فصل: البحث الأول: في الحكم وأقسامه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب اللباب في بيان ما تضمنته أبواب الكتاب من الأركان والشروط والموانع والأسباب



بسم الله الرحمن الرحيم

.مقدمة المؤلف:

قال الشيخ الفقيه الإمام العالم المتقن الورع، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد البكري المالكي رضي الله عنه:
الحمد لله الذي منَّ علينا بكتابه العزيز وشرفنا به، ووفقنا لتلاوته ولفهم معانيه، وأرشدنا لامتثال أوامره واجتناب نواهيه، نحمده جل وعلا لكماله وأفضاله، ونشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأخيار، وصحبه السادة الأبرار، ما هطلت الأنوار، وما تعاقب الظلام والضياء، بعث صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وسراجًا منيرًا للهادين المهتدين، فألفى الناس بددًا فوضًا عيونًا عمياء وقلوبًا مرضى، فأوضح المشكلات، وأزال الشبهات، وبين الحلال والحرام، وأزاح عن القلوب الغمة بعد أن تمكن منها الداء العضال، ولما بلغ الرسالة وأدى الأمانة، رفعه الله تعالى إلى محل أنسه، وأسكنه في حضرة قدسه، جمع الله شملنا به في ذلك المقام، ورزقنا عملاً صالحًا نتوصل به إلى دار السلام.
ولم يورث صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورث العلم وحض عليه، وقال: «تعلموا العلم وعلموه الناس، فإني لم أبعث إلا معلمًا».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث...»، فذكر منها: «علمًا ينتفع به».
وقال صلى الله عليه وسلم: «بين العالم والعابد مائة درجة تطوى بالجواد المضمر سبعين سنة».
وفي حديث يقول الله تعالى يوم القيامة: «يا معشر العلماء، إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم».
وسمعت الشيخ ناصر الدين رحمه الله تعالى يقول: أبو السيادة أفضل من أبي الولادة، فإن الله تعالى أمر آدم عليه السلام أن يعلم الملائكة الأسماء، فلما علمهم حصل له عليهم فضل المعلم على المتعلم، فأمرهم بالسجود له، قال: فأمر بالسجود لأب الإفادة ولم يأمر به لأب الولادة، فدل على أن أب الإفادة أفضل.
وقال القاضي سند رحمه الله تعالى: لو لم يكن للعلم فضيلة إلا كونه شرطًا للإلوهية فمن ليس بعالم ليس بإله.
وقد رجوت من الله أن يحشرني مع العلماء، وأن أضرب في أجورهم بوفر أو أحظى منه ولو بمثل قلامة ظفر، فإن الله تعالى أجرى على يدي تصانيف في فنون شتى تقرب من الستين مجلدًا في القالب الصغير، وقد سار ذكرها بحمد الله في المشرق والمغرب، ووصل إلى أناس من جهات برسم نسخها، ولما رأيت نهار الشيب قد تجلى، وليل الشباب شمر ذيله فرقًا وولى، رغبت في وسيلة أختم به عملي وأنتفع بها إن شاء الله تعالى عند حلول أجلي، فوضعت هذا المختصر ورتبته ترتيبًا لم أسبق إليه، لينتفع به المبتدى ويستبصر به المنتهي، وسميته: (لُبابُ اللباب في بيان ما تضمنته أبواب الكتاب من الأركان والشروط والموانع والأسباب).
ورجوت أن ينتشر انتشار الخبر المتواتر، وأن يستوي في طلبه البادي والحاضر، لعلي أنال دعوة بسببه من رجل صالح يمحو الله تعالى بها زلتي ويبلغني منه أملي، والله تعالى المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ولنقدم قبل الخوض في الكلام أربعة أبحاث:

.البحث الأول: في الحكم وأقسامه:

والحكم: خطاب الله تعالى القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، واحترزنا بالقديم عن نصوص أدلة الحكم، فإنها حادثة وليست بحكم، وإلا لاتحد الدليل والمدلول، ويدخل في الاقتضاء اقتضاء الوجود، إما مع الجزم، وهو الوجوب، وإما عدمه، وهو الندب واقتضاء العدم، إما مع الجزم وهو الحرمة، وإما مع عدمه وهو الكراهة والتسوية بين الطرفين إباحة.
فالواجب: هو الذي يذم تاركه شرعًا، ويثاب فاعله، ويسمى فرضًا وحتمًا ولازمًا.
والمندوب: هو الذي يثاب فاعله ولا يذم تاركه، فإن كثرت أجوره وفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الجماعات وواظب عليه سمي سنة، وإن قلت أجوره ولم يفعله في الجماعات سمي نافلة، وإن توسط بين القسمين سمي فضيلة.
والحرام: ما يذم فاعله ويحمد تاركه إن نوى بتركه امتثال الأمر.
والمكروه: هو الذي يحمد تاركه ولا يذم فاعله.
والمباح: هو ما لا يحمد فاعله ولا يذم تاركه، فإن نوى بفعله وجه الله تعالى كمن وطئ زوجته ليحصنها وليستدل بكمال تلك اللذة على كمال قدرة الله أثيب، وكذلك إذا أكل قصدًا ليتقوى على العبادة.
وبالجملة: فكل مباح أو ترك حرام أو مكروه أريد بفعله أو تركه وجه الله تعالى فإنه يثاب عليه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «نية المؤمن أبلغ من عمله».
ثم الخطاب قسمان: خطاب تكليف، وهو الأحكام الخمسة المذكورة، وخطاب وضع، وهو خمسة أيضًا: نصب الأسباب، والشروط، والموانع، والتقديرات، والحجج.
فالسبب: هو الذي يلزم من وجوده وجود الحكم ومن عدمه عدمه من حيث هو سبب وهو مناسب في نفسه، وذلك كالزوال في الصلاة والنصاب في الزكاة.
والشرط: هو الذي يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده شيء من حيث هو شرط ومناسبته في غيره، وذلك كالطهارة في الصلاة والحول في الزكاة.
ثم الشرط أربعة أقسام: شرعي كالطهارة والستارة، وعقلي كالحياة مع العلم، وعادي كالغذاء للحيوان، ولغوي كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق.
والمانع: هو الذي يلزم من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمه شيء من حيث هو مانع، كالنجاسة بالنسبة إلى الصلاة، والدين بالنسبة إلى الزكاة.
والتقدير: هو إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود.
والأول: كوجود الماء عند المريض الذي لا يقدر على الوضوء به.
والثاني: كقول الرجل: أعتق عبدك عني، فأعتقه عنه، فولاء العبد للمعتق عنه، ويقدر أنه دخل في ملكه عتقه ليصح ولاؤه، ولا يكاد باب من أبواب الفقه يخلو عنه، لاسيما باب السلم، فإنك تقول: في ذمة فلان لفلان كذا من قمح مثلاً، والذمة معنى كلي يقبل الإلزام والالتزام، والأجسام لا تثبت في المعاني، فذلك من باب التقدير.
والحجاج: البينة والإقرار إذا قامت بينة عند القاضي، فإنه يجب عليه الحكم بها وهي في الحقيقة راجعة إلى السبب.
إذا تقرر هذا، فكل ما كان من الأحكام التكليفية له سبب وشرط ومانع، فإنه يوجد عند وجود سببه وشرطه وانتفاء مانعه، ويعدم عند عدم سببه وشرطه ووجود مانعه وما يقع من خلاف في إحدى الصور، فالخلاف في سببية السبب أو شرطية الشرط أو مانعية المانع، وقد يتفق على سببية السبب وشرطية الشرط، ويختلف هل وقع ذلك في محل النزاع أو لا، وعن هذا يعبر ابن بشير بأن الخلاف في شهادة. وإذا تأملت ذلك ظهر لك سبب الاتفاق والاختلاف، فاحتفظ بهذا الأصل فإنه جيد جدًا.

.البحث الثاني: في الأحكام الخمسة:

اعلم – وفقنا الله وإياك – أن الفقهاء والأصوليين يسمون الأحكام الخمسة الأُول: أحكام تكليف، وهي في الحقيقة أحكام تشريف، وبيانه أن الله تعالى خلق الإنسان من جسم كثيف وروح ملكي شريف، وأنزل الأمراض الجسمانية، وأنزل لها الدواء، وحرك داعية الأطباء التي تعرف الدواء وكيفية المداواة.
قال الإمام فخر الدين رحمه الله: في هذا الجسم خمسة آلاف منفعة، وإزاء كل منفعة مرض، وإزاء كل مرض دواء، فمداره على خمسة عشر ألفًا، ثم إن الله تعالى أنزل الأمراض الروحانية وأنزل لها الدواء، وبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعرفوا الناس تلك الأمراض وكيفية أدويتها، فالأمراض النفسانية هي المعاصي، فإنها تسود القلب وتصيره مظلمًا كربًا، والعبادات صقال لمرآة القلب، ورأس الأمراض الجسمانية أكل الشهوات، وأصل الدواء الحمية، وأصل الأمراض النفسية اتباع الهوى، وأصل المداواة مخالفته، إذا علمت ذلك فالعبادات إنما هي أدوية لأمراض القلوب، وإن الله تعالى أنزلها رحمة للعباد، وصقالاً لمرآة قلوبهم ليتوصلوا بذلك إلى محل أنسه وسكنهم في حظيرة قدسه، قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: الذكر مع حضور القلب ينوره، فإذا عرفت ذلك عرفت أن الله تعالى لم يأمر عباده بالعبادات إلا ليشرفهم بها لا لاحتياجه إليها، فإنه لا ينتفع بها ولا يتضرر بالمعاصي، وقد وقعت فتيا بالديار المصرية في تارك الصلاة إن تاب هل يلزمه قضاؤها أو لا؟ فأفتى بعض الفقهاء السقوط عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما قبلها»، وأفتى عز الدين رحمه الله تعالى بوجوب القضاء؛ لأن التكاليف تشاريف، وإنما يسقط عنه إثم التأخير خاصة.

.البحث الثالث: في بيان ما يعتبر من المصالح:

اعلم وفقنا الله وإياك أن عناية الشرع بدرء المفاسد أكثر من عنايته بتحصيل المصالح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا»، ويجب أن تعلم أن فعل السيئة يجر إلى فعل السيئة، وكذلك فعل الحسنة، قال عز من قائل: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 5- 10]، فإذا فعل العبد معصية حصلت في قلبه نكتة سوداء كالمرآة الصقيلة إذا حصل فيها نقطة من الخل، فإن تلافاها بالتوبة زالت، وإن زاد معصية أخرى جرته إلى أخرى إلى أن تسود مرآة القلب، فيخشى عليه أن يختم عليه بالكفر والعياذ بالله تعالى.
قال عز من قائل: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله} [الروم: 10] الآية، وقال عز من قائل: {فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 77]، وإذا فعل الحسنة استنار قلبه، وبعثه ذلك على حسنة أخرى إلى أن يستنير قلبه ويصلح أن يكون محلاً لملك الملوك كما روي في الخبر أن الله تعالى قال: «لا تسعني سماواتي ولا أرضي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن».
ثم إن المصالح ثلاثة أقسام: قسم اعتبره صاحب الشرع فهو معتبر إجماعًا. وقسم ألغاه فهو ملغي إجماعًا كالمنع من زراعة العنب خشية أن يعصر خمرًا. وقسم ما اعتبره بعينه ولا ألغاه، ولكن اعتبر المصلحة من حيث إنها مصلحة، وهذا هو المعبر عنه بالمصلحة المرسلة، وبها قال مالك رحمه الله، ولذلك قال مالك بتضمين الصناع.
وإذا اعتبرت أبواب الفقه وجدتها كلها شرعت لمصلحة، غير أن تلك المصلحة تارة نعرفها كما عرفنا وجوب إطعام الجيعان إذا أشرف على الموت، وتارة لا نعرفها وكن نجزم باشتمال ذلك الحكم على المصلحة طردًا لقاعدة الشرع في اعتبار المصالح، فخص الله تعالى وجوب الظهر بزوال الشمس دون ما قبله وما بعده لحكمة استأثرها، وقد ذكرت في أول كل كتاب حكمة مشروعيته، والله تعالى الموفق للصواب بمنِّه.

.البحث الرابع: في بيان ترتيب هذا المختصر:

اعلم – وفقنا الله وإياك لطاعته – أني سلكت في كتابي الكبير وهو (الفائق في معرفة الأحكام والوثائق)، وفي كتاب (المذهب في ضبط مسائل المذهب) مسلكًا لم اسبق إليه إذا تأمله من له أدنى فكرة عرف موضع المسألة التي يطلبها، وسلكت ذلك أيضًا في هذا المختصر، وربما وقع هذا أحسن، وبيان ذلك أن كل كتاب من كتب الفقه له أركان يعرفها الإنسان بعقله، وكل مسألة وقعت أو تقع فإنها تدخل تحت ركنها، وما لا يقع في الأركان مثل الذي يقع بعد كمال حقيقة ذلك الشيء، فإنني أعمله في اللواحق، مثال ذلك أن النكاح مثلاً أركانه خمسة: الصيغة، والزوج، والزوجة، والولي، والصداق، فكل مسألة تتعلق بالزوج مذكورة في ركن الزوج وكذلك سائرها، ولا ما لا يقع في الأركان، وإنما يقعد بعد العقد كالرد بالعيب، واختلاف الزوجين في متاع البيت، وفي قدر الصداق، وفي الوليمة وأجرة الخلوة، وما أشبه ذلك، فأذكره في اللواحق، وهكذا افعل في كل كتاب، وقد انضبط المذهب بهذا المعنى انضباطًا حسنًا، والحمد لله.

.كتاب الطهارة:

وهي بفتح الطاء الفعل، وبضمها فضل ما يتطهر به، وقد وردت تارة في إزالة الأدناس الحسية، وتارة في إزالة الأدناس المعنوية، فوجب أن نجعل حقيقة في القدر المشترك، وهو مطلق النقي من الدنس دفعًا للمجاز والاشتراك.
وهي قسمان: عينية وحكمية، فالعينية: إزالة النجاسة، والحكمية: ثلاثة أنواع: وضوء، وغسل، وبدل منهما، وهو التيمم، ويلحق في البدلية المسح على الخفين، وعلى الجبيرة.

.حكمها:

أما العينية، فستأتي في محلها إن شاء الله تعالى، وأما الحكمية، فهي واجبة بنص الآية عند وجود السبب والشرط وانتفاء المانع، فالسبب إرادة الصلاة أو مس المصحف أو نوم الجنب على أحد القولين، والشرط أهلية التكليف، والمانع كالحيض والنفاس، وهي شرط في صحة الصلاة، وقد أبعد من رآها شرطًا في الوجوب، وإن كان لا يوجد نص ولو كانت شرطًا في الوجوب لما عصى أحد بترك الصلاة، لكن العصيان واقع بالإجماع، فلا يكون شرطًا في الوجوب.

.حكمة مشروعيتها:

تدريب النفس على مكارم الأخلاق والتأدب مع الملك الخلاق، إذ ينبغي للعبد أن يقف بين يدي مولاه حسن الهيئة، طيب الريح، خليًا عن الوصف القبيح، وهي مراتب أولها طهارة الظاهر عن الأدناس الحسية والمعنوية، وطهارة الجوارح عن الآثام والأجرام، وطهارة الصدر عن الأخلاق الذميمة، كالغل والحسد وما أشبه ذلك، وطهارة القلب بإخراج ما سوى الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89].
ولنبدأ أولاً بالوضوء، ثم الغسل، ثم التيمم والمسح على الخفين وعلى الجبيرة، ثم بإزالة النجاسة، ثم باللواحق، وهي هاهنا الأحداث، فإن الفقهاء يسمونها نواقض، وما ينقض الشيء غير داخل في ماهيته، ويتصل بذلك موانع الحدث.

.الوضوء:

وهو بفتح الواو الماء، وبضمها الفعل.

.أركانه:

أربعة: المزيل، والمزال، والمزال عنه، وكيفية الإزالة.
فالمزيل: هو الماء، وهو من حيث هو ماء طهور، ويقسم بحسب مخالطه أربعة أقسام: قسم خالطه طاهر غير أحد أوصافه، فإن كان من قراره كالحمأة، أو متولدًا عنه كالطحلب، فهو طهور، وألحق صاحب البيان والتقريب به الدهن، وكذلك المتغير بالمجاور، وكذلك التراب المطروح على المشهور، وفي الملح ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين المعدني والمصنوع، وفيه نظر؛ لأنه إما ماء أو تراب، وكلاهما غير مؤثر ولا اعتبار بكونه مطعومًا؛ لأنه إذا انحل صار كماء البحر، وقسم خالطه طاهر لم يغير أحد أوصافه، فإن كان كثيرًا فهو طهور باتفاق، وهو ما لا يتمارى في كثرته، وكذلك إن كان قليلاً، فذهب ابن القاسم إلى كراهته، وفيه بعد، والمستعمل في الحدث طهور، وكره للخلاف؛ لأن أبا حنيفة يقول بنجاسته، وأصبغ يقول بعدم طهوريته، وفيه نظر؛ لأن القول بكراهيته مع القول بجواز الصلاة إذا توضأ به مما لا يجتمعان؛ لأن المكروه لا يثاب فاعله، والواجب يثاب فاعله، فما لا يثاب فاعله لا يكون واجبًا، وما لا يكون واجبًا لا يسد مسد الواجب، وقيل: مشكوك فيجمع بينه وبين التيمم، وفيه نظر؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشك في الوضوء، والوضوء إذا وقع الشك في صحته لم تجز به الصلاة، وفيه أيضًا التردد في النية، وقسم خالطه نجس غير أحد أوصافه فهو نجس، فإن زال ذلك التغير فقولان بناء على أن العلة إذا ذهبت ذهب معلولها، أو أن الحكم بعدم طهوريته قد ثبت، والأصل استصحاب الحال، وأطلق القول ابن الماجشون بطوريته ما تغير ريحه خاصة، وحمل على المتغير بالمجاورة لا بالحلول. وقسم خالطه نجس لم يغير أحد أوصافه، فإن كان كثيرًا لم يغير فهو طهور باتفاق، وإن كان قليلاً فالمشهور أنه مكروه ويدل عليه ما تقدم، وقيل: نجس.
تنبيه:
ليس في المذهب نص في تمييز القليل من الكثير، ووقع لابن رشد أن القليل ما يتوضأ به يقع فيه القطرة من البول وقدر القصية يتوضأ فيها الجنب، وأما الجاري فحكمه كالكثير، قاله في المدونة، وزاد ابن الحاجب: إذا كان المجموع كثيرًا والجرية لا انفكاك لها ومراده: جميع ما في الجرية واحترز بعدم الانفكاك عن ميزاب السانية.
المزال: وهو عين الخبث، وحكم الحدث.
المزال عنه: الجسد والثوب والبقعة.
كيفية الإزالة: وهي الإتيان بالفرائض والسنن والفضائل واجتناب المكروهات على الصفة المعلومة.

.الفرائض:

ستة: النية، وهي صفة ترجح أحد الجائزين على الآخر، شروطها ثلاثة: أن تكون جازمة، وأن تتعلق بفعل الإنسان نفسه، وأن تكون مقارنة لأول أزمنة الفعل، وأجاز ابن القاسم تقدمها عندما يأخذ في أسباب الفعل، كالسير إلى الحمام وإلى النهر، ووافقه سحنون على النهر خاصة.

.كيفية تعقلها:

أن ينوي رفع الحدث، أو ما يستلزم رفعه عند غسل الوجه، وقيل: عند غسل اليدين، وغسل جميع الوجه بنقل الماء إليه مع الدلك على المشهور، وحده طولاً: من منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذقن، وعرضًا من الأذن إلى الأذن، وقيل: من العذار إلى العذار، وقيل بالأول في نقى الخد، وبالثاني في ذي الشعر الملتحي، ويجب تخليل خفيف الشعر دون كثيفه، وغسل اليدين إلى المرفقين، وقيل: دونهما، وهما على الخلاف في الغاية هل تدخل في المغيا، وفيها أربعة أقوال يفرق في الثالث بين أن تتميز جنسًا فلا يدخل وإلا دخلت. الرابع: إن كان من جنس المغيا دخلت وإلا فلا، ومسح جميع الرأس للرجل والمرأة وما استرخى من شعرها، وحده من مبدأ الوجه إلى ما تحوزه الجمجمة، وقيل: آخر منابت القفا، ولو مسح بعضه لم يجزه، وقيل: يجزيه الثلثان، وقيل: الثلث، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وقيل: دونهما، وهما على الخلاف في الغاية، والكعبان: هما الناتئان في طرفي الساقين، وقيل: معقد الشراك، والأول أصح؛ لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] وأرجل اسم جنس أضيف، فيعم، والعام يقع فيه الحكم على كل فرد فرد، فيكون التقدير: اغسلوا كل رجل إلى الكعبين، وهذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان، وكل من قال أن في كل رجل كعبين، قال: هما الناتئان في طرف الساقين، وفي تخليل أصابعهما الوجوب والندب والإنكار، وأما أصابع اليدين ففيهما الوجوب والندب خاصة والموالاة، وقيل: سنة، والتفريق اليسير مغتفر وفي الكثير خمسة أقوال يفرق في الثالث بين العمد والنسيان، فإن أخر حين ذكر فكالمتعمد ابتداء والرابع يفسد إلا في الرأس خاصة، والخامس وفي الخفين، فإن فرق لعجز الماء ولم يطل بنى.

.السنن:

ستة: غسل يديه قبل إدخالهما الإناء، وفي كونه للعبادة أو للنظافة، قولان لابن القاسم وأشهب، والمضمضة وأصلها التحريك والتردد، ويدخل أصبعيه ويدلك بهما أسنانه، وذلك من ناحية السواك، والاستنشاق، وهو أن يجذب الماء بأنفه وينثره بنفسه وإصبعيه، ويبالغ غير الصائم، ويستنشق ثلاثًا كالمضمضة، ومسح أذنيه بماء جديد ظاهرهما بإبهاميه وباطنهما بإصبعيه ويدخلهما في صماخيه وفي وجوب ظاهرهما قولان، وهما: مما يلي الرأس، وقيل: مما يواجه، وشبهت الأذن بالوردة، فمن اعتبرها قبل انفتاحها قال: الظاهر مما يلي الرأس، ومن اعتبرها بعد انفتاحها قال: ما يواجه، وللشيخ ابن المنير رحمه الله في المعنى:
الأذن كالوردة مفتوحة ** فلا يمرن عليها الخنا

فإنه أنتن من جيفة ** واحذر على الوردة أن تنتنا

ورد اليدين من مؤخر الرأس إلى مقدمة ابن القصار، ولو بدأ المسح من المؤخر لكان المسنون أن يبدأ من المقدم إلى المؤخر، والترتيب على المشهور، وقيل بوجوبه كقول الشافعي، وقيل: واجب مع القدرة، وعلى المشهور لو نكس عامدًا فقولان، كمتعمد ترك السنن، وفيه نظر؛ لأن سنن الصلاة آكد، وإن نكس ناسيًا أعاد بحضرة الماء، فإن تباعد، فقال ابن القاسم: يعيد المنكس وحده خاصة، وقال ابن حبيب: يعيده وما بعده.

.الفضائل:

خمسة:
التسمية، وروي عن مالك رحمه الله تعالى إباحتها، والسواك ولو بإصبعيه، ويتوقى الصائم ما فيه رطوبة، والتكرار في المغسول؟، والبداية من الميامن والبداءة من مقدم الرأس.

.المكروهات:

ستة:
الإكثار من صب الماء، وليس فيه تحديد، وقيل: الأقل في الوضوء قدر المد، وفي الغسل قدر الصاع إلى خمسة أمداد، والواجب الإسباغ، والوضوء في الخلاء، وكشف العورة، والكلام في أثنائه بغير ذكر الله تعالى، والزيادة على الثلاثة في المغسول، وعلى الواحدة في الممسوح، والاقتصار على الواحدة لغير العالم، فإن شك في الثالثة ففي الإتيان بها قولان للمتأخرين، وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى أن تخليل اللحية من المكروهات.