ينصرف إلى حجة الإسلام من غير نيته وينبغي أن ينصرف إلى غير حجة الإسلام بغير نية إلا أن ينويها وقد صرح به الشارح الزيلعي في كتاب الأضحية لكن علل المحقق ابن الهمام لما في الخلاصة بأن الغالب أن يريد به المريض الذي فرط في الفرض حتى مرض وقد قدمنا أن الحج يتصف بالحرمة إذا كان المال حراما ويمكن أن يقال إنه يكون واجبا وهو ما إذا جاوز الميقات بغير إحرام فإنهم قالوا يجب عليه أحد النسكين إما الحج، أو العمرة فإذا اختار الحج فإنه يتصف بالوجوب وقد قدمنا أنه يتصف بالكراهة وهو حجه بغير إذن أبويه بشرطه، أو بغير إذن صاحب الدين فتحرر من هذا أنه يكون فرضا وواجبا ونفلا وحراما ومكروها والظاهر أنه لا يتصف بالإباحة؛ لأنه عبادة وضعا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ بشرط حرية وبلوغ وعقل وصحة وقدرة زاد وراحلة فضلت عن مسكنه وعما لا بد منه ونفقة ذهابه وإيابه وعياله‏)‏ فلا حج على عبد ولو مدبرا، أو أم ولد، أو مكاتبا أو مبعضا، أو مأذونا له في الحج، ولو كان بمكة لعدم ملكه بخلاف الصوم والصلاة؛ لأن الحج لا يتأتى إلا بالمال غالبا بخلافهما ولفوات حق المولى في مدة طويلة وحق العبد مقدم بإذن الشرع والمولى وإن أذنه فقد أعاره منافعه والحج لا يجب بقدرة عارية ولا على صبي ولا مجنون وفي المعتوه خلاف في الأصول فذهب المصنف تبعا لفخر الإسلام إلى أنه يوضع عنه الخطاب كالصبي فلا يجب عليه شيء من العبادات وذهب الدبوسي في التقويم إلى أنه مخاطب بالعبادات احتياطا والمراد بالصحة صحة الجوارح فلا يجب أداء الحج على مقعد ولا على زمن ولا مفلوج ولا مقطوع الرجلين ولا على المريض والشيخ الذي لا يثبت بنفسه على الراحلة والأعمى والمجبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج لا يجب عليهم الحج بأنفسهم ولا الإحجاج عنهم إن قدروا على ذلك هذا ظاهر المذهب عن أبي حنيفة وهو رواية عنهما وظاهر الرواية عنهما أنه يجب عليهم الإحجاج فإن أحجوا أجزأهم ما دام العجز مستمرا بهم فإن زال فعليهم الإعادة بأنفسهم وظاهر ما في التحفة اختياره فإنه اقتصر عليه وكذا الإسبيجابي وقواه المحقق في فتح القدير ومشى على أن الصحة من شرائط وجوب الأداء فالحاصل أنها من شرائط الوجوب عنده ومن شرائط وجوب الأداء عندهما وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الإحجاج كما ذكرنا في وجوب الإيصاء ومحل الخلاف فيما إذا لم يقدر على الحج وهو صحيح أما إن قدر عليه وهو صحيح ثم زالت الصحة قبل أن يخرج إلى الحج فإنه يتقرر دينا في ذمته فيجب عليه الإحجاج اتفاقا أما إن خرج فمات في الطريق فإنه لا يجب عليه الإيصاء بالحج؛ لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب كذا في التجنيس ولا فرق في الأعمى بين أن يجد قائدا، أو لا وهو المشهور عن أبي حنيفة؛ لأن القادر بقدرة غيره ليس بقادر ولو تكلف هؤلاء الحج بأنفسهم سقط عنهم حتى لو صحوا بعد ذلك لا يجب عليهم الأداء؛ لأن سقوط الوجوب عنهم لدفع الحرج فإذا تحملوه وقع عن حجة الإسلام كالفقير إذا حج وأما القدرة على الزاد والراحلة فالفقهاء على أنه من شرط الوجوب فلا وجوب أصلا يتعلق بالفقير لاشتراط الاستطاعة في آية الحج وفسرت بهما والذي عليه أهل الأصول ومنهم صاحب التوضيح تبعا لفخر الإسلام أن القدرة الممكنة كالزاد والراحلة للحج شرط وجوب الأداء لا شرط الوجوب؛ لأن الوجوب جبري لا صنع للعبد فيه وليس فيه تكليف؛ لأنه طلب إيقاع الفعل من العبد ونفس الوجوب ليس كذلك ألا ترى أن صوم المريض والمسافر واجب ولا تكليف عليهما وكذا الزكاة قبل الحول وقد ظهر للعبد الضعيف أن الفقهاء إنما لم يوافقوا الأصوليين على ذلك لما أنه لا فائدة في جعله شرط وجوب الأداء؛ لأن فائدة الفرق بينهما هو لزوم الإيصاء عند الموت وعدمه والفقير لا يتأتى فيه ذلك فلهذا جعلوا القدرة من شرائط أصل الوجوب ولم أر من نبه على هذا وقول المحقق في فتح القدير واعلم أن القدرة على الزاد والراحلة شرط الوجوب لا نعلم عن أحد خلافه مراده عن أحد من الفقهاء وإلا فقد علمت أن الأصوليين على خلافه وعلى ما ذكره الأصوليون فلا يتأتى بحثه المذكور في الفقير كما لا يخفى وأطلق في الزاد فأفاد أنه يعتبر في حق كل إنسان ما يصح به بدنه والناس متفاوتون في ذلك والراحلة في اللغة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى وهي فاعلة بمعنى مفعولة وفيه إشارة إلى أنه لو قدر على غير الراحلة من بغل أو حمار فإنه لا يجب عليه ولم أره صريحا وإنما صرحوا بالكراهية ويعتبر في حق كل إنسان ما يبلغه فمن قدر على رأس زاملة وهو المسمى في عرفنا راكب مقتب وأمكنه السفر عليه وجب وإلا بان كان مترفها فلا بد أن يقدر على شق محمل وهو المسمى في عرفنا محارة أو موهية وإن أمكنه أن يكتري عقبة لا يجب عليه؛ لأنه غير قادر على الراحلة في جميع الطريق وهو الشرط سواء كان قادرا على المشي، أو لا والعقبة أن يكتري اثنان راحلة يتعقبان عليها يركب أحدهما مرحلة والآخر‏.‏ مرحلة وشق المحمل جانبه؛ لأن للمحمل جانبين ويكفي للراكب أحد جانبيه وقد رأيت في كتب الشافعية أن من الشرائط أن يجد له من يركب في الجانب الآخر وهو المسمى بالمعادل فإن لم يجد لا يجب الحج عليه ولم أره لأئمتنا ولعلهم إنما لم يذكروه لما أنه ليس بشرط لإمكان أن يضع زاده وقربته وأمتعته في الجانب الآخر وقد وقع لي ذلك في الحجة الثانية في الرجعة لم أجد معادلا يصلح لي ففعلت ذلك لكن حصل لي نوع مشقة حين يقل الماء والزاد والله أعلم بحقيقة الحال ثم القدرة على الزاد لا تثبت إلا بالملك لا بالإباحة والقدرة على الراحلة لا تثبت إلا بالملك، أو الإجارة بالعارية والإباحة فلو بذل الابن لأبيه الطاعة وأباح له الزاد والراحلة لا يجب عليه الحج وكذا لو وهب له مال ليحج به لا يجب عليه القبول؛ لأن شرائط أصل الوجوب لا يجب عليه تحصيلها عند عدمها ثم اشتراط القدرة على الزاد عام في حق كل أحد حتى أهل مكة وأما القدرة على الراحلة فشرط في حق غير المكي وأما هو فلا ومن حولها كأهلها؛ لأنه لا يلحقهم مشقة فأشبه السعي إلى الجمعة أما إذا كان لا يستطيع المشي أصلا فلا بد منه في حق الكل وفي قوله وما لا بد منه إشارة إلى أن المسكن لا بد أن يكون محتاجا إليه للسكنى فلا تثبت الاستطاعة بدار يسكنها وعبد يستخدمه وثياب يلبسها ومتاع يحتاج إليه وتثبت الاستطاعة بدار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه فعليه أن يبيعه ويحج بخلاف ما إذا كان سكنه وهو كبير يفضل عنه حتى يمكنه بيعه والاكتفاء بما دونه ببعض ثمنه ويحج بالفضل فإنه لا يجب بيعه لذلك كما لا يجب بيع مسكنه والاقتصار على السكنى بالإجارة اتفاقا بل إن باع واشترى قدر حاجته وحج بالفضل كان أفضل، ولو لم يكن له مسكن ولا خادم وعنده مال يبلغ ثمن ذلك ولا يبقى بعده قدر ما يحج به فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأن هذا المال مشغول بالحاجة الأصلية إليه أشار في الخلاصة وأشار بقوله وما لا بد منه إلى أنه لا بد أن يفضل له مال بقدر رأس مال التجارة بعد الحج إن كان تاجرا وكذا الدهقان والمزارع أما المحترف فلا كذا في الخلاصة ورأس المال يختلف باختلاف الناس والمراد بالعيال من تلزمه نفقته قال الشارح ويعتبر في نفقة عياله الوسط من غير تبذير ولا تقتير وقد يقال اعتبار الوسط في نفقة الزوجة مخالف للمفتى به فيها فإن الفتوى اعتبار حالهما والوسط إنما يعتبر فيما إذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كما سيأتي في باب النفقات إن شاء الله تعالى وأشار بقوله نفقة ذهابه وإيابه إلى أنه ليس من الشرط قدرته على نفقته ونفقة عياله بعد عوده وهو ظاهر الرواية وقيل لا بد من زيادة نفقة يوم وقيل شهر والأول عن أبي حنيفة والثاني عن أبي يوسف ودخل تحت نفقة عياله سكناهم ونفقتهم وكسوتهم فإن النفقة تشمل الطعام والكسوة والسكنى وقد قدمنا أن من الشرائط الوقت أعني أن يكون مالكا لما ذكر في أشهر الحج حتى لو ملك ما به الاستطاعة قبلها كان في سعة من صرفها إلى غيره وأفاد هذا قيدا في صيرورته دينا افتقر هو أن يكون مالكا في أشهر الحج فلم يحج والأولى أن يقال إذا كان قادرا وقت خروج أهل بلده إن كانوا يخرجون قبل أشهر الحج لبعد المسافة أو كان قادرا في أشهر الحج إن كانوا يخرجون فيها ولم يحج حتى افتقر تقرر دينا وإن ملك في غيرها وصرفها إلى غيره لا شيء عليه كذا في فتح القدير‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وأمن طريق‏)‏ أي وبشرط أمن طريق يعني وقت خروج أهل بلده وإن كان مخيفا في غيره وحقيقة أمن الطريق أن يكون الغالب فيه السلامة كما اختاره الفقيه أبو الليث وعليه الاعتماد وما أفتى به أبو بكر الرازي من سقوط الحج عن أهل بغداد وقول أبي بكر الإسكاف لا أقول‏:‏ الحج فريضة في زماننا قاله سنة ست وعشرين وثلثمائة وقول الثلجي ليس على أهل خراسان حج مذ كذا وكذا سنة كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق فلا يعارض ما ذكرنا وما قاله الصفار من إني لا أرى الحج فرضا من حين خرجت القرامطة وما علل به في الفتاوى الظهيرية بأن الحاج لا يتوصل إلى الحج إلا بالرشوة للقرامطة وغيرهم فتكون الطاعة سببا للمعصية مردود بأن هذا لم يكن من شأنهم؛ لأنهم طائفة من الخوارج كانوا يستحلون قتل المسلمين وأخذ أموالهم وكانوا يغلبون على أماكن ويترصدون للحاج وعلى تقدير أخذهم الرشوة فالإثم في مثله على الآخذ لا المعطي على ما عرف من تقسيم الرشوة في كتاب القضاء ولا يترك الفرض لمعصية عاص قال في فتح القدير والذي يظهر أن يعتبر مع غلبة السلامة عدم غلبة الخوف حتى إذا غلب الخوف على القلوب من المحاربين لوقوع النهب والغلبة منهم مرارا وسمعوا أن طائفة تعرضت للطريق ولها شوكة والناس يستضعفون أنفسهم عنهم لا يجب واختلف في سقوطه إذا لم يكن بد من ركوب البحر فقيل البحر يمنع الوجوب وقال الكرماني إن كان الغالب في البحر السلامة من موضع جرت العادة بركوبه يجب وإلا فلا وهو الأصح وسيحون وجيحون والفرات والنيل أنهار لا بحار كما في الحديث‏:‏ «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة‏}‏‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ومحرم أو زوج لامرأة في سفر‏)‏ أي وبشرط محرم إلى آخره لما في الصحيحين‏:‏ «لا تسافر امرأة ثلاثا إلا ومعها محرم‏}‏‏.‏ وزاد مسلم في رواية‏:‏ «أو زوج‏}‏‏.‏ وروى البزار ‏{‏لا تحج امرأة إلا ومعها محرم فقال رجل يا رسول الله إني كتبت في غزوة وامرأتي حاجة قال ارجع فحج معها‏}‏ فأفاد هذا كله أن النسوة الثقات لا تكفي قياسا على المهاجرة والمأسورة؛ لأنه قياس مع النص ومع وجود الفارق فإن الموجود في المهاجرة والمأسورة ليس سفرا؛ لأنها لا تقصد مكانا معينا بل النجاة خوفا من الفتنة حتى لو وجدت مأمنا كعسكر المسلمين وجب أن تقر ولأنه يخاف عليها الفتنة وتزاد بانضمام غيرها إليها ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها من النساء والمحرم من لا يجوز له مناكحتها على التأبيد بقرابة، أو رضاع، أو مصاهرة أطلقه فشمل المسلم والذمي والحر والعبد ولا يرد عليه المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها والمسلم القريب إذا لم يكن مأمونا والصبي الذي لم يحتلم والمجنون؛ لأن المقصود من المحرم الحفظ والصيانة لها وهو مفقود في هؤلاء الأربعة ولم أر من شرط في الزوج شروط المحرم وينبغي أنه لا فرق؛ لأن الزوج إذا لم يكن مأمونا، أو كان صبيا، أو مجنونا لم يوجد منه ما هو المقصود كما ذكرنا وعبارة المجمع أولى وهي يشترط في حج المرأة من سفر زوج أو محرم بالغ عاقل غير مجوسي ولا فاسق مع النفقة عليه وأطلق المرأة فشمل الشابة والعجوز لإطلاق النصوص والمرأة هي البالغة؛ لأن الكلام فيمن يجب عليه الحج فلذا قالوا في الصبية التي لم تبلغ حد الشهوة تسافر بلا محرم فإن بلغتها لا تسافر إلا به والمراد خطاب وليها بأن يمنعها من السفر فإن لم يكن لها ولي فلا تستصحب في السفر لا أن المراد أنها يحرم عليها؛ لأنها غير مكلفة حتى تبلغ وبلوغها حد الشهوة لا يستلزمه وقيد بالسفر وهو ثلاثة أيام بلياليها؛ لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون ذلك لحاجة بغير محرم وأشار بعدم اشتراط رضا الزوج إلى أنه ليس له منعها عن حجة الإسلام إذا وجدت محرما؛ لأن حقه لا يظهر في الفرائض بخلاف حج التطوع والمنذور وأشار المصنف إلى أن أمن الطريق والمحرم من شرائط الوجوب؛ لأنه عطفه على ما قبله وهو أحد القولين وقيل شرط وجوب الأداء وثمرة الاختلاف تظهر في وجوب الوصية وفي وجوب نفقة المحرم وراحلته إذا أبى أن يحج‏.‏ معها إلا بهما وفي وجوب التزوج عليها ليحج معها إن لم تجد محرما فمن قال هو شرط الوجوب قال لا يجب عليها شيء من ذلك؛ لأن شرط الوجوب لا يجب تحصيله ولهذا لو ملك المال كان له الامتناع من القبول حتى لا يجب عليه الحج وكذا لو أبيح له ومن قال إنه شرط وجوب الأداء وجب جميع ذلك ورجح المحقق في فتح القدير أنهما مع الصحة شروط وجوب أداء بأن هذه العبادة تجري فيها النيابة عند العجز لا مطلقا توسطا بين المالية المحضة والبدنية المحضة لتوسطها بينهما والوجوب أمر دائر مع فائدته فيثبت مع قدرة المال ليظهر أثره في الإحجاج والإيصاء واعلم أن الاختلاف في وجوب الإيصاء إذا مات قبل أمن الطريق فإن مات بعد حصول الأمن فالاتفاق على الوجوب وأشار باشتراط المحرم، أو الزوج إلى أن عدم العدة في حقها شرط أيضا بجامع حرمة السفر عليها أي عدة كانت والعبرة لوجوبها وقت خروج أهل بلدها وعن ابن مسعود أنه رد المعتدات من النجف بفتحتين مكان لا يعلوه الماء مستطيل فإن لزمتها العدة في السفر فسيأتي في محله إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فلو أحرم صبي، أو عبد فبلغ أو عتق فمضى لم يجز عن فرضه‏)‏؛ لأن الإحرام انعقد للنفل فلا ينقلب للفرض وهو وإن كان شرطا عندنا لكنه شبيه بالركن من حيث إمكان اتصال الأداء به فاعتبرنا الشبه فيما نحن فيه احتياطا وفي إسناد الإحرام إلى الصبي دليل على صحته منه وهو محمول على ما إذا كان يعقله فإن كان لا يعقله فأحرم عنه أبوه صار محرما فينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارا و رداء ولما كان الصبي غير مخاطب كان إحرامه غير لازم ولذا لو أحصر وتحلل لا دم عليه ولا جزاء ولا قضاء، ولو جدده بعد بلوغه قبل الوقوف ونوى الفرض أجزأه؛ لأنه يمكنه الخروج عنه لعدم اللزوم بخلاف العبد لا يمكنه الخروج عنه للزوم فلو جدده بعد عتقه لا يصح والكافر والمجنون كالصبي فلو حج كافر، أو مجنون فأفاق، أو أسلم فجددا الإحرام أجزأهما قيل وهذا دليل أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه بخلاف الصلاة بجماعة كذا في فتح القدير وفيه بحث من وجهين الأول كيف يتصور إحرام المجنون فإنه لا يتصور منه إحرام بنفسه وكون وليه أحرم عنه يحتاج إلى نقل صريح يفيد أن المجنون البالغ كالصبي في هذا الثاني أن هذا لا يدل على أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه إذا حج؛ لأن في هذه المسألة لم يوجد منه الحج إنما وجد الإحرام فقط ؛ لأنه لو وقف بعرفة لم يكن موضوع المسألة ولم يكن للتجديد فائدة فالحاصل أنه لا يكون مسلما إلا بالإحرام والوقوف وشهود المناسك فلا منافاة بين الفرعين كما لا يخفى وفي الذخيرة عن النوادر البالغ إذا جن بعد الإحرام ثم ارتكب شيئا من محظورات الإحرام فإن فيه الكفارة فرقا بينه وبين الصبي‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ومواقيت الإحرام ذو الحليفة وذات عرق والجحفة وقرن ويلملم لأهلها ولمن مر بها‏)‏ أي الأمكنة التي لا يتجاوزها الآفاقي إلا محرما خمسة فالميقات مشترك بين الوقت المعين والمكان المعين والمراد هنا الثاني وسيأتي الأول وذو الحليفة بضم الحاء المهملة وبالفاء بينه وبين مكة نحو عشر مراحل، أو تسع وبينه وبين المدينة ستة أميال كما ذكره النووي وقيل سبعة كما ذكره القاضي عياض ميقات أهل المدينة وهو أبعد المواقيت وبهذا المكان آبار تسميه العوام آبار علي قيل؛ لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل الجن في بعض تلك الآبار وهو كذب من قائله كما ذكره الحلبي في مناسكه وذات عرق بكسر العين وسكون الراء لجميع أهل المشرق وهي بين المشرق والمغرب من مكة قيل وبينها وبين مكة مرحلتان والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة واسمها في الأصل مهيعة نزل بها سيل جحف أهلها أي استأصلهم فسميت جحفة قال النووي بينهما وبين مكة ثلاث مراحل وهي قرية بين المغرب والشمال من مكة من طريق تبوك وهي طريق أهل الشام ونواحيها اليوم وهي ميقات أهل مصر والمغرب والشام وقرن بفتح القاف وسكون الراء وهو جبل مطل على عرفات بينه وبين مكة نحو مرحلتين وفي الصحاح أنه بفتح الراء وأن أويسا القرني منسوب إليه ورد بأنه بسكون الراء وأن أويسا منسوب إلى قبيلة يقال لها بنو قرن بطن من مراد وهو ميقات أهل نجد وأما يلملم فهو ميقات أهل اليمن وهو مكان جنوبي مكة وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة فهذا هو المراد بقوله لأهلها وهذه المواقيت ما عدا ذات عرق ثابتة في الصحيحين وذات عرق في صحيح مسلم وسنن أبي داود وقوله لمن مر بها يعني من غير أهلها وقد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرما فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا ويعلم منه أن الشامي إذا مر على ذي الحليفة في ذهابه لا يلزمه الإحرام منه بالطريق الأولى وإنما يجب عليه أن يحرم من الجحفة‏.‏ كالمصري لكن قيل إن الجحفة قد ذهبت أعلامها ولم يبق بها إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي ولهذا والله أعلم اختار الناس الإحرام من المكان المسمى برابض وبعضهم يجعله بالغين احتياطا؛ لأنه قبل الجحفة بنصف مرحلة، أو قريب من ذلك وقد قالوا ومن كان في بر، أو بحر لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ويعرف بالاجتهاد وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل ذكر لي بعض أهل العلم من الشافعية المقيمين بمكة في الحجة الرابعة للعبد الضعيف أن المحاذاة حاصلة في هذا الميقات فينبغي على مذهب الحنفية أن لا يلزم الإحرام من رابغ بل من خليص القرية المعروفة فإنه حينئذ يكون محاذيا لآخر المواقيت وهو قرن فأجبته بجوابين الأول أن إحرام المصري والشامي لم يكن بالمحاذاة وإنما هو بالمرور على الجحفة وإن لم تكن معروفة وإحرامهم قبلها احتياطا والمحاذاة إنما تعتبر عند عدم المرور على المواقيت الثاني أن مرادهم المحاذاة القريبة ومحاذاة المارين لقرن بعيدة؛ لأن بينهم وبينه بعض جبال والله أعلم بحقيقة الحال أطلق في الإحرام فشمل إحرام الحج وإحرام العمرة؛ لأنه لا فرق بينهما في حق الآفاقي وشمل ما إذا كان قاصدا عند المجاوزة الحج، أو العمرة أو التجارة، أو القتال، أو غير ذلك بعد أن يكون قد قصد دخول مكة؛ لأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فاستوى فيه الكل وأما دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام يوم الفتح فكان مختصا بتلك الساعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ‏{‏مكة حرام لم تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما‏}‏ يعني الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده عليه الصلاة والسلام للقتال وقيدنا بقصد مكة؛ لأن الآفاقي إذا قصد موضعا من الحل كخليص يجوز له أن يتجاوز الميقات غير محرم وإذا وصل إليه التحق بأهله ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بغير إحرام إذا لم يقصد الحج أو العمرة وهي الحيلة لمن أراد أن يدخل مكة بغير إحرام وينبغي أن لا تجوز هذه الحيلة للمأمور بالحج؛ لأنه حينئذ لم يكن سفره للحج ولأنه مأمور بحجة آفاقية وإذا دخل مكة بغير إحرام صارت حجته مكية فكان مخالفا وهذه‏.‏ المسألة يكثر وقوعها فيمن يسافر في البحر الملح وهو مأمور بالحج ويكون ذلك في وسط السنة فهل له أن يقصد البندر المعروف بجدة ليدخل مكة بغير إحرام حتى لا يطول الإحرام عليه لو أحرم بالحج فإن المأمور بالحج ليس له أن يحرم بالعمرة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وصح تقديمه عليها لا عكسه‏)‏ أي جاز تقديم الإحرام على المواقيت ولا يجوز تأخيره عنها أما الأول فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وفسرت الصحابة الإتمام بأن يحرم بها من دويرة أهله ومن الأماكن القاصية وقال عليه السلام‏:‏ «من أهل من المسجد الأقصى بحجة، أو بعمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» رواه الإمام أحمد ولم يتكلم المصنف على أفضلية التقديم وعدمها لما أن فيه تفصيلا ذكره في الكافي وهو أن التقديم أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور؛ لأن المشقة فيه أكثر فكان أكثر ثوابا؛ لأن الأجر بقدر التعب بخلاف التقديم على الأشهر أجمعوا على أنه مكروه من غير تفصيل بين خوف الوقوع في محظور، أو لا كما أطلقه في المجمع ومن فصل كصاحب الظهيرية قياسا على الميقات المكاني فقد أخطأ وإنما ذكره مطلقا قبل الميقات الزماني شبهه بالركن وإن كان شرطا فيراعى مقتضى ذلك الشبه احتياطا، ولو كان ركنا حقيقة لم يصح قبل أشهر الحج فإن كان شبيها به كره قبلها لشبهه وقربه من عدم الصحة ولشبه الركن لم يجز لفائت الحج استدامة الإحرام ليقضي به من قابل وأما الثاني فلقوله عليه السلام‏:‏ «لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما‏}‏ وفائدة التأقيت بالمواقيت الخمسة المنع من التأخير‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولداخلها الحل‏)‏ أي الحل ميقات من كان داخل المواقيت وهو بكسر الحاء المواضع التي بين المواقيت والحرم ولا فرق بين أن يكون في نفس الميقات، أو بعده كما نص عليه محمد في كتبه وقول المحقق في فتح القدير المتبادر من هذه العبارة أن يكون بعد المواقيت غير مسلم بل المتبادر منها من كان فيها نفسها وهو غير مقصود للمصنفين وإنما المقصود الإطلاق كما ذكرنا وإنما كان الحل ميقاته؛ لأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم حد في حقه كالميقات للآفاقي فلا يدخل الحرم عند قصد النسك إلا محرما وأما عند عدم هذا القصد فله الدخول بغير إحرام للحاجة والضرورة كالمكي إذا خرج من الحرم لحاجة له أن يدخل مكة بغير إحرام بشرط أن لا يكون جاوز الميقات كالآفاقي فإن جاوزه فليس له أن يدخل مكة من غير إحرام؛ لأنه صار آفاقيا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وللمكي الحرم للحج والحل للعمرة‏)‏ أي ميقات المكي إذا أراد الحج الحرم فإن أحرم له من الحل لزمه دم وإذا أراد العمرة الحل فإذا أحرم بها من الحرم لزمه دم؛ لأنه ترك ميقاته فيهما وهو مجمع عليه والمراد بالمكي من كان داخل الحرم سواء كان بمكة، أو لا وسواء كان من أهلها، أو لا وبه يعلم أن المراد بداخل المواقيت من كان ساكنا في الحل والله سبحانه أعلم‏.‏