فصل: الإيمان بالله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.القسم الثالث: وهو توحيد الأسماء والصفات:

هذا هو الذي كثر فيه الخوض، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام، وهم: ممثل، ومعطل، ومعتدل، والمعطل: إما مكذب أو محرف.
وأول بدعة حدث في هذه الأمة هي بدعة الخوارج، لأن زعيمهم خرج على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ذو الخويصرة من بني تميم، حين قسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهبية جاءت فقسمها بين الناس، فقال له هذا الرجل: يا محمد‍ اعدل فكان هذا أول خروج خرج به على الشريعة الإسلامية، ثم عظمت فتنتهم في أواخر خلافة عثمان وفي الفتنة بين علي ومعاوية، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم.
ثم حدثت بدعة القدرية مجوسي هذه الأمة الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يقدر أفعال العباد وليست داخلة تحت مشيئته وليست مخلوقة له، بل كان زعماؤهم وغلاتهم يقولون: إنها غير معلومة لله، ولا مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن الله لا يعلم بما يصنع الناس، إلا إذا وقع ذلك ويقولون: إن الأمر أنف، أي: مستأنف وهؤلاء أدركوا آخر عصر الصحابة، فقد أدركوا زمن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعبادة بن الصامت وجماعة من الصحابة، لكنه في أواخر عصر الصحابة.
ثم حدثت بدعة الإرجاء وأدركت زمن كثير من التابعين، والمرجئة هم الذين يقولون: إنه لا تضر المعصية مع الإيمان تزني وتسرق وتشرب الخمر، وتقتل ما دمت مؤمنا، فأنت مؤمن كامل الإيمان وإن فعلت كل معصية‍.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلام القدرية والمرجئة حين رده بقايا الصحابة كان في الطاعة والمعصية والمؤمن والفاسق، لم يتكلموا في ربهم وصفاته.
فجاء قوم من الأذكياء ممن يدعون أن العقل مقدم على الوحي، فقالوا قولا بين القولين- قول المرجئة وقول الخوارج- قالوا: الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن كما قاله المرجئة، وليس بكافر كما قاله الخوارج، بل هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى أخرى فصار في أثناء الطريق، فلا هو في مدينته ولا في التي ساف إليها، بل في منزلة بين منزلتين، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة، فهو مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في الآخرة، لكن في الدنيا يخالفونهم.
ظهرت هذه البدعة وانتشرت، ثم حدثت بدعة الظلمة والجهمة، وهي بدعة جهم بن صفوان وأتباعه، ويسمون الجهمية، حدثت هذه البدعة، وهي لا تتعلق بمسألة الأسماء، والأحكام، مؤمن أم كافر أم فاسق، ولم في منزلة بين منزلتين، بل تتعلق بذات الخالق. انظر كيف تدرجت البدع في صدر الإسلام، حتى وصلوا إلى الخالق جل وعلا، وجعلوا الخالق بمنزلة المخلوق، يقولون كما شاءوا، فيقولون: هذا ثابت لله، وهذا غير ثابت، هذا يقبل العقل أن يتصف الله به، وهذا لا يقبل العقل أن يتصف به، فحدثت بدعة الجهمية والمعتزلة، فانقسموا في أسماء الله وصفاته إلى أقسام متعددة:
- قسم قالوا: لا يجوز أبدًا أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات، لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في اشر منه.
- وقسم آخر قالوا: نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني: أنهم يجوزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت، يعني: لا نقول: هو حي، وإنما نقولك ليس بمبيت ولا نقولك عليم، بل نقول: ليس بجاهل... وهكذا. قالوا: لو أثبت له شيئًا شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئًا، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير.
قيل لهم: إن الله قال عن نفسه: (سميع بصير).
قالوا: هذا من باب الإضافات، بمعنى: نسب إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقا يسمع، فهو من باب الإضافات، فـ: (سميع)، يعني: ليس له سمع، لكن له مسموع.
وجاءت طائفة ثانية، قالوا: هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له، أما هو، فلا يثبت له صفة.
- وقسم قالوا: يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله، قالوا: إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم... لكن قدير بل قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة.
- وقسم رابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها لعقل وننكر الباقي، نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفًا لا تكذيبًا، لأنهم لو أنكروه تكذيبًا، كفروا، لكن ينكرونه تحريفًا وهو ما يدعون أنه (تأويل).
الصفات السبع هي مجموعة في قوله:
له الحياة والكلام والبصر ** سمع إرادة وعلم واقتدر

فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض.
فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات وكلها متفرعة من بدعة الجهم، «ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
فالحاصل أنكم أيها الإخوة لو طالعتم في كتب القوم التي تعتني بجمع أقاويل الناس في هذا الأمر، لرأيتم العجب العجاب، الذي تقولون: كيف يتفوه عاقل- فضلًا عن مؤمن- بمثل هذا الكلام؟! ولكن من لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور! الذي أعمى الله بصيرته كالذي أعمى الله بصره، فكما أن أعمى البصر لو وقف أمام الشمس التي تكسر نور البصر لم يرها، فكذلك من أعمى الله بصيرته لو وقف أمام أنوار الحق ما رآها والعياذ بالله.
ولهذا ينبغي لنا دائمًا أن نسأل الله تعالى الثبات على الأمر، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا لأن الأمر خطير، والشيطان يدخل على ابن آدم من كل صوب ومن كل وجه ويشككه في عقيدته وفي دينه وفي كتاب الله وسنة رسوله فهذه في الحقيقة البدع التي انتشرت في الأمة الإسلامية.
ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضًا هو مقتضى حكمة الله عز وجل، لأن الله تعالى جعل محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، والرسالة لابد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عز وجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل، ولهذا أقول لكم دائمًا: احرصوا على العلم، لأننا في هذا البلد في مستقبل إذا لم نتسلح بالعلم المبني على الكتاب والسنة، فيوشك أن يحل بنا ما حل في غيرنا من البلاد الإسلامية، وهذا البلد الآن هو الذي يركز عليه أعداء الإسلام ويسلطون عليه سهامهم، من أجل أن يضلوا أهلها، فذلك تسلحوا بالعلم، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم وحتى تكونوا مجاهدين بألسنتكم وأقلامكم لأعداء الله سبحانه وتعالى.
وكل هذه البدع انتشرت بعد الصحابة، فالصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبحثون في هذه الأمور، لأنهم يتلقون الكتاب والسنة على ظاهرهما وعلى ما تقتضيه الفطرة، والفطرة السليمة سليمة، لكن أتى هؤلاء المبتدعون، فابتدعوا في دين الله تعالى ما ابتدعوا، إما لقلة علمهم، أو لقصور فهمهم، أو لسوء قصدهم، فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها، ولكن كما قلنا: إن الله تعالى بحكمته وحمده ومنته وفضله ما من بدعة خرجت إلا قيض الله لها من يدحضها ويبينها.
ومن جملة الذين بينوا البدع وقاموا قيامًا تامًا بدحضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجمعنا في جنات النعيم.
هذا الرجل الذي نفع الله بما آتاه من فضله ومن على الأمة بمثله ألف هذه (العقيدة) كما قلت إجابة لطلب أحد قضاة واسط الذي شكا إليه ما كان الناس عليه من البدع وطلب منه أن يؤلف هذه (العقيدة) فألفها.
بسم الله (1)....................................................................
(1) البداءة بالبسملة هي شأن جميع المؤلفين، اقتداء بكتاب الله، حيث أنزل البسملة في ابتداء كل سورة واستنادًا إلى سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإعراب البسملة ومعناها تكلم فيه الناس كثيرًا، وفي متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام، فإذا قدمتها بين يدي الأكل، فيكون التقدير: بسم الله آكل، وبين يدي القراءة يكون التقدير: بسم الله اقرأ.
نقدره فعلًا، لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال، فرع في الأسماء.
ونقدره متأخرًا لفائدتين:
الأولى: الحصر، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، فيكون: باسم الله أقرأ، بمنزلة: لا أقرأ إلا باسم الله.
الثانية: تيمنًا بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
ونقدره خاصًا، لأن الخاص أدل على المقصود من العام، إذ من الممكن أن أقول: التقدير: باسم الله أبتدئ لكن (باسم الله أبتدئ) لا تدل على تعيين المقصود، لكن (باسم الله أقرأ) خاص، والخاص أدل على المعنى من العام.
* (الله) علم على نفس الله عز وجل، ولا يسمى به غيره ومعناه: المألوه، أي: المعبود محبة وتعظيمًا وهو مشتق على القول الراجح لقوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]، فإن: {في السموات} متعلق بلفظ الجلالة، يعني: وهو المألوه في السموات وفي الأرض.
الرحمن (1) الرحيم (2)... الحمد لله الذي أرسل رسوله (3).....................
(1) * (الرحمن)، فهو ذو الرحمة الواسعة، لأن (فعلان) في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان: إذا امتلأ غضبًا.
(2) (الرحيم): اسم يدل على الفعل، لأنه فعيل بمعنى فاعل فهو دال على الفعل.
فيجتمع من (الرحمن الرحيم): أن رحمة الله واسعة وأنها واصلة إلى الخلق. وهذا هو ما أومأ إليه بعضهم بقوله: الرحمن رحمة عامة والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، ولما كانت رحمة الله للكافر رحمة خاصة في الدنيا فقط فكأنها لا رحمة لهم، لأنهم في الآخرة يقول تعالى لهم إذا سألوا الله أن يخرجهم من النار وتوسلوا إلى الله تعالى بربوبيته واعترافهم على أنفسهم: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107]، فلا تدركهم الرحمة، بل يدركهم العدل، فيقول الله عز وجل لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108].
(3) * الله تعالى يحمد على كماله عز وجل وعلى إنعامه، فنحن نحمد الله عز وجل لأنه كامل الصفات من كل وجه، ونحمده أيضًا لأنه كامل الأنعام والإحسان: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} [النحل: 53]، وأكبر نعمة أنعم الله بها على الخلق إرسال الرسل الذي به هداية الخلق، ولهذا يقول المؤلف (الحمد لله الذي أرسل رسول رسوله بالهدى ودين الحق).
(2) ودين الرسول هنا الجنس، فإن جميع الرسل أرسلوا بالهدى ودين الحق، ولكن الذي أكمل الله به الرسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه قد ختم الله به الأنبياء، وتم به البناء، كما وصف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه بالنسبة للرسل، كرجل بنى قصرًا وأتمه، إلا موضع لبنة، فكان الناس يأتون إلى هذا القصر ويتعجبون منه، إلا موضع هذه اللبنة، يقول: «فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»، عليه الصلاة والسلام.
بالهدى (1) ودين الحق (2) ليظهره على الدين كله (3)................................
(1) (بالهدى): الباء هنا للمصاحبة والهدى هو العلم النافع ويحتمل أن تكون الباء للتعدية، أي: إن المرسل به هو الهدى ودين الحق.
(2) (ودين الحق) هو العمل الصالح، لأن الدين هو العمل أو الجزاء على العمل، فمن إطلاقه على العمل: قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، ومن إطلاقه على الجزاء قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17]. والحق ضد الباطل، وهو- أي الحق- المتضمن لجلب المصالح ودرء المفاسد في الأحكام والأخبار.
(3) (ليظهره على الدين كله): اللام للتعليل ومعنى (ليظهره)، أي: يعليه، لأن الظهور بمعنى العلو، ومنه: ظهر الدابة أعلاها ومنه: ظهر الأرض سطحها، كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45].
والهاء في (يظهره) هل هو عائد على الرسول أو على الدين؟ إن كان عائدًا على (دين الحق)، فكل من قاتل لدين الحق سيكون هو العالي. لأن الله يقول: (ليظهره)، يظهر هذا الدين على الدين كله، وعلى مالا دين له فيظهره عليهم من باب أولى، لأمن لا يدين أخبث ممن يدين بباطل، فإذا: كل الأديان التي يزعم أهلها أنهم على حق سيكون دين الإسلام عليه ظاهرًا، ومن سواهم من باب أولى.
وإن كان عائدًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يظهر الله رسوله لأن معه دين الحق.
وعلى كلا التقديرين، فإن من تمسك بهذا الدين الحق، فهو الظاهر العالي، ومن ابتغى العزة في غيره، فقد ابتغى الذل، لأنه لا ظهور ولا عزة ولا كرامة إلا بالدين الحق، ولهذا أنا أدعوكم معشر الإخوة إلى التمسك بدين الله ظاهرًا أو باطنًا في العبادة والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إليه، حتى تقوم الملة وتستقيم الأمة.
وكفى بالله شهيدًا (1)..............................................................
(1) قوله (وكفى بالله شهيدًا) يقول أهل اللغة: إن الباء هنا زائدة، لتحسين اللفظ والمبالغة في الكفاية، وأصلها: (وكفى الله).
و: (شهيدًا): تمييز محول عن الفاعل لأن أصلها (وكفت شهادة الله). المؤلف جاء بالآية؟ ولو قال قائل: ما مناسبة (كفى بالله شهيدًا)، لقوله: (ليظهره على الدين كله)؟
قيل: المناسبة ظاهرة، لأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء يدعو الناس ويقول: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار». ويقول بلسان الحال: من أطاعني سالمته، ومن عصاني حاربته ويحارب الناس بهذا الدين، ويستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، وهو في ذلك منصور مؤزر غالب غير مغلوب، فهذا التمكين له في الأرض، أي تمكين الله لرسوله في الأرض: شهادة من الله عز وجل فعلية بأنه صادق وأن دينه حق، لأن كل من افترى على الله كذبًا فماله الخذلان والزوال والعدم، وانظر إلى الذين ادعوا النبوة ماذا كان مالهم؟ أن نسوا وأهلكوا، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.... وغيرهما ممن ادعوا النبوة، لهم تلاشوا وبان بطلان قولهم وحرموا الصواب والسداد لكن هذا النبي محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العكس دعوته إلى الآن والحمد لله باقية، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها، دعوته إلى الآن باقية وإلى أن تقوم الساعة ثابتة راسخة، يستباح بدعوته إلى اليوم دماء من ناوأها من الكفار وأموالهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم، هذه الشهادة فعلية، ما أخذه الله ولا فضحه ولا كذبه، ولهذا جاءت بعد قوله: {ليظهره على الدين كله}.
وأشهد (1) أن لا إله إلا الله (2)، وحده (3)، لا شريك له (4)، إقرارًا به (5).
(1) (أشهد)، بمعنى: أقر بقلبي ناطقًا بلساني، لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب، فأنت عند القاضي تشهد بحق فلان على فلان، تشهد باللسان المعبر عما في القلب واختيرت الشهادة دون الإقرار، لأن الشهادة أصلها من شهود الشيء، أي: حضوره ورؤيته، فكأن هذا المخبر عما في قلبه الناطق بلسانه، كأنه يشاهد الأمر بعينه.
(2) (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود حق إلا الله، وعلى هذا يكون خبر لا محذوفًا، ولفظ الجلالة بدلًا منه.
(3) (وحده) هي من حيث المعنى توكيد للإثبات.
(4) (لا شريك له): توكيد للنفي.
(5) (إقرارًا به): (إقرارًا) هذه مصدر، وإن شئت، فقل: إنه مفعول مطلق، لأنه مصدر معنوي لقوله: (أشهد)، وأهل النحو يقولون: إذا كان المصدر بمعنى الفعل دون حروفه، فهو مصدر معنوي، أو مفعول مطلق، وإذا كان بمعناه وحروفه، فهو مصدر لفظي فـ: قمت قيامًا: مصدر لفظي، و: قمت وقوفًا: مصدر معنوي، و: جلست جلوسًا: لفظي، و: جلست قعودًا: معنوي.
وتوحيدًا (1) وأشهد (2) أن محمدًا عبده (3).........................................
(1) (وتوحيدًا) مصدر مؤكد لقوله: (لا إله إلا الله).
(2) نقول في (أشهد) ما قلنا في (أشهد) الأولى.
(3) محمد: هو ابن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، أشرف الناس نسبًا، عليه الصلاة والسلام.
هذا النبي الكريم عبد الله ورسوله، وهو أعبد الناس لله، وأشدهم تحقيقًا لعبادته، كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليل حتى تتورم قدماه ويقال له: كيف تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟».
لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حتى قال عن نوح: {إنه كان عبدًا شكورًا}.
لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حين قال عن نوح: {إنه كان عبدًا شكورًا} [الإسراء: 3]، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصل إلى هذه الغاية، وأن يعبد الله تعالى حق عبادته، ولهذا كان أتقى الناس، وأخشى الناس لله، وأشدهم رغبة فيما عند الله تعالى، فهو عبد لله، ومقتضى عبوديته أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا وليس له حق في الربوبية إطلاقًا بل هو عبد محتاج إلى الله مفتقر له يسأله ويدعوه ويرجوه ويخافه، بل إن الله أمره أن يعلن وأن يبلغ بلاغًا خاصًا بأنه لا يملك شيئًا من هذه الأمور فقال: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 188] وأمره أن يقول: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلى} [الأنعام: 50] وأمره أن يقول: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا إلا بلاغا} [الجن: 21- 23] {إلا} استثناء منقطع، أي: لكن أبلغ بلاغًا من الله ورسالاته.
فالحاصل أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه عبد لله ومقتضى هذه العبودية أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية إطلاقًا.
وإذا كان محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذه المثابة، فما بالك بمن دونه من عباد الله؟! فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ولا لغيرهم أبدًا وبهذا يتبين سفه أولئك القوم الذين يدعون من يدعونهم أولياء من دون الله عز وجل.
ورسوله (1).........................................................................
(1) قوله: (ورسوله): هذا أيضًا لا يكون لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه خاتم النبيين، فهو رسول الله الذي بلغ مكانًا لم يبلغه أحد من البشر، بل ولا من الملائكة فيما نعلم اللهم إلا حملة العرش، وصل إلى ما فوق السماء السابعة، وصل إلى موضع سمع فيه صريف أقلام القضاء الذي يقضي به الله عز وجل في خلقه، ما وصل أحد فيما نعلم إلى هذا المستوى، وكلمه الله عز وجل بدون واسطة، وأرسله إلى الخلق كافة وأيده بالآيات العظيمة التي لم تكن لأحد من البشر أو الرسل قبله، وهو هذا القرآن العظيم، فإن هذا القرآن لا نظير له في آيات الأنبياء السابقين أبدًا، ولهذا قال الله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 50- 51]، هذا يكفي عن كل شيء، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المعرض، فسيقول كما قال من سبقه: هذا أساطير الأولين!
الحاصل أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله وخاتم النبيين، ختم الله به النبوة والرسالة أيضًا، لأنه إذا انتفت النبوة، وهي أعم من الرسالة، انتفت الرسالة التي هي أخص، لأن انتفاء الأعم يستلزم انتفاء الأخص، فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين.
صلى الله عليه (1) وعلى آله وصحبه (2).............................................
(1) معنى (صلى الله عليه): أحسن ما قيل فيه ما قاله أبو العالية رحمه الله، قال: (صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى).
وأما من فسر صلاة الله عليه بالرحمة، فقوله ضعيف، لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنك يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا، هل يجوز أن تقولك فلان صلى الله عليه؟ وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة. وأيضًا، فقد قال الله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157]، والعطف يقتضي المغايرة، إذًا، فالصلاة أخص من الرحمة، فصلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
(2) قوله: (وعلى آله)، و: (آله) هنا: أتباعه على دينه هذا إذا ذكرت الآل وحدها أو مع الصحب، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بعث إلى يوم القيامة ويدل على أن الآل بمعنى الاتباع على الدين قوله تعالى في آل فرعون: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، أي: أتباعه على دينه.
أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: آله وأتباعه، فالآل هم المؤمنون من آل البيت، أي: بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر الأتباع هنا، قال: (آله وصحبه)، فنقول: آله هم أتباعه على دينه، وصحبه كل من اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنًا به ومات على ذلك.
وعطف الصحب هنا على الآل من باب عطف الخاص على العام، لأن الصحبة أخص من مطلق الاتباع.
وسلم (1) تسليمًا مزيدًا (2)...........................................................
(1) قوله: (وسلم تسليمًا مزيدًا): (سلم) فيها السلامة من الآفات، وفي الصلاة حصول الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق لنبيه الخيرات- وأخصها: الثناء عليه في الملأ الأعلى- وأن يزيد عنه الآفات، وكذلك من اتبعه.
والجملة في قوله: (صلى) و (سلم) خبرية لفظًا طلبية معنى، لأن المراد بها الدعاء.
(2) قوله: (مزيدًا)، بمعنى: زائدًا أو زيادة، والمراد تسليمًا زائدًا على الصلاة، فيكون دعاء آخر بالسلام بعد الصلاة.
والرسول عند أهل العلم: (من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه).
وقد نبئ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ: {اقرأ} وأرسل بالمدثر، فبقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}. إلى قوله: {علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1- 5] كان نبيًّا، وبقوله: {يا أيها المدثر قم فأنذر} [المدثر: 1- 2] كان رسولا عليه الصلاة والسلام.
أما بعد (1): فهذا (2).
(1) (أما بعد): (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء، قال ابن مالك:
أما كمهايك من شيء وفا ** لتلو تلوها وجوبًا ألفها

فقولهم: أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا.
وعليه، فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن تكون: (أما بعد، فهذا)، أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا، فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة.
(2) (فهذا): الإشارة لابد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما أقول: هذا، فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟!
أقول: إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز الكتاب وصدر، فكأنه يقول: (فهذا الذي بين يديك كذا وكذا).
هذه إذًا ثلاثة أوجه.
اعتقاد (1) الفرقة (2) الناجية (3).........................................................
(3) (الناجية) افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع ووجه ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر، لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه وشده عليه بحيث لا يتفلت منه.
(2) (الفرقة) بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122]، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من الافتراق.
(3) (الناجية): اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها وناجية في الآخرة من النار.
ووجه ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».
هذا الحديث يبين لنا معنى (الناجية)، فمن كان على مثل ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه، فهو ناج من البدع. و: «كلها في النار إلا واحدة»: إذا هي ناجية من النار، فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة.
المنصورة(1) إلى قيام الساعة(2)..................................................
(1) (المنصورة) عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»، والظهور الانتصار، لقوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14]، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه.
(2) (إلى قيام الساعة)، أي: إلى يوم القيامة، فهي منصورة إلى قيام الساعة.
وهنا يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الساعة تقوم على شرار الخلق، وأنه لا تقوم حتى لا يقال: الله الله، فكيف تجمع بين هذا وبين قوله: «إلى قيام الساعة»؟
والجواب: أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة، لقوله في الحديث: «حتى يأتي أمر الله»، أو: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهو موتهم، لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل، والتأويل بدليل جائز، لأن الكل من عند الله.
أهل السنة والجماعة (1)..............................................................
(1) (أهل السنة والجماعة): أضافهم إلى السنة، لأنهم متمسكون بها، والجماعة، لأنهم مجتمعون عليها.
فإن قلت: كيف يقول: (أهل السنة والجماعة)، لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى نفسه؟!
فالجواب: أن الأصل أن كلمة الجماعة بمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه، فيكون معنى أهل السنة والجماعة، أي: أهل السنة والاجتماع، سموا أهل السنة، لأنهم متمسكون بها، لأنهم مجتمعون عليها.
ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهلا لبدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين، والمعتزلة متفرقين، والروافض متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف لا يضلل أحدهم الآخر به، أي: أن صدورهم تتسع له، وإلا، فقد اختلفوا في أشياء مما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه بعينه أم لم يره؟ ومثله: هل عذاب القبر على البدن والرواح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم هم مع ذلك إذا اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع.
إذًا فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة.
وعلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلا والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثالثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يمكن الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلا، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟‍ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟‍‍ نقول: من وافق السنة، فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمى من خالف السنة أهل سنة؟‍ لا يمكن وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟‍‍ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقدًا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإنه سلفي.

.الإيمان بالله:

وهو الإيمان بالله (1)............................................................ (1) هذه العقيدة أصلها لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب جبريل حين سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الإسلام؟ أما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ فالإيمان- قال له-: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره».
الإيمان بالله:
الإيمان في اللغة: يقول كثير من الناس: إنه التصديق، فصدقت وآمنت معناهما لغة واحد، وقد سبق لنا في التفسير أن هذا القول لا يصح بل الإيمان في اللغة: الإقرار بالشيء عن تصديق به، بدليل أنك تقول: آمنت بكذا وأقررت بكذا وصدقت فلانا ولا تقول: آمنت فلانًا.
إذا فالإيمان يتضمن معنى زائدًا على مجرد التصديق، وهو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام، هذا الإيمان، أما مجرد أن تؤمن بأن الله موجود، فهذا ليس بإيمان، حتى يكون هذا الإيمان مستلزما للقبول في الأخبار والإذعان في الأحكام، وإلا، فليس إيمانًا.
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
- الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى.
- الإيمان بربوبيته، أي: الانفراد بالربوبية.
- الإيمان بانفراده بالألوهية.
- الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك.
فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته، فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان.
الإيمان بوجوده:
إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟
قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع.
ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت، فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع.
- فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟
فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلًا ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذًا لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضًا، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبدًا.
ويقال: إن طائفة من السمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاؤوا، قالوا: ماذا قلت؟ أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرسلت في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذًا ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟
ولهذا قال الله عز وجل: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35].
فحينئذ يكون العقل دالًا دلالة قطعية على وجود الله.
- وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسه، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب الله.
فالأعرابي الذي دخل والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: والله، ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار.. وبعد دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فورًا خرجت سحابًا مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسية.
وفي القرآن كثير من هذا، مثل: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له} [الأنبياء: 83- 84] وغير ذلك من الآيات.
- وأما دلالة الفطرة، فإن كثيرًا من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك.
فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم، فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وإذ أخذ ربكم من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [الأعراف: 172- 173]، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.
هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى.
- وأما دلالة الشرع، فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.

.الإيمان بالملائكة:

وملائكته (1).........................................................................
(1) الملائكة جمع: ملاك، وأصل ملاك: مألك، لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى: {جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى} [فاطر: 1].
فالملائكة عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل من نور، وعلهم طائعين له متذللين له، ولكل منهم وظائف خصه الله بها، ونعلم من وظائفهم:
أولًا: جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل.
ثانيًا: إسرافيل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل.
ثالثًا: ميكائيل: موكل بالقطر والنبات.
وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل موكل بالوحي وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد.
ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، فيقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحمك بين عباد فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، هذا الدعاء الذي كان يقوله في قيام الليل متوسلًا بربوبية الله لهم.
كذلك نعلم أن منهم من وكل بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم: ملك الموت وأعوانه ولا يسمى عزرائيل، لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن اسمه هذا.
قال تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61]. وقال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11]. وقال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42].
ولا منافاة بين هذه الآيات الثلاث، فإن الملائكة تقبض الروح، فإن ملك الموت إذا أخرجها من البدن تكون عنده ملائكة، إن كان الرجل من أهل الجنة، فيكون معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، يأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل حتى تقف بين يدي الله عز وجل، ثم يقول اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن والعياذ بالله، فإنه ينزل ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من النار، يأخذون الروح، ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، قال الله تعالى: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} [الحج: 31]، ثم يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في سجين العافية!.
هؤلاء موكلون بقبض الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر قبضها، فلا منافاة إذن، والذي يأمر بذلك هو الله، فيكون في الحقيقة هو المتوفي.
ومنهم ملائكة سياحون في الأرض، يلتمسون حلق الذكر، إذا وجدوا حلقة العلم والذكر، جلسوا.
وكذلك هناك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان: {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10- 12] {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18].
دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله فوجده يئن من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله! تئن، وقد قال طاووس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، لأن الله يقول: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]؟ فجعل أبو عبد الله يتصبر وترك الأنين، لأن كل شيء يكتب. {ما يلفظ من قول} : من: زائدة لتوكيد العموم، أي قول تقوله، يكتب لكن قد تجازى عليه بخير أو بشر، هذا حسب القول الذي قيل.
ومنهم أيضًا ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11].
ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أطت السماء، وحق لها أن تئط» والأطيط: صرير الرحل، أي: إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صرير من ثقل الحمل، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أطت السماء، وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع منها، إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد»، وعلى سعة السماء فيها هؤلاء الملائكة.
ولهذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البيت المعمور الذي مر به في ليلة المعراج، قال: «يطوف به (أو قال: يدخله) سبعون ألف ملك كل يوم، ثم لا يعودون إلى آخر ما عليهم»، والمعنى: كل يوم يأتي إليه سبعون ألف ملك غير الذين أتوه بالأمس، ولا يعودون له أبدًا، يأتي ملائكة آخرون غير من سبق، وهذا يدل على كثرة الملائكة، ولهذا قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31].
ومنهم ملائكة موكلون بالجنة وموكلون بالنار، فخازن النار اسمه مالك يقول أهل النار: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]، يعنى: ليهلكنا ويمتنا، فهم يدعون الله أن يميتهم، لأنهم في عذاب لا يصبر عليه، فيقول: {إنكم ماكثون} [الزخرف: 77]، ثم يقال لهم: {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثر كم للحق كارهون} [الزخرف: 77].
المهم: أنه يجب علينا أن نؤمن بالملائكة.
وكيف الإيمان بالملائكة؟
نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6].
كذلك نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم ويجب علينا أن نؤمن بذلك على ما علمنا.
وهم أجساد، بدليل قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة} [فاطر: 1]، ورأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، خلافًا لمن قال: إنهم أرواح.
إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقولك هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟! {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20]، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمر الله به ويبلغون الوحي، ونقول: ليس لهم عقول؟! أحق من يوصف بعدم العقل من قال: إنه لا عقول له!!

.الإيمان بالكتب المنزلة:

وكتبه (1)...................
(1) أي كتب الله التي أنزلها مع الرسل.
ولكل رسول كتاب، قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25]، وهذا يدل على أن كل رسول معه كتاب، لكن لا نعرف كل الكتب، بل نعرف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن، ستة، لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلم به، نؤمن به إجمالًا.

.الإيمان بالرسل:

ورسله (1).........................................................................
(1) أي: رسل الله وهم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]، يعني: وحيًا، كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وهو وحي الرسالة. وقوله: {ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26]: {في ذريتهما}، أي ذرية نوح وإبراهيم، والذي قبل نوح لا يكون من ذريته. وكذلك قوله تعالى: {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قومًا فاسقين} [الذاريات: 46]، قد نقول: إن قوله: {من قبل} : يدل على ما سبق.
إذًا من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: (أن أهل الموقف يقولون لنوح: أنت أول رسول أسله الله إلى أهل الأرض)، وهذا صريح.
أما آدم عليه الصلاة والسلام، فهو نبي، وليس برسول.
وأما إدريس، فذهب كثير من المؤرخين أو أكثرهم وبعض المفسدين أيضًا إلى أنه قبل نوح، وأنه من أجداده لكن هذا قول ضعيف جدًّا والقرآن والسنة ترده والصواب ما ذكرنا.
وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40]، ولم يقل: وخاتم المرسلين، لأنه إذا ختم النبوة، ختم الرسالة من باب أولى.
فإن قلت: عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان وهو رسول، فما الجواب؟.
نقول: هو لا ينزل بشريعة جديد، وإنما يحكم بشريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا قال قائل: من المتفق عليه أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعيسى يحكم بشريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون من أتباعه، فكيف يصح قولنا: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؟
فالجواب: أحد ثلاثة وجود:
أولها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول مستقل من أولي العزم ولا يخطر بالبال المقارنة بينه وبين الواحد من هذه الأمة، فكيف بالمفاضلة؟! وعلى هذا يسقط هذا الإيراد من أصله، لأنه من التنطع، وقد هلك المتنطعون، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: أن نقول: هو خير الأمة إلا عيسى.
الثالث: أن نقول: إن عيسى ليس من الأمة، ولا يصح أن نقول: إنه من أمته، وهو سابق عليه، لكنه من أتباعه إذا نزل، لأن شريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باقية إلى يوم القيامة.
فإن قال قائل: كيف يكون تابعًا، وهو يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل إلا الإسلام مع أن الإسلام يقر أهل الكتاب الجزية؟!.
قلنا: إخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك إقرار له، فتكون من شرعه ويكون نسخًا لما سبق من حكم الإسلام الأول.

.الإيمان بالبعث:

والبعث بعد الموت (1).............................................................
(1) البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم.
وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة.
وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يومًا يبعث الناس فيه ويجازون:
- أما القرآن، فيقول الله عز وجل: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} [التغابن: 7] وقال عز وجل: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15- 16].
- وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
- وأجمع المسلمون على هذا إجماعًا قطعيًّا، وأن الناس سيبعثون يوم القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره} [الزلزلة: 7- 8].
{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} [الانشقاق: 6]، فتذكر هذا اللقاء حتى تعمل له، خوفًا من أن تقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وليس عندك شيء من العمل الصالح، انظر ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غدًا أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غدًا ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: {هم لها عاملون}، وقال تعالى: {قد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22]: يعني: يوم القيامة وقال تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].
هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبدًا.