فصل: الفصل الرابع: في دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق **


الفصل الرابع‏:‏ في دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث

وهي خمس شبهات‏:‏

‏(‏الشبهة الأولى‏)‏ أن رواة الحديث أزواج محمد صلى اللّه عليه وسلم وأقرباؤه وأصحابه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه‏.‏ ‏(‏والجواب‏)‏ أن هذه الشبهة ترد عليهم بأدنى تغير بأن يقال إن رواة الحالات المسيحية وأقواله المندرجة في هذه الأناجيل أم عيسى عليهما السلام وأبوه الجعلي يوسف النجاري وتلاميذه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه، وإن قالوا إنه يحتمل أن إيمان أقارب محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كان لأجل الرياسة الدنيوية، قلت إن هذا الاحتمال ساقط لأنه صلى اللّه عليه وسلم إلى ثلاث عشرة سنة كان في غاية الألم من إيذاء الكفار وأصحابه رضي اللّه عنهم كانوا أيضًا مبتلين بغاية إيذائهم إلى المدة المذكورة حتى تركوا الأوطان وهاجروا إلى الحبشة والمدينة، ولا يتصور أن يتخيل أحد منهم إلى هذه المدة طمع الدنيا، على أن هذا الاحتمال قائم في الحواريين أيضًا لأنهم كانوا مساكين صيادين، وكانوا سمعوا من اليهود أن المسيح يكون سلطانًا عظيم الشأن، فلما ادعى عيسى بن مريم عليهما السلام أنه هو المسيح الموعود آمنوا به وفهموا أنه يحصل لهم باتباعه المناصب الجليلة، وينجون عن مشقة الشبكة والاصطياد ولما وعدهم عيسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏بأني إذا جلست على السرير تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر سريرًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر‏)‏ كما هو مصرح به في الباب التاسع عشر من إنجيل متى‏.‏ وكذا وعدهم‏:‏ ‏(‏أن من ترك لأجلي ولأجل الإنجيل شيئًا يجد مائة ضعف الآن في هذا الزمان ويجد الحياة الأبدية في الدهر الآتي‏)‏، كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل مرقس، وكذا وعد بأشياء أخر، فتيقنوا أنهم يصيرون سلاطين يحكم كل منهم على سبط من أسباط إسرائيل وإن فات منهم شيء لأجل اتباعه يحصل لهم في هذه الدنيا بدله مائة ضعف هذا الشيء، ورسخ في أذهانهم هذا الأمر حتى طلب يعقوب ويوحنا ابنًا زيدي، أو طلبت أمهما - على اختلاف رواية الإنجيلين - منصب الوزارة العظمى بأن يجلس أحدهما على يمين عيسى عليه السلام والآخر على يساره في ملكوته كما هو مصرح به في الباب العشرين من إنجيل متى، والباب العاشر من إنجيل مرقس، لكنهم لما رأوا أنه لم تحصل لهم السلطنة الخيالية ولا مائة ضعف في هذه الدنيا بل لم يحصل له أيضًا شيء من الدولة الدنياوية وهو مسكين كما كان يخاف من اليهود ويفر من موضع إلى موضع، ورأوا أن اليهود في صدد أن يأخذوه ويقتلوه تنبهوا أن فهمهم كان خطأ والمواعيد المذكورة كسراب يحسبه الظمآن ماء، فرضي واحد منهم بدل هذه السلطنة الخيالية وهذه الأضعاف الموهومة بثلاثين درهمًا أخذها من اليهود على شرط تسليمه لهم، وتركه سائرهم حين ما أخذه اليهود وفروا وأنكروه ثلاث مرات، ولعنه أرشد الحواريين وأعظمهم الذي كان مبنى كنيسة وراعي خرافه وخليفته أعني حضرة بطرس، وحلف أني لا أعرفه، وصاروا آيسين مطلقًا من متخيلاتهم بعد ما صلب على زعمهم ثم لما رأوه مرة أخرى بعد القيام رجع رجاؤهم مرة أخرى وظنوا أنهم يصيرون سلاطين في هذه المرة فسألوه مجتمعين في وقت صعوده قائلين‏:‏ هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل، ‏(‏كما هو مصرح به في الباب الأول من كتاب الأعمال‏)‏ وبعد الصعود وقعوا في خيال آخر هو أعظم من السلطنة الدنياوية التي لم تحصل لهم إلى زمان الصعود، وهو أن المسيح ينزل في عهدهم من السماء، وأن القيامة قريبة كما عرفت مفصلًا من الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وأنه بعد نزوله يقتل الدجال ويحبس الشيطان إلى ألف سنة، وأنهم يجلسون على الأسرة بعد نزوله ويعيشون عيشة مرضية إلى المدة المذكورة في هذه الدنيا، كما يفهم من الباب التاسع عشر والعشرين من كتاب المشاهدات، والآية الثانية من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس ثم يحصل لهم السرور الدائمي في الجنة إلى الأبد عند القيامة الثانية، فلأجل هذه الأمور بالغوا في مدحه وتقرير حالاته كما قال الإنجيلي الرابع في آخر إنجيله، ‏(‏إن أشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب‏)‏ ولا شك أنه كذب محض ومبالغة شاعرية قبيحة فكانوا يبالغون بأمثال هذه الأقوال ليوقعوا السفهاء في شبكاتهم حتى ماتوا غير واصلين إلى مرادهم، فلا اعتبار لشهادتهم في حقه، وهذا التقرير على سبيل الإلزام لا الاعتقاد كما صرحت به مرارًا‏.‏ فكما أن هذا الاحتمال في حق عيسى وحواريه الحقة عليهم السلام ساقط فكذلك احتمالهم في حق أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ساقط‏.‏ وقد يشير القسيسون لأجل تغليط العوام إلى ما يتفوه به الفرقة الإمامية الاثني عشرية في حق الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين، والجواب عنه إلزامًا وتحقيقًا هكذا إما إلزامًا فلأن موشيم المؤرخ قال في المجلد الأول من تاريخه‏:‏ ‏(‏إن الفرقة الأبيونية التي كانت في القرن الأول كانت تعتقد أن عيسى عليه السلام إنسان فقط تولد من مريم ويوسف النجار مثل الناس الآخرين وطاعة الشريعة الموسوية ليست منحصرة في حق اليهود فقط، بل تجب على غيرهم أيضًا والعمل على أحكامه ضروري للنجاة‏.‏

ولما كان بولس ينكر وجوب هذا العمل ويخاصمهم في هذا الباب مخاصمة شديدة كانوا يذمونه ذمًا شديدًا ويحقرون تحريراته تحقيرًا بليغًا انتهى‏.‏ وقال لاردنر في الصفحة 376 من المجلد الثاني من تفسيره‏:‏ ‏(‏إن القدماء أخبرونا أن هذه الفرقة كانت ترد بولس ورسائله‏)‏ انتهى‏.‏ وقال بل في تاريخه في بيان هذه الفرقة‏:‏ ‏(‏هذه الفرقة كانت تسلم من كتب العهد العتيق التوراة فقط وكانت تنفر من اسم داود وسليمان وأرمياء وحزقيال عليهم السلام، وكان من العهد الجديد عندها إنجيل متى فقط لكنها كانت حرفته في كثير من المواضع وأخرجت البابين الأولين منه‏)‏ انتهى، وقال في تاريخه في بيان الفرقة المارسيونية‏:‏ ‏(‏إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن الإله إلهان أحدهما خالق الخير وثانيهما خالق الشر وكانت تقول التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الإله الثاني وكلها مخالف للعهد الجديد ثم قال إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن عيسى نزل الجحيم بعد موته وأنجى أرواح قابيل وأهل سدوم من عذابها لأنهم حضروا عنده وما أطاعوا الإله خالق الشر وأبقى أرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصالحين الآخرين في الجحيم، لأنهم كانوا خالفوا الفريق الأول‏.‏ وكانت تعتقد أن خالق العالم ليس منحصرًا في الإله الذي أرسل عيسى، ولذلك ما كانت تسلم أن كتب العهد العتيق إلهامية وكانت تسلم من العهد الجديد إنجيل لوقا فقط لكنها ما كانت تسلم البابين الأولين منه وكانت تسلم من رسائل بولس عشرة رسائل لكنها كانت ترد ما كان مخالفًا لخيالها‏)‏ انتهى‏.‏ ونقل لاردنر في المجلد الثالث من تفسيره قول اكستائن في بيان فرقة ماني كبز هكذا‏:‏ ‏(‏هذه الفرقة تقول أن الإله الذي أعطى موسى التوراة وكلم الأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان من الشياطين، وتسلم بكتب العهد الجديد، لكنها تقر بوقوع الإلحاق فيها وتأخذ ما رضيت به وتترك الباقي وترجح بعض الكتب الكاذبة عليها وتقول إنها صادقة البتة‏)‏ ثم قال لاردنر في المجلد المذكور‏:‏ ‏(‏اتفق المؤرخون أن هذه الفرقة كلها ما كانت تسلم الكتب المقدسة للعهد العتيق في كل وقت‏)‏‏.‏

وكتب في أعمال اركلاس عقيدة هذه الفرقة هكذا‏:‏ ‏(‏خدع الشيطان أنبياء اليهود، والشيطان كلم موسى وأنبياء اليهود وكانت تتمسك بالآية الثامنة من الباب العاشر من إنجيل يوحنا بأن المسيح قال لهم سراق ولصوص وكانت أخرجت العهد الجديد‏)‏ انتهى، وهكذا حال الفرق الأخرى، لكني اكتفيت في نقل مذاهب الفرق الثلاثة المذكورة على عدد التثليث وأقول هل تتم أقوال هذه الفرق على علماء بروتستنت أم لا فإن تمت فيلزم عليهم الاعتقاد بهذه الأمور العشرة‏:‏

‏[‏1‏]‏ أن عيسى عليه السلام إنسان فقط تولد من يوسف النجار‏.‏

‏[‏2‏]‏ وأن العمل على أحكام التوراة ضروري للنجاة‏.‏

‏[‏3‏]‏ وأن بولس شرير ورسائله واجبة الرد‏.‏

‏[‏4‏]‏ وأن الإله إلهان خالق الخير وخالق الشر‏.‏

‏[‏5‏]‏ وأن أرواح قابيل وأهل سدوم حصل لها النجاة من عذاب جهنم بموت عيسى عليه السلام وأرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصلحاء القدماء معذبة في جهنم بعد موته أيضًا‏.‏

‏[‏6‏]‏ وأن هؤلاء كانوا مطيعين للشيطان‏.‏

‏[‏7‏]‏ وأن التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الشيطان‏.‏

‏[‏8‏]‏ وأن الذي كلم موسى والأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان‏.‏

‏[‏9‏]‏ وأن كتب العهد الجديد وقع فيها التحريف بالزيادة‏.‏

‏[‏10‏]‏ وأن بعض الكتب الكاذبة صادقة البتة وإن لم تتم أقوال هذه الفرق عليهم فلا يتم قول بعض الفرق الإسلامية على جمهور أهل الإسلام سيما إذا كان هذا القول مخالفًا للقرآن ولأقوال الأئمة الطاهرين رضي اللّه عنهم أيضًا كما ستعرف‏.‏

وأما الجواب عنه تحقيقًا فلأن القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه فقوله مردود غير مقبول عندهم‏.‏

‏[‏1‏]‏ قال الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه الذي هو من أعظم علماء الإمامية الاثني عشرية في رسالته الاعتقادية‏:‏ ‏(‏اعتقادنا في القرآن أن القرآن الذي أنزل اللّه تعالى على نبيه هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة وعندنا الضحى وألم نشرح سورة واحدة ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب‏)‏ انتهى‏.‏

‏[‏2‏]‏ وفي تفسير مجمع البيان الذي هو تفسير معتبر عند الشيعة‏:‏ ‏(‏ذكر السيد الأجل المرتضى علم الهدى ذو المجد أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي أن القرآن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجموعًا مؤلفًا على ما هو الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم وأنه كان يعرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى اللّه عليه وسلم عدة ختمات، وكل ذلك بأدنى تأمل يدل على أنه كان مجموعًا مرتبًا غير منشور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارًا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته‏)‏ انتهى‏.‏

‏[‏3‏]‏ وقال السيد المرتضى أيضًا‏:‏ ‏(‏إن العلم بصحة القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وبلغت حدًا لم تبلغ إليه فيما ذكرناه لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وعنايته الغاية حتى عرفوا كل شيء فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرًا أو منقوصًا مع العناية الصادقة والضبط الشديد‏)‏ انتهى‏.‏

‏[‏4‏]‏ وقال القاضي نور اللّه الشوستري الي هو من علمائهم المشهورين في كتابه المسمى بمصائب النواصب‏:‏ ‏"‏ما نسب إليه الشيعة الإمامية بوقوع التغير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم‏"‏ انتهى‏.‏

‏[‏5‏]‏ وقال الملا صادق في شرح الكليني‏:‏ ‏(‏يظهر القرآن بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر ويشهر به‏)‏ انتهى‏.‏

‏[‏6‏]‏ وقال محمد بن الحسن الحر العاملي الذي هو من كبار المحدثين في الفرقة الإمامية في رسالة كتبها في رد بعض معاصريه‏:‏ ‏"‏هركسيكه تتبع أخبار وتفحص تواريخ وآثار نموده بعلم يقيني ميداندكه قرآن درغايه وأعلى درجة تواتر بوده وآلاف صحابة حفظ ونقل ميكردندآن راودر عهد رسول خدا صلى اللّه عليه وسلم مجموع ومؤلف بود‏)‏ انتهى‏.‏ فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وأنه كان مجموعًا مؤلفًا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وحفظه ونقله ألوف من الصحابة وجماعة من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدة ختمات ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر رضي اللّه عنه والشرذمة القليلة التي قالت بوقوع التغير‏.‏ فقولهم مردود ولا اعتداد بهم فيما بينهم، وبعض الأخبار الضعيفة التي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته وهو حق لأن خبر الواحد إذا اقتضى علمًا ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده، على ما صرح ابن المطهر الحلي في كتابه المسمى ‏(‏بمبادئ الوصول إلى علم الأصول‏)‏، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏‏.‏ في تفسير الصراط المستقيم الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة ‏(‏أي إنا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان‏)‏‏.‏ انتهى‏.‏ وإذا عرفت هذا فأقول إن القرآن ناطق بأن الصحابة الكبار رضي اللّه عنهم لم يصدر عنهم شيء يوجب الكفر ويخرجهم عن الإيمان‏.‏‏

1- قال اللّه تعالى في سورة التوبة‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم‏}‏ فقال اللّه في حق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أربعة أمور‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ رضوانه عنهم ‏(‏والثاني‏)‏ رضوانهم عنه ‏(‏والثالث‏)‏ تبشيرهم بالجنة ‏(‏والرابع‏)‏ وعد خلودهم فيها، ولا شك أن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذا النورين رضي اللّه عنهم من السابقين الأولين من المهاجرين، كما أن أمير المؤمنين عليًا رضي اللّه عنه منهم فثبت لهم هذه الأمور الأربعة وثبت صحة خلافتهم، فقول الطاعن في الثلاثة رضي اللّه عنهم مردود، كما أن قول الطاعن في حق الرابع رضي اللّه عنه مردود‏.‏‏

2- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضًا‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدًا إن اللّه عنده أجر عظيم‏}‏ فقال اللّه في حق المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أربعة أمور‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ كون درجتهم أعظم عند اللّه ‏(‏والثاني‏)‏ كونهم فائزين بمرادهم ‏(‏والثالث‏)‏ كونهم مبشرين بالرحمة والرضوان والجنات ‏(‏والرابع‏)‏ خلودهم في الجنات أبدًا، وأكد الأمر الرابع غاية التأكيد بثلاث عبارات أعني قوله مقيم، وقوله خالدين فيها أبدًا، وقوله ‏[‏أجر عظيم‏]‏، ولا شك أن الخلفاء الثلاثة رضي اللّه عنهم من المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم، كما أن عليًا رضي اللّه عنه منهم فثبت لهم الأمور الأربعة‏.‏

3- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضًا‏:‏ ‏{‏لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم‏}‏ فقال اللّه في حق المؤمنين المجاهدين أربعة أمور‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ كون الخيرات لهم ‏(‏والثاني‏)‏ كونهم مفلحين ‏(‏والثالث‏)‏ وعد الجنات ‏(‏والرابع‏)‏ خلودهم فيها‏.‏ ولا شك أن الثلاثة رضي اللّه عنهم من المؤمنين المجاهدين فثبت هذه الأمور الأربعة لهم‏.‏

4- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضًا‏:‏ ‏{‏إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيَقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‏.‏ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود اللّه وبشر المؤمنين‏}‏ فوعد اللّه الجنة للمؤمنين المجاهدين وعدًا موثقًا وذكر تسعة أوصاف لهم فثبت أنهم كانوا كذلك ويفوزون بالجنة‏.‏

5- وقال اللّه في سورة الحج‏:‏ ‏{‏الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللَّه عاقبة الأمور‏}‏ فقوله الذين إن مكناهم صفة لمن تقدم وهو قوله الذين أخرجوا، فيكون المراد به المهاجرين لا الأنصار لأنهم ما أخرجوا من ديارهم فوصف اللّه المهاجرين بأنه إن مكنهم في الأرض وأعطاهم السلطنة أتوا بالأمور الأربعة وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قد ثبت أن اللّه مكن الخلفاء الأربعة رضي اللّه عنهم في الأرض، فوجب كونهم آتين بالأمور الأربعة، وإذا كانوا كذلك ثبت كونهم على الحق، وفي قوله للّه عاقبة الأمور دلالة على أن الذي تقدم ذكره من تمكينهم في الأرض كائن لا محالة، ثم إن الأمور ترجع إلى اللّه تعالى بالعاقبة فإنه هو الذي لا يزول ملكه‏.‏

6- وقال اللّه تعالى في سورة الحج‏:‏ ‏{‏وجاهدوا في اللّه حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا باللّه هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير‏}‏ فسمى اللّه في هذه الآية الصحابة بالمسلمين‏.‏

7- وقال اللّه تعالى في سورة النور‏:‏ ‏{‏وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏ ولفظ ‏"‏من‏"‏ في قوله منكم للتبعيض وكم ضمير الخطاب فيدلان على أن المراد بهذا الخطاب بعض المؤمنين الموجودين في زمان نزول هذه السورة لا الكل، ولفظ الاستخلاف يدل على أن حصول ذلك الوعد يكون بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومعلوم أنه لا نبي بعده لأنه خاتم الأنبياء، فالمراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة، والضمائر الراجعة إليهم في قوله ليستخلفنهم إلى قوله لا يشركون وقعت كلها على صيغة الجمع، والجمع حقيقة لا يكون محمولًا على أقل من ثلاثة، فتدل على أن هؤلاء الأئمة الموعود لهم لا يكونون أقل من ثلاثة وقوله ليمكنن لهم إلى آخره وعد لهم بحصول القوة والشوكة والنفاذ في العالم فيدل على أنهم يكونون أقوياء ذوي شوكة، نافذ أمرهم في العالم، وقوله دينهم الذي ارتضى لهم يدل على أن الدين الذي يظهر في عهدهم هو الدين المرضي للّه وقوله ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يدل على أنهم في عهد خلافتهم يكونون آمنين غير خائفين، ولا يكونون في الخوف والتقية، وقوله يعبدونني لا يشركون بي شيئًا يدل على أنهم في عهد خلافتهم أيضًا يكونون مؤمنين لا مشركين‏.‏ فدلت الآية على صحة إمامة الأئمة الأربعة رضي اللّه عنهم سيما الخلفاء الثلاثة أعني أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذا النورين رضي اللّه عنهم، لأن الفتوحات العظيمة والتمكين التام وظهور الدين والأمن الذي كان في عهدهم لم يكن في عهد أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه لاشتغاله بمحاربة أهل الصلاة في عهده الشريف، فثبت أن ما يتفوه به الشيعة في حق الثلاثة رضي اللّه عنهم أو الخوارج في حق عثمان وعلي رضي اللّه عنهما قول غير قابل للالتفات‏.‏

8- وقال اللّه تعالى في سورة الفتح في حق المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صلح الحديبية‏:‏ ‏{‏إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان اللّه بكل شيء عليمًا‏}‏ فقال في حقهم أربعة أمور‏:‏

‏(‏الأول‏)‏ إنهم شركاء للرسول في نزول السكينة‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ إنهم مؤمنون‏.‏ ‏(‏والثالث‏)‏ إن كلمة التقوى لازمة غير منفكة عنهم‏.‏ ‏(‏والرابع‏)‏ إنهم كانوا أحق بكلمة التقوى وأهلها، ولا شك أن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما في هؤلاء المهاجرين فثبت لهما ولسائرهم هذه الأمور الأربعة، ومن اعتقد في حقهم غير هذه فعقيدته باطلة مخالفة للقرآن‏.‏

9- وقال اللّه تعالى أيضًا في سورة الفتح‏:‏ ‏{‏محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من اللّه ورضوانًا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود‏}‏‏.‏ فمدح الصحابة بكونهم أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم وكونهم راكعين، وساجدين، ومبتغين فضل اللّه ورضوانه، فمن اعتقد من مدعي الإسلام في حقهم غير هذا فهو مخطئ‏.‏

10- وقال اللّه تعالى في سورة الحجرات‏:‏ ‏{‏ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون‏}‏‏.‏ فعلم أن الصحابة كانوا محبي الإيمان كارهي الكفر والفسق والعصيان وكانوا راشدين، فاعتقاد ضد هذه الأشياء في حقهم خطأ‏.‏

11- وقال اللّه تعالى في سورة الحشر‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من اللّه ورضوانًا، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏

فمدح اللّه المهاجرين والأنصار بستة أوصاف‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ أن هجرة هؤلاء المهاجرين ما كانت لأجل الدنيا بل كانت لأجل ابتغاء مرضات اللّه‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ أنهم كانوا ناصرين لدين اللّه ورسوله‏.‏ ‏(‏والثالث‏)‏ أنهم كانوا صادقين قولًا وفعلًا‏.‏ ‏(‏والرابع‏)‏ أن الأنصار كانوا يحبون من هاجر إليهم‏.‏ ‏(‏والخامس‏)‏ إنهم كانوا يسرون إذا حصل شيء للمهاجرين‏.‏ ‏(‏والسادس‏)‏ أنهم كانوا يقدمونهم على أنفسهم مع احتياجهم، وهذه الأوصاف الستة تدل على كمال الإيمان ومن اعتقد في حقهم غير هذا فهو مخطئ وهؤلاء الفقراء من المهاجرين كانوا يقولون لأبي بكر رضي اللّه عنه يا خليفة رسول اللّه واللّه يشهد على كونهم صادقين فوجب أن يكونوا صادقين في هذا القول أيضًا ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته‏.‏

12- وقال اللّه تعالى في سورة آل عمران‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه‏}‏‏.‏

فمدح اللّه الصحابة بثلاثة أوصاف‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ أنهم خير أمة‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏.‏ ‏(‏والثالث‏)‏ أنهم كانوا مؤمنين باللّه، وهكذا الآيات الأخر لكني لخوف التطويل أكتفي على اثني عشر موضعاُ على عدد الحواريين لعيسى عليه السلام وعدد الأئمة الطاهرين الاثني عشر رضي اللّه عنهم أجمعين‏.‏

وأنقل خمسة أقوال من أقوال أهل البيت عليهم السلام على عدد الخمسة الطاهرين عليهم السلام‏.‏

-‏[‏1‏]‏ في نهج البلاغة الذي هو كتاب معتبر عند الشيعة قول علي رضي اللّه عنه هكذا‏:‏ ‏(‏للَّه در فلان فلقد 1‏:‏ قوم الأود، 2‏:‏ وداوي العمد، 3‏:‏ وأقام السنة، 4‏:‏ وخلف البدعة، 5‏:‏ ذهب نقي الثوب، 6‏:‏ قليل العيب، 7‏:‏ أصاب خيرها، 8‏:‏ وسبق شرها، 9‏:‏ أدى إلى اللّه طاعته، 10‏:‏ واتقاه بحقه رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيه الضال ويستيقن المهتدي‏)‏ انتهى‏.‏

والمراد بفلان على مختار أكثر الشارحين منهم البحراني، أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وعلى مختار بعض الشارحين عمر الفاروق رضي اللّه عنه، فذكر علي رضي اللّه عنه عشرة أوصاف من أوصاف أبي بكر أو عمر رضي اللّه عنه فلا بد من وجودها، ولما ثبتت هذه الأوصاف له بعد مماته بإقرار علي رضي اللّه عنه فما بقي في صحة خلافته شك‏.‏

-‏[‏2‏]‏ وفي كشف الغمة الذي هو تصنيف علي بن عيسى الأردبيلي الاثني عشري الذي هو من الفضلاء المعتمدين عند الإمامية ‏(‏سئل الإمام جعفر عليه السلام عن حلية السيف هل يجوز، فقال‏:‏ نعم قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، فقال الراوي‏:‏ أتقول هكذا، فوثب الإمام عن مكانه فقال‏:‏ نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق - فمن لم يقل له الصديق فلا صدق اللّه قوله في الدنيا والآخرة‏)‏‏.‏ فثبت بإقرار الإمام الهمام أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه صديق حق، منكره كاذب في الدنيا والآخرة‏.‏

-‏[‏3‏]‏ ووقع في بعض مكاتيب علي رضي اللّه عنه على ما نقل شارحو نهج البلاغة في حق أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما هكذا‏:‏ ‏(‏لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم وإن المصاب بهما لحرج في الإسلام شديد، رحمهما اللّه وجزاهما اللّه بأحسن ما عملا‏)‏‏.‏

-‏[‏4‏]‏ ونقل صاحب الفصول الذي هو من كبار علماء الإمامية الاثني عشرية عن الإمام الهمام محمد الباقر رضي اللّه عنه هكذا‏:‏ ‏(‏إنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان ألا تخبروني أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من اللّه ورضوانًا وينصرون اللّه ورسوله‏.‏ قالوا‏:‏ لا - قال‏:‏ فأنتم من الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم‏.‏ قالوا‏:‏ لا - قال‏:‏ أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم‏}‏‏.‏

فالخائض في الصديق والفاروق وذي النورين رضي اللّه عنهم خارج عن الفرق الثلاث الذين مدحهم اللّه بشهادة الإمام الهمام رضي اللّه عنه‏.‏ وفي التفسير المنسوب إلى الإمام الهمام الحسن العسكري رضي اللّه عنه وعن آبائه الكرام‏:‏ ‏(‏إن اللّه أوحى إلى آدم ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآل محمد وأصحاب محمد ما لو قسمت على كل عدد ما خلق اللّه من طول الدهر إلى آخره وكانوا كفارًا لأداهم إلى عاقبة محمودة وإيمان باللّه حتى يستحقوا به الجنة‏.‏ وإن من يبغض آل محمد وأصحابه أو واحدًا منهم يعذبه اللّه عذابًا لو قسم على مثل خلق اللّه لأهلكهم أجمعين‏)‏‏.‏

فعلم أن المحبة ما يكون بالنسبة إلى الآل والأصحاب رضي اللّه عنهم لا بالنسبة إلى أحدهما وإن بغض واحد من الآل والأصحاب كاف للهلاك‏.‏ نجانا اللّه من سوء الاعتقاد في حق الصحابة والآل رضوان اللّه عليهم أجمعين وأماتنا على حبهم، ونظرًا إلى الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة اتفق أهل الحق على وجوب تعظيم الصحابة رضي اللّه عنهم‏.‏‏

‏(‏الشبهة الثانية‏)‏ أن مؤلفي كتب الحديث ما رأوا الحالات المحمدية والمعجزات الأحمدية بأعينهم وما سمعوا أقوال محمد صلى اللّه عليه وسلم منه بلا واسطة بل سمعوها بالتواتر بعد مائة سنة أو مائتي سنة من وفاة محمد صلى اللّه عليه وسلم وجمعوها وأسقطوا مقدار نصفها لعدم الاعتبار‏.‏

‏(‏والجواب‏)‏ قد عرفت في الفصل الثالث أن الرواية اللسانية معتبرة عند جمهور أهل الكتاب واعتبارها ثابت من هذا الإنجيل المتداول، وأن فرقة بروتستنت تحتاج إلى اعتبارها في أمور كثيرة هي على إقرار ‏(‏ماني سيك‏)‏ الأسقف بمقدار ستمائة، وأن خمسة أبواب من سفر الأمثال جمعت من الروايات اللسانية، في عهد حزقيا بعد مدة مائتين وسبعين سنة من موت سليمان عليه السلام، وأن إنجيل مرقس ولوقا وتسعة عشر بابًا من كتاب الأعمال كتبت بالرواية اللسانية وأن الأمر المهتم بشأنه يكون محفوظًا ولا يتطرق فيه خلل بمرور مدة، وأن التابعين كانوا شرعوا في تدوين الأحاديث في الكتب لكنهم دونوها على غير ترتيب أبواب الفقه، وأن طبقة تبع التابعين دونوها على ترتيبها، ثم إن البخاري وباقي مؤلفي الكتب الصحاح اقتصروا على ذكر الأحاديث الصحيحة وتركوا الضعاف وروى كل من أصحاب الصحاح الأحاديث بالإسناد منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ وقد صُنف في أسماء الرجال فن عظيم الشأن يعلم به حال كل راوٍ من رواة الحديث، وكذا قد عرفت أن أهل الإسلام كيف يعتبرون الحديث الصحيح فلا يرد عليهم شيء، وقولهم سمعوها بالتواتر وأسقطوا مقدار النصف لعدم الاعتبار غلط لأنهم ما أسقطوا لعدم الاعتبار حديثًا من الأحاديث التي سمعوها بالتواتر لأن الحديث المتواتر عندهم واجب الاعتبار، نعم تركوا الضعاف التي لم تكن أسانيدها كاملة وتركها لا يضر كما قد عرفت‏.‏

في الباب الثاني من قول آدم كلارك‏:‏ ‏(‏إن هذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية وكثرة هذه الأحوال الكاذبة الغير الصحيحة هيجت لوقا على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية وكان ‏(‏ثابري سيوس جمع‏)‏ هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاث مجلدات‏)‏ انتهى‏.‏‏

‏(‏الشبهة الثالثة‏)‏ إن كل عاقل إذا ترك التعصب علم أن أكثر الأحاديث لا يمكن أن يكون معانيها صادقة مطابقة لما في نفس الأمر‏.‏

‏(‏والجواب‏)‏ لا يوجد في الأحاديث الصحيحة شيء يكون مضمونه ممتنعًا عند العقل، وأما بعض المعجزات التي هي خلاف العادة، وبعض أحوال الجنة والجحيم والملائكة التي لا يوجد لها نظائر في هذه الدنيا فإن كان استبعادهم لها لأجل أنها ممتنعة بالبرهان فعليهم ذكر هذا البرهان وعلينا جوابه، وإن كان لأجل أنها خلاف العادة أو لا يوجد لها نظائر في هذا العالم فلا يضرنا لأن المعجزة لو كانت على مجرى العادة لا تكون معجزة، أليس صيرورة العصا ثعبانًا وابتلاعها جميع تنانين السحرة ثم صيرورتها كما كانت بلا زيادة حجم، وهكذا جميع معجزات موسى عليه السلام على خلاف مجرى العادة، وقياس العالم الآخر على هذا العالم قياس مع الفارق، نعم لو قام البرهان القطعي على امتناع شيء يقطع بامتناعه في العالم الآخر أيضًا، وبدون قيام البرهان، لا يتجاسر على إنكاره في العالم الآخر، ألا يرون إلى اختلاف أحوال الأقاليم فإن بعض الأشياء توجد في بعض دون بعض، فمن كان من إقليم وسمع حال بعض الأشياء العجيبة المختصة بإقليم آخر يستبعد، بل كثيرًا ما ينكر بشرط أن لا يكون سماعه بالتواتر‏.‏

وقد يكون بعض الأمور مستبعدة في بعض الأحيان دون بعض كما أن قطع هذه المسافة البحرية بهذه السرعة التي تقطع بالمراكب الدخانية، أو البرية التي تقطع بالعربيات الدخانية كان من المستبعدات عند الناس قبل إيجاد المراكب الدخانية، والعربيات الدخانية وكذا وصول الخبر في دقيقة أو دقيقتين إلى مسافة بعيدة بواسطة السلك المعروف كان من المستبعدات قبل إيجاده وما بقيت مستبعدة بعد اختراع هذه الأشياء وامتحانها‏.‏

لكن الإنصاف أن عادة المنكرين أنهم يغمضون عين الإنصاف ويحكمون على كل شيء يرى مستبعدًا في آرائهم أنه محال، وتعلم علماء بروتستنت هذه العادة من أبناء صنفهم الذين يسمونهم الملاحدة، لكن العجيب من هؤلاء العلماء أنهم لا يرون أن كتبهم مملوءة بالأغلاط الصريحة كما نقلت بعضها على سبيل الأنموذج في الفصل الثالث من الباب الأول وأنهم ما تنبهوا باستبعادات أبناء صنفهم وعاملوا المسلمين بما عاملتهم أبناء صنفهم وقد كانت استبعادات أبناء صنفهم غالبًا أقوى من استبعاداتهم الناقصة، وأنا أنقل بعض المواضع من المواضع التي يستهزؤون بها ويستبعدونها‏.‏‏.‏ مثلًا‏:‏

‏[‏1‏]‏ وقع في الباب الثاني والعشرين من كتاب العدد هكذا‏:‏ 28‏:‏ ‏(‏ففتح الرب فم الأتانة وقالت لبلعام‏:‏ ما الذي فعلت بك هذه ثلاث مرات قد ضربتني‏)‏ 29‏:‏ ‏(‏فقال بلعام للأتان‏:‏ لأنك استأهلت ذلك مني إلخ‏)‏ 30‏:‏ ‏(‏فقالت الأتانة لبلعام‏:‏ لست أنا أتانك التي تركب منذ كنت غلامًا إلى يومك هذا فهل فعلت بك مثل هذا فقال‏:‏ لا‏)‏‏.‏

قال هورن في الصفحة 636 من المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة 1822‏:‏ ‏(‏إن الكفار من زمان قليل يستهزؤون بتكلم أتان بلعام‏)‏ انتهى‏.‏

‏[‏2‏]‏ ووقع في الباب السابع عشر من سفر الملوك الأول أن الغربان 2 كانت تجيب اللحم والخبز لإلياء الرسول إلى مدة وهذا الأمر ضحكة عند أبناء صنفهم حتى مال محققهم المشهور هورن إلى رأيهم وسفه مفسريهم ومترجميهم بوجوه ثلاثة كما عرفتها في الفصل الثالث من الباب الأول‏.‏

‏[‏3‏]‏ ووقع في الباب الرابع من كتاب حزقيال هكذا وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844‏:‏ ‏[‏4‏]‏‏:‏ ‏(‏وأنت تنام على جانبك الأيسر وتجعل آثام بيت إسرائيل عليها على عدد أيام ترقد عليها وتتخذ إثمهم ‏[‏5‏]‏ أما أنا أعطيتك سني آثامهم على عدد أيام ثلثمائة وتسعين يومًا وتحمل إثم آل إسرائيل‏)‏ 6‏:‏ ‏(‏ثم إذا كملت هذا تنام على جانبك اليمين ثانية وتتخذ إثم آل يهوذا أربعين يومًا إن يومًا عوض سنة جعلته لك‏)‏ 7‏:‏ ‏(‏وتقبل بوجهك إلى محاصرة أورشليم وذراعك تكون مشدودة وتبني عليها‏)‏ 8‏:‏ ‏(‏هوذ شددتك بوثاق ولا تلتفت من جانبك إلى الجانب الآخر حتى تتم أيام محاصراتك‏)‏ 9‏:‏ ‏(‏وأنت خذ لك حنطة وشعيرًا وفولًا وعدسًا ودخنًا وجاروس وتجعلهن في إناء واحد وتخبز لك خبزًا على عدد الأيام التي ترقد فيها على جانبك ثلثمائة وتسعين يومًا تأكله‏)‏ 10‏:‏ ‏(‏وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن عشرين مثقالًا في كل يوم من وقت إلى وقت تأكله‏)‏ 11‏:‏ ‏(‏وتشرب ماء بمقدار السدس من القسط من وقت إلى وقت تشربه‏)‏ 12‏:‏ ‏(‏وكخبز ملة من شعير تأكله وتلطخه بزبل يخرج من الإنسان في عيونهم‏)‏‏.‏

فأمر اللّه حزقيال عليه السلام بثلاثة أحكام‏:‏

‏(‏الأول‏)‏ أن يرقد على جانبه الأيسر ثلثمائة وتسعين يومًا ويحمل إثم آل إسرائيل ثم يرقد على جانبه الأيمن أربعين يومًا ويحمل إثم آل يهوذا‏.‏

‏(‏والثاني‏)‏ أن يقبل بوجهه إلى محاصرة أورشليم ويكون ذراعه مشدودة ولا يلتفت من جانب إلى جانب آخر حتى تتم أيام المحاصرة‏.‏

‏(‏والثالث‏)‏ أن يأكل إلى ثلثمائة وتسعين يومًا خبزًا ملطخًا ببراز الإنسان وأبناء صنفهم يستهزئون بهذه الأحكام ويستبعدون أن تكون من جانب اللّه، ويقولون إنها واهية بعيدة عن العقل ولا يأمر اللّه أن يأكل نبيه المقدس إلى مدة ثلثمائة وتسعين يومًا خبزًا ملطخًا ببراز الإنسان، أما كان الإدام غير هذا، إلا أن يقال إن البراز في حق الطاهرين يكون طاهرًا كما يفهم من ظاهر كلام مقدسهم بولس في الآية الخامسة عشرة من الباب الأول من رسالته إلى تيطس، على أن اللّه قد أخبر بواسطته ‏(‏إن النفس التي تخطئ فهي تموت والابن لا يحمل إثم الأب والأب لا يحمل إثم الابن، وعدل العادل يكون عليه ونفاق المنافق يكون عليه‏)‏ كما هو مصرح به في الآية العشرين من الباب الثامن عشر من كتابه، فكيف أمره أن يحمل آثام إسرائيل ويهوذا إلى أربعمائة وثلاثين يومًا‏.‏

‏[‏4‏]‏ ووقع في الباب العشرين من كتاب أشعيا أن اللّه أمره ان يكون عريانًا حافيًا إلى ثلاث سنين ويمشي على هذه الحالة وأبناء صنفهم يستهزئون بهذا الحكم ويقولون استهزاءً، يأمر اللّه نبيه الذي يكون في قيد العقل ولا يكون مجنونًا أن يمشي مكشوف العورة الغليظة بين النساء والرجال إلى ثلاث سنين‏.‏

‏[‏5‏]‏ ووقع في الباب الأول من كتاب هوشع أن اللّه أمره أن يأخذ لنفسه زوجة زانية وأولاد الزنا، ثم وقع في الباب الثالث من الكتاب المذكور أن يتعشق بامرأة فاسقة محبوبة لزوجها، وقد وقع في الآية الثالثة عشرة من الباب الحادي والعشرين من سفر الأحبار هكذا‏:‏ ‏(‏ولا يتزوج الكاهن إلا امرأة عذراء ولا يتزوج أرملة ولا مطلقة ولا منجسة بالزنا فلا يتزوج من هؤلاء البتة بل يتزوج عذراء من قومه‏)‏‏.‏

وفي الباب الخامس من إنجيل متى هكذا‏:‏ ‏(‏كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه‏)‏ فكيف أمر اللّه نبيه بما ذكر، وهكذا استبعادات أخر فمن شاء فليرجع إلى كتب أبناء صنفهم‏.‏‏

‏(‏الشبهة الرابعة‏)‏ الأحاديث الكثيرة مخالفة للقرآن لأنه وقع في القرآن أن محمدًا صلى اللّه عليه وسلم ما ظهر منه معجزة وفي الأحاديث أنه صدر منه معجزات كثيرة وأنه وقع في القرآن أن محمدًا صلى اللّه عليه وسلم كان مذنبًا، وفي أكثر الأحاديث أنه كان معصومًا، وأنه وقع في القرآن أن محمدًا صلى اللّه عليه وسلم كان في الابتداء في الجهل والضلالة كقوله في سورة الضحى‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالًا فهدى‏}‏ وكقوله في سورة الشورى‏:‏ ‏{‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا‏}‏ وفي الأحاديث أنه تولد في الإيمان ولذلك ظهرت منه معجزات كثيرة‏.‏ هذا غاية جهدهم في إثبات المخالفة بين القرآن والأحاديث‏.‏

‏(‏والجواب‏)‏ أن الأمرين الأولين لما كانا من أعظم مطاعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أردت أن أتعرض لهما في الباب السادس في المطاعن وأجيب عنهما هناك فانتظر‏.‏

‏(‏والجواب عن الثالث‏)‏ أن الضال في الآية الأولى ليس المراد به الضال عن الإيمان ليكون بمعنى الكافر فيرد اعتراضهم بل في تفسير هذه الآية وجوه‏:‏

‏(‏الأول‏)‏ ما روي مرفوعًا أنه عليه الصلاة والسلام قال ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع وكاد الجوع يقتلني فهداني اللّه‏.‏

‏(‏والثاني‏)‏ أن معناها وجدك ضالًا عن شريعتك أي لا تعرفها إلا بإلهام أو وحي فهداك إليها تارة بالوحي الجلي وأخرى بالخفي وهو مختار البيضاوي والكشاف والجلالين‏.‏ في البيضاوي ووجدك ضالًا عن علم الحكم والأحكام فهدى، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر وجاء بهذا المعنى في حق موسى عليه السلام أيضًا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعلتها إذًا وأنا من الضالين‏}‏‏.‏

‏(‏والثالث‏)‏ أنه يقال ضل الماء في اللبن إذ صار مغمورًا، فمعنى الآية كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك اللّه تعالى حتى أظهرت دينه‏.‏ وجاء بهذا المعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد‏}‏‏.‏

‏(‏والرابع‏)‏ أن معناها كنت ضالًا عن النبوة ما كنت تطمع ولا خطر شيء في قلبك منها، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها البتة‏.‏

‏(‏والخامس‏)‏ أن معناها وجدك ضالًا عن الهجرة لعدم نزول الإذن فهداك بالإذن‏.‏

‏(‏والسادس‏)‏ أن العرب تسمي الشجرة في الفلاة ضالة كأنه تعالى يقول كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان إلا أنت فأنت شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالًا فهديت بك الخلق ونظيره قوله عليه السلام الحكمة ضالة المؤمن‏.‏

‏(‏والسابع‏)‏ أن معناها وجدك ضالًا عن القبلة فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك يحصل له أم لا فهدى اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏فلنولينك قبلة ترضاها‏}‏ فكأنه سمى ذلك التحير بالضلال‏.‏

‏(‏والثامن‏)‏ الضلال بمعنى المحبة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك لفي ضلالك القديم‏}‏ أي محبتك ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك‏.‏

‏(‏والتاسع‏)‏ أن معناها وجدك ضالًا أي ضائعًا في قومك كانوا يؤذونك ولا يرضون بك رعية فقوى أمرك وهداك إلى أن صرت واليًا عليهم‏.‏‏.‏

‏(‏والعاشر‏)‏ أن معناها ما كنت تهتدي على طريق السماوات فهديتك إذ عرجت بك إليها ليلة المعراج‏.‏

‏(‏والحادي عشر‏)‏ أن معناها وجدك ضالًا أي ناسيًا فهدى أي ذكرك وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة فهداه اللّه تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال لا أحصي ثناء عليك وجاء الضلال بهذا المعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تضل إحداهما‏}‏‏.‏

‏(‏والثاني عشر‏)‏ قال الجنيد قدس سره‏:‏ وجدك متحيرًا في بيان ما أنزل عليك فهداك لبيانه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه‏}‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علمًا‏}‏‏.‏

وعلى كل تقدير لا تمسك لهم بهذه الآية ويجب تفسير الآية بالوجوه التي ذكرتها وبأمثالها التي ذكرها المفسرون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ضل صاحبكم وما غوى‏}‏ إذ المراد به نفي الضلالة والغواية في أمور الدين بلا شبهة ومعناه ما كفر ولا أقل من ذلك فما فسق‏.‏

والمراد في الآية الثانية بالكتاب القرآن وبالإيمان تفاصيل شرائع الإسلام‏.‏ ومعنى الآية ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا الفرائض والأحكام، وهذا حق لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان قبل الوحي مؤمنًا بتوحيد الرب إجمالًا وما كان عارفًا بتفاصيل الإسلام بل صار عارفًا بعد الوحي أو المراد بالإيمان الصلاة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان اللّه ليضيع إيمانكم‏}‏ أي صلاتكم فمعنى الآية ما كنت تدري ما الكتاب أي القرآن ولا الإيمان أي الصلاة وما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عالمًا بكيفية هذه الصلاة المشروعة في ملته قبل النبوة أو المراد بالإيمان أهل الإيمان على حذف المضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن بك‏.‏

وحذف المضاف كثير في كتبهم المقدسة أيضًا، الآية الثانية والعشرون من الزبور الثامن والسبعين هكذا‏:‏ ‏(‏من أجل ذلك سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب وطلع السخط على إسرائيل‏)‏‏.‏

وفي الآية الرابعة من الباب السابع عشر من كتاب أشعيا هكذا‏:‏ ‏(‏يضعف مجد يعقوب ويهزل سمن جسمه‏)‏‏.‏

وفي الباب الثالث والأربعين من كتاب أشعيا هكذا‏:‏ 22‏:‏ ‏(‏لا دعوتني يعقوب ولن تتعب لأجلي إسرائيل‏)‏ 28‏:‏ ‏(‏فنجست الرؤساء القديسين وجعلت يعقوب قتلًا وإسرائيل تجديفًا‏)‏‏.‏

وفي الباب الثالث من كتاب أرمياء هكذا‏:‏ 6‏:‏ ‏(‏وقال لي الرب في أيام يوسيا الملك هل رأيت ما فعلته معاصية إسرائيل انطلقت لنفسها إلى كل جبل رفيع وتحت كل شجرة مورقة وزنت هناك‏)‏ 7‏:‏ ‏(‏فقلت بعد ما فعلت هذه جميعها ارجعي إلي ولم ترجع فرأت أختها يهوذا الفاجرة‏)‏ 8‏:‏ ‏(‏لأن من أجل أن زنت إسرائيل المعاصية فأنا طلقتها ودفعت إليه كتاب طلاقها فلم تخف يهوذا أختها الفاجرة بل ذهبت وزنت هي أيضًا‏)‏ 11‏:‏ ‏(‏وقال لي الرب قد بررت نفسها إسرائيل المعاصية بمقابلة يهوذا الفاجرة‏)‏ 12‏:‏ ‏(‏ارجعي يا إسرائيل المعاصية‏)‏ وفي الباب الرابع من كتاب هوشع هكذا‏:‏ 15‏:‏ ‏(‏إن كنت يا إسرائيل أنت تزني فلا يأثم يهوذا‏)‏ إلخ 16‏:‏ ‏(‏لأن إسرائيل كبقرة شاغبة‏)‏ إلخ 17‏:‏ ‏(‏صاحب الأوثان إفرام‏)‏ إلخ وفي الباب الثامن من كتاب هوشع هكذا‏:‏ 3‏:‏ ‏(‏أرذل إسرائيل الخير‏)‏ إلخ 8‏:‏ ‏(‏ابتلع إسرائيل الآن صار في الأمم كإناء نجس إفرام أكثر مذابح للخطية‏)‏ إلخ، ‏(‏ونسي إسرائيل خالقه‏)‏ إلخ‏.‏

ففي هذه العبارات يجب حذف المضاف وإلا يلزم والعياذ باللّه أن يكون يعقوب عليه السلام مغضوبًا عليه وضعيف المجد وغير داع للّه وقتلًا وتجديفًا ومعاصية زانية تحت كل شجرة وغير راجع إلى اللّه وكبقرة شاغبة ومرذل الخير وكإناء نجس وناسيًا لخالقه‏.‏‏

‏(‏الشبهة الخامسة‏)‏ الأحاديث مختلفة‏.‏

‏(‏والجواب‏)‏ أن الاعتبار عندنا للأحاديث الصحيحة المروية في كتب الصحاح والأحاديث التي هي مروية في كتب غير معتبرة لا اعتبار لها عندنا ولا تعارض الصحيحة كما أن الأناجيل الكثيرة الزائدة على السبعين في القرون الأولى لا تعارض عند المسيحيين هذه الأناجيل الأربعة‏.‏

والاختلاف الذي يوجد في الأحاديث الصحيحة يرتفع غالبًا بأدنى تأويل وليس ذلك الاختلاف مثل الاختلاف الذي يوجد في روايات كتبهم المقدسة إلى الآن كما عرفت مائة وأربعة وعشرين منها في الباب الأول ولو نقلنا عن كتبهم المقبولة الاختلافات التي تكون مثل اختلاف يثبتونه في بعض الأحاديث الصحيحة قلما يخرج باب يكون خاليًا عن مثل هذا الاختلاف‏.‏

والذين تسميهم علماء بروتستنت ملاحدة نقلوا كثيرًا من هذه الاختلافات في كتبهم واستهزؤوا بها، فمن شاء فليرجع إلى كتبهم‏.‏‏