فصل: فصل (في طبخ العصير)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


كتاب الأشربة

ذكر الأشربة بعد الشرب؛ لأنهما شعبتا عرف واحد لفظا ومعنى فاللفظي هو الشرب مصدر شرب، والعرف المعنوي هو معنى لفظ الشرب الذي هو مصدر شرب فإن كلا منهما مشتق من ذلك المصدر ولا بد في الاشتقاق من التناسب بين المشتق والمشتق منه في اللفظ والمعنى قال في العناية‏:‏ ومن محاسن ذكر الأشربة بيان حرمتها، إذ الشبهة في حسن تحريم ما يزيل العقل الذي يحصل به معرفة شكر المنعم فإن قيل‏:‏ لماذا حل للأمم السابقة مع احتياجهم إلى العقل أجيب بأن السكر حرام في جميع الأديان وحرم شرب القليل من الخمر علينا كرامة من الله علينا لئلا يؤدي إلى المحظور بأن يدعو القليل إلى الكثير، ونحن مشهود لنا بالخيرية فإن قيل هلا حرمت علينا النبيذ والداعي المذكور موجود أجيب بأن الشهادة بالخيرية لم تكن، إذ ذاك وإنما يتدرج الضاري لئلا يتعداه من الإسلام كذا في العناية بأن ينفر من الإسلام‏.‏ ا هـ‏.‏ وأضيف هذا الكتاب إلى الأشربة والحال أن الأشربة جمع شراب وهو اسم في اللغة لكل ما يشرب من المائعات حراما كان أو حلالا وفي استعمال أهل الشرع اسم لما هو حرام منه وكان مسكرا لما في هذا الكتاب من بيان حكم الأشربة كما سمى كتاب الحدود لما فيه من بيان حكم الحدود وفي التلويح وفي أوائل القسم الثاني أن إضافة الحل والحرمة إلى الأعيان حقيقة لا مجاز ولا يخفى أنه يحتاج إلى تفسير الأشربة لغة وشرعا - وقد تقدم -، وإلى بيان الأعيان التي تتخذ منها الأشربة، وأسمائها وسيأتي بيان ذلك ا هـ‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏الشراب ما يسكر‏)‏ هذا في اصطلاح الفقهاء لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كل مسكر حرام» وهذا معناه‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والمحرم منها أربعة‏:‏ الخمر وهي النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وحرم قليلها وكثيرها‏)‏ وقال بعضهم كل مسكر خمر لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كل مسكر خمر» رواه مسلم ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الخمر من هاتين النخلة والعنبة» رواه مسلم، وأبو داود ولأنها سميت خمرا لمخامرة العقل وكل مسكر يخامر العقل ولنا إجماع أهل اللغة على حقيقته في النيء من ماء العنب وتسمية غيرها بالخمر مجازا وعليه يحمل الحديث المتقدم كذا في الشارح وفيه نظر؛ لأنه نقل في القاموس‏:‏ الخمر ما يسكر من عصير العنب أو عام قال‏:‏ والعموم أصح وأيضا الحديث محمول على بيان الحكم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقيقة اللغوية والتعريف المذكور للخمر هو قول الإمام وعندهما إذا اشتد صار خمرا ولا يشترط فيه القذف بالزبد؛ لأن اللذة تحصل به وهو المؤثر في إيقاع العداوة والصد عن الصلاة وله أن الغليان بداية الشدة، وكماله بقذف الزبد‏.‏ والكلام فيه في مواضع‏:‏ أحدها في بيان ماهيته، والثاني وقت ثبوت هذا الاسم - وقد تقدما -، والثالث أن عينه حرام غير معلول بالسكر بخلاف غيره من الأشربة فإنه معلول بالسكر ومن الناس من يقول غير المسكر منها ليس بحرام كغيره من الأشربة فإنه معلول بالسكر؛ لأن الفساد لا يحصل إلا به، وهذا كفر لأنه مخالف الكتاب والسنة والإجماع، والرابع أنها نجسة العين نجاسة غليظة كالبول والغائط، والخامس أن مستحلها يكفر لإنكاره الدليل القطعي، والسادس سقوط تقويمها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها، السابع لا يجوز بيعها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» رواه مسلم، والثامن أنه يحد شاربها وإن لم يسكر، والتاسع أن الطبخ لا يؤثر فيها لأنه لا يمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها، والعاشر جواز تحليلها على ما يجيء من قريب إن شاء الله تعالى وفي الكافي ولا يحل أن يسقيه ذميا أو صبيا أو دابة وفي الخانية ويكره الاكتحال بالخمر وأن يجعله في السعوط وفي الأصل لو عجن الدقيق بالخمر كره أكله والحنطة إذا وقعت في الخمر يكره أكلها قبل الغسل ولو انتفخت الحنطة في الخمر قال محمد‏:‏ لا تطهر قبل الغسل وقال أبو يوسف تغسل ثلاث مرات وتجفف في كل مرة فتطهر وعلى هذا الخلاف إذا طبخ اللحم في الخمر فهو على هذا الخلاف وفي الخلاصة لو طبخ الخمر بالماء، والماء أقل أو سواء يحد شاربه وإن كان الماء أكثر لا يحد إلا ذا سكر وفي الكافي واختلفوا في سقوط ماليتها والصحيح أنها مال ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والطلاء وهو العصير إن طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه‏)‏ وهذا النوع الثاني قال في المحيط‏:‏ الطلاء اسم للمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكرا وهو الصواب وإنما سمي طلاء لقول عمر ما أشبه هذا بطلاء البعير وهو النفط الذي يطلى به البعير إذا كان أجرب، ونجاسته قيل مغلظة وقيل مخففة وهو ظاهر الرواية وإن طبخ حتى ذهب أكثر من نصفه فحكمه حكم الباذق والمنصف في ظاهر الرواية وفي الظهيرية ويجوز بيع الباذق والمنصف والمسكر ونقيع الزبيب ويضمن متلفهم في قول الإمام خلافا لهما والفتوى على قولهما ا هـ‏.‏ وفي الينابيع الطلاء ما يطبخ من عصير العنب في نار أو شمس حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وهو عصير محض فإن كان فيه شيء من الماء حتى ذهب ثلثاه بقي المجموع من الماء والعصير‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي الهداية ويسمى الطلاء الباذق أيضا سواء كان الذاهب قليلا أو كثيرا، والمنصف ما ذهب نصفه وبقي نصفه وكل ذلك حرام ا هـ‏.‏ وعندنا إذا غلى واشتد بالزبد وإذا اشتد ولم يقذف بالزبد فهو على الخلاف بين الإمام وصاحبيه كما تقدم‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏والسكر وهو النيء من ماء الرطب‏)‏ وهذا هو النوع الثالث من الأشربة المحرمة‏.‏ مشتق من سكرت الريح إذا سكنت وإنما يحرم إذا قذفت بالزبد وقبله حلال وقال شريك بن عبد الله هو حلال وإذا قذف بالزبد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا‏}‏ امتن علينا به والامتنان لا يكون بالمحرم ولنا ما روينا، والآية محمولة على الابتداء حين كانت الأشربة مباحة وقيل أريد بها التوبيخ ومعناها والله أعلم تتخذون منه سكرا وتدعونه رزقا حسنا والثاني الفضيخ وهو النيء من البسر المذنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد فإنه اسم مشتق من الفضخ وهو الكسر يقال انفضخ سنام البعير أي انكسر من الحمل فلما كان البسر ينكسر لاستخراج الماء منه سمي الماء المستخرج بعد الفضخ كذا في المحيط‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ونقيع الزبيب وهو النيء من ماء الزبيب‏)‏ وهو الرابع من الأشربة المحرمة إذا اشتد لما قدمنا ثم حرمة هذه الأشياء دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها، ولا يجب الحد بشربها، ونجاستها خفيفة ويضمن متلفها عند الإمام على ما بينا في الغصب وعن أبي يوسف يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف ولقائل أن يقول من هذه الأشربة نقيع التمر وهو السكر وقد استدللنا على حرمته بإجماع الصحابة وقد تقرر أن الإجماع دليل قطعي فيكفر مستحلها فكيف قلتم لا يكفر مستحلها ويجاب بأنه قد يكون نقل الإجماع بطريق الآحاد فلا يفيد القطع، والمنقول في حرمة السكر من هذا القبيل وفي المحيط ونقيع الزبيب نوعان وهو أن ينقع الزبيب في الماء حتى خرجت حلاوته إلى الماء ثم اشتد وغلى وقذف بالزبد والثاني وهو النيء من ماء العنب إذا طبخ أدنى طبخة وغلى واشتد وفي الخانية نقيع الزبيب ما دام حلوا يحل شربه وإن غلى واشتد وقذف بالزبد يحرم قليله وكثيره وهو قول محمد وبه أخذ الفقيه أبو الليث وفي السراجية وإذا أراد الرجل يشرب النبيذ أو يشرب السكر فأول قدح منه حرام والنفوذ حرام والمشي إليه حرام‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والكل حرام إذا غلى واشتد وحرمتها دون حرمة الخمر فلا يكفر مستحلها بخلاف الخمر‏)‏ وقد بينا أحكامها فيما تقدم قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والحلال منها أربعة نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخة وإن اشتد إذا شرب ما لا يسكر بلا لهو وطرب‏)‏ يعني ‏"‏ هذيان ‏"‏ وهذا المعنى ما رواه مسلم‏:‏ «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما في الانتباذ، الحديث إلى أن قال من شربه منكم فليشربه زبيبا أو تمرا فردا أو بسرا فردا» وهذا محمول على المطبوخ منه لأن غير المطبوخ منه حرام بالإجماع، قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والخليطان‏)‏ وهو أن يجمع بين التمر والزبيب في الماء ويشرب ذلك وهو حلو يعني حلالا لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ «كنا ننتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم القبضة من التمر والقبضة من الزبيب ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وعشية فيشربه غدوة»‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وينبذ العسل والتين والبر والشعير‏)‏ يعني هو حلال لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخمر من هاتين الشجرتين يعني العنب والنخل» ولا يشترط فيه الطبخ؛ لأن قليله لا يفضي إلى كثيره كيفما كان‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والمثلث‏)‏ وهذا هو الرابع وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، والقول بالحل في هذه الأربعة قول الإمام والثاني، وقال محمد‏:‏ ‏[‏كل ما يسكر كثيره قليله حرام‏]‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» رواه مسلم فعلى قولهم لا يحد شاربه وإذا سكر منه وطلق لا يقع طلاقه بمنزلة النائم وذاهب العقل بالبنج ولبن الرماك وعلى قول محمد لكثرة الفساد فيحد الشارب إذا سكر من هذه الأنبذة المذكورة والمتخذ من لبن الرماك لا يحل شربه وفي الهداية الأصح أنه يحد على قولهما إذا سكر في هذه الأنبذة المذكورة اعتبارا للخمر وفي المجتبى على قول محمد إذا شرب من هذه الأشربة ولم يسكر يعزر تعزيرا شديدا‏.‏ ا هـ‏.‏ المثلث إذا صب عليه الماء وطبخ فحكمه حكم المثلث؛ لأن صب الماء فيه لا يزيده إلا ضعفا بخلاف ما إذا صب الماء على العصير ثم طبخ حتى يذهب ثلثا الكل لأن الماء يذهب أولا للطافته أو يذهب منهما ولا يدرى أيهما ذهب أكثر فيحتمل الذاهب من العصير أقل من ثلثه ولو طبخ العنب قبل العصير اكتفي بأدنى طبخة في رواية عن الإمام وفي رواية لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ لأن العصير موجود فيه من غير تعمير فصار كما لو طبخ فيه بعد العصير ولو جمع بين العنب والتمر أو بين العنب والزبيب فطبخ لا يحل حتى يذهب ثلثاه؛ لأن التمر والزبيب وإن كان يكتفى فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه فيعتبر جانب العنب احتياطا للحرمة وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا ولو طبخ نقيع التمر أو نقيع الزبيب أدنى طبخة ثم نقع فيه تمرا أو زبيبا إن كان ما نقع فيه شيئا ما يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله فلا بأس به وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لا يحل كما إذا صب في المطبوخ قدح من نقيع والمعنى تغليب جهة الحرمة ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط والاحتياط في الحد في درئه‏.‏ ولو طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى ذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت فلا ترتفع بالطبخ وفي الظهيرية الفضيخ الشراب المتخذ من التمر فإذا أفضخ التمر وقذف ثم ينقع في الماء حتى تخرج حلاوته ثم يترك حتى يشتد فإذا اشتد حرم وفي التهذيب عن الثاني والثالث‏:‏ البسر المذنب إذا طبخ أدنى طبخة فإذا حلي يحل شربه بلا خلاف فإذا اشتد فحكمه كالمثلث وفي الجامع‏:‏ السكران الذي يحد هو الذي لا يعقل مطلقا قليلا كان أو كثيرا ولا يعرف الرجل من المرأة ولا الأرض من السماء عند الإمام‏:‏ وفي شربه الأصل إذا ذهب عقله وكان كلامه مخبطا يعتبر الغالب وإن كان النصف مستقيما والنصف غير مستقيم لا يقام عليه الحد وفي القدوري إذا غلب عليه الماء حتى زال طعمها وريحها فلا حد في شربها وفيه أيضا عن الثاني إذا بل في الخمر خبزا فأكل الخبز إذا كان الطعم يوجد حد وإن كان لا يرى أثرها في الخبز لا وإذا شرب الخمر لضرورة مخافة العطش فشرب مقدار ما يرويه فسكر فلا حد وإن ادعى الإكراه لم يصدق؛ لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالبينة ا هـ‏.‏ تصرفات السكران كلها نافذة إلا الردة والإقرار بالحدود الخالصة ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وحل الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف ألا فاشربوا في كل وعاء غير أنكم لا تشربوا مسكرا» رواه مسلم، وأحمد وغيرهما ولأن الظرف لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، والدباء هو القرع والنقير هو أصل النخلة ينقر نقرا وينسج نسجا والمزفت وهو النقير والحنتم الجرار الخضر وقيل الحنتم الجرار الحمر ثم إن انتبذ في هذه الأوعية قبل استعمالها في الخمر فلا إشكال في حله وطهارته وإن استعمل فيها الخمر ثم انتبذ فيها ينظر إن كان الوعاء عتيقا يطهر بغسله ثلاث مرات وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد وعند أبي يوسف يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة بعد مرة أخرى حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير لونا أو طعما أو ريحا حكم بطهارته ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وخل الخمر سواء خللت أو تخللت‏)‏ يعني خل الخمر فلا فرق في ذلك بين أن يتخلل بنفسه أو تخلل بإلقاء شيء فيه كالملح أو الخل أو النقل من الظل إلى الشمس أو بإيقاد النار بالقرب منها خلافا للشافعي إذا تخللت بإلقاء شيء فيها كالملح ولنا قوله‏:‏ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «نعم إلا دم الخل مطلقا» فيتناول جميع صورها ولأن بالتخليل إزالة الوصف المفسد وثبات صفة الصلاح كالذبائح فالتخليل أولى لما فيه من إحراز مال يصير حلالا ثم فعل ذلك غير حكمه من الحرمة إلى الحل ومن النجاسة إلى الطهارة ألا ترى أن ظرفها كان طاهرا تنجس بها فإذا طهر بالتخليل طهر جميع أجزائه، وأجزاء إنائه هو الصحيح وقيل لا يطهر؛ لأنه تنجس بإهانة الخمر ولم يوجد ما يوجب طهارته فيبقى على ما كان ولو غسل بالخل فتخلل من ساعته طهر للاستحالة وكذا إذا صب منه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال وفي المحيط ولو كان الخل فيه حموضة غالبة وطعم المرارة فإنه لا يحل ما لم تزل من كل وجه وعندهما يحل واعتبر الغالب منها ولو صب في المرقة خمر فطبخ لم يحل؛ لأنه تنجس قبل الطبخ فلا يحل بالطبخ ولا يحد شاربه لأنه شرب المرق النجس ولو عجن الدقيق بالخمر صار نجسا‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وكره شرب دردي الخمر والامتشاط به‏)‏ لأن فيه أجزاء الخمر فكان حراما نجسا والانتفاع بمثله حرام ولهذا لا يجوز أن يداوي به جرحا ولا أن يسقي ذميا ولا صبيا، والوبال على من سقاه وكذا لا يسقيه الدواب وقيل لا يحمل الخمر إلى من يفسدها ويصيرها خلا ويحمل ما يفسدها إلى الخمر كما لا يحمل الميتة إلى الكلب وكذا الدردي في الخل فلا بأس به لأنه يصير خلا لكنه يباح حمل الخمر إليه لا عكسه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا يحد شاربه إلا إذا سكر‏)‏ يعني لا يحد شارب دردي الخمر إلا إذا سكر وقال الشافعي‏:‏ يحد شاربه سكر أو لم يسكر؛ لأن الحد يجب في الخمر بشرب قطرة وفي الدردي قطرات، قلنا وجوب الحد للزجر فيما ترغب النفس فيه وتميل إليه والنفس لا ترغب في شرب الدردي ولا تميل إليه فكان ناقصا فأشبه غير الخمر من الأشربة فلا يحد ما لم يسكر ودردي الخمر هو التفل ويكره الاحتقان بالخمر وإقطاره في الإحليل؛ لأنه انتفاع بالنجس المحرم وتقدم الكلام فيما إذا أخبر به طبيب حاذق وفي المحيط ولو سقى شاة خمرا لا يكره لحمها ولبنها؛ لأن الخمر وإن كانت باقية في معدتها فلم يختلط بلحمها وإن استحالت الخمر لحما فيجوز كما لو استحالت خلا إلا إذا سقاها كثيرا بحيث يؤثر في رائحتها الخمر فإنه يكره لحمها‏.‏

فصل ‏[‏في طبخ العصير‏]‏

الأصل فيه أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد لا يعتد به حتى يذهب ثلثاه فيحل الثلث الباقي بعده ولو صب فيه الماء قبل الطبخ ثم طبخ بماء ينظر إن كان الماء أسرع ذهابا للطافته ولرقته يعتبر ذهاب ثلثيه بعد الماء الذي صب فيه كله وبعد ذهاب الزبد فيحل الثلث الباقي من العصير وإن كانا يذهبان معا فيطبخ حتى يذهب ثلثا الجميع بعد ذهاب الزبد فيحل ثلث الباقي لذهاب الثلثين وبقاء الثلث ماء وعصيرا ولو طبخ العصير فذهب أقل من الثلث ثم أهرق الثلثين وبقي الثلث ماء وعصيرا ولو طبخ العصير فذهب أقل من الثلث ثم أهرق بعضه لا يحل الباقي حتى يذهب ثلثاه بالطبخ وطريق معرفته أن يؤخذ ثلث الجميع فيضرب به في الباقي ثم يقسم الخارج على ما بقي بعد ذهاب ما نقص منه بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما أصاب الواحد بالقسمة فذاك القدر هو الحلال ويطبخ الباقي إلى أن يبقى قدره فيحل‏.‏ مثاله اثنا عشر رطلا من العصير طبخ حتى ذهب أربعة أرطال ثم أهرق رطلين يؤخذ ثلث العصير كله وهو أربعة فيضرب فيما بقي بعد الانصباب وهو ستة فيصير أربعة وعشرين فيقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب منه بالطبخ قبل أن يهرق منه وذلك ثمانية فيصيب كل واحد منهم ثلاثة فيكون ذلك القدر هو الحلال فيطبخ الباقي إلى أن يبقى قدره فيحل وإن شئت قسمت ما ذهب بالطبخ على المنصب وعلى ما بقي بعد الانصباب فما أصاب المنصب يجعل مع المنصب كأنه لم يكن وكان جميع العصير هو الباقي وما أصابه من الذاهب بالطبخ فقد ذهب منه ذلك القدر فيطبخ حتى يذهب إلى تمام الثلثين وإن شئت قلت‏:‏ إن الباقي بعد الطبخ قبل الانصباب بعضه حلال وهو قدر ثلث المجموع فإذا أهريق بعضه أهريق من الحلال بحسابه فيطبخ الباقي حتى يبقى قدر ما فيه من الحلال وفي المحيط عن أبي يوسف طبخ ثم ألقى فيه تمرا فغلى قال ما ألقي فيه لو نبذه على حدة كان منه نبيذا فلا خير فيه؛ لأن هذا مطبوخ ويعتبر، وإن كان يسيرا لا ينتبذ منه لا يعتد به؛ لأنه لا يحد فيه الشارب لانفراده ولو صب قدح في خابية مطبوخ أفسده وعن الإمام إذا وضع في الشمس حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فلا بأس به فهو بمنزلة طبخه بالنار وكذا إذا ملأ الخابية بالخردل وخلط فيها العصير ومضى على ذلك مدة ولم يشتد ولم يسكر فلا بأس به في قول أصحابنا ولو طبخ عصيرا حتى ذهب ثلثه وتركه حتى برد ثم أعاد الطبخ حتى ذهب نصف ما بقي فإذا أعاد الطبخ قبل أن يغلي وتغير عن حالة العصير فلا بأس به؛ لأن الطبخ وجد قبل ثبوت الحرمة بالغليان والشدة وإن عاد بعد أن غلى وتغير فلا خير فيه؛ لأن طبخه وجد بعد ثبوت الحرمة فلا ينتفع به ا هـ‏.‏

كتاب الصيد

قال في العناية مناسبة كتاب الصيد بكتاب الأشربة من حيث إن كل واحد من الأشربة والصيد يورث السرور إلا أنه قدم الأشربة لحرمتها اعتبارا بالاحتراز عنها ا هـ‏.‏ قال في المحيط‏:‏ يحتاج إلى معرفة إباحة الصيد وتفسيره لغة وشرعا وركنه وشرط إباحته ودليلها وحكم مشروعيته‏.‏ أما دليل الإباحة من الكتاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏، وأما تفسيره لغة فالصيد هو الاصطياد ويطلق على ما يصاد مجازا إطلاقا لاسم المصدر على المفعول وهو المتوحش الممتنع بأصل الخلقة عن الآدمي مأكولا كان أو غير مأكول والذي يظهر أنه عند الفقهاء الإرسال بشروطه لأخذ ما هو مباح من الحيوان المتوحش الممتنع عن الآدمي بأصل خلقته وأما ركنه فهو على الأخذ بشروطه وأما شرطه المتعلق بالصيد فكون الصيد غير آمن بالإحرام والحرم، وغير مملوك، وأما حكمه فصيرورة المأخوذ ملكا للآخذ قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏هو الاصطياد‏)‏ قال الشارح أي الصيد هو الاصطياد في اللغة ا هـ ولا يخفى أن هذا لا يناسب أن يذكر في المتن فلا ينبغي أن يذكرها‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ويحل بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة‏)‏ يعني يحل الاصطياد بهذه الأشياء وبغيرها من الجوارح كالشاهين والباشق والعقاب والصقر، وفي الجامع الصغير‏:‏ وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه قال في العناية وإنما أورد هذه الرواية؛ لأن رواية القدوري تدل على الإثبات والنفي جميعا‏.‏ ا هـ‏.‏ واعترض بأنهم قد صرحوا في النهاية وغيرها بأن تخصيص الشيء بالذكر في الرواية يدل على نفي الحكم عما عداه بالاتفاق، فرواية القدوري تدل على إثبات الصيد بما ذكرنا ونفي جوازه بما سواه فلم يتم ما ذكره، والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح‏}‏ والجوارح الكواسب والجرح الكسب، وقيل هي أن تكون جارحة بنابها ومخلبها حقيقة ومعنى مكلبين معلمين الاصطياد ولأنه اجتمع في الحيوان الصائد ما يوجب أن يكون آلة للذبح وهو كونه جارحا قاطعا بطبعه غير عاقل كالسكين وما يمنع أن يكون آلة للذبح وهو كونه مختارا في فعله كالآدمي، والشرع جعل التعليم فيه بترك الأكل فيجري على موجب اختيار صاحبه فيعمل له لا لنفسه فيصير آلة محضة لصاحبه كالسكين واسم الكلب يقع على كل سبع حتى الأسد، واستثنى الثاني من الجواز اصطياد السبع والدب لأنهما لا يعملان لغيرهما؛ الأسد لعلو همته والدب لخساسته كذا في الهداية وذكر في النهاية الذئب بدل الدب ولأن التعلم يعرف بترك الأكل وهما لا يأكلان الصيد في الحال فلا يمكن الاستدلال بترك الأكل على التعليم حتى لو تصور التعليم منهما وعرف ذلك جاز ذكره في النهاية وألحق بعضهم الحدأة بهما لخساستها، والخنزير مستثنى من ذلك؛ لأنه نجس العين وفي المحيط قالوا لا يجوز الاصطياد بالأسد والذئب؛ لأن الأسد لا يعمل لغيره وإنما يعمل لنفسه، والذئب مثله أيضا‏.‏ قال في الخلاصة‏:‏

وإنما يحل الصيد بخمسة عشر شرطا‏:‏ خمسة في الصائد وهو أن يكون من أهل الذكاة، وأن يوجد منه الإرسال ولا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده، وأن لا يترك التسمية عمدا ولا يشتغل بين الإرسال والأخذ بعمل‏.‏ وخمسة في الكلب منها أن يكون معلما، وأن يذهب على سنن الإرسال، وأن لا يشاركه في الأخذ من لا يحل صيده، وأن يقتله جرحا، وأن لا يأكل منه‏.‏ وخمسة في الصيد منها أن لا يكون متقويا بأنيابه أو بمخلبه، وأن لا يكون من الحشرات، وأن لا يكون من بنات الماء سوى السمك، وأن يمنع نفسه بجناحه أو مخلبه، وأن يموت بهذا قبل أن يصل إلى ذبحه ا هـ‏.‏ وذكر صاحب النهاية والعناية وغاية البيان نقلا عن الخلاصة‏:‏ واعترض بأن قوله ‏"‏ وأن يموت قبل أن يصل إلى ذبحه ‏"‏ مستدرك بعد قوله، وأن يقتله جرحا وأجيب بأن لا استدراك؛ لأن الشرط الذي أريد بقوله ‏"‏ وأن يقتله جرحا ‏"‏ ليس مجرد قتله بل قتله جرحا والمقصود منه الاحتراز عن قتله خنقا، والشرط الذي أريد بقوله ‏"‏ وأن يموت بهذا قبل أن يصل إلى ذبحه ‏"‏ لجواز أن يقتله الكلب جرحا بعد أن يصل المرسل إلى ذبحه فحينئذ لا يحل أكله فلا بد من بيان الشرط الآخر أيضا على الاستقلال قال صاحب العناية‏:‏ فيما نقله صاحب الخلاصة تسامح؛ لأن هذا شرط الاصطياد للأكل بالكلب لا غيره على أنه لو انتقى بعضه لم يحرم كما لو اشتغل بعمل غيره لكن أدركه حيا فذبحه وكذا لو لم يمت بهذا لكن ذبحه فإنه صيد وهو حلال ا هـ‏.‏ وأجيب بأن هذه الشروط في الصيد المحض وهو الذي لم يدركه حيا أما الذي أدركه فذكاه بالذكاة الاختيارية فليس صيدا محضا بل يلحق به‏.‏ ا هـ‏.‏ والمراد بقول صاحب العناية شرط الاصطياد أي حال الاصطياد، وفي التعبير بما يدل على ظهور المراد لا يبالى بمثله قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا بد من التعليم‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن‏}‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لأبي ثعلبة ما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» رواه البخاري ومسلم، وأحمد ولذا لا بد أن يكون المرسل أهلا للذكاة بأن يكون مسلما أو كتابيا ويعقل التسمية ويضبط على نحو ما ذكرنا في الذبائح‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وذا بترك الأكل ثلاثا في الكلب وبالرجوع إذا دعوته في البازي‏)‏ أي التعليم في الكلب يكون بترك الأكل ثلاث مرات وفي البازي في الرجوع إذا دعي روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولأن بدن الكلب يحتمل الضرب فيمكن ضربه حتى يترك الأكل، وبدن البازي لا يحتمل الضرب فلا يمكن تحقيق هذا الشرط فيه فاكتفي بغيره مما يدل على التعليم ولأن آية التعليم ترك ما هو مألوفه عادة، وعادة البازي التوحش والاستنفاد، وعادة الكلب الانتهاب والاستلاب لائتلافه بالناس فإذا ترك كل واحد منهما مألوفه دل على تعليمه وانتهاء علمه وهذا الفرق لا يتأتى إلا في الكلب خاصة؛ لأنه هو الألوف دون غيره من ذوات الأنياب فإنها ليست بألوفة، والفرق الأول يتأتى في الكل لأن بدن كل ذي ناب يحتمل الضرب فأمكن تعليمه بالضرب إلى أن يترك الأكل قال صاحب النهاية وهذا الفرق لا يتأتى في الفهد والنمر فإنه متوحش كالباز ثم الحكم فيه وفي الكلب سواء فالمعتمد هو الأول كذا في المبسوط وأجيب بأن الكلب في اللغة يقع على كل سبع وليس المراد مما ذكره المؤلف الكلب المعهود بل الكلب بالمعنى اللغوي فلهذا استووا فيما يقع به التعليم وإنما شرط ترك الأكل ثلاث مرات وهو قولهما ورواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه؛ لأن علمه يعرف بتكرار التجارب والامتحان هو مدة ضربت لذلك كما في قصة السيد موسى وكما في شرط الخيار وكذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» وعن الإمام أنه لم يثبت التعليم ما لم يغلب على ظنه أنه قد تعلم ولا يقدر بشيء؛ لأن المقادير تعرف بالنص لا بالاجتهاد ولا نص هنا فيفوض إلى رأي المبتلى كما هو عادته ثم إذا ترك الأكل ثلاثا لا يحل الأول ولا الثاني على قول من قال بالثلاث وكذا الثالث عندهما؛ لأنه لا يصير معلما إلا بعد تمام الثلاث وقبله غير معلم‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ولا بد من التسمية عند الإرسال ومن الجرح في أي موضع كان من أعضائه‏)‏ أما التسمية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فإذا ذكرت الله تعالى عليه وجرح فكل»‏.‏ وأطلق في قوله ‏"‏ ولا بد من التسمية ‏"‏ فشمل ما إذا كان المرمي إليه يحتاج إلى التسمية أو لا كالسمك، وقد شرط في الأول دون الثاني حتى لو رمى إلى السمك وترك التسمية عمدا فأصاب يحل أكله فلو قال ‏"‏ في صيد البر ‏"‏ لكان أولى وسيأتي عن قاضي خان ولا بد أن يكون المسمي يعقل التسمية فلا يؤكل صيد صبي ومجنون إذا كانا لا يعقلان التسمية أما إذا كانا يعقلانها أكل، ويؤكل صيد الأخرس والكتابي لأن الملة تكفي عن التلفظ عند العجز ولو سمى النصراني باسم المسيح لم يؤكل، والصابئة إن أقروا بكتابي ونبي يؤكل صيدهم وإلا فلا وظاهر عبارة المؤلف الاكتفاء بالجرح سالما أو لا لكن قال في المحيط إن جرحه ولم يدمه اختلفوا فيه قيل لا يحل وقيل يحل وقيل إن كانت الجراحة صغيرة لا يحل إذا لم يرم وإن كانت كبيرة يحل وأما الجرح فالمذكور هنا ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يشترط رواه الحسن عنهما وهو قول الشعبي لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ مطلقا من غير قيد بالجرح فمن شرطه فقد زاد على النص وهو نسخ ما عرف في موضعه وكذا ما روينا من حديث عدي وثعلبة يدل على ذلك؛ لأنه مطلق فيجري على إطلاقه والإلزام نسخه بالرأي وهو لا يجوز، وجه الظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمتم من الجوارح‏}‏ وهو يشير إلى ما قلنا ولأن المقصود إخراج الدم المسفوح وهو يخرج بالجرح عادة ولا يختلف عنه إلا نادرا فأقيم الجرح مقامه كما في الذكاة الاختيارية والرمي بالسهم، ولأنه إذا لم يجرحه صار موقوذة وهي محرمة بالنص وما تلي مطلق، وكذا ما روي فحملناه على المقيد لاتحاد الواقعة وإنما لم يحمل المطلق على المقيد فيما إذا اختلفت الحوادث أو كان التقييد والإطلاق من جهة السبب، وأما إذا كان من جهة الحكم والحادثة واحدة فيحمل عليه، ولو سمى حالة الإرسال فقتل الكل حلت ولو قتل الكل واحدا بعد واحد حل بخلاف ما إذا ذبح شاتين بتسمية فإنه لا يحل والفرق أن الحل في باب الصيد يحصل بالإرسال فتشترط التسمية وقت الإرسال والإرسال وجد وقت تسمية واحدة كما لو رمى سهما إلى صيد فنفذ، وأصاب صيدا آخر بخلاف ما لو ذبح شاة أخرى؛ لأن الثانية صارت مذبوحة بفعل غير الأول فلا بد من تسمية أخرى ولو أضجع شاتين وذبحهما بتسمية واحدة حلا‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏فإن أكل منه البازي أكل وإن أكل منه الكلب أو الفهد لا‏)‏ وقال مالك والشافعي في القديم‏:‏ يؤكل وإن أكل منه الكلب كالبازي لما روي عن عبد الله بن عمر «أن ثعلبة قال يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها فقال‏:‏ إن كانت لك كلاب مكلبة فكل ما أمسكت عليك الحديث إلى أن قال للنبي صلى الله عليه وسلم وإن أكل منه قال عليه الصلاة والسلام وإن أكل منه» وفعل الكلب إنما صار ذكاة لعلمه وبالأكل لا يعود جاهلا فصار كالبازي ولنا ما روينا من حديث عمر بن عدي وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكل السبع إلا ما ذكيتم‏}‏ وقوله‏:‏ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله تعالى فكل ما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أرسلت كلبك المعلم فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه» رواه أحمد ومرويهما غريب فلا يعارض الصحيح المشهور ولئن صح فالمحرم أولى على ما عرف في موضعه، والفرق بين البازي والكلب قد بيناه‏.‏ ولو صاد الكلب صيودا ولم يأكل منها شيئا ثم أكل من صيد بعد ذلك لا يؤكل من الذي أكل منه؛ لأن أكله علامة جهله ولا مما يصيده بعده حتى يصير معلما على الاختلاف الذي بيناه في الابتداء وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منه لا تظهر الحرمة فيه لعدم المحلية وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بعد تثبت الحرمة بالاتفاق وما هو محرز في البيت يحرم عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يحرم؛ لأن الأكل لا يدل على جهله لأن الحرفة قد تنسى وقد يشتد عليه الجوع فيأكل مع علمه ولأن ما أحرزه قد أمضي الحكم فيه بالاجتهاد فلا ينتقض باجتهاد مثله؛ لأن المقصود قد حصل بالأول بخلاف غير المحرز؛ لأن المقصود لم يحصل فيه من كل وجه لبقاء الصيدية فيه من وجه لعدم الاحتراز فيحرم احتياطا ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن أكله آية جهله من الابتداء؛ لأن الحرفة لا ينسى أصلها فبالأكل تبين أن تركه الأكل كان بسبب الشبع لا للتعلم وقد تبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود؛ لأن المقصود يحصل بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء ولأن علمه لا يثبت إلا ظاهرا فبقي جهله موهوما والموهوم في باب الصيد يلحق بالمتحقق احتياطا ما أمكن والإمكان في حق القائم جميعا دون الفائت‏.‏ وقال بعض المشايخ‏:‏ إنما تحرم تلك الصيود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان العهد قريبا أما إذا تطاول العهد بأن أتى عليه شهر، وأكثر وصاحبه قد قدر تلك الصيود لا تحرم تلك الصيود في قولهم جميعا؛ لأن في المدة الطويلة يتحقق النسيان فلا يعلم أنه لم يكن معلما في الماضي من الزمان وفي المدة القصيرة لا يتحقق النسيان فيظهر أنه لم يكن معلما حين اصطياد تلك الصيود فتحرم تلك الصيود وقال شمس الأئمة السرخسي الصحيح أن الخلاف في الفصلين، ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم رجع إلى صاحبه فأرسله فصاد لا يؤكل صيده؛ لأنه ترك ما صار به معلما فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد فيبقى حكمه كحكم الكلب فيما ذكرنا ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل من لحمه شيئا أكل؛ لأنه ممسك عليه وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه، وأمسك عليه ما يصلح له ولو أخذ الصائد الصيد من الكلب وقطع له منه قطعة وألقاها إليه فأكلها يؤكل ما بقي؛ لأنه أمسك على صاحبه وسلمه إليه، وأكله بعد ذلك مما ألقى إليه صاحبه لا يضره لأنه لم يأكل من الصيد وهو عادة الصيادين فصار كما إذا ألقى إليه طعاما آخر وكذا إذا خطف الكلب منه وأكله؛ لأنه لم يأكل من الصيد، إذ لم يبق صيدا في هذه الحالة والشرط ترك الأكل من الصيد‏.‏ وقد وجد فصار كما إذا افترس شاة بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك لبقاء جهة الصيدية وسيأتي الفرق فيه ولو نهش الصيد فقطع منه بضعة فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه لم يؤكل؛ لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد ولو ألقى ما نهشه واتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه حتى أخذه صاحبه ثم ذهب إلى تلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد؛ لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لا يضره فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه أولى بخلاف الوجه الأول؛ لأنه أكل في حالة الاصطياد فتبين بهذا أنه جاهل ممسك على نفسه ولأن نهش البضعة قد يكون ليأكلها وقد يكون حالة الاصطياد ليضعفه بالقطع منه ليتمكن منه فإن أكلها قبل الأخذ يدل على الوجه الأول وبعده على الوجه الثاني وفي الهداية لو أخذ المرسل الصيد ووثب الكلب على الصيد فأخذ من الصيد، وأكل يؤكل الصيد؛ لأنه ما أكل من الصيد والشرط ترك الأكل من الصيد قال في النهاية وطولب بالفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أكل منه بعد ما قتله فإنه يحرم؛ لأن الصيد كما خرج من الصيدية بإذن صاحبه جاز أن يخرج عن الصيدية بقتله وأجيب بأنه إذا لم يتعرض بالأكل حتى أخذه صاحبه دل على أنه ممسك على صاحبه، وانتهاشه منه لا يدل على جهله وأما إذا أكل بعد قتله قبل أن يأخذه صاحبه دل على أنه ممسك على نفسه فدل على جهله فلهذا حرم واعترض أيضا بأن عبارة المؤلف شاملة للصورتين فيما إذا وجد افتراقه في الحكم وأجيب بما تقدم وفي المحيط وإن قتله فأخذه صاحبه ثم وثب عليه فأنهش منه قطعة أو رمى صاحبه بها إليه يؤكل الصيد ولو أكل قبل أن يأخذه صاحبه يكره أكله ا هـ‏.‏ ثم الإرسال على أقسام‏:‏ الأول يجب أن يكون الإرسال على صيد ولو أرسل على ما ليس بصيد من الإبل والبقر والغنم والأهل فأصاب صيدا لا يحل أكله؛ لأن الإرسال على ما ليس بصيد لا يكون ذكاة شرعا ولو سمع حسا وظنه صيدا فأرسل كلبه فأصاب صيدا ثم تبين أن المسموع حس آدمي أو ما ليس بصيد لم يؤكل وكذا لو سمع حسا ولم يعلم أنه حس صيد أو غيره ولو ظنه حس صيد غير مأكول أو مأكول فأصاب صيدا آخر يحل أكله فلو أرسل كلبه على صيد بعينه وهو غير مأكول فأصاب غيره يحل أكله لأن تعيين الصيد غير معتبر في الإرسال ولو سمع حسا فظن أنه حس آدمي فأرسل كلبه فإذا هو صيد يحل أكله لأن تعيين الصيد غير معتبر وفي المنتقى ولو رمى ظبيا أو طيرا فأصاب غيره وذهب المرمي إليه ولم يعلم أنه متوحش أو مستأنس أكل الصيد لأن الأصل في الصيد التوحش فتمسكوا بالأصل وقال محمد لو ظن حين رآه أنه صيد ثم تحول رأيه أنه ليس بصيد يحل الصيد؛ لأن الأول عندنا صيد بحكم الأصل حتى يعلم أنه غير صيد ولو رمى إلى بعير ناد أو غير ناد لم يؤكل حتى يعلم أنه ناد لأن الأصل في البعير الألفة والاستئناس ولو رمى إلى ظبي مربوط وظن أنه صيد فأصاب ظبيا آخر لم يؤكل وكذا لو أرسل كلبه على صيد موثق في يده فصادف غيره لم يؤكل ولو أرسل فهدا على فيل، وأصاب ظبيا لم يؤكل ولو رمى سمكا أو جرادا فأصاب صيدا فعن أبي يوسف في رواية لا يؤكل؛ لأن السمك والجراد لا تقع عليه الذكاة وفي رواية يؤكل لأن المرمي إليه صيد‏.‏ والقسم الثاني أن يكون فور الإرسال باقيا كما سيأتي ومن شرائط الإرسال أن لا يوجد بعد الإرسال بول ولا أكل فإن وجد وطال قطع الإرسال حتى لو قتله لا يحل أكله وفي الروضة ولو حبس الكلب على صدر الصيد طويلا ثم أمر به آخر فأخذه وقتله لم يؤكل؛ لأنه انقطع فور الإرسال، وفي الغياثية ولو أرسل كلبين فأخذه أحدهما وقتله الآخر يحل أكله‏.‏ والقسم الثالث أن يلحقه المرسل أو من يقوم مقامه قبل انقطاع الكلب كما سيأتي قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن أدركه حيا ذكاه‏)‏ «لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله تعالى عليه فإن أمسك عليك، وأدركته حيا فاذبحه» رواه البخاري ومسلم ولأنه قدر على هذا الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، إذ المقصود هو الحل، والباز والسهم في هذا كالكلب وفي المحيط فإذا أدركه حيا لم يحل إلا بالذبح قدر على الذكاة أو لم يقدر لفقد الآلة وضيق الوقت بأن كان في آخر الرمق وعن أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يقدر على التمكن كما ذكرنا يحل وهو اختيار لبعض المشايخ لأنه إذا لم يتمكن لم يقدر على الأصل وذكر الكرخي في مختصره لو أدركه ولم يأخذه فإن كان في وقت أمكنه ذبحه لم يؤكل وإن كان لا يمكنه ذبحه بعد أخذه أكل؛ لأن اليد لم تثبت على الذبح، والتمكن من الذبح لم يوجد والله أعلم وسيأتي بيانه‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وإن لم يذكه حتى مات أو خنقه الكلب ولم يجرحه أو شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه عمدا حرم‏)‏ أما إذا لم يذكه فلأنه لما أدركه حيا صار ذكاته ذكاة الاختيار لما روينا وبينا من المعنى فبتركه يصير ميتة وهذا إذا تمكن من ذبحه أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة قدر ما يكون في المذبوح بأن يقد بطنه ونحو ذلك ولم يبق إلا مضطربا اضطراب المذبوح فحلال؛ لأن هذا القدر من الحياة لا يعتبر فكان ميتا حكما ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة لا يحرم كما إذا وقع بعد موته؛ لأن موته لا يضاف إليه، والميت ليس محلا للذكاة، وذكر الصدر الشهيد أن هذا بالإجماع وقيل هذا قولهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل إلا إذا ذكاه بناء على أن الحياة الخفية معتبرة عنده وعندهما غير معتبرة حتى حلت المتردية والنطيحة والموقوذة ونحوها بالذكاة إذا كان فيها حياة وإن كانت خفية عنده وعندهما لا تحل إلا إذا كانت حياتها بينة وذلك بأن تبقى فوق ما يبقى المذبوح عند محمد‏.‏ وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أن تكون بحال يعيش مثلها فيكون موتها مضافا إلى الذكاة، والسهم مثله وإن كان فيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح فكذلك في رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه لم يقدر على الأصل فصار كالمتيمم إذا رأى الماء ولم يقدر على استعماله ولا يؤكل في ظاهر الرواية؛ لأنه قادر حكما لثبوت يده عليه وهو قائم مقام التمكن من الذبح، إذ لا يمكن اعتبار الذبح بعينه حقيقة لأن الناس يختلفون فيه على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح ولا يمكن ضبطه فأدير الحكم على ثبوت اليد؛ لأنه هو المشاهد المعاين فلا يحل الأكل إلا بالذكاة سواء كانت حياته خفية أو بينة لجرح المعلم أو غيره من السباع وعليه الفتوى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكل السبع إلا ما ذكيتم‏}‏ استثناه مطلقا من غير تفصيل فيتناول كل حي مطلقا وكذا «قوله‏:‏ عليه الصلاة والسلام لعدي فإذا أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه» مطلق فيتناول كل حي مطلقا والحديث صحيح رواه البخاري ومسلم، وأحمد، وفصل الشافعي رحمه الله تعالى تفصيلا آخر غير ما ذكرنا فقال‏:‏ إن لم يتمكن من الذبح لفقد الآلة لم يؤكل لأن التقصير من جهته وإن كان لضيق الوقت أكل لعدم التقصير والحجة عليه ما تلونا وما روينا وأما إذا خنقه الكلب‏.‏ ولم يجرحه فلما بينا عند قوله لا بد من التعليم والتسمية والجرح وذكرنا اختلاف الرواية، والكسر كالخنق حتى لا يعتد به؛ لأنه لا يفضي إلى خروج الدم وأما إذا شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا فلما روينا عن «عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي فأسمي قال إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه قلت‏:‏ إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر غيره لا أدري أيهما أخذ فقال لا تأكل فإنما سميت على كلبك فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل؛ لأنك لا تدري أيهما قتله» رواهما البخاري ومسلم، وأحمد رحمهم الله تعالى وهذا صحيح فيكون حجة على مالك والشافعي في قوله القديم لأنه لا يحرم بأكل الكلب الصيد وعلى الشافعي في متروك التسمية عمدا أيضا ولأنه اجتمع فيه المبيح والمحرم فيغلب فيه جهة الحرمة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما اجتمع الحلال والحرام إلا وقد غلب الحرام الحلال» وإن الحرام واجب الترك، والحلال جائز الترك فكان الاحتياط في الترك ولو رده عليه الكلب ولم يجرحه معه ومات بجرحه الأول يكره أكله لوجود المعاونة في الأخذ وفقدها في الجرح ثم قيل الكراهة كراهة تنزيه لأن الأول لما انفرد بالجرح والأخذ غلب جانب الحل فصار حلالا، وأوجب إعانة غير المعلم الكراهة دون الحرمة وقيل كراهة تحريم وهو اختيار الحلواني لوجود المشاركة من وجه بخلاف ما إذا رده عليه المجوسي نفسه حيث لا يحرم ولا يكره؛ لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلم تتحقق المشاركة من وجه ولو لم يرد الكلب الثاني عليه لكن اشتد على الأول فاشتد الأول على الصيد بسببه فأخذه فقتله فلا بأس بأكله؛ لأن فعل الثاني أثر في الكلب الأول حتى ازداد طلبا ولم يؤثر في الصيد فكان تبعا لفعله؛ لأنه بناه عليه فلا يضاف الحكم إلى التبع بخلاف ما إذا رده عليه؛ لأنه لم يصر تبعا فيضاف إليهما ولو رده سبع أو ذو مخلب من الطير مما يجوز أن يعلم فيصاد به فهو كما لو رده عليه الكلب فيما ذكرنا لوجود المجانسة في الفعل بخلاف ما إذا رده عليه ما لا يجوز الاصطياد به كالجمل والبقر‏.‏ والبازي في ذلك كالكلب في جميع ما ذكرنا من الأحكام وفي الفتاوى العتابية حلال رمى صيدا فأصابه في الحل ومات في الحرم أو رماه في الحرم، وأصابه في الحل ومات في الحل لا يحل وعليه الجزاء في الوجه الثاني دون الأول وكذا إذا أرسل كلبه في الحرم وقتله خارج الحرم لا يحل وعليه الجزاء، وفي الذخيرة‏:‏ يجب أن يعلم من رمى سهما إلى صيد أن العبرة في حق الملك لوقت الإصابة وفي حق الأكل لوقت الرمي هذا هو المذكور في عامة الكتب ولهذا قلنا‏:‏ المسلم إذا رمى سهما إلى صيد ثم ارتد - والعياذ بالله تعالى - ثم أصابه السهم حل تناوله والمرتد إذا رمى إلى صيد ثم أسلم ثم أصابه لا يحل تناوله‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وإن أرسل مسلم كلبه فزجره مجوسي فانزجر حل ولو أرسله مجوسي فزجره مسلم فانزجر حرم‏)‏ والمراد بالزجر الإغراء بالصياح عليه، وبالانزجار يحصل زيادة الطلب للصيد كذا في الهداية وأطلق في قوله‏:‏ فزجره مجوسي إلى آخره فشمل ما إذا زجره في حال طلبه أو بعد وقوفه فانزجر والمراد الأول وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب الصيد فيما إذا أرسل مسلم كلبه فزجره مجوسي إنما يحل إذا زجره المجوسي في ذهابه أما إذا وقف الكلب عن سنن الإرسال ثم زجره مجوسي بعد ذلك فانزجر لا يؤكل والفرق أن إرسال المسلم قد صح، وصيحة المجوسي لا تفسده؛ لأنه تقوية للإرسال وتحريض للكلب وليس بابتداء إرسال منه فلا ينقطع الإرسال بالزجر فبقي صحيحا فأما الإرسال من المجوسي فإنه وقع فاسدا فلا ينقلب صحيحا بالزجر وكذا إذا أرسل وترك التسمية عمدا فزجره مسلم وسمى لم يحل ولو وجدت التسمية من المرسل فزجره من لم يسم حل وكذا المسلم إذا ذبح فأمر المجوسي السكين بعد الذبح لم يحرم ولو ذبح المجوسي، وأمر المسلم بعده لم يحل لما ذكرنا أن أصل الفعل متى وقع صحيحا لا ينقلب فاسدا ومتى وقع فاسدا لا ينقلب صحيحا، وكذا محرم دل حلالا على الصيد فقتله يحل له نص عليه في الزيادات؛ لأن ذبحه حصل بفعل الحلال لا بدلالة المحرم ونص في المنتقى عن أبي حنيفة و محمد رحمهما الله تعالى أنه لا يحل لحديث قتادة حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هل أعنتم هل أشرتم فقالوا‏:‏ لا، فقال‏:‏ إذن فكلوا» علق الإباحة بعدم الإعانة وفي الدلالة نوع إعانة ولو أرسل مسلم كلبه فرد عليه الصيد كلب غير معلم أو معلم لم يرسله أحد ولم يزجره بعد انبعاثه وأخذه الأول وقتله لم يؤكل وقدمنا ما فيه من الخلاف ولو لم يرد عليه ولكن اشتد عليه بأن كان يتبع أثر المرسل حتى قتله الأول حل أكله؛ لأن فعل الثاني أثر في الكلب المرسل لا في الصيد فصار فعله تبعا لفعل المرسل فانضاف الأخذ إلى المرسل لا إلى المحرض والمشد بخلاف ما لو رده عليه لأن فعله أثر في الصيد لا في الكلب فصار الأخذ مضافا إليهما‏.‏ مجوسي أرسل ثم أسلم فاصطاد كلبه لم يؤكل وكذلك لو زجره بعد الإسلام فانزجر لزجره ولو كان مسلما حالة الإرسال فصار مرتدا حالة الأخذ يحل؛ لأن المعتبر وقت الإرسال والرمي لا حالة الأخذ لأن الإرسال والرمي فعل الذكاة بمنزلة الذبح فيعتبر إسلامه وتمجسه وردته عند الذبح لا عند زهوق الروح فكذا هنا يعتبر إسلامه وكفره وقت الإرسال والرمي لا بعده وفي النوادر ولو ضرب الكلب الصيد فرقده ثم ضربه ثانية فقتله أكل وكذا لو أرسل كلبين فضربه أحدهما فرقده ثم ضربه الآخر فقتله أكل وكذا لو أرسل رجلان كل واحد كلبه فرقده أحدهما وقتله الآخر فإنه يؤكل والصيد لصاحب الأول؛ لأن جرح الكلب بعد الجرح فصار كأن القتل حصل بفعل واحد إلا أن الأول لما أخرجه من أن يكون صيدا صار ملكا لصاحبه فلا يزيل ملكه الثاني، وفي الأصل ومن شرائط الإرسال أن لا يكون المرسل محرما، وأن لا يموت في الحرم حتى لا يجوز أكل صيد الحرم ولا ما اصطاده الحلال في الحرم، وذكر زجر المجوسي ليفيد زجر المحرم لأنه أولى قال في الذخيرة الحلال إذا أرسل كلبه على الصيد فزجره المحرم فانزجر حل أكله، وفي السراجية‏:‏ أن على المحرم الجزاء والله أعلم‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وإن لم يرسله أحد فزجره مسلم فانزجر حل‏)‏ وهذا استحسان والقياس أن لا يحل؛ لأن الإرسال جعل ذكاة عند الاضطرار للضرورة فإذا لم يوجد الإرسال انعدم الذكاة حقيقة وحكما ولا يحل والزجر بناء عليه ولا يعتبر على ما بينا ووجه الاستحسان أن الزجر عند عدم الإرسال يجعل إرسالا؛ لأن انزجاره عقيب زجره دليل طاعته فيجب اعتباره فيحل، إذ ليس في اعتباره إبطال السبب بخلاف الفصل الأول ولا يقال الزجر دون الانفلات لأنه بناء عليه فلا يرتفع الانفلات فصار مثل الفصل الأول والجامع أن الزاجر فيهما بناء على الأول؛ لأنا نقول الزجر إن كان دون الانفلات من هذا الوجه فهو فوقه من وجه آخر من حيث إنه فعل المكلف واستويا فنسخ الانفلات؛ لأن آخر المثلين يصلح ناسخا للأول كما في نسخ الأحكام بخلاف الفصل الأول؛ لأن الزجر لا ينافي الإرسال بوجه من الوجوه؛ لأن كل واحد منهما فعل المكلف‏.‏ والزجر بناء على الإرسال فكان دونه من كل وجه فلا يرتفع به، والبازي كالكلب فيما ذكرنا ولو أرسل كلبه المعلم على صيد معين فأخذ غيره وهو على سننه حل، وقال مالك رحمه الله تعالى‏:‏ لا يحل؛ لأنه أخذه بغير إرسال، إذ الإرسال يختص بالمشار والتسمية وقعت عليه فلا تتحول إلى غيره فصار كما لو أضجع شاة وسمى عليها وخلاها فذبح غيرها بتلك التسمية وقال ابن أبي ليلى‏:‏ يتعين الصيد بالتعيين، مثل قول مالك حتى لا يحل غيره بذلك الإرسال ولو أرسل من غير تعيين يحل ما أصابه خلافا لمالك وهذا بناء على أن التعيين شرط عند مالك وعنده ليس بشرط ولكن إذا عين يتعين وعندنا التعيين ليس بشرط ولا يتعين بالتعيين؛ لأن شرط ما يقدر عليه المكلف أن لا يكلف ما لا يقدر عليه والذي في وسعه إيجاد الإرسال دون التعيين؛ لأنه لا يمكنه أن يعلم البازي والكلب على وجه لا يأخذ إلا ما عينه له ولأن التعيين غير مفيد في حقه ولا في الكلب فإن الصيود كلها فيما يرجع إلى مقصوده سواء وكذا في حق الكلب؛ لأن قصده أخذ كل صيد تمكن من صيده بخلاف ما استشهد به مالك؛ لأن التعيين في الشاة ممكن وكذا غرضه متعلق بمعين فتتعلق التسمية هنا بالضجع بالذبح وفيما نحن فيه بالآلة‏.‏ ومن أرسل فهدا فكمن حتى يتمكن من الصيد ثم أخذ الصيد فقتله؛ لأن ذلك عادة له يحتال لأخذه لاستراحته فلا ينقطع به فور الإرسال وكيف ينقطع وقصد صاحبه يتحقق بذلك وعد ذلك منه في الخصال الحميدة قال الحلواني للفهد خصال حميدة فينبغي لكل عاقل أن يأخذ ذلك منه، منها أن يكمن للصيد حتى يتمكن منه وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يجاهر عدوه بالخلاف ولكن يطلب الفرصة حتى يتمكن منه فيحصل مقصوده من غير إتعاب نفسه ومنها أنه لا يعدو خلف صاحبه حتى يريه خلفه وهو يقول هو المحتاج إلي فلا أذل وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يذل نفسه فيما يفعل لغيره ومنها أنه لا يتعلم بالضرب ولكن يضرب الكلب بين يديه إذا أكل من الصيد فيتعلم بذلك وهكذا ينبغي للعاقل أن يتعظ بغيره كما قيل السعيد من اتعظ بغيره ومنها أن لا يتناول الخبيث من اللحم وإنما يطلب من صاحبه اللحم الطيب وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يتناول إلا الطيب ومنها أن يثب أثلاثا أو خمسا فإن لم يتمكن من أخذه تركه ويقول‏:‏ لا أقتل نفسي فيما أعمل لغيري وهكذا ينبغي للعاقل وكذا الكلب إذا اعتاد الاختفاء لا ينقطع فور الإرسال لما بينا في الفهد وينقطع الإرسال بمكثه طويلا إذا لم يكن ذلك حيلة منه للأخذ وإنما هو استراحة بخلاف ما تقدم ولو أرسل بازه المعلم على صيد فوقع على شيء ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله يؤكل إذا لم يمكث زمانا طويلا للاستراحة وإنما مكث ساعة طويلة للتمكن ولو أن بازيا معلما أخذ صيدا فقتله ولا يدري أرسله إنسان أو لا لا يؤكل لوقوع الشك في الإرسال ولا تثبت الإباحة بدونه ولكن إن كان مرسلا فهو مال الغير فلا يجوز تناوله إلا بإذن صاحبه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن أدركه حيا ذكاه وإن لم يذكه حرم‏)‏ لما روينا وبينا في الكلب من المعنى؛ لأن كل واحد منهما ذكاة اضطرارا فيكون الوارد في أحدهما واردا في الآخر دلالة لاستوائهما من كل وجه‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن وقع سهم بصيد فتحامل وغاب وهو في طلبه حل وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتا لا‏)‏ يعني يحرم أكله «لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ثعلبة إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام، وأدركته فكله ما لم ينتن» رواه مسلم، وأحمد وأبو داود والنسائي وورد «أنه عليه الصلاة والسلام كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي وقال لعل هوام الأرض قتلته» فيحمل هذا على ما إذا قعد عن طلبه والأول على ما إذا لم يقعد ولأنه يحتمل أن يموت بسبب آخر فيعتبر فيما يمكن التحرز عنه؛ لأن الموهوم في المحرمات كالمتحقق وسقط اعتباره فيما لا يمكن التحرز عنه للضرورة؛ لأن الاعتبار فيه يؤدي إلى سد باب الاصطياد وهذا لأن الاصطياد يكون في الصحراء بين الأشجار عادة ولا يمكنه أن يقتله في موضعه من غير انتقال وتوار عن عينه غالبا فيعذر ما لم يقعد عن طلبه للضرورة لعدم إمكان التحرز عنه ولا يعذر فيما إذا قعد عن طلبه؛ لأن الاحتراز عن مثله ممكن فلا ضرورة إليه فيحرم وهو القياس في الكل إلا أنا تركناه للضرورة فيما لا يمكن التحرز عنه وبقي على الأصل فيما يمكن، وجعل قاضي خان في فتاويه من شروط حل الصيد أن لا يتوارى عن بصره‏.‏ وقال‏:‏ لأن الغالب إذا غاب الصيد عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ما أصميت ودع ما أنميت، والإصماء ما رأيته والإنماء ما توارى عنك وهذا نص على أن الصيد يحرم بالتواري وإن لم يقعد عن طلبه وإليه أشار صاحب الهداية أيضا بقوله والذي رويناه حجة على مالك رحمه الله تعالى في قوله إن ما توارى عنه إذا لم يبت ليلة لا يحل عندنا وإن لم يقعد عن طلبه فيكون مناقضا لقوله في أول المسألة وإذا وقع السهم بالصيد فتحامل حتى غاب عنه ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتا أكل وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتا لم يؤكل؛ فبنى الأمر على الطلب وعدمه لا على التواري وعدمه وعلى هذا التركيب فقهاء أصحابنا رحمهم الله تعالى ولو حمل ما ذكره على ما إذا قعد عن طلبه كان يستقيم ولم يتناقض ولكنه خلاف الظاهر وما روينا من الحديث يبيح ما غاب عنه وبات ليالي فيكون حجة على من منع ذلك قال الزيلعي في شرح الكنز وجعل قاضي خان في فتاويه من شروط حل الصيد أن لا يتوارى عن بصره فقال؛ لأنه إذا غاب عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل لقول ابن عباس رضي الله عنهما كل ما أصميت ودع ما أنميت، والإصماء ما رأيته والإنماء ما توارى عنك وهذا نص على أن الصيد يحرم بالتواري وإن لم يقعد عن طلبه ا هـ‏.‏ أقول‏:‏ ليس الأمر كما زعمه الزيلعي فإن الإمام قاضي خان لم يجعل في فتاواه من شرط حل الصيد عدم التواري عن بصره وعدم القعود عن طلبه حيث قال‏:‏ والسابع - يعني الشرط السابع - أن لا يتوارى عن بصره ولا يقعد عن طلبه، فيكون في طلبه ولا يشتغل بعمل آخر حتى يجده؛ لأنه إذا غاب عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل لقول ابن عباس رضي الله عنهما كل ما أصميت ودع ما أنميت، والإصماء ما رأيت والإنماء ما توارى عنك ا هـ‏.‏ ولا شك أن قوله ‏"‏ والسابع أن لا يتوارى عن بصره ولا يقعد عن طلبه نص على أن الصيد لا يحرم بمجرد التواري عن بصره والقعود عن طلبه معا، وأما قوله لأنه إذا غاب عن بصره وقعد عن طلبه بقرينة سياق كلامه وأما إذا لم يقعد عن طلبه فيعذر فيه للضرورة لعدم إمكان التحرز عن تواري الصيد عن بصر الرامي فكان في اعتبار عدم التواري مطلقا حرج عظيم وهو مدفوع بالنص وقد أشار إليه المصنف بقوله إلا أنا أسقطنا اعتباره ما دام في طلبه ضرورة أن لا يعرى الاصطياد عنه ولا ضرورة فيما إذا قعد عن طلبه لإمكان التحرز عن قرار يكون بسبب عمله‏.‏ وذكر في الشرح والكافي «أنه صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء على حمار وحشي عقير فتبادر أصحابه إليه فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فسيأتي صاحبه فجاء رجل فقال هذه رميتي، وأنا في طلبها وقد جعلتها لك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فقسمها بين الرفاق» وإن وجد به جراحة سوى جراحة سهمه لا يحل «لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه فإن غاب عنك يوما لم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» رواه مسلم والنسائي‏.‏ وفي رواية‏:‏ «أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثر غيره وعلمت أن سهمك قتله فكله» رواه أحمد والنسائي‏.‏ وفي رواية‏:‏ «أن عليا رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أرمي في الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل» رواه الترمذي وصححه ولأنه محتمل تحققت فيه الأمارة فيجوز بخلاف ما إذا كان بلا أمارة على ما بينا وحكم إرسال الكلب والبازي في جميع ما ذكرنا من الأحكام كالرمي‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو رمى صيدا فوقع في ماء أو على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض حرم‏)‏ لقوله تعالى والمتردية ولما روينا ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله تعالى عليه فإن وجدته قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك رواه البخاري ومسلم، وأحمد‏.‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي إذا رميت سهمك فكل وإذا وقع في الماء فلا تأكل رواه البخاري، وأحمد ولأنه احتمل موته بغيره؛ لأن هذه الأشياء مهلكة ويمكن الاحتراز عنها فتحرم بخلاف ما إذا كان لا يمكن التحرز عنه فهذا هو الحكم في المحتمل في هذا الباب وهذا فيما إذا كان فيه حياة مستقرة يحرم بالاتفاق؛ لأن موته يضاف إلى غير الرمي وإن كانت حياته دون ذلك فهو على هذا الاختلاف الذي مر ذكره في إرسال الكلب ولو رمى إلى الصيد فأمال الريح السهم يمينا أو يسارا أو عدل عن سننه وأصاب صيدا لم يؤكل لأن حكم الرمي قد انقطع بالعدول‏.‏ وعن أبي يوسف أن حكم الرمي لا يقطع بالتغيير عن سننه، ولو أصاب السهم حائطا أو صخرة فرجع للصيد وقتله لم يؤكل ولو حدد عودا وطوله كالسهم ورمى به فأصاب بحده وخرق يؤكل وإلا فلا ولو رمى إلى صيد سهما فأصاب سهما موضوعا فرفعه فأصاب صيدا فقتله بخرق وجرح يؤكل لأن المرفوع إنما ارتفع بقوة السهم الأول فيكون نفوذه بواسطة الأول ألا ترى أنه لو أصاب آدميا وقتله يجب القصاص على الرامي ولو رمى بمعراض أو حجر أو بندقة، وأصاب سهما ورفعه، وأصاب السهم الصيد فقتله يحل ولو رمى سهما فعدل به الريح عن سننه يمينا أو يسارا أو أصاب حائطا فعدل عن سننه ثم استقام ومر على سننه فأصاب الصيد وجرحه فلا بأس به ولا عبرة بهذه الزيادة بعد الاستقامة على سننه كذا في المحيط وفي الذخيرة ولو أن الريح أمالته يمينا أو يسارا أو أماما فردته عن سننه لا إلى ورائه لم يكن بأكله بأس وإذا رمى مسلم صيدا بسهم وسمى ثم رمى مجوسي فأصاب سهمه سهم المسلم فانحرف يمنة ويسرة إلا أنه في سننه ذلك، وأصاب الصيد وقتله فالصيد للمسلم ولكن لا ينبغي أن يأكله‏.‏

ولو رمى حلال سهما إلى صيد ثم رمى محرم فأصاب سهم المحرم سهم الحلال وزاد في قوته حتى أصاب الصيد فإنه لا يحل أكله وإرسال البازي كإرسال الكلب ولو رمى رجل صيدا بسهم وسمى ثم إن رجلا آخر رمى ذلك الصيد بسهم فسمى فأصاب سهم الثاني الأول، وأمضاه حتى أصاب الصيد وجرحه وقتله فالمسألة على وجهين إن كان السهم الأول بحال يعلم أنه يبلغ الصيد بدون السهم الثاني إلا أن الثاني زاد في قوته فالصيد للأول ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان لا يدرى بأن الأول هل يبلغ الصيد لولا الثاني قال مشايخنا‏:‏ وينبغي أن يكون الصيد للأول ويحل تناول هذا الصيد على كل حال ولو كان الرامي الثاني مجوسيا فأصاب سهمه سهم المسلم فإن علم أن سهم المسلم لا يصيب الصيد لولا سهم المجوسي فالصيد للمجوسي ولا يحل تناوله ولو علم أن سهم المسلم يصيب الصيد إلا أن سهم المجوسي زاد في قوته فالصيد للمسلم ويحل تناوله قياسا ولا يحل استحسانا‏.‏

ولو أن قوما من المجوس رموا سهامهم فأقبل الصيد نحو مسلم فارا من سهامهم فرماه المسلم وسمى فأصابه سهم المسلم وقتله فالمسألة على وجهين إن كان سهم المجوسي وقع على الأرض حتى رماه المسلم لم يحل أكله إلا أن يدركه المسلم ويذكيه فحينئذ يحل؛ لأنهم أعانوه على الرمي دون حقيقة الذكاة ولم يعتبر بالرمي مع وجود حقيقة الذكاة وإن وقعت سهام المجوسي على الأرض ثم رماه المسلم بعد ذلك وباقي المسألة بحالها حل أكله وكذلك المجوسي إن أرسلوا كلابهم إلى صيد فأقبل الصيد هاربا فرماه المسلم فقتله أو أرسل كلبه إليه فأصابه الكلب فقتله إن كان رمي المسلم أو إرساله الكلب بعد رجوع كلاب المجوسي يحل وإن كان حال اتباع كلابهم لا يحل وكذا لو أرسل المجوسي صقرا له أو بازيا له فهوى الصيد إلى الأرض هاربا فرماه المسلم فقتله فإن كان رمي المسلم وإرساله حال اتباع صقر المجوسي وبازيه لا يحل وإن كان بعد الرجوع حل وكذا لو اتبع الصيد كلب غير معلم فأقبل الصيد فارا منه فرماه المسلم بسهم فهو على التفصيل الذي قلنا‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن وقع على الأرض ابتداء حل‏)‏؛ لأنه لا يمكنه التحرز عنه فسقط اعتباره لئلا ينسد بابه على ما بينا بخلاف ما إذا أمكن التحرز عنه لأن اعتباره لا يؤدي إلى سد بابه وإلى اعتباره لا يؤدي إلى الجرح فأمكن ترجيح المحرم عند التعارض على ما هو الأصل في الشرع ولو وقع على جبل أو سطح أو آجرة موضوعة فاستقر ولم يترد حل؛ لأن وقوعه على هذه الأشياء كوقوعه على الأرض ابتداء ولأنه لا يمكن الاحتراز عنه فسقط اعتباره بخلاف ما إذا وقع على شجر أو حائط أو آجرة ثم وقع على الأرض أو رماه وهو على جبل فتردى منه إلى الأرض أو رماه فوقع على رمح منصوب أو قصبة قائمة أو على حرف آجرة حيث يحرم لاحتمال أن أحد هذه الأشياء قتله بحده أو بترديته وهو ممكن الاحتراز عنه، وقال في المنتقى‏:‏ لو رمى صيدا فوقع على صخرة فانفلق رأسه أو انشق بطنه لم يؤكل لاحتمال موته بسبب آخر قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله تعالى‏:‏ وهذا خلاف إطلاق الجواب المذكور في الأصل فيما عدا هذا المفسر؛ لأن حصول الموت بانفلاق الرأس وانشقاق البطن ظاهر وبالرمي موهوم فيتردد فالظاهر أولى بالاعتبار من الموهوم فيحرم بخلاف ما إذا لم ينشق ولم ينفلق لأن موته بالرمي هو الظاهر فلا يحرم ولا يحمل إطلاق الجواب في الأصل عليه، وحمل السرخسي ما ذكر في المنتقى على ما إذا أصابه حد الصخرة فانشق كذلك، وحمل المذكور في الأصل على أنه إذا لم يصبه من الصخرة إلا ما يصيبه من الأرض أو وقع عليه فحمل كذلك، فكلا التأويلين صحيح ومعناهما واحد؛ لأن كلا منهما يحمل ما ذكره في الأصل على ما إذا مات بالرمي وما ذكره في المنتقى على ما إذا مات بغيره، وفي لفظ المنتقى إشارة إليه ألا ترى أنه قال لاحتمال الموت بسبب آخر أي غير الرمي وهذا يرجع إلى اختلاف اللفظ دون المعنى ولا يبالى به، وإن كان الطير المرمي مائيا فإن لم تنغمس الجراحة في الماء أكل وإن انغمست لا تؤكل لاحتمال الموت به دون الرمي؛ لأنه يشرب الجرح الماء فيسبب زيادة الألم فصار كما إذا أصابه السهم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وما قتله المعراض بعرضه أو البندقة حرم‏)‏ لما روينا من حديث إبراهيم ولما روي‏:‏ «أن عدي بن حاتم قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أرمي الصيد بالمعراض فأصيب فقال‏:‏ إذا رميت بالمعراض فخزقت فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» رواه البخاري ومسلم، وأحمد‏.‏ ولما روي‏:‏ «أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الخذف وقال‏:‏ إنها لا تصيد ولكنها تكسر العظم وتفقأ العين» رواه البخاري ومسلم ، وأحمد‏.‏ ولأن الجرح لا بد منه لما بينا من قبل والبندقة لا تجرح وكذا عرض المعراض، والمعراض سهم لا ريش ولا نصل له وإنما هو حديد الرأس سمي الحديد معراضا لأنه يذهب معترضا وتارة يصيب بعرضه وتارة يصيب بحده وإن رماه بالسكين أو السيف فإن أصابه بحده أكل وإلا فلا وإن رماه بحجر فإن كان ثقيلا لا يؤكل وإن جرح لاحتمال أنه قتله بثقله، وإن كان الحجر خفيفا وله حد وجرح لتيقن الموت بالحجر حينئذ ولو جعل الحجر طويلا كالسهم وهو خفيف وبه حده ورمى به صيدا فإن جرح حل لقتله بجرحه ولو رماه بمروة حديدة فلم يبضع بضعا لا يحل؛ لأنه قتله دقا وكذا إذا رماه بها فقطع أوداجه، وأبان رأسه؛ لأن العروق قد تنقطع بالثقل فيقع الشك ويحتمل أنه مات قبل قطع الأوداج ولو رماه بعود مثل العصا ونحوه لا يحل؛ لأنه قتله ثقلا لا جرحا إلا إذا كان له حد بضع بضعا فيكون كالسيف والرمح والأصل في جنس هذه المسائل أن الموت إذا حصل بالجرح يتعين حل وإن حصل بالثقل أو شك فيه فلا يحل حتما أو احتياطا وإن جرحه فمات فإن كان الجرح مدميا حل بالاتفاق وإن كان غير مدم اختلفوا فيه قيل لا يحل لانعدام معنى الذكاة وهو إخراج الدم النجس وشرط النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الدم بقوله‏:‏ «أنهر الدم بما شئت» رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما وقيل يحل لإتيانه ما في وسعه وهو الجرح، وإخراج الدم ليس من وسعه فلا يكون مكلفا به؛ لأن الدم قد ينحبس بقتله أو لضيق المنفذ بين العروق وقد قدمنا‏:‏ وإن ذبح الشاة ولم يخرج منها الدم قيل يحل أكلها وقيل لا يحل فالأول قول أبي بكر الإسكاف والثاني قول إسماعيل الصفار ووجه القولين دخل فيما ذكرنا وإن أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه فإن أدماه حل وإلا فلا وهذا يؤيد قول من يشترط خروج الدم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد لا العضو‏)‏ وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ أكل إن مات الصيد منه؛ لأنه مبان بذكاة الاضطرار فيحل كالمبان بذكاة الاختيار بخلاف ما إذا لم يمت؛ لأنه ما أبين بالذكاة ولنا قوله‏:‏ «عليه الصلاة والسلام ما قطع من بهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة» رواه ابن ماجه ذكر الحي مطلقا فينصرف إلى الحي حقيقة وحكما والعضو المبان بهذه الصفة؛ لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه وكذا حكما؛ لأنه يتوهم سلامته بعد هذه الجراحة ولهذا اعتبر هذا القدر من الحياة حتى لو وقع في الماء وفيه هذا القدر من الحياة يحرم بخلاف ما إذا أبين بذكاة الاختيار؛ لأن المبان منه ميت حكما ألا ترى أنه لو وقع في هذه الحالة في الماء أو تردى من الجبل لا يحرم؛ لأن موته قد حصل بالإبانة حكما فلا يضاف إلى غيره وإن كان حصل بذلك حقيقة أقول‏:‏ المقدمة القائلة إن المطلق ينصرف إلى الكامل شائعة في ألسنة الفقهاء وكتب أصحابنا لكنها مخالفة في الظاهر لما تقرر في أصول أئمتنا من أن المطلق يجري على إطلاقه كما أن المقيد يجري على تقييده فتأمل في التوفيق وفي الأصل‏:‏ رجل أرسل كلبه على صيد فأخطأ ثم عرض له صيد آخر فقتله يؤكل وإن فاته الصيد فرجع وعرض له صيد آخر في رجوعه فقتله لا يؤكل، وقوله ‏"‏ أبين بالذكاة ‏"‏ قلنا‏:‏ حال وقوعه لم تقع ذكاة لقيام الحياة في الثاني حقيقة وحكما على ما بينا وإنما تقع ذكاة عند موته وفي ذلك الوقت لا يظهر في المبان لعدم الحياة فيه لزواله بالانفصال فصار الأصل فيه أن المبان من الحي حقيقة وحكما لا يجوز، والمبان من الحي صورة لا حكما بدليل ما ذكرنا من الأحكام من أنه لا يؤثر فيه وقوعه في النهر في هذه الحالة يحل أكله في هذه الحالة وإن كان يكره لما فيها من زيادة الإيلام بقطع لحمه ولا كذلك المبان منه بالاصطياد؛ لأنه حي حقيقة وحكما حتى لا يثبت له شيء من هذه الأحكام‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن قطعه أثلاثا والأكثر مما يلي العجر أكل كله‏)‏ لأن المبان منه حي صورة لا حكما، إذ لا يتوهم سلامته وبقاؤه حيا بعد هذه الجراحة فوقع ذكاة في الحال فحل أكله كما إذا أبين رأسه في الذكاة الاختيارية وكذا إذا قد نصفين لما ذكرنا بخلاف ما إذا قطع يدا أو رجلا أو فخذا أو ثلثه مما يلي القوائم أو أقل من نصف الرأس حيث يحرم المبان ويحل المبان منه؛ لأنه يتوهم بقاء الحياة في الباقي وإن ضرب عنق شاة فأبان رأسها تحل لقطع الأوداج ويكره لما فيه من زيادة الألم بإبلاغه النخاع وإن ضربها من قبل القفا إن ماتت قبل قطع الأوداج لا تحل وإن لم تمت حتى قطع الأوداج حلت ولو ضرب صيدا فقطع يده أو رجله ولم ينفصل حتى مات إن كان يتوهم التئامه واندماله حل أكله؛ لأنه بمنزلة سائر أجزائه وإن كان لا يتوهم بأن يبقى معلقا بجلده حل ما سواه دونه لوجود الإبانة معنى والعبرة للمعاني‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وحرم صيد المجوسي والوثني والمرتد‏)‏ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة حالة الاختيار فكذا حالة الاضطرار وكذا المحرم لأنه ليس من أهل ذكاة الاختيار في حق الصيد فلا يكون من أهل ذكاة الاضطرار فيه ويؤكل صيد الكتابي؛ لأنه من أهل الذكاة اختيارا فكذا اضطرارا‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن رمى صيدا فلم يثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للثاني وحل‏)‏ لأنه هو الآخذ له وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الصيد لمن أخذه» وإنما حل لأنه لما لم يخرج بالأول من حيز الامتناع كان ذكاته ذكاة الاضطرار وهو الجرح في أي موضع كان وقد وجد‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن أثخنه فللأول وحرم‏)‏ لأنه لما أثخنه الأول قد خرج من حيز الامتناع صار قادرا على ذكاته الاختيارية فوجب عليه ذكاته لما روينا ولم يذكه وصار الثاني قاتلا له فيحرم وهو لو ترك ذكاته مع القدرة عليه يحرم فبالقتل أولى أن يحرم بخلاف الوجه الأول وهذا إذا كان بحال يسلم من الأول لأن موته يضاف إلى الثاني أما إذا كان الرمي الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى من المذبوح كما إذا أبان رأسه يحل؛ لأن موته لا يضاف إلى الرمي الثاني فلا اعتبار لوجوده لكونه ميتا حكما ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة لا يحرم كوقوعه بعد موته ولو كان الرمي الأول بحال لا يعيش به الصيد لكن حياته فوق حياة المذبوح بأن كان يبقى يوما أو دونه فعند أبي يوسف لا يحرم بالرمية الثانية؛ لأن هذا القدر من الحياة لا يعتبر عنده وعند محمد يحرم؛ لأن هذا القدر من الحياة يعتبر عنده فصار حكمه كحكم ما إذا كان الأول يسلم منه فلا يحل‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وضمن الثاني للأول قيمته غير ما نقصته جراحته‏)‏ أي ضمن جميع قيمة الصيد غير ما نقصته جراحته الأولى؛ لأنه أتلف صيدا مملوكا للغير؛ لأنه ملكه بالإثخان فيلزم قيمة ما أتلفه وقيمته وقت إتلافه كان ناقصا بجراحة الأول فيلزم ذلك؛ لأن قيمة المتلف تعتبر وقت الإتلاف فصار كما لو أتلف عبدا مريضا أو شاة مجروحة فإنه يلزمه قيمته متقوما بالمرض أو الجرح وقال صاحب الهداية وغيره‏:‏ تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني فإن كان الأول بحال يسلم منه والثاني بحال لا يسلم منه ليكون القتل كله مضافا إلى الثاني وقد قتل حيوانا مملوكا للأول منقوصا بالجراحة فلا يضمنه كاملا وإن علم أن الموت حصل من الجراحتين أو لا يدري قال صاحب الهداية قال في الزيادات‏:‏ يضمن الثاني ما نقصته جراحته ثم يضمن نصف قيمته مجروحا بجراحتين ثم يضمن نصف قيمته لحما أما الأول وهو ما نقصته جراحته فلأنه جرح حيوانا مملوكا للغير وقد نقصته فيضمنه أولا‏.‏ وأما الثاني وهو ضمان نصف قيمته حيا فلأن الموت حصل بالجراحتين فيكون هو متلفا نصفه وهو مملوك لغيره فيضمن نصف قيمته مجروحا بالجراحتين؛ لأن الأولى ما كانت بصنعه - يعني‏:‏ الجراحة الأولى ما كانت بصنع الثاني - فلا يضمنها، والثانية ضمنها مرة فلا يضمنها ثانية أي الجراحة الثانية ومراده ما نقص بجراحته ضمنها مرة وهو ما ضمنه من النقصان بجراحته أولا، وأما الثالث وهو ضمان نصف اللحم فلأن بالرمية الأولى صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني فهذا بالرمي الثاني أفسد عليه نصف اللحم فيضمنه ولا يضمن نصف القيمة لآخر؛ لأنه ضمنه من حيث ضمن نصف قيمته حيا فدخل ضمان اللحم وهذا يوهم أن بين المسألتين فرقا أعني بين ما إذا حصل القتل بالثاني وحده أو بهما وليس كذلك بل لا فرق بينهما؛ لأنه في الموضعين يضمن الثاني جميع قيمته غير ما نقصته جراحة الأول إلا أنه بين في المسألة الأولى جميع الحاصل وفي الثانية بين طريق الضمان نقل ذلك عن قاضي خان أي عدم الفرق بين المسألتين بيانه أن الرامي الأول إذا رمى صيدا يساوي عشرة فنقصه درهمين ثم رماه الثاني فنقصه درهمين ثم مات فعلى الطريقة الأولى يضمن الثاني ثمانية ويسقط عنه من قيمته درهمان لأن ذلك تلف بجرح الأول وهو المراد بقوله ‏"‏ غير ما نقصته جراحته ‏"‏‏.‏ وعلى الطريقة الثانية يضمن درهمين أولا؛ لأن ذلك القدر من النقصان حصل بفعله وهو المراد بقوله في الزيادات يضمن الثاني ما نقصته جراحته بقي من قيمته ستة فيضمن نصفها وهو ثلاثة دراهم وهو المراد بقوله ثم يضمن نصف قيمته مجروحا بجراحتين يعني به نصف قيمته حيا ثم إذا مات يضمن النصف الآخر بعد الموت وإن كان تفويت اللحم فيه موجودا بقتله؛ لأنه ضمن ذلك النصف حيا فلو ضمنه بعد الموت كان يتكرر الضمان بأن يضمن قيمته حيا ثم يضمن قيمته لحما بعد الموت وهذا لا يجوز وهذا إذا كانت حياته خفية بقدر المذبوح فلا يضمن الثاني ويؤكل؛ لأن موته لا يضاف إلى الثاني ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة لا يحرم وقد ذكرناه من قبل وعنه وقع الاحتراز بقوله فإن علم أن الموت حصل من الجراحتين أو لا يدري ولو رمياه معا فأصابه أحدهما قبل الآخر فأثخنه ثم أصابه الآخر أو رماه أحدهما أولا ثم رماه الثاني قبل أن يصيبه الأول أو بعدما أصابه قبل أن يثخنه فأصابه الأول فأثخنه أو أثخنه ثم أصابه الثاني فقتله فهو للأول ويؤكل وقال زفر لا يحل أكله لأنه حال إصابة الثاني غير ممتنع فلا يحل بذكاة الاضطرار فصار كما إذا رماه الثاني بعدما أثخنه الأول قلنا‏:‏ عند رمي الثاني هو صيد ممتنع فوقع رميه ذكاة ولهذا تشترط التسمية عند الرمي فكذا الامتناع يعتبر عنده إلا أن الملك يثبت للأول لأن سهمه أخرجه عن حيز الامتناع فملكه به قبل أن يقتل بسهم الثاني‏.‏ فحاصله أن المعتبر في حق الحل والضمان وقت الرمي؛ لأن الرمي إلى صيد مباح فلا ينعقد سببا لوجوب الضمان فلا ينقلب موجبا بعد ذلك وهو ذكاة فيحل المصاب لأن الحل يحصل بفعله، وفعله هو الرمي والإرسال فيعتبر وقته وفي حق الملك يعتبر وقت الإثخان؛ لأن به يثبت الملك وزفر يعتبر وقت الإثخان فيهما ولو رمياه معا، وأصاباه معا فمات منهما فهو بينهما لاستوائهما في السبب والبازي والكلب في هذا كالسهم حتى يملكه بإثخانه ولا يعتبر إمساكه بدون الإثخان حتى لو أرسل بازيه فأمسك الصيد بمخلبه ولم يثخنه، وأرسل الآخر بازيه فقتل ذلك الصيد فإن الصيد للثاني وحل؛ لأن يد البازي الأول ليست يدا حافظة لتقام مقام يد المالك أما القتل فهو إتلاف والبازي من أهل الإتلاف فينقل إلى صاحبه ولو رمى سهما فأصاب الصيد فأثخنه ثم رماه ثانيا فقتله حرم لما بينا‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وحل اصطياد ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ مطلقا من غير قيد بالمأكول، إذ الصيد لا يختص بالمأكول قال الشاعر‏:‏

صيد الملوك أرانب وثعالب *** وإذا ركبت فصيدك الأبطال

ولأن الاصطياد سبب الانتفاع بجلده أو ريشه أو شعره أو لاستدفاع شره، وكل ذلك مشروع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏