فصل: ‏(‏البشارة السادسة‏)‏ الزبور الخامس والأربعون هكذا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق **


بتلخيص ما وعبد السلام كان من أحبار اليهود ثم أسلم في عهد السلطان المرحوم بايزيد خان، وصنف رسالة صغيرة سماها بالرسالة الهادية فقال فيها‏:‏ ‏(‏أن أكثر أدلة أحبار اليهود بحرف الجمل الكبير وهو حرف أبجد، فإن أحبار اليهود حين بنى سليمان النبي عليه السلام بيت المقدس، اجتمعوا وقالوا يبقى هذا البناء أربعمائة وعشرة سنين ثم يعرض له الخراب، لأنهم حسبوا لفظة بزات‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏واعترضوا ‏[‏ص 252‏]‏ على هذا الدليل بأن الباء في بمادماد ليست من نفس الكلمة بل هي أداة وحرف جيء به للصلة فلو أخرج منه اسم محمد لاحتاج إلى باء ثانية ويقال ببمادماد، قلنا من المشهور عندهم إذا اجتمع الباآن أحدهما أداة والآخر من نفس الكلمة تحذف الأداة وتبقى التي هي من نفس الكلمة، وهذا شائع عندهم في مواضع غير معدودة فلا حاجة إلى إيرادها‏)‏ انتهى كلامه بلفظه‏.‏ أقول قد صرح العلماء بأن أسمائه صلى اللّه عليه وسلم مادماد كما في شفاء القاضي عياض‏.‏

‏(‏البشارة الخامسة‏)‏ الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين هكذا ترجمة عربية سنة 1722 وسنة 1831‏:‏ ‏(‏فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم‏)‏ وفي ترجمة عربية سنة 1811 ‏(‏فلا يزول القضيب من يهوذا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب‏)‏‏.‏ ولفظ الذي له الكل أو الذي هو له، ترجمة لفظ شيلوه، وفي ترجمة هذا اللفظ اختلاف كثير فيما بينهم وقد عرفت في الأمر السابع أيضًا، وقال عبد السلام في الرسالة الهادية هكذا‏:‏ ‏(‏لا يزول الحاكم من يهوذا ولا راسم من بين رجليه حتى يجيء الذي له وإليه تجتمع الشعوب‏)‏‏.‏

وفي هذه الآية دلالة على أن يجيء سيدنا ‏(‏محمد‏)‏ صلى اللّه عليه وسلم بعد تمام حكم موسى وعيسى، لأن المراد من الحاكم هو موسى، لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب شريعة إلى زمان موسى إلا موسى، والمراد من الراسم هو عيسى، لأنه بعد موسى إلى زمان عيسى ما جاء صاحب شريعة إلا عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد، فعلم أن المراد من قول يعقوب في آخر الأيام هو نبينا محمد عليه السلام، لأنه في آخر الزمان بعد مضي حكم الحاكم والراسم ما جاء إلا سيدنا محمد عليه السلام، ويدل عليه أيضًا قوله حتى يجيء الذي له أي الحكم بدلالة مساق الآية وسياقها، وأما قوله‏:‏ وإليه تجتمع الشعوب فهي علامة صريحة ودلالة واضحة على أن المراد منها هو سيدنا، لأنه ما اجتمع الشعوب إلا إليه وإنما لم يذكر الزبور لأنه لا أحكام فيه، وداود النبي تابع لموسى والمراد من خبر يعقوب هو صاحب الأحكام‏)‏ انتهى كلامه بلفظه‏.‏

أقول إنما أراد من الحاكم موسى عليه السلام، لأن شريعته جبرية انتقامية، ومن الراسم عيسى عليه السلام، لأن شريعته ليست بجبرية ولا انتقامية، وأن أريد من القضيب السلطنة الدنيوية ومن المدبر الحاكم الدنيوي، كما يفهم من رسائل القسيسين من فرقة بروتستنت ومن بعض تراجمهم، فلا يصح أن يراد بشيلوه مسيح اليهود كما هو مزعومهم، ولا عيسى عليه السلام كما هو مزعوم النصارى‏.‏

أما الأول‏:‏ فظاهر لأن السلطنة الدنيوية والحاكم الدنيوي زالا من آل يهوذا من مدة هي أزيد من ألفي سنة من عهد بختنصر ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فلأنهما زالتا من آل يهوذا أيضًا قبل ظهور عيسى عليه السلام بمقدار ستمائة سنة من عهد بختنصر وهو أجلى بني يهوذا إلى بابل وكانوا في الجلاء ثلاثًا وستين سنة لا سبعين كما يقول بعض علماء بروتستنت تغليطًا للعوام وقد عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول، ثم وقع عليهم أنتيوكس ما وقع فإنه عزل أونياس حبر اليهود وباع منصبه لأخيه ياسون بثلثمائة وستين وزنة ذهب يقدمها له خراجًا كل سنة، ثم عزله وباع ذلك لأخيه مينالاوس بستمائة وستين وزنة، ثم شاع خبر موته فطلب ياسون أن يسترد لنفسه الكهنوت ودخل أورشليم بألوف من الجنود فقتل كل من كان يظنه عدوًا له وهذا الخبر كان كاذبًا فهجم أنتيوكس على أورشليم وامتلكها ثانية في سنة 170 قبل ميلاد المسيح وقتلمن أهلها أربعين ألفًا وباع مثل ذلك عبيدًا، وفي الفصل العشرين من الجزء الثاني من مرشد الطالبين في بيان الجدول التاريخي في الصفحة 481 من النسخة المطبوعة سنة 1852 من الميلاد ‏(‏أنه نهب أورشليم وقتل ثمانين ألفًا‏)‏ انتهى‏.‏ وسلب ما كان في الهيكل من الأمتعة النفيسة التي كانت قيمتها ثمانمائة وزنة ذهب وقرب خنزيرة وقودًا على المذبح للإهانة، ثم رجع إلى إنطاكية وأقام فيلبس أحد الأراذل حاكمًا على اليهودية، وفي رحلته الرابعة إلى مصر أرسل أبولوينوس بعشرين ألفًا من جنوده وأمرهم أن يخربوا أورشليم ويقتلوا كل من بها من الرجال ويسبو النساء والصبيان فانطلقوا إلى هناك‏.‏ وبينما كان الناس في المدينة مجتمعين للصلاة يوم السبت هجموا عليهم على غفلة فقتلوا الكل، إلا من أفلت إلى الجبال واختفى في المغاير، ونهبوا أموال المدينة وأحرقوها وهدموا أسوارها وأخربوا منازلها ثم ابتنوا لهم من بسائط ذلك الهدم قلعة حصينة على جبل اكرا، وكانت العساكر تشرف منها على جميع نواحي الهيكل ومن دنا منه يقتلونه، ثم أرسل انتيوكس أثانيوس ليعلم اليهود طقوس عبادة الأصنام اليونانية ويقتل كل من لا يمتثل ذلك الأمر، فجاء أثانيوس إلى أورشليم وساعده على ذلك بعض اليهود الكافرين، وأبطل الذبيحة اليومية ونسخ كل طاعة للدين اليهودي عمومًا وخصوصًا، وأحرق كل ما وجده من نسخ كتب العهد العتيق بالفحص التام، وكرس الهيكل للمشتري ونصب صورة ذلك على مذبح اليهود وأهلك كل من وجده مخالف أمر انتيوكس، ونجا متاثياس الكاهن مع أبنائه الخمسة في هذه الداهية وفروا إلى وطنهم مودين في سبط دان فانتقم من هؤلاء الكفار انتقامًا ما قدروا عليه على استطاعته كما هو مصرح به في التواريخ، فكيف يصدق هذا الخبر على عيسى عليه السلام وإن قالوا أن المراد ببقاء السلطنة والحكومة امتياز القوم كما يقول بعضهم الآن، قلنا هذا الأمر كان باقيًا إلى ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكانوا في أقطار العرب ذوي حصون وأملاك غير مطيعين لأحد مثل يهود خيبر وغيرهم كما يشهد به التواريخ، وبعد ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا في كل إقليم مطيعين للغير، فالأليق أن يكون المراد بشيلوه النبي صلى اللّه عليه وسلم لا مسيح اليهود ولا عيسى عليه السلام‏.‏

‏(‏البشارة السادسة‏)‏ الزبور الخامس والأربعون هكذا‏ ‏(‏فاض قلبي كلمة صالحة أنا أقول أعمالي للملك‏)‏ 1 ‏(‏لساني قلم كاتب سريع الكتابة‏)‏ 2 ‏(‏بهي في الحسن أفضل من بني البشر‏)‏ 3 ‏(‏انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك اللّه إلى الدهر‏)‏ 4 ‏(‏تقلد سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك‏)‏ 5 ‏(‏أستله وأنجح وأملك من أجل الحق والدعة والصدق وتهديك بالعجب يمينك‏)‏ 6 ‏(‏نبلك مسنونة أيها القوي في قلب أعداء الملك الشعوب تحتك يسقطون‏)‏ 7 ‏(‏كرسيك يا اللّه إلى دهر الداهرين عصا الاستقامة عصا ملكك‏)‏ 8 ‏(‏أحببت البر وأبغضت الإثم لذلك مسحك اللّه إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك‏)‏ 9 ‏(‏المر والميعة والسليخة من ثيابك من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك‏)‏ 10 ‏(‏بنات الملوك في كرامتك قامت الملكة من عن يمينك مشتملة بثوب مذهب موشى‏)‏ 11 ‏(‏اسمعي يا بنت وانظري وأنصتي بأذنيك وانسي شعبك وبنت أبيك‏)‏ 12 ‏(‏فيشتهي الملك حسنك لأنه هو الرب إلهك وله تسجدين‏)‏ 13 ‏(‏بنات صور يأتينك بالهدايا لوجهك يصلي كل أغنياء الشعب‏)‏ 14 ‏(‏كل مجد ابنة الملك من داخل مشتملة بلباس الذهب الموشى‏)‏ 15 ‏(‏يبلغن إلى الملك عذارى في أثرها قريباتها إليك يقدمن‏)‏ 16 ‏(‏يبلغن بفرح وابتهاج يدخلن إلى هيكل الملك‏)‏ 17 ‏(‏ويكون بنوك عوضًا من آبائك وتقيمهم رؤساء على سائر الأرض‏)‏ 18 ‏(‏سأذكر اسمك في كل جيل وجيل من أجل ذلك تعترف لك الشعوب إلى الدهر والى دهر الداهرين‏)‏‏.‏

وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب أن داود عليه السلام يبشر في هذا الزبور بنبي يكون ظهوره بعد زمانه، ولم يظهر إلى هذا الحين عند اليهود نبي يكون موصوفًا بالصفات المذكورة في هذا الزبور، ويدعى علماء بروتستنت أن هذا النبي عيسى عليه السلام، ويدعي أهل الإسلام سلفًا وخلفًا أن هذا النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ فأقول أنه ذكر في هذا الزبور من صفات النبي المبشر به هذه الصفات‏:‏

‏[‏ص 256‏]‏ ‏[‏1‏]‏ كونه حسنًا‏.‏ ‏[‏2‏]‏ كونه أفضل البشر‏.‏ ‏[‏3‏]‏ كون النعمة منسكبة على شفتيه‏.‏ ‏[‏4‏]‏ كونه مباركًا إلى الدهر‏.‏ ‏[‏5‏]‏ كونه متقلدًا بالسيف‏.‏ ‏[‏6‏]‏ كونه قويًا‏.‏ ‏[‏7‏]‏ كونه ذا حق ودعة وصدق‏.‏ ‏[‏8‏]‏ كونه هداية يمينه بالعجب‏.‏ ‏[‏9‏]‏ كون نبله مسنونة‏.‏ ‏[‏10‏]‏ سقوط الشعب تحته‏.‏ ‏[‏11‏]‏ كونه محبًا للبر ومبغضًا للإثم‏.‏ ‏[‏12‏]‏ خدمة بنات الملوك إياه‏.‏ ‏[‏13‏]‏ إتيان الهدايا إليه‏.‏ ‏[‏14‏]‏ انقياد كل أغنياء الشعب له‏.‏ ‏[‏15‏]‏ كون أبنائه رؤساء الأرض بدل آبائهم‏.‏ ‏[‏16‏]‏ كون اسمه مذكورًا جيلًا بعد جيل‏.‏ ‏[‏17‏]‏ مدح الشعوب إياه إلى دهر الداهرين‏.‏

وهذه الأوصاف كلها توجد في محمد صلى اللّه عليه وسلم على أكمل وجه‏.‏

أما الأول‏:‏ فلأن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏ما رأيت شيئًا أحسن من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه وإذا ضحك يتلألأ في الجدار‏)‏‏.‏ وعن أم معبد رضي اللّه عنها قالت في بعض ما وصفته به‏:‏ ‏(‏أجمل الناس من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب‏)‏‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فلأن اللّه تعالى قال في كلامه المحكم‏:‏ ‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض‏)‏ الآية‏.‏ وقال أهل التفسير أراد بقوله ‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ محمدًا صلى اللّه عليه وسلم أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة، وقد أشبع الكلام في تفسير هذه الآية الإمام الهمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير‏.‏ وقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏ أي لا أقول ذلك فخرًا لنفسي بل تحدثًا بنعمة ربي‏.‏

وأما الثالث‏:‏ فغير محتاج إلى البيان حتى أقر بفصاحته الموافق والمخالف، وقال الرواة في وصف كلامه‏:‏ إنه كان أصدق الناس لهجة فكان من الفصاحة بالمحل الأفضل والموضع الأكمل‏.‏

وأما الرابع‏:‏ فلأن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه وملائكته يصلون على النبي‏}‏ وألوف ألوف من الناس يصلون عليه في الصلوات الخمس‏.‏

وأما الخامس‏:‏ فظاهر وقد قال هو بنفسه أنا رسول اللّه بالسيف‏.‏

وأما السادس‏:‏ فكانت قوته الجسمانية على الكمال، كما ثبت أن ركانة خلا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض شعاب مكة قبل أن يسلم فقال‏:‏ يا ركانة ألا تتقي اللّه وتقبل ما أدعوك إليه‏.‏ فقال‏:‏ لو أعلم واللّه ما تقول حقًا لاتبعتك‏.‏ فقال‏:‏ أرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال‏:‏ نعم، فلما بطش به صلى اللّه تعالى عليه وسلم أضجعه لا يملك من أمره شيئًا، ثم قال‏:‏ يا محمد عد فصرعه أيضًا فقال‏:‏ يا محمد إن ذا لعجب‏.‏ فقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت اللّه وتبعت أمري‏.‏ قال‏:‏ ما هو قال‏:‏ أدعو لك هذه الشجرة فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يديه صلى اللّه تعالى عليه وسلم‏.‏ فقال لها‏:‏ ارجعي مكانك‏.‏ فرجع ركانة إلى قومه فقال‏:‏ يا بني عبد مناف ما رأيت أسحر منه ثم أخبرهم بما رأى‏.‏ وركانة هذا كان من الأقوياء والمصارعين المشهورين‏.‏ وأما شجاعته فقد قال ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ ‏(‏ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏)‏ وقال علي كرم اللّه وجهه‏:‏ ‏(‏وإنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا‏)‏‏.‏

وأما السابع‏:‏ فلأن الأمانة والصدق من الصفات الجليلة له صلى اللّه عليه وسلم، كما قال النضر بن الحارث لقريش‏:‏ ‏(‏قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة‏.‏ حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم إنه ساحر، لا واللّه ما هو بساحر‏)‏‏.‏ وسأل هرقل عن حال النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان فقال‏:‏ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏.‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وأما الثامن‏:‏ فلأنه رمى يوم بدر وكذا يوم حنين وجوه الكفار بقبضة تراب فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وتمكن المسلمون منهم قتلًا وأسرًا فأمثال هذه من عجيب هداية يمينه‏.‏

وأما التاسع‏:‏ فلأن كون أولاد إسماعيل أصحاب النبل في سالف الزمان، غير محتاج إلى البيان وكان هذا الأمر مرغوبًا له وكان يقول‏:‏ ‏(‏ستفتح عليكم الروم ويكفيكم اللّه فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه‏)‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا‏)‏‏.‏ ويقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا‏)‏‏.‏

وأما العاشر‏:‏ فلأن الناس دخلوا أفواجًا في دين اللّه في مدة حياته‏.‏

وأما الحادي عشر‏:‏ فمشهور يعترف به المعاندون أيضًا، كما عرفت في المسلك الثاني‏.‏

وأما الثاني عشر‏:‏ فقد صارت بنات الملوك والأمراء، خادمة للمسلمين في الطبقة الأولى، ومنها شهربانو بنت يزدجرد، كسرى فارس، كانت تحت الإمام الهمام الحسين رضي اللّه عنه‏.‏

وأما الثالث عشر والرابع عشر‏:‏ فلأن النجاشي ملك الحبشة ومنذر بن ساوى ملك البحرين وملك عمان انقادوا وأسلموا، وهرقل قيصر الروم أرسل إليه بهدية، والمقوقس ملك القبط أرسل إليه ثلاث جوار، وغلامًا أسود وبغلة شهباء، وحمار أشهب، وفرسًا وثيابًا وغيرها‏.‏

وأما الخامس عشر‏:‏ فقد وصل من أبناء الإمام الحسن رضي اللّه عنه إلى الخلافة، وألوف في أقاليم مختلفة من الحجاز واليمن ومصر والمغرب والشام وفارس والهند وغيرها‏.‏ وفازوا بالسلطنة والإمارة العلية، وإلى الآن أيضًا في ديار الحجاز واليمن، وفي غيرهما توجد الأمراء والحكام من نسله صلى اللّه عليه وسلم، وسيظهر إن شاء اللّه المهدي رضي اللّه عنه من نسله، ويكون خليفة اللّه في الأرض، ويكون الدين كله للّه في عهده الشريف‏.‏

وأما السادس عشر والسابع عشر‏:‏ فلأنه ينادي ألوف ألوف جيلًا بعد جيل في الأوقات الخمسة، بصوت رفيع في أقاليم مختلفة‏:‏ ‏(‏أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا رسول اللّه‏)‏‏.‏ ويصلي عليه في الأوقات المذكورة الغير المحصورين من المصلين، والقراء يحفظون منشوره، والمفسرين يفسرون معاني فرقانه، والوعاظ يبلغون وعظه، والعلماء والسلاطين يصلون إلى خدمته، ويسلمون عليه من وراء الباب، ويمسحون وجوههم بتراب روضته ويرجون شفاعته‏.‏

ولا يصدق هذا الخبر في حق عيسى عليه السلام‏.‏ كما يدعيه علماء بروتستنت ادعاء باطلًا، لأنهم يدعون أن الخبر المندرج، في الباب الثالث والخمسين من كتاب أشعيا، في حق عيسى عليه السلام، ووقع في هذا الخبر في حقه هكذا‏:‏ ‏(‏ليس له منظر وجمال ورأيناه ولم يكن له منظر واشتهيناه مهانًا، وآخر الرجال رجل الأوجاع مختبرًا بالأمراض، وكان مكتومًا وجهه ومزدولًا ولم نحسبه، ونحن حسبناه كأبرص ومضروبًا من اللّه ومخضوعًا، والرب شاء أن يستحقه‏)‏‏.‏

وهذه الأوصاف ضد الأوصاف التي في الزبور المذكور، فلا يصدق عليه كونه حسنًا، ولا كونه قويًا‏.‏ وكذا لا يصدق عليه كونه متقلدًا بالسيف، ولا كون نبله مسنونة، ولا انقياد الأغنياء، ولا إرسالهم إليه الهدايا، بل هو على زعم النصارى، أخذوه وأهانوه واستهزؤوا به، وضربوه بالسياط، ثم صلبوه‏.‏ وما كان له زوجة ولا ابن، فلا يصدق دخول البنات في بيته، ولا كون أبنائه بدل آبائه رؤساء الأرض‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ترجمة الآية الثامنة التي نقلتها مطابقة للترجمة الفارسية للزبور كانت عندي، ولتراجم أردو للزبور، وموافقة لنقل مقدسهم بولس، لأنه نقل هذه الآية في الباب الأول من رسالته العبرانية‏.‏ هكذا ترجمة عربية سنة 1821، وسنة 1831، وسنة 1844‏:‏ ‏(‏أحببت البر وأبغضت الإثم، لذلك مسحك اللّه إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك‏)‏‏.‏ والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841‏.‏ وتراجم أردو المطبوعة سنة 1839، وسنة 1840، وسنة 1841‏.‏ مطابقة للتراجم العربية‏.‏ فالترجمة التي تكون مخالفة لما نقلت تكون غير صحيحة‏.‏ ويكفي لردها إلزامًا كلام مقدسهم‏.‏ وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن إطلاق لفظ الإله والرب وأمثالهما، جاء على العوام فضلًا عن الخواص‏.‏ والآية السادسة من الزبور الثاني والثمانين هكذا‏:‏ ‏(‏أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم‏)‏‏.‏ فلا يرد ما قال صاحب مفتاح الأسرار أنه وقع في الآية المذكورة هكذا‏:‏ ‏(‏أحببت البر وأبغضت الشر، من أجل ذلك يا اللّه مسح إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك، ولا يقال لشخص غير المسيح يا اللّه مسح إلهك‏)‏ الخ، لأنا لا نسلم أولًا‏:‏ صحة ترجمته لكونها مخالفة لكلام مقدسهم‏.‏ وثانيًا‏:‏ لو قطعنا النظر عن عدم صحتها، أقول ادعاؤه صريح البطلان‏.‏ لأن لفظ اللّه ههنا بالمعنى المجازي لا الحقيقي ويدل عليه قوله إلهك، لأن الإله الحقيقي لا إله له‏.‏ فإذا كان بالمعنى المجازي يصدق في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم كما يصدق في حق عيسى عليه السلام‏.‏

‏(‏البشارة السابعة‏)‏ في الزبور المائة والتاسع والأربعين هكذا‏:‏ 1 ‏(‏سبحوا الرب تسبيحًا جديدًا، سبحوه في مجمع الأبرار‏)‏ 2 ‏(‏فليفرح إسرائيل بخالقه، وبنو صهيون يبتهجون بملكهم‏)‏ 3 ‏(‏فليسبحوا اسمه بالمصاف بالطبل والمزمار يرتلوا له‏)‏ 4 ‏(‏لأن الرب يسر بشعبه ويشرف المتواضعين بالخلاص‏)‏ 5 ‏(‏تفتخر الأبرار بالمجد، ويبتهجون على مضاجعهم‏)‏ 6 ‏(‏ترفيع اللّه في حلوقهم وسيوف ذات فمين في أياديهم‏)‏ 7 ‏(‏انتقامًا في الأمم وتوبيخات في الشعوب‏)‏ 8 ‏(‏ليقيدوا ملوكهم بالقيود وأشرافهم بأغلال من حديد ليضعوا بهم حكمًا مكتومًا‏)‏ 9 ‏(‏هذا المجد يكون تجميع الأبرار‏)‏‏.‏

ففي هذا الزبور عبر عن المبشر به بالملك وعن مطيعه بالأبرار، وذكر من أوصافهم افتخارهم بالمجد وترفيع اللّه في حلوقهم، وكون سيوف ذات فمين في أياديهم، وانتقامهم من الأمم وتوبيخاتهم للشعوب، وأسرهم الملوك والأشراف بالقيود والأغلال من حديد‏.‏ فأقول المبشر به محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم ويصدق جميع الأوصاف المذكورة في هذا الزبور عليه وعلى أصحابه، وليس المبشر به سليمان عليه السلام لأنه ما وسع مملكته على مملكة أبيه على زعم أهل الكتاب، ولأنه صار مرتدًا عابدًا الأصنام في آخر عمره على زعمهم، ولا عيسى ابن مريم عليهما السلام لأنه بمراحل عن الأوصاف المذكورة فيه لأنه أسر ثم قتل على زعمهم، وكذا أسر أكثر حواريه بالقيود والأغلال، ثم قتلوا بأيدي الملوك والأشراف الكفار‏.‏

‏(‏البشارة الثامنة‏)‏ في الباب الثاني والأربعين من كتاب أشعيا هكذا‏:‏ 9 ‏(‏التي قد كانت أولاها قد أتت وأنا مخبر أيضًا بأحداث قبل أن تحدث وأسمعكم إياها‏)‏ 10 ‏(‏سبحوا للرب تسبيحة جديدة حمده من أقاصي الأرض راكبين في البحر وملؤه الجزائر وسكانهن‏)‏ 11 ‏(‏يرتفع البرية ومدتها في البيوت نحل قيدار سبحوا يا سكان الكهف من رؤوس الجبال يصيحون‏)‏ 12 ‏(‏يجعلون للرب كرامة وحمده يخبرون به في الجزائر‏)‏ 13 ‏(‏الرب كجبار، يخرج مثل رجل مقاتل يهوش الغير يصوت ويصيح، على أعدائه يتقوى‏)‏ 14 ‏(‏سكت دائمًا صمت صبرت صبرًا فأتكلم مثل الطائفة ما بدد وابتلع معًا‏)‏ 15 ‏(‏أخرب الجبال والآكام وكل نباتهن أجفف واجعل الأنهار جزائر والبحيرات أجففهن‏)‏ 16 ‏(‏وأقيد العمى في طريف لم يعرفوها والسبل لم يعلموا أسيرهم فيها أصير أمامهم الظلمة نورًا والعقب سهلًا هذا الكلام صنعته لهم ولا أخذلهم‏)‏ 17 ‏(‏اندبروا إلى ورائهم والمتكلمون على المنحوتة القائلون للمسبوكة أنكم آلهتنا ليخزون خزيًا‏)‏‏.‏ والآية السابعة عشر في الترجمة الفارسية هكذا‏:‏ ‏(‏كسانيكة برشكل تراشيده توكل دارند هزيمت وبشيماني تمام خواهند يافت‏)‏‏.‏

وظهر من الآية التاسعة أن أشعيا عليه السلام أخبر أولًا عن بعض الأشياء، ثم يخبر عن الأخبار الجديدة الآتية في المستقبل، فالحال الذي يخبر عنه من هذه الآية إلى آخر الباب غير الحال الذي أخبر عنه قبلها، ولذلك قال في الآية الثالثة والعشرين هكذا‏:‏ ‏(‏من هو بينكم أن يسمع هذا يصغي ويسمع الآية‏)‏‏.‏ والتسبيحة الجديدة عبارة عن العبادة على النهج الجديد التي هي في الشريعة المحمدية، وتعميمها على سكان أقاصي الأرض وأهل الجزائر وأهل المدن والبراري، إشارة إلى عموم نبوته صلى اللّه عليه وسلم، ولفظ قيدار أقوى إشارة إليه لأن محمدًا صلى اللّه عليه وسلم في أولاد قيدار بن إسماعيل، وقوله من رؤوس الجبال يصيحون إشارة إلى العبادة المخصوصة التي تؤدى في أيام الحج، يصيح ألوف ألوف من الناس بلبيك اللهم لبيك، وقوله حمده يخبرون به في الجزائر إشارة إلى الآذان يخبر به ألوف ألوف في أقطار العالم في الأوقات الخمسة بالجهر، وقوله الرب كجبار يخرج مثل رجل مقاتل يهوش الغيرة يشير إلى مضمون الجهاد إشارة حسنة، بأن جهاده وجهاد تابعيه يكون للّه وبأمره، خاليًا عن حظوظ الهوى النفسانية، ولذلك عبر اللّه عن خروج هذا النبي وخروج تابعيه بخروجه، وبين في الآية الرابعة عشر سبب مشروعية الجهاد وأشار في الآية السادسة عشر إلى حال العرب لأنهم كانوا غير واقفين على أحكام اللّه وكانوا يعبدون الأصنام وكانوا مبتلين بأنواع الرسوم القبيحة الجاهلية، كما قال اللّه تعالى في حقهم‏:‏ ‏{‏وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏ وقوله لا أخذلهم إشارة إلى كون أمته مرحومة ‏{‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}‏ وإلى تأييد شريعته، وقوله والمتوكلون على المنحوتة القائلون للمسبوكة أنكم آلهتنا ليخزون خزيًا، وعد بأن عابدي الأصنام والأوثان كمشركي العرب وعابدي الصليب وصور القديسين يحصل لهم الخزي والهزيمة التامة، ووفى بما وعد‏.‏ فإن مشركي العرب وهرقل عظيم الروم وكسرى فارس ما قصروا في إطفاء النور الأحمدي لكنهم ما حصل لهم سوى الخزي التام وعاقبة الأمر، لم يبق أثر الشرك في إقليم العرب، وزالت دولة كسرى مطلقًا وزالت حكومة أهل الصليب من الشام مطلقًا‏.‏ وأما في الأقاليم الأخر، فمن بعضها انمحى أثره مطلقًا كبخارى وكابل وغيرهما، ومن بعضها قل كالهند والسند وغيرهما وانتشر التوحيد شرقًا وغربًا‏.‏

‏(‏البشارة التاسعة‏)‏ في الباب الرابع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا‏:‏ 1 ‏(‏ سبحي أيتها العاقر التي لست تلدين انشدي بالحمد وهللي التي لم تلدي من أجل أن الكثيرين من بني الوحشة أفضل من بني ذات رجل يقول الرب‏)‏ 2 ‏(‏أوسعي موضع خيمتك وسرادق مضاربك ابسطي لا تشفقي طول حبالك ثبتي أوتادك‏)‏ 3 ‏(‏لأنك تنفذين يمنة ويسرة وزرعك يرث الأمم ويعمر المدن الخربة‏)‏ 4 ‏(‏لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين فإنك لا تستحيين من أجل أنك خزي صبائك تنسين وعار ترملك لا تذكرين أيضًا‏)‏ 5 ‏(‏فإنه يتولى عليك الذي صنعك رب الجنود اسمه وفاديك قدوس إسرائيل إله جميع الأرض يدعى‏)‏ 6 ‏(‏إنما الرب دعاك مثل الامرأة المطلقة والحزينة الروح وزوجة منذ الصبا مرذولة قال إلهك‏)‏ 7 ‏(‏الساعة في قليل تركتك وبرحمات عظيمة أجمعك‏)‏ 8 ‏(‏في ساعة الغضب أخفيت قليلًا وجهي عنك وبالرحمة الأبدية رحمتك قال فاديك الرب‏)‏ 9 ‏(‏مثلما في أيام نوح لي هذا الذي حلفت له أن لا أصب مياه نوح على الأرض، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك‏)‏ 10 ‏(‏فإن الجبال ترتجف والتلال تتزلزل ورحمتي لا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتحرك قال رحيمك الرب‏)‏ 11 ‏(‏فقيرة مستأصلة بعاصف بلا تعزية ها أنا ذا أبلط بالرتبة حجارتك وأوئسسك بالسفير‏)‏ 12 ‏(‏وأجعل يسبا محاضك وأبوابك حجارة منقوشة وجميع حدودك الأحجار مشتهية‏)‏ 13 ‏(‏جميع بنيك متعلمين من الرب وكثرة السلام لبنيك‏)‏ 14 ‏(‏وبالبر تؤسسين فابتعدي من الظلم لأنك لا تخافين ومن الهيبة لأنها لا تقرب منك‏)‏ 15 ‏(‏ها يأتي الجار الذي لم يكن معي والذي قد كان قريبًا يقترب إليك‏)‏ 16 ‏(‏ها أنا ذا خلقت صائغًا الذي ينفخ في النار جمرًا ويخرج إناء لعمله وأنا خلقت قتولًا للإهلاك‏)‏ 17 ‏(‏كل إناء مجبول ضدك لا ينجح وكل لسان يخالفك في القضاء تحكمين عليه هذا هو ميراث عبيد الرب وعدلهم عندي يقول الرب‏)‏‏.‏

فأقول‏:‏ المراد بالعاقر في الآية الأولى مكة المعظمة، لأنها لم يظهر منها نبي بعد إسماعيل عليه السلام ولم ينزل فيها وحي، بخلاف أورشليم لأنه ظهر فيها الأنبياء الكثيرون، وكثر فيها نزول الوحي‏.‏ وبني الوحشة عبارة عن أولاد هاجر لأنها كانت بمنزلة المطلقة المخرجة عن البيت ساكنة في البر، ولذلك وقع في حق إسماعيل في وعد اللّه هاجر ‏(‏هذا سيكون إنسانًا وحشيًا‏)‏ كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من سفر التكوين‏.‏ وبنو ذات رجل عبارة عن أولاد سارة‏.‏ فخاطب اللّه مكة آمرًا لها بالتسبيح والتهليل وإنشاد الشكر، لأجل أن كثيرين من أولاد هاجر صاروا أفضل من أولاد سارة، فحصلت الفضيلة لها بسبب حصول الفضيلة لأهلها، ووفى بماوعد بأن بعث محمدًا صلى اللّه عليه وسلم رسولًا أفضل البشر خاتم النبيين من أهلها في أولاد هاجر، وهو المراد بالصائغ الذي ينفخ في النار جمرًا، وهو القتول الذي خلق لإهلاك المشركين، وحصل لها السعة بواسطة هذا النبي وما حصل لغيرها من المعابد في الدنيا إذ لا يوجد معبد مثل الكعبة من ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى هذا الحين، والتعظيم الذي يحصل لها من القرابين في كل سنة من مدة ألف ومائتين وثمانين، لم يحصل لبيت المقدس إلا مرتين، مرة في عهد سليمان عليه السلام لما فرغ من بنائه، ومرة في السنة الثامنة عشر من سلطنة يوشيا، ويبقى هذا التعظيم لمكة إلى آخر الدهر إن شاء اللّه كما وعد اللّه بقوله‏:‏ ‏(‏لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين لأنك لا تستحين‏)‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏برحمات عظيمة أجمعك وبالرحمة الأبدية رحمتك‏)‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك‏)‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏رحمتي لا تزول عنك وعهد سلامي لا يتحرك‏)‏، وملك زرعها شرقًا وغربًا وورثوا الأمم وعمروا المدن في مدة قليلة لا تتجاوز اثنين وعشرين سنة من الهجرة، ومثل هذه الغلبة في مثل هذه المدة القليلة، لم يسمع من عهد آدم عليه السلام إلى زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم لمن يدعي الدين الجديد‏.‏ وهذا مفاد قول الله، وزرعك يرث الأمم، ويعمر المدن الخربة سلاطين الإسلام سلفًا وخلفًا اجتهدوا اجتهادًا تامًا في بناء الكعبة والمسجد الحرام وتزيينهما، وحفر الآبار والبرك والعيون في مكة ونواحيها، ومن المدة الممتدة هذه الخدمة الجليلة متعلقة بسلاطين آل عثمان، غفر اللّه لأسلافهم ورضي اللّه عنهم وزاد اللّه إقبال أخلافهم ووسع مملكتهم في الجهات، ووفقهم للعدل والحسنات، فهم خدموا ويخدمون الحرمين المعظمين أدام اللّه شرفهما من هذه المدة إلى هذا الحين كما هي، حتى صار لقب خادم الحرمين الشريفين عندهم أشرف الألقاب وأعزها، والغرباء يحبون مجاورتها من ظهور الإسلام إلى هذا الحين، سيما في هذا الزمان، وألوف من الناس يصلون إليها في كل سنة من أقاليم مختلفة وديار بعيدة، ووفى بما وعد بقوله كل إناء مجبول بضدك لا ينجح، لأن كل شخص من المخالف قام بضدها أذله اللّه كما وقع بأصحاب الفيل، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم لما ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج وحلف أن يهدم الكعبة، فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود وكان قويًا عظيمًا وأفيال أخرى، فخرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى، وعبأ جيشه، وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل اللّه طيرًا مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا وهلكوا في كل طريق ومنهل، وذوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم، وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتًا بين يديه، وقد أخبر اللّه عن حال هؤلاء في سورة الفيل وبحسب الوعد المذكور لا يدخل الأعور الدجال مكة ويرجع خائبًا كما جاء في الأحاديث الصحيحة‏.‏

‏(‏البشارة العاشرة‏)‏ في الباب الخامس والستين من كتاب أشعيا هكذا‏:‏ 1 ‏(‏طلبني الذين لم يسألوني قبل ووجدني الذين لم يطلبوني قلت ها أنا ذا إلى الأمة الذين لم يدعوا باسمي‏)‏ 2 ‏(‏بسطت يدي طول النهار إلى شعب غير مؤمن الذي يسلك بطريق غير صالح وراء أفكارهم‏)‏ 3 ‏(‏الشعب الذي يغضبني أمام وجهي دائمًا الذين يذبحون في البساتين ويذبحون على اللبن‏)‏ 4 ‏(‏الذين يسكنون في القبور في مساجد الأوثان يرقدون الذين يأكلون لحم الخنزير والمرق المنجس في آنيتهم‏)‏ 5 ‏(‏الذين يقولون أبعد عني لا تقرب مني لأنك نجس هؤلاء يكونون دخانًا في رجزي نارًا متقدة طول النهار‏)‏ 6 ‏(‏ها مكتوب قدامي لا أسكت بل أردوا كافي جزاء في حضنهم‏)‏‏.‏ فالمراد بالذين لم يسألوني والذين لم يطلبوني العرب، لأنهم كانوا غير واقفين على ذات اللّه وصفاته وشرائعه، فما كانوا سائلين عن اللّه وطالبين له كما قال اللّه تعالى في سورة آل عمران‏:‏ ‏{‏لقد منَّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏‏.‏ ولا يجوز أن يراد بهم اليونانيين كما عرفت في البشارة الثانية، والوصف المذكور في الآية الثانية والثالثة يصدق على كل واحد من اليهود والنصارى، والأوصاف المذكورة في الآية الرابعة ألصق بحال النصارى، كما أن الوصف المذكور في الخامسة ألصق بحال اليهود فردهم الباري واختار الأمة المحمدية‏.‏

‏(‏البشارة الحادية عشر‏)‏ في الباب الثاني من كتاب دانيال في حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، ثم بين دانيال عليه السلام بحسب الوحي تلك الرؤيا وتفسيرها‏.‏ 31‏:‏ ‏(‏فكنت أنت الملك ترى وإذ تمثال واحد جسيم وكان التمثال عظيمًا ورفيع القامة واقفًا قبالك ومنظره مخوفًا‏)‏ 32‏:‏ ‏(‏رأس هذا التمثال هو من ذهب إبريز والصدر والذراعان من فضة والبطن والفخذان من نحاس‏)‏ 33‏:‏ ‏(‏والساقان من حديد والقدمان قسم منهما من حديد وقسم منهما من خزف‏)‏ 34‏:‏ ‏(‏فكنت ترى هكذا حتى انقطع حجر من جبل لا بيدين وضرب التمثال في قدميه من حديد ومن خزف فسحقهما‏)‏ 35‏:‏ ‏(‏فانسحق حينئذ مع الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب وصارت كغبار البيدر في الصيف فذرتها الريح ولم يوجد لها مكان والحجر الذي قد ضرب التمثال صار جبلًا وملأ الأرض بأسرها‏)‏ 36‏:‏ ‏(‏فهذا هو الحلم وتنبئ أيضًا قدامك يا أيها الملك بتفسيره‏)‏ 37‏:‏ ‏(‏أنت هو ملك الملوك وإله السماء أعطاك الملك والقوة والسلطان والمجد‏)‏‏.‏ 38‏:‏ ‏(‏وجميع ما يسكن فيه بنو الناس ووحوش الحقل وأعطى بيدك طير السماء أيضًا وجعل جميع الأشياء تحت سلطانك فأنت هو الرأس من الذهب‏)‏ 39‏:‏ ‏(‏وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك من فضة ومملكة ثالثة أخرى من نحاس وتتسلط على جميع الأرض‏)‏ 40‏:‏ ‏(‏والمملكة الرابعة تكون مثل الحديد كما أن الحديد يسحق ويغلب الجميع هكذا هي تسحق وتكسر جميع هذه‏)‏ 41‏:‏ ‏(‏أما فيما رأيت قسم القدمين وأصابعهما من الخزف الفاخوري وقسمًا من حديد تكون المملكة مفترقة وإن كان يخرج من نصبة الحديد حسبما رأيت الحديد مختلطًا بالخزف من طين‏)‏ 42‏:‏ ‏(‏وأصابع القدمين قسم من حديد وقسم من خزف فتكون المملكة بقسم صلبة وبقسم مسحوقة‏)‏ 43‏:‏ ‏(‏فيما رأيت الحديد مختلطًا بالخزف من طين أنهم يختلطون بزرع بشري بل لا يتلاصقون مثل ما ليس بممكن أن يمتزج الحديد بالخزف‏)‏ 44‏:‏ ‏(‏فأما في أيام تلك الممالك يبعث إله السماء مملكة وهي لن تنقضي قط، ملكها لا يعطى لشعب آخر وهي تسحق وتفنى جميع هذه الممالك أجمعين وهي تثبت إلى الأبد‏)‏ 45‏:‏ ‏(‏وكما رأيت أن من جبل انقطع حجر لا بيدين وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب، فالإله العظيم أظهر للملك ما سيأتي من بعد والحلم هو حقيقي وتفسيره صحيح‏)‏‏.‏ فالمراد بالمملكة الأولى سلطنة بختنصر، وبالمملكة الثانية سلطنة المادئين الذين تسلطوا بعد قتل بلشاصر بن بختنصر كما هو مصرح به في الباب الخامس من الكتاب المذكور، وسلطنتهم كانت ضعيفة بالنسبة إلى سلطنة الكلدانيين، والمراد بالمملكة الثالثة سلطنة الكيانيين لأن قورش ملك إيران الذي هو بزعم القسيسين كيخسر وتسلط على بابل قبل ميلاد المسيح بخمسمائة وست وثلاثين سنة، ولما كان الكيانيون على السلطنة القاهرة فكأنهم كانوا متسلطين على جميع الأرض والمراد بالمملكة الرابعة سلطنة اسكندر بن فيلفوس الرومي الذي تسلط على ديار فارس قبل ميلاد المسيح بثلثمائة وثلاثين سنة، فهذا السلطان كان في القوة بمنزلة الحديد ثم جعل هذا السلطان سلطنة فارس منقسمة على طوائف الملوك فبقيت هذه السلطنة ضعيفة إلى ظهور الساسانيين ثم صارت قوية بعد ظهورهم فكانت ضعيفة تارة وقوية تارة وتولد في عهد نوشيروان ‏(‏محمد بن عبد اللّه‏)‏ صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه اللّه السلطنة الظاهرية والباطنية وقد تسلط متبعوه في مدة قليلة شرقًا وغربًا وعلى جميع ديار فارس التي كانت هذه الرؤيا وتفسيرها متعلقين بها، فهذه هي السلطنة الأبدية التي لا تنقضي وملكها لا يعطى لشعب آخر وسيظهر كمالها عن قريب في زمان الإمام المهدي رضي اللّه عنه لكن الوهن والضعف يقع قبل ظهوره بمدة قليلة كما يشاهد بعض علاماته الآن ثم يزول بظهوره ويكون الدين كله للّه، فهذا الحجر الذي انقطع لا بيدين من جبل وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب وصار جبلًا عظيمًا وملأ الأرض بأسرها هو محمد صلى اللّه عليه وسلم‏.‏

‏(‏البشارة الثانية عشر‏)‏ نقل يهوذا الحواري في رسالته الخبر الذي تكلم به أخنوخ الرسول الذي كان سابعًا من آدم عليه السلام ومن عروجه إلى ميلاد المسيح مدة ثلاثة آلاف وسبع عشرة سنة على زعم مؤرخيهم‏.‏ وأنا أنقل عبارته من الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844‏:‏ ‏(‏الرب قد جاء في ربواته المقدسة ليدائن الجميع ويبكت جميع المنافقين على كل أعمال نفاقهم التي نافقوا فيها وعلى كل الكلام الصعب الذي تكلم به ضد اللّه الخطاة المنافقون‏)‏ وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن استعمال لفظ الرب بمعنى المخدوم والمعلم شائع فلا حاجة إلى الإعادة، وأما لفظ المقدس أو القديس فيطلق في العهدين على المؤمن الموجود في الأرض إطلاقًا شائعًا‏.‏

‏[‏1‏]‏ الآية الأولى من الباب الخامس من سفر أيوب هكذا‏:‏ ‏(‏فادع الآن أن كان لك مجيب وإلى أحد من القديسين التفت‏)‏ فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض، أما عند علماء بروتستنت فظاهروا ما عند علماء كاتلك فلأن مطهرهم الذي هو موضع آلام أرواح الصالحين إلى أن يحصل لها النجاة بمغفرة البابا، وجد بعد المسيح عليه السلام ولم يكن في زمن أيوب‏.‏

‏[‏2‏]‏ والآية الثانية من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا‏:‏ ‏(‏إلى جماعة اللّه التي بقورنثية المقدسين بيسوع المسيح المدعوين قديسين‏)‏ الخ‏.‏ فالمراد بالمقدسين والقديسين المؤمنون بالمسيح الموجودون في قورنثية‏.‏

‏[‏3‏]‏ والآية الثالثة عشر من الباب الثاني عشر من الرسالة الرومية هكذا‏:‏ ‏(‏مشاركين لحاجة القديسين‏)‏ الخ‏.‏

‏[‏4 ، 5‏]‏ في الباب الخامس عشر منها هكذا‏:‏ ‏(‏ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين‏)‏ 26 ‏(‏لأن أهل مكدونية واحائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعًا لفقراء القديسين الذين في أورشليم فالمراد بالقديسين في الموضعين المؤمنون الموجودون في أورشليم‏.‏

‏[‏6‏]‏ والآية الأولى من الباب الأول من الرسالة إلى أهل فيلبسيوس هكذا‏:‏ ‏(‏من بولس وطيماثاوس عبدي يسوع المسيح إلى جميع القديسين بيسوع المسيح بفيلبسيوس‏)‏ الخ‏.‏ فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون بفيلبسيوس‏)‏‏.‏

‏[‏7‏]‏ ووقع في الآية العاشرة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى طيماثاوس في حال الشماسات هكذا‏:‏ ‏(‏غسلت أرجل القديسين‏)‏ فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض بوجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن القديسين الموجودون في السماء أرواح ليس لهم أرجل والثاني‏:‏ أن الشماسات لا يمكنهن العروج إلى السماء وإذا عرفت استعمال لفظ الرب والمقدس أو القديس فأقول إن المراد بالرب محمد صلى اللّه عليه وسلم وبالربوات المقدسة الصحابة والتعبير عن مجيئه بقد جاء لكونه أمرًا يقينيًا فجاء محمد صلى اللّه عليه وسلم في ربواته المقدسة فدان الكفار، وبكت المنافقين والخطاة على أعمال النفاق وعلى أقوالهم القبيحة في اللّه ورسله، فبكت المشركين لعدم تسليم توحيد اللّه ورسالة رسله مطلقًا وعبادتهم الأصنام والأوثان، وبكت اليهود على تفريطهم في حق عيسى ومريم عليهما السلام وبعض عقائدهم الواهية، وبكت أهل التثليث مطلقًا على تفريطهم في توحيد اللّه وإفراطهم في حق عيسى عليه السلام، وبكت أكثرهم على عبادة الصليب والتماثيل وبعض عقائدهم الواهية‏.‏

‏(‏البشارة الثالثة عشر‏)‏ في الباب الثالث من إنجيل متى هكذا‏:‏ ‏(‏وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية‏)‏ 2 ‏(‏قائلًا توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات‏)‏‏.‏ وفي الباب الرابع من إنجيل متى هكذا‏:‏ 12 ‏(‏ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل‏)‏ 17 ‏(‏من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات‏)‏ 23 ‏(‏وكان يسوع يطوف كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت الخ‏)‏‏.‏ وفي الباب السادس من إنجيل متى في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا‏:‏ ‏(‏ليأت ملكوتك‏)‏ ولما أرسل الحواريين إلى البلاد الإسرائيلية للدعوة والوعظ، وصاهم بوصايا منها هذه الوصية أيضًا‏:‏ ‏(‏وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السماوات‏)‏ كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متى ووقع في الباب التاسع من إنجيل لوقا هكذا‏:‏ 1 ‏(‏ودعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم قوة وسلطانًا على جميع الشياطين وشفاء أمراض‏)‏ 2 ‏(‏وأرسلهم ليكرزوا بملكوت اللّه يشفوا المرضى‏)‏‏.‏ وفي الباب العاشر من إنجيل لوقا هكذا‏:‏ ‏(‏وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضًا وأرسلهم‏)‏ الخ ‏(‏فقال لهم‏)‏ الخ 8 ‏(‏وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم‏)‏ 9 ‏(‏واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت اللّه‏)‏ 10 ‏(‏وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا‏)‏ 11 ‏(‏حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت اللّه‏)‏‏.‏ فظهر أن كلًا من يحيى وعيسى والحواريين والتلاميذ السبعين بشر بملكوت السماوات، وبشر عيسى عليه السلام بالألفاظ التي بشر بها يحيى عليه السلام، فعلم أن هذا الملكوت كما لم يظهر في عهد يحيى عليه السلام فكذلك لم يظهر في عهد عيسى عليه السلام ولا في عهد الحواريين والسبعين بل كل منهم مبشر به ومخبر عن فضله ومترجّ لمجيئه، فلا يكون المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى عليه السلام، وإلا لما قاله عيسى عليه السلام والحواريون والسبعون أن ملكوت السماوات قد اقترب، ولما علم التلاميذ أن يقولوا في الصلاة وليأت ملكوتك لأن هذه طريقة قد ظهرت بعد ادعاء عيسى عليه السلام النبوة بشريعته، فهو عبارة عن طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فهؤلاء كانوا يبشرون بهذه الطريقة الجليلة، ولفظ ملكوت السماوات بحسب الظاهر يدل على أن هذا الملكوت يكون في صورة السلطنة لا في صورة المسكنة، وأن المحاربة والجدال فيه مع المخالفين يكونان لأجله، وأن مبنى قوانينه لا بد أن يكون كتابًا سماويًا، وكل من هذه الأمور يصدق على الشريعة المحمدية، وما قال العلماء المسيحية أن المراد بهذا الملكوت، شيوع الملة المسيحية في جميع العالم وإحاطتها كل الدنيا بعد نزول عيسى عليه السلام، فتأويل ضعيف خلاف الظاهر، ويرده التمثيلات المنقولة عن عيسى عليه السلام في الباب الثالث عشر من إنجيل متى، مثلًا قال‏:‏ ‏(‏يشبه ملكوت السماوات إنسانًا زرع زرعًا جيدًا في حقله‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع‏)‏‏.‏ فشبه ملكوت السماوات بإنسان زارع لا بنمو الزراعة وحصادها، وكذلك شبه بحبة خردل لا بصيرورتها شجرة عظيمة، وشبه بخميرة لا باختمار جميع الدقيق‏.‏ وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى عليه السلام بعد بيان التمثيل المنقول في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا‏:‏ ‏(‏لذلك أقول أن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره‏)‏ فإن هذا القول يدل على أن المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم وإحاطتها كل العالم، وإلا لا معنى لنزع الشيوع والإحاطة من قوم وإعطائهما لقوم آخرين، فالحق أن المراد بهذا الملكوت هي المملكة التي أخبر عنها دانيال عليه السلام في الباب الثاني من كتابه، فمصداق هذا الملكوت، وتلك المملكة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه أعلم وعلمه أتم‏.‏

‏(‏البشارة الرابعة عشر‏)‏ في الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا‏:‏ 31 ‏(‏قدم لهم مثلًا آخر قائلًا يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله‏)‏ 32 ‏(‏وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها‏)‏، فملكوت السماء طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه نشأ في قوم كانوا حقراء عند العالم لكونهم أهل البوادي غالبًا، وغير واقفين على العلوم والصناعات، محرومين عن اللذات الجسمانية والتكلفات الدنيوية سيما عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر، فبعث اللّه منهم محمدًا صلى اللّه عليه وسلم فكانت شريعته في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل أصغر الشرائع بحسب الظاهر، لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت أكبرها وأحاطت شرقًا وغربًا، حتى أن الذين لم يكونوا مطيعين لشريعة من الشرائع تشبثوا بذيل شريعته‏.‏

‏(‏البشارة الخامسة عشر‏)‏ في الباب العشرين من إنجيل متى هكذا‏:‏ 1 ‏(‏فإن ملكوت السماوات يشبه رجلًا رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه‏)‏ 2 ‏(‏فاتفق مع العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه‏)‏ 3 ‏(‏ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قيامًا في السوق بطالين‏)‏ 4 ‏(‏فقال لهم اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا‏)‏ 5 ‏(‏وخرج أيضًا نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك‏)‏ 6 ‏(‏ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قيامًا بطالين فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين‏)‏ 7 ‏(‏قالوا له لأنه لم يستأجرنا أحد قال لهم اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم‏)‏ 8 ‏(‏فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله ادع الفعلة وأعطهم الأجر مبتدئًا من الآخرين إلى الأولين‏)‏ 9 ‏(‏فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دينارًا دينارًا‏)‏ 10 ‏(‏فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم دينارًا دينارًا‏)‏ 11 ‏(‏وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت‏)‏ 12 ‏(‏قائلين هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر‏)‏ 13 ‏(‏فأجاب وقال لواحد منهم يا صاحب ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار‏)‏ 14 ‏(‏فخذ الذي لك واذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك‏)‏ 15 ‏(‏أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي أم عينك شريرة لأني أنا صالح‏)‏ 16 ‏(‏هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون‏)‏‏.‏

فالآخرون أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فهم يقدمون في الأجر، وهم الآخرون الأولون كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي‏)‏‏.‏

‏(‏البشارة السادسة عشر‏)‏ في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا‏:‏ 33 ‏(‏اسمعوا مثلًا آخر كان إنسان رب بيت غرس كرمًا وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجًا وسلمه إلى كرامين وسافر‏)‏ 34 ‏(‏ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين وسافر ليأخذ أثماره‏)‏ 35 ‏(‏فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضًا وقتلوا بعضًا ورجموا بعضًا‏)‏ 36 ‏(‏ثم أرسل أيضًا عبيدًا آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك‏)‏ 37 ‏(‏فأخبرا أرسل إليهم ابنه قائلًا يهابون ابني‏)‏ 38 ‏(‏وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه‏)‏ 39 ‏(‏فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه‏)‏ 40 ‏(‏فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين‏)‏ 41 ‏(‏قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًا ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها‏)‏ 42 ‏(‏قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البناءون، هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا‏)‏ 43 ‏(‏لذلك أقول لكم إن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره‏)‏ 44 ‏(‏ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه‏)‏ 45 ‏(‏ولما سمع رؤساء الكهنة، والفريسيون أمثاله، عرفوا أنه تكلم عليهم‏)‏‏.‏

أقول‏:‏ إن رب بيت كناية عن اللّه، والكرم كناية عن الشريعة، وإحاطته بسياج وحفر المعصرة فيه وبناء البرج، كنايات عن بيان المحرمات والمباحات والأوامر والنواهي، وأن الكرامين الطاغين كناية عن اليهود، كما فهم رؤساء الكهنة، والفريسيون، أنه تكلم عليهم، والعبيد المرسلين كناية عن الأنبياء عليهم السلام، والابن كناية عن عيسى عليه السلام، وقد عرفت في الباب الرابع أنه لا بأس بإطلاق هذا اللفظ عليه، وقد قتله اليهود أيضًا في زعمهم‏.‏ والحجر الذي رفضه البناءون كناية عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، والأمة التي تعمل أثماره كناية عن أمته صلى اللّه عليه وسلم، وهذا هو الحجر الذي كل من سقط عليه ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، وما ادعى العلماء المسيحية بزعمهم، أن هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام، فغير صحيح لوجوه‏:‏

‏(‏الأول‏)‏ أن داود عليه السلام، قال في الزبور المائة والثامن عشر هكذا‏:‏ 22 ‏(‏الحجر الذي رذله البناءون هو صار رأسًا للزاوية‏)‏ 23 ‏(‏من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا‏)‏‏.‏ فلو كان هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام وهو من اليهود من آل يهوذا من آل داود عليه السلام، فأي عجب في أعين اليهود عمومًا لكون عيسى عليه السلام رأس الزاوية سيما في عين داود عليه السلام خصوصًا لأن مزعوم المسيحيين، أن داود عليه السلام يعظم عيسى عليه السلام في مزاميره تعظيمًا بليغًا، ويعتقد الألوهية في حقه بخلاف آل إسماعيل، لأن اليهود كانوا يحقرون أولاد إسماعيل غاية التحقير، وكان كون أحد منهم رأسًا للزاوية عجيبًا في أعينهم‏.‏

‏(‏والثاني‏)‏ أنه وقع في وسط هذا الحجر كل من سقط على هذا الحجر ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، ولا يصدق هذا الوصف على عيسى عليه السلام لأنه قال‏:‏ ‏(‏وإن سمع أحد كلامي، ولم يؤمن، فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم، بل لأخلص العالم‏)‏‏.‏ كما هو في الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا، وصدقه على محمد صلى اللّه عليه وسلم غير محتاج إلى البيان، لأنه كان مأمورًا بتنبيه الفجار الأشرار، فإن سقطوا عليه ترضضوا، وإن سقط هو عليهم سحقهم‏.‏

‏(‏الثالث‏)‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثلي ومثل الأنبياء، كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار، يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل‏)‏‏.‏ ولما ثبتت نبوته بالأدلة الأخرى كما ذكرت نبذًا منها في المسالك السابقة، فلا بأس بأن استدل في هذه البشارة بقوله أيضًا‏.‏

‏(‏والرابع‏)‏ أن المتبادر من كلام المسيح أن هذا الحجر غير الابن‏.‏

‏(‏البشارة السابعة عشر‏)‏ في الباب الثاني من المشاهدات هكذا‏:‏ 26 ‏(‏ومن يغلب، ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأعطيه سلطانًا على الأمم‏)‏ 27 ‏(‏فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أيضًا من عند أبي‏)‏ 28 ‏(‏وأعطيه كوكب الصبح‏)‏ 29 ‏(‏من له أذن فليسمع ما يقول الروح بالكنائس‏)‏‏.‏ فهذا الغالب الذي أعطى سلطانًا على الأمم، ويرعاهم بالقضيب من حديد، هو محمد صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ كما قال اللّه في حقه‏:‏ ‏{‏وينصرك اللّه نصرًا عزيزًا‏}‏ وقد سماه سطيح الكاهن صاحب الهراوة، روى أن ليلة ولادته صلى اللّه عليه وسلم انشق إيوان كسرى أنو شروان، وسقط من ذلك أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة بحيث صارت يابسة، ورأى الموبذان في نومه أن إبلًا صعابًا تقود خيلًا عرابًا فقطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فخاف كسرى من حدوث هذه الأمور وأرسل عبد المسيح إلى سطيح الكاهن الذي كان في الشام، ولما وصل عبد المسيح إليه، وجده في سكرات الموت فذكر هذه الأمور عنده، فأجاب سطيح‏:‏ ‏(‏إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقامًا، ولا الشام لسطيح منامًا، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت‏)‏‏.‏ ثم مات سطيح من ساعته، ورجع عبد المسيح، فأخبر أنو شروان بما قال سطيح، قال كسرى إلى أن يملك أربعة عشر ملكًا، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي اللّه عنه، فهلك آخرهم يزدجر في خلافته‏.‏ والهراوة بكسر الهاء العصا الضخمة، وكوكب الصبح عبارة عن القرآن، قال اللّه تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا‏}‏، وفي سورة التغابن‏:‏ ‏{‏فآمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلنا‏}‏‏.‏ قال صاحب صولة الضيغم بعد نقل هذه البشارة، قلت للقسيسين ويت، ووليم عند المناظرة‏:‏ إن صاحب هذا القضيب من حديد محمد صلى اللّه عليه وسلم، فاضطربا بسماع هذا الأمر، وقالا‏:‏ إن عيسى عليه السلام، حكم بهذا الكنيسة ثياثيرًا، فلا بد أن يكون ظهور مثل هذا الشخص هناك، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ما راح هناك، قلت‏:‏ هذه الكنيسة في أية ناحية كانت‏.‏ فرجعا إلى كتب اللغة، وقالا‏:‏ كانت في أرض الروم، قريبة من استانبول‏.‏ قلت‏:‏ راح أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم في خلافة الفاروق الأعظم، عمر رضي اللّه عنه، إلى هذه البلاد، وفتحوها، وبعد الصحابة، رضي اللّه عنهم، كان المسلمون أيضًا متسلطين عليها في أكثر الأوقات، ثم تسلط سلاطين آل عثمان، أدام اللّه سلطنتهم من المدة المديدة، وهم متسلطون إلى هذا الحين، فهذا الخبر صريح في حق محمد، صلى اللّه عليه وسلم، انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ الفاضل عباس علي الجاجموي الهندي، صنف أولًا كتابًا، كبيرًا في رد أهل التثليث، وسماه صولة الضيغم على أعداء ابن مريم، ثم ناظر هو رحمه اللّه ويت، ووليم القسيسين في البلد كانفور من بلاد الهند وألزمهما، ثم اختصر كتابه، وسمىّ المختصر خلاصة صولة الضيغم، ومناظرته كانت قبل أن ناظر صاحب ميزان الحق في أكبر آباد بمقدار اثنتين وعشرين سنة‏.‏

‏(‏البشارة الثامنة عشر‏)‏ وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، وأنا أنقل عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن، فأقول‏:‏ في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا‏:‏ 15 ‏(‏إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي‏)‏ 16 ‏(‏وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد‏)‏ 17 ‏(‏روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم‏)‏ 26 ‏(‏والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم‏)‏ 30 ‏(‏والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون‏)‏‏.‏ وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا‏:‏ ‏(‏فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي‏)‏ 27 ‏(‏وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء‏)‏‏.‏ وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا‏:‏ 7 ‏(‏لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن انطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم‏)‏ 8 ‏(‏فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم‏)‏ 9 ‏(‏أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي‏)‏ 10 ‏(‏وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد‏)‏ 11 ‏(‏وأما على الحكم فإن أركون هذا العالم قد دين‏)‏ 12 ‏(‏وأن لي كلامًا كثيرًا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن‏)‏ 13 ‏(‏وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي‏)‏ 14 ‏(‏وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم‏)‏ 15 ‏(‏جميع ما هو الأب فهو لي فمن أجل هذا قلت أن مما هو لي يأخذ ويخبركم‏)‏‏.‏ وأنا أقدم قبل بيان وجه الاستدلال بهذه العبارات أمرين‏:‏

الأمر الأول‏:‏ أنك قد عرفت في الأمر السابع، أن أهل الكتاب سلفًا وخلفًا عادتهم أن يترجموا غالبًا الأسماء، وأن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني، فإذًا لا يبقى شك في أن الإنجيلي الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم، ثم مترجمو العربية عربوا اللفظ اليوناني بفارقليط، وقد وصلت إلى رسالة صغيرة في لسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة، وكانت هذه الرسالة طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ فارقليط، وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط، وكان ملخص كلامه‏:‏ ‏(‏أن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني فإن قلنا أن هذا اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل، وإن قلنا أن اللفظ الأصل بيركلو طوس يكون قريبًا من معنى محمد وأحمد، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بيركلو طوس ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد لكن الصحيح أنه باراكلي طوس‏)‏ انتهى ملخصًا من كلامه‏.‏

فأقول أن التفاوت بين اللفظين يسير جدًا وأن الحروف اليونانية كانت متشابهة، فتبدل بيركلو طوس بياراكلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الإنصاف، اعتقد يقينًا بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد، بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات‏.‏

والأمر الثاني‏:‏ أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، أنهم مصاديق لفظ، فارقليط مثلًا منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد، وكان مرتاضًا شديدًا وأتقى عهده، ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغير الرسالة وقال إني هو الفارقليط الموعود به الذي وعد بمجيئه عيسى عليه السلام وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ‏.‏

وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا‏:‏ ‏(‏أن البعض قالوا أنه ادعى أني فارقليط يعني المعزي روح القدس وهو كان أتقى ومرتاضًا شديدًا ولأجل ذلك قبله الناس قبولًا زائدًا‏)‏ انتهى كلامه‏.‏ فعلم أن انتظار فارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضًا ولذلك كان الناس يدعون مصاديقه وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم‏.‏ وقال صاحب لب التواريخ‏:‏ ‏(‏أن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا منتظرين لنبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنه ادعى أني هو ذاك المنتظر‏)‏ انتهى ملخص كلامه‏.‏ فيعلم من كلامه أيضًا أن أهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبي في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو الحق لأن النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏فقال أشهد باللّه أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب‏)‏ وكتب الجواب وكتب في الجواب ‏(‏أشهد أنك رسول اللّه صادقًا ومصدقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يديه للّه رب العالمين‏)‏ وهذا النجاشي قبل الإسلام كان نصرانيًا، وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم هكذا‏:‏ ‏(‏لمحمد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعوا إليه، وقد علمت أن نبيًا قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك‏)‏ والمقوقس هذا وإن لم يسلم لكنه أقر في كتابه أني قد علمت أن نبيًا قد بقي وكان نصرانيًا، فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمد صلى اللّه عليه وسلم لأجل شوكته الدنيوية، وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ واللّه لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبيًا لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول، التحية لك والشكر لمن أكرمك، لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك محمد رسول اللّه‏)‏، ثم آمن قومه وهذا الجارود كان من علماء النصارى وقد أقر بأنه قد بشر بك ابن البتول أي عيسى عليه السلام، فظهر أن المسيحيين أيضًا كانوا منتظرين لخروج نبي بشر به عيسى عليه السلام، فإذا علمت ذلك فأقول أن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى عليه السلام مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة، لكني أترك البحث عن الأصل، وأتكلم على هذا اللفظ اليوناني الأصل بيركلو طوس فالأمر ظاهر، وتكون بشارة المسيح في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم بلفظ هو قريب من محمد، وأحمد، وهذا وإن كان قريب القياس بلحاظ عاداتهم لكني أترك هذا الاحتمال، لأنه لا يتم عليهم إلزامًا وأقول إن كان اللفظ اليوناني الأصل بارا كلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضًا، لأن معناه المعزي، والمعين، والوكيل، على ما بين صاحب الرسالة، أو الشافع، كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816، وهذه المعاني كلها تصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ وأنا أبين الآن أولًا أن المراد بفارقليط النبي المبشر به أعني محمدًا صلى اللّه عليه وسلم لا الروح النازل على تلاميذ عيسى عليه السلام يوم الدار، الذي جاء ذكره في الباب الثاني من كتاب الأعمال‏.‏ وأذكر ثانيًا شبهات العلماء المسيحية وأجيب عنها فأقول‏:‏

أما الأول‏:‏ فيدل عليه أمور‏:‏

‏[‏1‏]‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏أولًا، إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي‏)‏ ثم أخبر عن فارقليط فمقصوده عليه السلام، أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم يعد ضروري واجب الرعاية، فلو كان فارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة، لأنه ما كان مظنونًا أن يستبعد الحواريون نزول الروح عليهم مرة أخرى، لأنهم كانوا مستفيضين به من قبل أيضًا، بل لا مجال للاستبعاد أيضًا لأنه إذا نزل على قلب أحد وحل فيه يظهر أثره لا محالة ظهورًا بينًا، فلا يتصوّر إنكار المتأثر منه وليس ظهوره عندهم في صورة يكون فيه مظنة يكون الاستبعاد، فهو عبارة عن النبي المبشر به، فحقيقة الأمر أن المسيح عليه السلام لما علم بالتجربة وبنور النبوّة أن الكثيرين من أمته ينكرون النبي المبشر به عند ظهوره، فأكد أولًا بهذه الفقرة ثم أخبر عن مجيئه‏.‏

‏[‏2‏]‏ أن هذا الروح متحد بالأب مطلقًا وبالابن، نظرًا إلى لاهوته اتحادًا حقيقيًا فلا يصدق في حقه ‏(‏فارقليط آخر‏)‏ بخلاف النبي المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف‏.‏

‏[‏3‏]‏ أن الوكالة والشفاعة من خواص النبوّة لا من خواص هذا الروح المتحد باللّه، فلا يصدقان على الروح ويصدقان على النبي المبشر به بلا تكلف‏.‏

‏[‏4‏]‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏هو يذكركم كل ما قلته لكم‏)‏‏.‏ ولم يثبت من رسالة من رسائل العهد الجديد، أن الحواريين كانوا قد نسوا ما قاله عيسى عليه السلام، وهذا الروح النازل يوم الدار ذكرهم إياه‏.‏

‏[‏5‏]‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون‏)‏‏.‏ وهذا يدل على أن المراد به ليس الروح لأنك قد عرفت في الأمر الأول أنه ما كان عدم الإيمان مظنونًا منهم وقت نزوله، بل لا مجال للاستبعاد أيضًا، فلا حاجة إلى هذا القول، وليس من شأن الحكيم العاقل أن يتكلم بكلام فضول فضلًا عن شأن النبي العظيم الشأن، فلو أردنا به النبي المبشر به يكون هذا الكلام في محله، وفي غاية الاستحسان لأجل التأكيد مرة ثانية‏.‏

‏[‏6‏]‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏هو يشهد لأجلي‏)‏‏.‏ وهذا الروح ما شهد لأجله بين يدي أحد، لأن تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة، لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضًا، فلا فائدة للشهادة بين أيديهم، والمنكرون الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم بخلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه شهد لأجل المسيح عليه ‏[‏ص 284‏]‏ السلام وصدقه وبرأه عن ادعاء الألوهية، الذي هو أشد أنواع الكفر والضلال، وبرأ أمه عن تهمة الزنا، وجاء ذكر براءتهما في القرآن في مواضع متعددة، وفي الأحاديث في مواضع غير محصورة‏.‏

‏[‏7‏]‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء، وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 هكذا‏:‏ ‏(‏وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم كنتم معي من الابتداء‏)‏‏.‏ وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا‏:‏ ‏(‏وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء‏)‏ فيوجد في هذه التراجم الثلاث لفظ أيضًا، وكذا يوجد في التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 ترجمة لفظ أيضًا، فلفظ أيضًا سقط من التراجم التي نقلت عنها عبارة يوحنا سهوًا أو قصدًا، فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة فارقليط، فلو كان المراد به الروح النازل يوم الدار فلا توجد مغايرة الشهادتين، لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين، بل شهادة الحواريين هي شهادته بعينها، لأن هذا الروح مع كونه إلهًا متحدًا باللّه اتحادًا حقيقيًا بريًا من النزول والحلول والاستقرار والشكل التي هي من عوارض الجسم والجسمانيات، نزل مثل ريح عاصفة وظهر في أشكال ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم يوم الدار، فكان حالهم كحال من عليه أثر الجن، فكما أن قول الجن يكون قوله في تلك الحالة فكذلك كانت شهادة الروح هي شهادة الحواريين، فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبي المبشر به، فإن شهادته غير شهادة الحواريين‏.‏

‏[‏8‏]‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم‏)‏‏.‏ فعلق مجيئه بذهابه وهذا الروح عندهم نزل على الحواريين في حضوره لما أرسلهم إلى البلاد الإسرائيلية، فنزوله ليس بمشروط بذهابه، فلا يكون مرادًا بفارقليط، بل المراد به شخص لم يستفض منه أحد من الحواريين قبل زمان صعوده، وكان مجيئه موقوفًا على ذهاب عيسى عليه السلام، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم كان كذلك، لأنه جاء بعد ذهاب عيسى عليه السلام، وكان مجيئه موقوفًا على ذهاب عيسى عليه السلام، لأن وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلتين في زمان واحد غير جائز، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعًا لشريعة الأول أو يكون كل من الرسل متبعًا لشريعة واحدة، لأنه يجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد، كما ثبت وجودهم ما بين زمان موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام‏.‏