فصل: فصل في طريقة أهل السنة العملية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



.فصل في طريقة أهل السنة العملية:

ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ………….
(1) لما فرغ المؤلف مما يريد ذكره من طريقة أهل السنة العقدية، شرع في ذكر طريقتهم العملية.
قوله: (اتباع الآثار): لا اتباع إلا بعلم، إذًا، فهم حريصون على طلب العلم، ليعرفوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يتبعونها آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والأخلاق والدعوة إلى الله تعالى، يدعون عباد الله إلى شريعة الله في كل مناسبة، وكلما اقتضت الحكمة أن يدعوا إلى الله، دعوا إلى الله، ولكنهم لا يخبطون خبط عشواء، وإنما يدعون بالحكمة، يتبعون آثار الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخلاق الحميدة في معاملة الناس باللطف واللين، وتنزيل كل إنسان منزلته، يتبعونه أيضًا في أخلاقه مع أهله، فتجدهم يحرصون على أن يكونوا أحسن الناس لأهليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خيركم لأهله، وأنا خيرم لأهلي».
ونحن لا نستطيع أن نحصر آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن نقول على سبيل الإجمال في العقيدة والعبادة والخلق والدعوة: في العبادة لا يتشددون ولا يتهاونون ويتبعون ما هو أفضل.
وربما يشتغلون عن العبادة بمعاملة الخلق للمصلحة، كما كان الرسول يأتيه الوفود يشغلونه عن الصلاة، فيقضيها فيما بعد.
باطنًا وظاهرًا (1) ……………………………………………
(1) قوله: (باطنًا وظاهرًا): الظهور والبطون أمر نسبي: ظاهرًا فيما يظهر للناس، وباطنًا فيما يسرونه بأنفسهم. ظاهرًا في الأعمال الظاهرة، وباطنًا في أعمال القلوب………
فمثلًا، التوكل والخف والرجاء والإنابة والمحبة وما أشبه ذلك، هذا من أعمال القلوب، يقومون بها على الوجه المطلوب، والصلاة فيها القيام والقعود والركوع والسجود والصدقة والحج، والصيام، وهذه من أعمال الجوارح، فهي ظاهرة.
* ثم أعلم أن آثار الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر:
أولًا: ما فعله على سبيل التعبد، فهذا لا شك أننا مأمورون باتباعه، لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه} [الأحزاب: 21]، فكل شيء لا يظهر فيه أنه فعله تأثرًا بعادة أو بمقتضي جبلة وفطرة أو حصل اتفاقًا، فإنه على سبيل التعبد، ونحن مأمورون به.
ثانيًا: ما فعله اتفاقًا، فهذا لا يشرع لنا التأسي فيه، لأنه غير مقصود، كما لو قال قائل: ينبغي أن يكون قدومنا إلى مكة في الحج في اليوم الرابع من ذي الحجة! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة.
فنقول: هذا غير مشروع، لأن قدومه صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم وقع اتفاقًا.
ولو قائل قال: ينبغي إذا دفعنا من عرفة ووصلنا إلى الشعب الذي نزل فيه صلى الله عليه وسلم وبال أن ننزل ونبول ونتوضأ وضوء خفيفًا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم! فنقول: هذا لا يشرع.
وكذلك غيرها من الأمور التي وقعت اتفاقًا، فإنه لا يشرع التأسي فيه بذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم فعله لا على سبيل القصد للتعبد، والتأسي به تعبد.
ثالثًا: ما فعله بمقتضي العادة، فهل يشرع لنا التأسي به؟
الجواب: نعم، ينبغي لنا أن نتأسى به، لكن بجنسه لا بنوعه.
وهذه المسألة قل من يتفطن لها من الناس، يظنون أن التأسي به فيما هو على سبيل العادة بالنوع، ثم ينفون التأسي به في ذلك.
ونحن نقول: نتأسى به، لكن باعتبار الجنس، بمعنى أن نفعل ما تقتضيه العادة التي كان عليها الناس، إلا أن يمنع ذلك مانع شرعي.
رابعًا: ما فعله بمقتضي الجبلة، فهذا ليس من العبادات قطعًا، لكن قد يكون عبادة من وجه، بأن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم، فإنه بمقتضي الجبلة، لكن يسن أن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم، فإنه بمقتضي الجبلة، لكن يسن أن يكون على اليمين، والأكل والشرب جبلة وطبيعة، ولكن قد يكون عبادة من جهة أخري، إذا قصد به الإنسان امتثال أمر الله والتنعم بنعمه والقوة على عبادته وحفظ البدن، ثم إن صفة أيضًا تكون عبادة كالأكل باليمين، والبسملة عند البداءة، والحمدلة عند الانتهاء.
وهنا نسأل: هل اتخاذ الشعر عادة أو عبادة؟
يرى بعض العلماء أنه عبادة، وأنه يسن للإنسان اتخاذ الشعر.
ويري آخرون أن هذا من الأمور العادية، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رآه قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: «احلقوا كله أو ذروا كله»، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر ليس بعبادة، وإلا، لقال: أبقه، ولا تحلق منه شيئًا!
وهذه المسألة ينبغي التثبت فيها، ولا يحكم على شيء بأنه عبادة، إلا بدليل، لأن الأصل في العبادات المنع، إلا ما قام الدليل على مشروعيته.
وأتباع (1) سبيل السابقين (2) الأولين (3) من المهاجرين (4) والأنصار (5) ………
(1) أي: ومن طريقة أهل السنة اتباع … الخ، فهي معطوفة على (اتباع الآثار).
(2) يعني: إلى الأعمال الصالحة.
(3) يعني: من هذه الأمة.
(4) المهاجرون: من هاجروا إلى المدينة.
(5) الأنصار: أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* وإنما كان اتباع سبيلهم من منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم أقرب إلى الصواب والحق ممن بعدهم، وكلما بعد الناس عن عهد النبوة، بعدوا من الحق، وكلما قرب الناس من عهد النبوة، قربوا من الحق، وكلما كان الإنسان أحرص على معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، كان أقرب إلى الحق.
ولهذا ترى اختلاف الأمة بعد زمن الصحابة والتابعين أكثر انتشارًا وأشمل لجميع الأمور، لكن الخلاف في عهدهم كان محصورًا.
فمن طريقة أهل السنة والجماعة أن ينظروا في سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فيتبعوها، لأن اتباعها يؤدي إلى محبتهم، مع كونهم أقرب إلى الصواب والحق، خلافًا لمن زهد في هذه الطريقة، وصار يقول: هم رجال ونحن رجال! ونحن رجال! لا يبالي بخلافهم!! وكأن قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كقول فلان وفلان من أواخر هذه الأمة!! وهذا خطأ وضلال، فالصحابة أقرب إلى الصواب، وقولهم مقدم على قول غيرهم من أجل ما عندهم من الإيمان والعلم، وما عندهم من الفهم السليم التقوى والأمانة، وما لهم من صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واتباع (1) وصية (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (3) ……
(1) (اتباع): معطوف على (اتباع الآثار).
(2) (الوصية) العهد إلى غيره بأمر هام.
(3) معنى: (عليكم بسنتي …) إلخ: الحث على التمسك بها، وأكد هذا بقوله: «وعضوا عليها بالنواجذ»، وهي أقصي الأضراس، مبالغة في التمسك بها.
* والسنة: هي الطريقة ظاهرًا وباطنًا.
* والخلفاء الراشدين: هم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علمًا وعملًا ودعوة.
* وأول من يدخل في هذا الوصف وأولي من يدخل فيه: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
* ثم يأتي رجل في هذا العصر، ليس عنده من العلم شيء، ويقول: أذان الجمعة الأول بدعة، لأنه ليس معروفًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نقتصر على الأذان الثاني فقط!
فنقول له: إن سنة عثمان رضي الله عنه سنة متبعة إذا لم تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقم أحد من الصحابة الذين هم أعلم منك وأغير على دين الله بمعارضته، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهم.
ثم إن عثمان رضي الله عنه أعتمد على أصل، وهو أن بلالًا يؤذن قبل الفجر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا لصلاة الفجر، ولكن ليرجع القائم ويوقظ النائم، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بالأذان الأول يوم الجمعة، لا لحضور الإمام، ولكن لحضور الناس، لأن المدينة كبرت واتسعت واحتاج الناس أن يعلموا بقرب الجمعة قبل حضور الإمام، من أجل أن يكون حضورهم قبل حضور الإمام.
* فأهل السنة والجماع يتبعون ما أوصي به النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم من الحث على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، إلا إذا خالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعتذر عن هذا الصحابي، ونقول: هذا من باب الاجتهاد المعذور فيه.
وإياكم (1) ومحدثات الأمور (2) ……………………………………….
(1) (إياكم) للتحذير، أي: أحذركم.
(2) (والأمور): بمعنى: الشؤون، والمراد بها أمور الدين، أما أمور الدنيا، فلا تدخل في هذا الحديث، لأن الأصل في أمور الدنيا الحل، فما ابتدع منها، فهو حلال، إلا أن يدل الدليل على تحريمه. لكن أمور الدين الأصل فيها الحظر، فما ابتدع منها، فهو حرام بدعة، إلا بدليل من الكتاب والسنة على مشروعيته.
فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) …………………………
(1) قال النبي عليه الصلاة السلام: «فإن كل بدعة ضلالة»: الجملة مفرعة على الجملة التحذيرية، فيكون المراد بها هنا توكيد التحذير وبيان حكم البدعة.
هذا كلام عام مسور بأقوى لفظ دال على العموم، وهو لفظ (كل)، فهو تعميم محكم صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق بيانًا، وأصدقهم خبرًا، فاجتمعت في حقه أربعة أمور: علم ونصح وفصاحة وصدق، نطق بقوله: «كل بدعة ضلالة».
فعلى هذا: كل من تعبد لله بعقيدة أو قول أو فعل لم يكن من شريعة الله، فهو مبتدع.
فالجهمية يتعبدون بعقيدتهم، ويعتقدون أنهم منزهون لله، والمعتزلة كذلك. والأشاعرة يتعبدون بما هم عليه من عقيدة باطلة.
- والذين أحدثوا أذكارًا معينة يتعبدون لله بذلك، ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.
- والذين أحدثوا أفعالًا يتعبدون لله بها ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.
كل هذه الأصناف الثلاثة الذين ابتدعوا في العقيدة أو في الأقوال أو في الأفعال، كل بدعة من بدعهم، فهي ضلالة، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بالضلالة، لأنها مركب، ولأنها انحراف عن الحق.
* والبدعة تستلزم محاذير فاسدة:
فأولًا: تستلزم تكذيب قول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة:3]، لأنه إذا جاء ببدعة جديدة يعتبرها دينًا، فمقتضاه أن الدين لم يكمل.
ثانيًا: تستلزم القدح في الشريعة، وأنها ناقصة، فأكملها هذا المبتدع.
ثالثًا: تستلزم القدح في المسلمين الذين لم يأتوا بها، فكل من سبق هذه البدع من الناس دينهم ناقص! وهذا خطير!!
رابعًا:ما لوازم هذه البدعة أن الغالب أن من اشتغل ببدعة، انشغل عن سنة، كما قال بعض السلف: (ما أحدث قوم بدعة، إلا هدموا مثلها من السنة).
خامسًا: أن هذه البدع توجب تفرق الأمة، لأن هؤلاء المبتدعة يعتقدون أنهم أصحاب الحق، ومن سواهم على ضلال!! وأهل الحق يقولون: أنتم الذين على ضلال! فتتفرق قلوبهم.
فهذه مفاسد عظيمة، كلها تترتب على البدعة من حيث هي بدعة، مع أنه يتصل بهذه البدعة سفه في العقل وخلل في الدين.
* وبهذا نعرف أن من قسم البدعة إلى ثلاثة أقسام أو خمسة أو ستة، فقد أخطأ، وخطؤه من أحد وجهين:
- إما أن لا ينطبق شرعًا وصف البدعة على ما سماه بدعة.
- وإما أن لا يكون حسنًا كما زعم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بدعة ضلالة»، فقال: «كل»، فما الذي يخرجنا من هذا السور العظيم حتى نقسم البدع إلى أقسام؟
فإن قلت: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الناس وهم يصلون بإمامهم في رمضان، فقال: نعمت البدعة هذه. فأثني عليها، وسماها بدعة؟!
فالجواب أن نقول: ننظر إلى هذه البدعة التي ذكرها، هل ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية أو لا.
فإذا نظرنا لم يخرج وجدنا أنه لا ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي بأصحابه في رمضان ثلاث ليال، ثم تركه خوفًا من أن تفرض عليهم، فثبت أصل المشروعية، وانتفي أن تكن بدعة شرعية، ولا يمكن أن نقول: إنها بدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد صلاها.
وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة، لأن الناس تركوها، وصاروا لا يصلون جماعة بإمام واحد، بل أوزاعًا، الرجل وحده والرجلان والثلاثة والرهط، فلما جمعهم على إمام واحد، صار اجتماعهم بدعة بالنسبة لما كانوا عليه أولًا من هذا التفرق.
فإنه خرج رضي الله عنه ذات ليلة، فقال: لو أني جمعت الناس على إمام واحد، لكان أحسن، فأمر أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فقاما للناس بإحدى عشرة ركعة، فخرج ذات ليلة والناس يصلون بإمامهم، فقال: نعمت البدعة هذه.
إذًا، هي بدعة نسبية، باعتبار أنها تركت ثم أنشئت مرة أخرى.
فهذا وجه تسميتها ببدعة.
وأما أنها بدعة شرعية، ويثني عليها عمر، فكلا.
وبهذا نعرف أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارضه كلام عمر رضي الله عنه.
* فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، فأثبت أن الإنسان يسن سنة حسن في الإسلام؟
فنقول: كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضًا، ولا يتناقض، فيريد بالسنة الحسنة السنة المشروع، ويكون المراد بسنها المبادرة إلى فعلها.
يعرف هذا ببيان سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله حين جاء أحد الأنصار بصرة (يعني: من الدراهم)، ووضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا أصحابه أن يتبرعوا للرهط الذين قدموا من مضر مجتابي النمار، وهم من كبار العرب، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رأي من حالهم، فدعا إلى التبرع لهم، فجاء هذا الرجل أول ما جاء بهذه الصرة، فقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة».
أو يقال: المراد بالسنة الحسنة ما أحدث ليكون وسيلة إلى ما ثبتت مشروعيته، كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحو ذلك.
وبهذا نعرف أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضًا، بل هو متفق، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله (1) ………………………………
(1) هذا علمنا واعتقادنا، وأن ليس في كلام الله من كذب، بل هو أصدق الكلام، فإذا أخبر الله عن شيء بأنه كائن، فهو كائن، وإذا أخبر عن شيء بأنه سيكون، فإنه سيكون، وإذا أخبر عن شيء بأن صفته كذا وكذا، فإن صفته كذا وكذا، فلا يمكن أن يتغير الأمر عما أخبر الله به، ومن ظن التغير، فإنما ظنه خطأ، لقصوره أو تقصيره.
مثال ذلك لو قال قائل: إن الله عز وجل أخبر أن الأرض قد سطحت، قال: {وإلى الأرض كيف سطحت} [الغاشية: 20]، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة، فكيف يكون خبره خلاف الواقع؟
فجوابه أن الآية لا تخالف الواقع، ولكن فهمه خاطئ إما لقصوره أو تقصيره، فالأرض مكورة مسطحة، وذلك لأنها مستديرة، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها إلا في مساحة واسعة تكون بها مسطحة، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه، حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية.
فإذا كنا نؤمن أن أصدق الكلام كلام الله، فلازم ذلك أنه يجب علينا أن نصدق بكل ما أخبر به كتابه، سواء كان ذلك عن نفسه أو عن مخلوقاته.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (1) ………………………
(1) (الهدي): هو الطريق التي كان عليها السالك.
والطرق شتى، لكن خيرها طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم ذلك ونؤمن به، نعلم أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن هدي محمد صلى الله عليه وسلم ليس بقاصر، لا في حسنه وتمامه وانتظامه موافقته لمصالح الخلق، ولا في أحكام الحوادث التي لم تزل ولا تزال تقع إلى يم القيامة، فإن هدي محمد صلى الله عليه وسلم كامل تام، فهو خير الهدي، أهدي من شريعة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وجميع الهدي.
فإذا كنا نعتقد ذلك، فو الله، لا نبغي به دليلًا.
* وبناء على هذه العقيدة لا نعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، كائنًا من كان، حتى لو جاءنا قول لأبي بكر، وهو خير الأمة، وقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وأهل السنة والجماعة بنوا هذا الاعتقاد على الكتاب والسنة.
- قال الله تعالى: {ومن أصدق من الله حديثًا} [النساء: 87].
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على المنبر: «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم».
ولهذا تجد الذين اختلفوا في الهدي وخالفوا فيه: إما مقصرين عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما غالين فيها، بين متشددين وبين متهاونين، بين مفرط ومفرط، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بين هذا وهذا.
ويؤثرون (1) كلام الله غيره من كلام أصناف الناس (2) ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم (3) على هدي كل أحد (4).
(1) أي: يقدمون.
(2) أي يقدمون كلام الله على كلام غيره من سائر أصناف الناس في الخبر والحكم، فأخبار الله عندهم مقدمة على خبر كل أحد.
* فإذا جاءتنا أخبار عن أمم مضت وصار القرآن يكذبها، فإننا نكذبها.
مثال ذلك: اشتهر عند كثير من المؤرخين أن إدريس قبل نوح، وهذا كذب، لأن القرآن يكذبه، كما قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]، وإدريس من النبيين، كما قال الله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقًا نبيًّا} [مريم: 56] إلى أن قال: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح} [مريم: 58]، وقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26] فلا نبي قبل نوح إلا آدم فقط.
(3) أي: طريقته وسنته التي عليها.
(4) في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال وفي كل شيء، لقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]، وقوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [أل عمران: 31].
ولهذا (1) سموا أهل الكتاب والسنة (2) وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة في الاجتماع وضدها الفرقة (3) وإن كان لفظ الجماعة قد صار أسمًا لنفس القوم المجتمعين (4) …..
(1) قوله: (ولهذا): اللام في قول: (ولهذا) للتعليل، أي: ومن أجل إيثارهم كلام الله وتقديم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) لتصديقهما والتزامهما وإيثارهما على غيرها. ومن خالف الكتاب والسنة، وادعي أنه من أهل الكتاب والسنة، فهو كاذب، لأن من كان من أهل شيء لابد أن يلزمه ويلتزم به.
(3) الجماعة اسم مصدر يجتمع اجتماعًا وجماعة، فالجماعة هي الاجتماع، فمعني أهل الجماعة أهل الاجتماع، لأنهم مجتمعون على السنة، متآلفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضًا، ولا يبدع بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع.
(4) هذا استعمال ثان، حيث صار لفظ (الجماعة) عرفًا: اسمًا للقوم المجتمعين.
* وعلى ما قرره المؤلف تكون (الجماعة) في قولنا: (أهل السنة والجماعة): معطوفة على (السنة)، ولهذا عبر المؤلف بقوله: (سموا أهل الجماعة)، ولم يقل: سموا جماعة، فكيف يكونون أهل الجماعة وهم جماعة؟
نقول: الجماعة في الأصل: الاجتماع، فأهل الجماعة، يعني: أهل الاجتماع، لكن نقل اسم الجماعة إلى القوم المجتمعين نقلًا عرفيًا.
والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين (1) …………
(1) يعني به الدليل الثالث، لأن الأدلة أصول الأحكام، حيث تبني عليها.
* والأصل الأول: هو الكتاب، والثاني: السنة، والإجماع هو: الأصل الثالث، ولهذا يسمون: أهل الكتاب والسنة والجماعة.
* فهذه ثلاثة أصول يعتمد عليها في العلم والدين، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب والسنة، فأصلان ذاتيان، وأما الإجماع، فأصل مبني على غيره، إذ لا إجماع إلا بكتاب أو سنة.
* أما كون الكتاب والسنة يرجع إليه، فأدلته كثيرة، منها:
- قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]. وقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [المائدة: 92].
- وقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] قوله تعالى: {مع يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
ومن أنكر أن تكون السنة أصلًا في الدليل، فقد أنكر أن يكون القرآن أصلًا.
ولا شك عندنا في أن من قال: إن السنة لا يرجع إليها في الأحكام الشرعية، أنه كافر مرتد عن الإسلام، لأنه مكذب ومنكر للقرآن، فالقرآن في غير ما موضع جعل السنة أصلًا يرجع إليه.
وأما الدليل على أن الإجماع أصل، فيقال:
أولًا: هل الإجماع موجود أو غير موجود؟
قال بعض العلماء: لا إجماع موجود، إلا على ما فيه نص، وحينئذ، يستغني بالنص عن الإجماع.
فمثلًا، لو قال قائل: العلماء مجمعون على أن الصلوات المفروضة خمس، فهذا صحيح، لكن ثبوت فرضيتها بالنص.
ومجمعون على تحريم الزنا، فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.
ومجمعون على تحريم نكاح ذوات المحارم فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.
ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يدريه؟ لعلهم اختلفوا.
والمعروف عن عامة العلماء أن الإجماع موجود، وأن كونه دليلًا ثابت بالقرآن والسنة:
- فمن ذلك قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]، فإن قوله: {إن تنازعتم في شيء فردوه} : يدل على أن ما أجمعنا عليه لا يجب رده إلى الكتاب والسنة، اكتفاء بالإجماع! وهذا الاستدلال فيه شيء!!
- - ومن ذلك قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيرًا} [النساء: 115]، فقال{ويتبع غير سبيل المؤمنين}.
- واستدلوا أيضًا بحديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة».
- وهذا الحديث حسنه بعضهم وضعفه آخرون، لكن قد نقول: إن هذا، وإن كان ضعيف السند، لكن يشهد لمتنه ما سبق من النص القرآني.
فجمهور الأمة على أن الإجماع دليل مستقل، وأننا إذا وجدنا مسألة فيها إجماع، أثبتناها بهذا الإجماع.
وكأن المؤلف رحمه الله يريد من هذه الجملة إثبات أن إجماع أهل السنة حجة.
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين (1) والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذا بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة (2) ……………………………………………
(1) (الأصول الثلاثة): هي الكتاب والسنة والإجماع.
* يعني: أن أهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من قول أو عمل، باطن أو ظاهر، لا يعرفون أنه حق، إلا إذا وزنوه بالكتاب والسنة والإجماع، فإن وجد له دليل منها، فهو حق، وإن كان على خلافه، فهو باطل.
(2) يعني أن الإجماع الذي يمكن ضبطه والإحاطة به هو ما كان عليه السلف الصالح وهم القرون الثلاثة، الصحابة والتابعون وتابعوهم.
* ثم علل المؤلف ذلك بقوله: (إذ بعدهم كثر الاختلاف وكثرت الأمة) يعني: أنه كثر الاختلاف ككثرة الأهواء، لأن الناس تفرقوا طوائف، ولم يكونوا كلهم يريدون الحق، فاختلفت الآراء، وتنوعت الأقوال، (وانتشرت الأمة): فصارت الإحاطة بهم من أصعب الأمور.
فشيخ الإسلام رحمه الله كأنه يقول: من ادعي الإجماع بعد السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، فإنه لا يصح دعواه الإجماع، لأن الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، وهل يمكن أن يوجد إجماع بعد الخلاف؟ فنقول: لا إجماع مع وجود خلاف سابق ولا عبرة بخلاف بعد تحقق الإجماع.