فصل: كِتَابُ الْمَفْقُودِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ الْمَفْقُودِ:

(إذَا غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ) لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي نَصْبِ الْحَافِظِ لِمَالِهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ لَهُ.
وَقولهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ لِإِخْفَاءِ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِهِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لَهُ بِحِفْظِ الْمَعْنَى (وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ حِفْظِ السُّورَةِ وَهُوَ مُمْكِنٌ.
قَالَ: (وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ) وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ قَرَابَةِ الْوِلَادِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ، فَمِنْ الْأَوَّلِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْكِبَارِ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ، وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ.
وَقولهُ مِنْ مَالِهِ مُرَادُهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ مُقِرِّينَ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ أَوْ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
فَإِنْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا أَوْ كَانَا جَاحِدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالنَّسَبَ لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْمَفْقُودِ:
هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُدْرَى حَيَاتُهُ وَلَا مَوْتُهُ.
قولهُ: (إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَالِهِ (وَيَسْتَوْفِي حُقُوقَهُ لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ فِي أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا (وَقولهُ) أَيْ قول الْقُدُورِيِّ (يَسْتَوْفِي فِي حُقُوقِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ) أَيْ بِعَقْدِ الَّذِي نَصَّبَ الْقَاضِي (لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِ عَقْدِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ) وَلَا فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ إذَا جَحَدَ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ يَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) يَعْنِي إذَا كَانَ وَكِيلُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ (فَلَوْ قَضَى بِخُصُومَتِهِ كَانَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ) وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقول لِلْغَائِبِ: وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِيمَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمَفْقُودِ دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ شَرِكَةً فِي عَقَارٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ رَدًّا بِعَيْبٍ أَوْ مُطَالَبَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَلَا الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا يُسْمَعَانِ عَلَى خَصْمٍ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ خَصْمًا، وَالْوَرَثَةُ إنَّمَا يَصِيرُونَ خُصَمَاءَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ بَعْدُ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ.
(وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي) أَيْ إذَا رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ لِلْغَائِبِ وَعَلَيْهِ فَحَكَمَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حَتَّى يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّ نَفَاذَ قَضَائِهِ لَمَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ.
أُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ سَبَبُهُ وَهُوَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَمْ لَا، وَإِذَا قَضَى بِهَا نَفَذَ كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ الْفَتْوَى عَلَى هَذَا (ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ) كَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا (يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لِلْغَائِبِ بِحِفْظِ مَعْنَاهُ) وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ فَسَادَهُ مَنْقولا كَانَ أَوْ عَقَارًا (فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْقَاضِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي الْحِفْظِ وَفِي الْبَيْعِ تَرْكُ حِفْظِ الصُّورَةِ بِلَا مُلْجِئٍ فَلَا يَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا عُرُوضٌ أَوْ عَقَارٌ أَوْ خَادِمٌ وَاحْتَاجَ وَلَدُهُ) أَوْ زَوْجَتُهُ إلَى النَّفَقَةِ لَا يُبَاعُ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعُرُوضَ عَلَى الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُوصَى، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ فِيهِ مَعْنَى حَقِّهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ حِفْظُ الثَّمَنِ لِلْإِيصَالِ إلَى وَرَثَتِهِ أَيْسَرَ، وَهُنَا لَا وِلَايَةَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَفْقُودِ إلَّا فِي الْحِفْظِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُحْتَاجٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ عُرُوضِهِ وَيُنْفِقُهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَفِي الْقِيَاسِ: لَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعُرُوضِ وَهُوَ قولهُمَا.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ قول أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَبَ وَإِنْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بَقِيَ أَثَرُهَا حَتَّى صَحَّ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ كَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ، وَلِلْوَصِيِّ بَيْعُ الْعُرُوضِ دُونَ الْعَقَارِ (وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ) يَعْنِي الْحَاصِلَ فِي بَيْتِهِ وَالْوَاصِلُ مِنْ ثَمَنِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَمِنْ مَالِهِ مُودِعٌ عِنْدَ مُقِرٍّ وَدَيْنٌ عَلَى مُقِرٍّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ) قُلْت: وَلَا هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ فِيهِمْ بَلْ يَعُمُّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ، يَعْنِي مِنْ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا (وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ) لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا حَاجَتَهُمْ بِيَدِهِمْ مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ جِنْسُ حَقِّهِمْ مِنْ النَّقْدِ وَالثِّيَابُ لِلُّبْسِ فَكَانَ إعْطَاءُ الْقَاضِي إنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَهُ أَوْ تَمْكِينُهُمْ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ إعَانَةً لَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَأْذُونِينَ شَرْعًا أَنْ يَتَنَاوَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ (وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) فَمِنْ الْأَوَّلِ: أَعْنِي الْمُسْتَحِقِّينَ بِلَا قَضَاءٍ (الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ الْكِبَارُ) إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَالٌ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ حُضُورِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْبَتِهِ، إلَّا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْعَقْدِ وَالِاحْتِبَاسِ وَاسْتِحْقَاقَ غَيْرِهَا بِالْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْغِنَى (وَمِنْ الثَّانِي) يَعْنِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ (الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ) وَنَحْوُهُمْ مِنْ قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ.
(وَقولهُ) أَيْ قول الْقُدُورِيِّ (مِنْ مَالِهِ، يَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ) عَيْنُ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ (يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ) أَيْ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ (وَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالتِّبْرُ فِي يَدِ الْقَاضِي (فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا) إنْ كَانَ الْمُودِعُ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ الْمَدْيُونُ كَذَلِكَ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ.
(وَهَذَا) يَعْنِي اشْتِرَاطَ إقْرَارِهِمَا بِالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ (إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ) عِنْدَ الْقَاضِي (فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ) مَعْرُوفَيْنِ لَهُ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِهِمَا بِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ أَحَدَهُمَا الْوَدِيعَةَ وَالدَّيْنَ أَوْ النِّكَاحَ وَالنَّسَبَ) جَعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ وَاحِدًا (يَشْتَرِطُ إقْرَارَ مَنْ فِي جِهَتِهِ الْمَالُ بِالْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ ظَاهِرًا فَيُقِرُّ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ وَهَذَا وَلَدُهُ، وَفِي الثَّانِي بِأَنَّ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةً أَوْ عَلَيَّ دَيْنُهُ وَقولهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ الَّذِي قَالَ بِهِ زُفَرُ لَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ، قَالَ: لَا يُنْفِقُ مِنْ الْوَدِيعَةِ شَيْئًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودِعِ بِذَلِكَ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ لَيْسَ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ بِلَا خَصْمٍ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الدَّيْنِ أَيْضًا.
قُلْنَا: الْمُودِعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ، وَأَنَّ لِلْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَيْسَ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ خَاصَّةً بَلْ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِ الْمَفْقُودِ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا فِي جَوَابِهِ: نَعَمْ الْقِيَاسُ مَا ذَكَرْت، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا ذَلِكَ بِحَدِيثِ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ.
قَالَ فِيهِ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ بِالْمَعْرُوفِ» إذْ هُوَ يُفِيدُ مُطْلَقًا جَوَازَ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ لِمَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ فِي الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ قَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ بِالْقِيَاسِ، وَثُبُوتُ نَفَقَةِ الْأَبِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهَا آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ، بَلْ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَالْأَبُ يَسْتَحِقُّهَا بِمُجَرَّدِهَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ.
قولهُ: (وَلَوْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ) فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ هَؤُلَاءِ بِالْقَبْضِ، وَلَيْسَ الْقَاضِي نَائِبًا فِي الْحِفْظِ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ.
وَفِي إيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ أَيْضًا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ إلَى سَمَاعِ بَيِّنَةٍ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَفِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِهِ، بِخِلَافِ الْمُودِعِ فَإِنَّهُ الْمَأْمُورُ بِالْحِفْظِ فَقَطْ فَيَضْمَنُ إذَا أَعْطَاهُمْ بِلَا أَمْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُودِعُ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ فِي عِيَالِ الْمُودِعِ بَرِئَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ لِلْحِفْظِ عَلَيْهِ لَا لِلْإِتْلَافِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاضِي مِنْهَا كَفِيلًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ ذَهَابِهِ أَوْ عَجَّلَ لَهَا النَّفَقَةَ، لَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَخْذُ الْكَفِيلِ إلَّا لِخَصْمٍ وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ طَالِبٌ هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا، أَيْ جَاحِدَيْنِ لِكُلٍّ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالزَّوْجِيَّةِ (أَوْ جَاحِدَيْنِ النَّسَبَ وَالزَّوْجِيَّةَ) مُعْتَرِفَيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَلَيْسَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي (لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ) الزَّوْجَةِ أَوْ الْأَبِ أَوْ الِابْنِ (خَصْمًا فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُودِعَ وَالْمَدْيُونَ لَيْسَا خَصْمًا فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَضَاءِ بِهَا، وَلَا مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ سَبَبًا مُتَعَيِّنًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ النَّفَقَةُ (لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ) وَسَتَعْرِفُ تَفْصِيلَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَدَبِ الْقَاضِي قَالَ: (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَاهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ وَكَفَى بِهِ إمَامًا، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ الْمِقْدَارَ مِنْهُمَا الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ.
وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ «إَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ».
وَقول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا: هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يُزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا فَكَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ، وَلَا بِالْعُنَّةِ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَعْقُبُ الْأَوَدَةَ، وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ) وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ (فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْقَاضِي بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ) فَإِنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا بَعْدَ مُدَّةٍ كَذَلِكَ، وَهَذَا مِنْهُ فِي الْإِيلَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بَلْ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَعْدَهَا، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ فِي الْمُدَّةِ الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا (عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ) وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْجِنُّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ: أَنَّ رَجُلًا انْتَسَفَتْهُ الْجِنُّ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ عُمَرَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أَمَرَ وَلِيَّهُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَتْ، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا خُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالصَّدَاقِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ الْفَقِيدِ الَّذِي فُقِدَ قَالَ: دَخَلْت الشِّعْبَ فَاسْتَهْوَتْنِي الْجِنُّ، فَمَكَثْت أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أَتَتْ امْرَأَتِي عُمَرَ الْحَدِيثُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَمَّا جَاءَ: إنْ شِئْت رَدَدْنَا إلَيْكَ امْرَأَتَكَ وَإِنْ شِئْتَ زَوَّجْنَاكَ غَيْرَهَا، قَالَ: بَلْ زَوِّجْنِي غَيْرَهَا، ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجِنِّ وَهُوَ يُخْبِرُهُ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ: ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَحِلُّ.
وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَا فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: تَذَاكَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ الْمَفْقُودَ فَقَالَا: تَتَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا ثُمَّ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ «إنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ») أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» وَفِي بَعْضِ نُسَخِه: «حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ» وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: إنَّهُ يَرْوِي عَنْ الْمُغِيرَةِ مَنَاكِيرَ أَبَاطِيلَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَسَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ. أَشْهَرُ فِي الْمَتْرُوكِينَ مِنْهُ.
ثُمَّ عَارَضَ الْمُصَنِّفُ بِقول عَلِيٍّ قول عُمَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ.
أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عَلِيًّا مِثْلُهُ.
وَقَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَافَقَ عَلِيًّا عَلَى أَنَّهَا تَنْتَظِرُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَجَابِرِ بْنِ يَزِيدَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ كُلُّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتُهُ.
وَقولهُ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إلَخْ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ، وَالشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَا مُثْبِتًا بِالْأَصَالَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ ابْنَ مَسْعُودٍ مُرَجِّحٌ آخَرُ.
ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي مُرَجِّحٍ آخَرَ فَقَالَ: (وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ) وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قول عَلِيٍّ.
ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ رَجَعَ فِيهَا عُمَرُ إلَى قول عَلِيٍّ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ، وَامْرَأَةُ أَبِي كَنَفٍ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا.
وَقولنَا فِي الثَّلَاثِ قول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَامْرَأَةُ الْمَفْقُودِ عُرِفَتْ، وَأَمَّا امْرَأَةُ أَبِي كَنَفٍ فَكَانَ أَبُو كَنَفٍ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى غَابَ ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ، فَأَتَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَقَدِمَ عَلَى أَهْلِهَا وَقَدْ وَضَعَتْ الْقُصَّةَ عَلَى رَأْسِهَا فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ لِي إلَيْهَا حَاجَةً فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَبَاتَ عِنْدَهَا ثُمَّ غَدَا إلَى الْأَمِيرِ بِكِتَابِ عُمَرَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ جَاءَ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ، وَهَذَا أَعْنِي عَدَمَ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِي حَقِّهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِهَا حَتَّى إذَا اعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى قول عَلِيٍّ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إيَّاهَا صَحِيحٌ وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَا.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَالْمَرْأَةُ الَّتِي يُنْعَى إلَيْهَا زَوْجُهَا فَتَعْتَدُّ وَتَتَزَوَّجُ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ فِيهَا إذَا أَتَى زَوْجُهَا حَيًّا يُخَيِّرُهُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قول عَلِيٍّ وَهُوَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي وَلَهَا الْمَهْرُ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا) وَهَذَا عَلَى رَأْيِنَا بِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِالْإِيلَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي.
قَالَ: (وَلَا بِالْعُنَّةِ) لِأَنَّ فِي الْغَالِبِ تَعْقُبُهَا الرَّجْعَةُ (وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً) فَكَانَ عَوْدُ الْمَفْقُودِ أَرْجَى مِنْ زَوَالِ الْعُنَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ مَا شَرَعَ فِيهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ.
وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ اعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ (وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً (وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ (وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ) وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَعْمَارَ فِي زَمَانِنَا قَلَّمَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، بَلْ لَا يُسْمَعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقَدَّرُ بِهَا تَقْدِيرًا بِالْأَكْثَرِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ إنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى قول أَهْلِ الطَّبَائِعِ فَإِنَّهُمْ يَقولونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقولهُمْ بَاطِلٌ بِالنُّصُوصِ كَنُوحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، فَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ تَوْجِيهًا لِمَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَكَيْفَ وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالتَّوَارِيخُ بِالْأَعْمَارِ السَّالِفَةِ لِلْبَشَرِ بَلْ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا فِي قول لَهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ يَعْتَرِفُونَ بِبُطْلَانِهِ وَيُوجِبُونَ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مِنْ النَّوَادِرِ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ مَوْتِ أَقْرَانِهِ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْتُ أَقْرَانِهِ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ وَآخَرُونَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْتُ أَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ، فَإِنَّ الْأَعْمَارَ قَدْ تَخْتَلِفُ طُولًا وَقِصَرًا بِحَسَبِ الْأَقْطَارِ بِحَسَبِ إجْرَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ، وَلِذَا قَالُوا: إنَّ الصَّقَالِبَةَ أَطْوَلُ أَعْمَارًا مِنْ الرُّومِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا كَبِيرًا فِي تَعَرُّفِ مَوْتِهِمْ مِنْ الْبُلْدَانِ، بِخِلَافِهِ مِنْ بَلَدِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ نَوْعُ حَرَجٍ مُحْتَمَلٌ.
وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَذُكِرَ عَنْهُ وَجْهٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاعَبَةِ مِنْهُ لَهُمْ.
قِيلَ إنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: أَنَا أُبَيِّنُهُ لَكُمْ بِطَرِيقٍ مَحْسُوسٍ فَإِنَّ الْمَوْلُودَ إذَا كَانَ بَعْدَ عَشْرٍ يَدُورُ حَوْلَ أَبَوَيْهِ هَكَذَا وَعَقَدَ عَشْرًا، فَإِذَا كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ فَهُوَ بَيْنَ الصِّبَا وَالشَّبَابِ هَكَذَا، وَعَقَدَ عِشْرِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ يَسْتَوِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ أَرْبَعِينَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَثْقَالُ هَكَذَا وَعَقَدَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ يَنْحَنِي مِنْ كَثْرَةِ الْأَثْقَالِ وَالْأَشْغَالِ هَكَذَا وَعَقَدَ خَمْسِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سِتِّينَ يَنْقَبِضُ لِلشَّيْخُوخِيَّةِ هَكَذَا وَعَقَدَ سِتِّينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِينَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا هَكَذَا وَعَقَدَ سَبْعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ يَسْتَلْقِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَمَانِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ تِسْعِينَ تَنْضَمُّ أَعْضَاؤُهُ فِي بَطْنِهِ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ مِائَةٍ يَتَحَوَّلُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْعُقْبَى كَمَا يَتَحَوَّلُ الْحِسَابُ مِنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ فِي الْمَفْقُودِ احْتِيَاطًا، وَالْغَالِبُ فِيمَنْ طَالَ عُمُرُهُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمِائَةَ.
فَقولهُ فِي الْمَبْسُوطِ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يُفْتِي بِقول أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَسَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ مُوجِبًا لِخَطَئِهِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ عِنْدَهُ، وَكَوْنُهُ هُوَ خَرَجَ عَنْ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِيمَا أَعْطَى مِنْ الْحُكْمِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ سِرَاجُ الدِّينِ فِي فَرَائِضِهِ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهَا مِائَةُ سَنَةٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ بَعْدَهَا نَادِرٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ.
وُورِيَ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ قولهِ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ أَنَّهَا تِسْعُونَ سَنَةً لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ زَمَانِنَا هَذَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَعْمَارِ الطِّوَالِ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ لَا تَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ، نَعَمْ الْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ اخْتَارُوا سِتِّينَ بَنَوْهُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ الْأَعْمَارِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَا جَاءَ إلَّا مِنْ اخْتِلَافِ الرَّأْيِ فِي أَنَّ الْغَالِبَ هَذَا فِي الطُّولِ أَوْ مُطْلَقًا، فَلِذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْأَلْيَقُ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَهَذَا هُوَ قول الْمُصَنِّفِ الْأَقْيَسُ إلَخْ، وَلَكِنْ نَقول: إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ اعْتِبَارًا لِحَالِهِ بِحَالِ نَظَائِره، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَرْفَقُ) أَيْ بِالنَّاسِ (أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ) وَأَرْفَقُ مِنْهُ التَّقْدِيرُ بِسِتِّينَ.
وَعِنْدِي الْأَحْسَنُ سَبْعُونَ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ» فَكَانَتْ الْمُنْتَهَى غَالِبًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، فَأَيُّ وَقْتٍ رَأَى الْمَصْلَحَةَ حَكَمَ بِمَوْتِهِ وَاعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ لِلْوَفَاةِ كَأَنَّهُ مَاتَ فِيهِ مُعَايَنَةً، إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ.
قولهُ: (وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ) أَيْ مِمَّنْ يَرِثُ الْمَفْقُودَ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ (لَمْ يَرِثْ مِنْ الْمَفْقُودِ) بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَفْقُودِ فَتَجْرِي مُنَاسَخَةٌ فَتَرِثُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمَفْقُودِ (لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ بَعْدُ) وَحِينَ مَاتَ هَذَا كَانَ الْمَفْقُودُ مَحْكُومًا بِحَيَاتِهِ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً (وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) يَعْنِي وَقْتَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ (بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ) بَلْ فِي دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَلِذَا جَعَلْنَاهُ حَيًّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يُورَثُ مَالُهُ فِي حَالِ فَقْدِهِ مَيِّتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَرِثُ هُوَ غَيْرَهُ.

متن الهداية:
(وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي) ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى أَصْلًا.
بَيَانُهُ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنِ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ وَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَلَا يُعْطَى وَلَدَ الِابْنِ لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ (وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ) وَنَظِيرُ هَذَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنِ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(وَكَذَلِكَ) لَوْ (أَوْصَى لَهُ وَمَاتَ الْمُوصِي) فِي حَالِ فَقْدِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَقْضِي بِهَا وَلَا أُبْطِلُهَا حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ: يَعْنِي يُوقَفُ نَصِيبُ الْمَفْقُودِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ إلَى أَنْ يَقْضِيَ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا قُضِيَ بِهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ الْآنَ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَالِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ فُقِدَ، وَهَذَا مَعْنَى قولنَا الْمَفْقُودُ مَيِّتٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
قولهُ: (ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِالْمَفْقُودِ) حَجْبَ حِرْمَانٍ (وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطِي) ذَلِكَ الْوَارِثُ (أَقَلَّ نَصِيبِهِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي) حَتَّى يَظْهَرَ حَيَاةُ الْمَفْقُودِ أَوْ مَوْتُهُ أَوْ يُقْضَى بِمَوْتِهِ (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطِي) لِذَلِكَ الْوَارِثِ شَيْئًا (بَيَانُهُ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنٍ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ أَوْ ابْنَةِ ابْنٍ وَالْمَالُ) الْمَوْرُوثُ (فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ وَتَصَادَقُوا) أَيْ الْأَجْنَبِيُّ وَالْوَرَثَةُ (عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الْبِنْتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ) لِأَنَّ أَخَاهُمَا الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَلَهُمَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، فَالنِّصْفُ مُتَيَقَّنٌ فَتُعْطِيَانِهِ.
(وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ) فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ (وَلَا يُعْطَى وَلَدُ الِابْنِ شَيْئًا) لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ (إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ) بِأَنْ كَانَ أَنْكَرَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عِنْدَهُ مَالًا حَتَّى أَقَامَتْ الْبِنْتَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَقَضَى بِهَا، لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُؤْخَذُ الْفَضْلُ الْبَاقِي مِنْهُ وَيُوضَعُ فِي يَدِ عَدْلٍ لِظُهُورِ خِيَانَتِهِ، وَلَوْ كَانُوا لَمْ يَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ بَلْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ ثُلُثَيْهِ لِلْبِنْتَيْنِ فَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ لَهُمَا وَلَا يَمْنَعُ إقْرَارَهُ قول أَوْلَادِ الِابْنِ أَبُونَا أَوْ عَمُّنَا مَفْقُودٌ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْقول لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا وَيُوقَفُ الثُّلُثُ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْبِنْتَيْنِ وَاتَّفَقُوا عَلَى الْفَقْدِ لَا يُحَوَّلُ الْمَالُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا يُؤَخَّرُ شَيْءٌ لِلْمَفْقُودِ بَلْ يُقْضَى لِلْبِنْتَيْنِ بِالنِّصْفِ مِيرَاثًا وَيُوقَفُ النِّصْفُ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا دُفِعَ إلَيْهِ.
وَإِنْ ظَهَرَ مَيِّتًا أُعْطِيَ الْبِنْتَانِ سُدُسَ كُلِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَلَوْ قَالَتْ الْبِنْتَانِ مَاتَ أَخُونَا وَلَيْسَ بِمَفْقُودٍ وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ بَلْ مَفْقُودٌ وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا أُعْطِيَتَا الثُّلُثَيْنِ وَوُقِفَ الثُّلُثُ، لِأَنَّهُمَا فِي هَذِهِ يَدَّعِيَانِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَإِنْ ظَهَرَ حَيَاتُهُ أَخَذَ مِنْهُمَا السُّدُسَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ وَلَدِ الْمَفْقُودِ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ مَفْقُودٌ يُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ، لِأَنَّهُمَا إنَّمَا ادَّعَيَاهُ بِالْإِقْرَارِ بِفَقْدِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ فِي يَدِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ.
وَلَوْ ادَّعَى وَلَدُ الْمَفْقُودِ أَنَّ أَبَاهُمَا مَاتَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِمَا شَيْئًا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَهُ يُعْطَى لَهُمْ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ لِلْبِنْتَيْنِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَلَى هَذَا مَاتَ عَنْ بِنْتَيْنِ وَأَوْلَادِ ابْنٍ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ يُعْطَى لَهُمْ النِّصْفُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَاتَ عَنْ بِنْتٍ وَابْنٍ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ وَلَدٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَظِيرُهُ) أَيْ فِي وَقْفِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي النَّصِيبِ (الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ أَرْبَعِ بَنِينَ لِمَا قَالَ شَرِيكٌ: رَأَيْت بِالْكُوفَةِ لِأَبِي إسْمَاعِيلَ أَرْبَعَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَعَمًّا، عَنْ مُحَمَّدٍ مِيرَاثُ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، وَفِي أُخْرَى نَصِيبُ ابْنَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (وَلَوْ كَانَ مَعَ الْحَمْلِ وَارِثٌ آخَرُ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ) يُعْطَى كُلُّ نَصِيبِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَكَذَا إذَا تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا تُعْطَى الْمَرْأَةُ الثُّمُنَ (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطِي) شَيْئًا (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ وَيُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ) مِثَالُهُ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا: وَجَدَّةً تُعْطَى السُّدُسَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ لَهَا، وَلَوْ تَرَكَ حَامِلًا وَأَخًا وَعَمًّا لَا يُعْطِي شَيْئًا لِأَنَّ الْأَخَ يَسْقُطُ بِالِابْنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَكَانَ بَيْنَ أَنْ يَسْقُطَ وَلَا يَسْقُطُ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ مَشْكُوكًا فِيهِ فَلَا يُعْطِي شَيْئًا.
وَلَوْ تَرَكَ حَامِلًا وَأُمًّا أَوْ زَوْجَةً تَأْخُذُ الْأُمُّ السُّدُسَ وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا أَخَذَتْ الْأُمُّ الثُّلُثَ أَوْ حَيًّا أَخَذَتْ السُّدُسَ وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا أَخَذَتْ الرُّبُعَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.كِتَابُ الشِّرْكَةِ:

(الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الشِّرْكَةِ:
هُوَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِي الْمَعْرُوفِ.
أَوْرَدَ الشِّرْكَةَ عَقِيبَ الْمَفْقُودِ لِتَنَاسُبِهِمَا بِوَجْهَيْنِ: كَوْنُ مَالِ أَحَدِهِمَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ مَالَ الْمَفْقُودِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْحَاضِرِ.
وَكَوْنُ الِاشْتِرَاكِ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ كَمَا لَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَلَهُ وَارِثٌ آخَرُ وَالْمَفْقُودُ حَيٌّ، وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَهُمَا.
وَالْأُولَى عَامَّةٌ فِيهِمَا.
وَفِي الْآبِقِ وَاللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ مَالٍ مَعَ اللَّقِيطِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْقُودَ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهُ الْإِبَاقَ لِشُمُولِ عَرَضِيَّةِ الْهَلَاكِ كُلًّا مِنْ نَفْسِ الْمَفْقُودِ وَالْآبِقِ.
وَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ تَخَيَّلَ أَنَّ عَرَضِيَّةَ الْهَلَاكِ لِلْمَالِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمَالَ عَلَى عَرَضِيَّةِ التَّوَى.
وَحَاصِلُ مَحَاسِنِ الشِّرْكَةِ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ.
وَالشِّرْكَةُ لُغَةً: خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا، وَمَا قِيلَ إنَّهُ اخْتِلَاطُ النَّصِيبَيْنِ تَسَاهَلَ، فَإِنَّ الشِّرْكَةَ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ الشِّرْكُ مَصْدَرُ شَرِكْت الرَّجُلَ أُشْرِكُهُ شِرْكًا، فَظَهَرَ أَنَّهَا فِعْلُ الْإِنْسَانِ وَفِعْلُهُ الْخَلْطُ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَاطُ فَصَفْقَةٌ تَثْبُتُ لِلْمَالِ عَنْ فِعْلِهِمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ مِنْ الْمَادَّةِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ اسْمَهُ الِاشْتِرَاكُ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِعْلُهُمَا أَيْضًا مَصْدَرُ اشْتِرَاكِ الرَّجُلَانِ افْتِعَالٌ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَيُعَدَّى إلَى الْمَالِ بِحَرْفِ: فِي. فَيُقَالُ اشْتَرَكَا فِي الْمَالِ: أَيْ حَقَّقَا الْخَلْطَ فِيهِ، فَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ فِيهِ: أَيْ تَعَلَّقَ بِهِ اشْتِرَاكُهُمَا: أَيْ خَلْطُهُمَا.
وَرُكْنُهَا فِي شَرِكَةِ الْعَيْنِ اخْتِلَاطُهُمَا، وَفِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ اللَّفْظُ الْمُفِيدُ لَهُ.
هَذَا وَيُقَالُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْعَقْدِ نَفْسُهُ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْخَلْطِ، فَإِذَا قِيلَ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِالْإِضَافَةِ فَهِيَ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ.
قولهُ: (الشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ إلَى آخِرِهِ) قِيلَ شَرْعِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقول.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقولهُ تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَهَذَا خَاصٌّ بِشَرِكَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ شَرِكَةُ الْعَقْدِ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ} أَيْ مِنْ الْمُشْتَرِكِينَ لَا يَنُصُّ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةُ قول دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا لِلْخَصْمَيْنِ عَنْ شَرِيعَتِهِ إذْ ذَاكَ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهُ فِي شَرِيعَتِنَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ عَنْ السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْت شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْت خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِئُ وَلَا تُمَارِي» وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ السَّائِبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارَكَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي كَانَ لَا يُدَارِئُ وَلَا يُمَارِي، يَا سَائِبُ قَدْ كُنْت تَعْمَلُ أَعْمَالًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُقْبَلُ مِنْك وَهِيَ الْيَوْمَ تُقْبَلُ مِنْك» وَكَانَ ذَا سَلَفٍ وَصَدَاقَةٍ، وَاسْمُ السَّائِبِ صَيْفِيُّ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَقول السُّهَيْلِيِّ فِيهِ إنَّهُ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ السَّائِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَرَادَ الْحُجَّةَ فِي تَعْيِينِ الشَّرِيكِ مَنْ كَانَ، أَمَّا غَرَضُنَا وَهُوَ ثُبُوتُ مُشَارَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَابِتٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ: يُدَارِئُ مَهْمُوزٌ فِي الْحَدِيثِ: أَيْ يُدَافِعُ.
ثُمَّ إيرَادُ الْمَشَايِخِ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ جُزْءُ الدَّلِيلِ: أَعْنِي أَنَّهُ بُعِثَ وَهُمْ يَتَشَارَكُونَ فَقَرَّرَهُمْ وَمُفِيدُ الْجُزْءِ الثَّانِي مَا فِي أَبِي دَاوُد وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَا خَرَجْت مِنْ بَيْنِهِمَا» زَادَ رَزِينٌ «وَجَاءَ يَد الشَّيْطَانِ» وَضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ بِجَهَالَةِ وَالِدِ أَبِي حَيَّانَ وَهُوَ سَعِيدٌ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ حَيَّانَ.
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا» وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الشِّرْكَةِ مَشْرُوعَةً أَظْهَرُ ثُبُوتًا مِمَّا بِهِ ثُبُوتُهَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، إذْ التَّوَارُثُ وَالتَّعَامُلُ بِهَا مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلُمَّ جَرًّا مُتَّصِلٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إثْبَاتِ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَزِدْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ادِّعَاءِ تَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَ.

متن الهداية:
قَالَ: (الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ: شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ. فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ: الْعَيْنُ يَرِثُهَا رَجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ) وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا إذَا اتَّهَبَ رَجُلَانِ عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَمِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ: شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ. فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ الْعَيْنُ يَرِثُهَا الرَّجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا) وَظَاهِرُ هَذَا الْحَمْلِ مِنْ الْقُدُورِيِّ الْقَصْرُ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ تَثْبُتُ فِيمَا إذَا اتَّهَبَا عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ بِأَنْ اسْتَوْلَيَا عَلَى مَالِ حَرْبِيٍّ يُمْلَكُ مَالُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَنْ انْفَتَقَ كِيسَاهُمَا الْمُتَجَاوِرَانِ فَاخْتَلَطَ مَا فِيهِمَا أَوْ اخْتَلَطَ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ أَوْ يَتَعَسَّرُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ؛ وَلَوْ قَالَ: الْعَيْنُ يَمْلِكَانِهَا كَانَ شَامِلًا، إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مِنْ شِرْكَةِ الْأَمْلَاكِ الشِّرْكَةُ فِي الدَّيْنِ فَقِيلَ مَجَازٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا يُمْلَكُ، وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ يُمْلَكُ شَرْعًا وَلِذَا جَازَ هِبَتُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْهِبَةَ مَجَازٌ عَنْ الْإِسْقَاطِ وَلِذَا لَمْ تَجُزْ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ مَا ذَكَرُوا مِنْ مِلْكِهِ، وَلِذَا مَلَكَ مَا عَنْهُ مِنْ الْعَيْنِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ حَتَّى إذَا دَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا كَانَ لِلْآخَرِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقول هَذَا الَّذِي أَخَذْته حِصَّتِي وَمَا بَقِيَ عَلَى الْمَدْيُون حِصَّتُك، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَدْيُونِ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ وَأَخَّرَ الْآخَرُ.
قَالُوا: وَالْحِيلَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْآخِذِ بِمَا أَخَذَ دُونَ شَرِيكِهِ أَنْ يَهَبَهُ مَنْ عَلَيْهِ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ وَيُبَرِّئُهُ هُوَ مِنْ حِصَّتِهِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الشِّرْكَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَّا بِأَمْرِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ الشِّرْكَةِ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهَا وَكَالَةً، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْ الشَّرِيكِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ (وَ) أَمًّا (مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ) بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ (إلَّا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرْكَةَ إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْ الِابْتِدَاءِ بِأَنْ اشْتَرَيَا حِنْطَةً أَوْ وَرِثَاهَا كَانَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا فَبَيْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ شَائِعًا جَائِزٌ مِنْ الشَّرِيكِ وَالْأَجْنَبِيِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِالْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ، لِأَنَّ كُلَّ حَبَّةٍ مَمْلُوكَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِأَحَدِهِمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ فِيهَا شِرْكَةٌ، فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا مَخْلُوطًا بِنَصِيبٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ الشَّرِيكِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ إلَى الْخَالِطِ، فَإِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ يَكُونُ سَبَبُ الزَّوَالِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرَ زَائِلٍ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِيكِ فَقَدْ يَمْنَعُ ثُبُوتُ الزَّوَالِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ تَمَامَ السَّبَبِ فِيهِ هُوَ التَّعَدِّي، فَعِنْدَ عَدَمِهِ لَا يَثْبُتُ مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا لَكَانَتْ جَمِيعُ الْمُسَبَّبَاتِ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ قَبْلَ أَسْبَابِهَا، وَأَيْضًا فَالزَّوَالُ إلَى الْخَالِطِ عَيْنًا لَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ عِنْدَ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهُ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ الْخَالِطِ عَيْنًا فَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ اعْتِبَارُ نَصِيبِ غَيْرِ الْخَالِطِ فَقَطْ إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ تَمَامَ السَّبَبِ التَّعَدِّي لِأَنَّ الْخَلْطَ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَيُّ تَعَدٍّ هُوَ السَّبَبُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ فِي هَذَا الْمَالِ فَيُقَالُ التَّعَدِّي فِي خَلْطِهِ.

متن الهداية:
(وَالضَّرْبُ الثَّانِي: شِرْكَةُ الْعُقُودِ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقول أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقول الْآخَرُ قَبِلْت) وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالضَّرْبُ الثَّانِي شِرْكَةُ الْعُقُودِ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) ثُمَّ فَسَّرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (وَهُوَ أَنْ يَقول أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقول الْآخَرُ قَبِلْت) أَيْ فِي كَذَا مِنْ الْمَالِ وَفِي كَذَا مِنْ التِّجَارَاتِ الْبَزَّازِيَّةِ أَوْ الْبَقَّالِيَّةِ فِي الْعِنَانِ أَوْ فِي كُلِّ مَالِي وَمَالِك وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَفِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ، وَكُلٌّ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَيْسَ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ بِلَازِمٍ بَلْ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ أَلْفًا إلَى رَجُلٍ وَقَالَ أَخْرِجْ مِثْلَهَا وَاشْتَرِ وَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَوْ أَخَذَهَا وَفَعَلَ انْعَقَدَتْ الشِّرْكَةُ، وَيُنْدَبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَيْفِيَّةَ كِتَابَتِهَا فَقَالَ: هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ اشْتَرَكَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَدْرَ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَقول: وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا يَشْتَرِيَانِ بِهِ وَيَبِيعَانِ جَمِيعًا وَشَتَّى، وَيَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَهَذَا وَإِنْ مَلَكَهُ كُلٌّ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الشِّرْكَةِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقول: لَا يَمْلِكُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْهُ يَكْتُبُ هَذَا، ثُمَّ يَقول: فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَمَا كَانَ مِنْ وَضِيعَةٍ أَوْ تَبَعَةٍ فَكَذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلَافِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ بَاطِلٌ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مُتَفَاوِتًا عِنْدَنَا صَحِيحٌ فِيمَا سَيُذْكَرُ، فَإِنْ كَانَ شَرَطَا التَّفَاوُتَ فِيهِ كَتَبَاهُ كَذَلِكَ وَيَقول اشْتَرَكَا عَلَى ذَلِكَ فِي يَوْمِ كَذَا فِي شَهْرِ كَذَا، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ التَّارِيخَ كَيْ لَا يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ حَقًّا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْآخَرُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ.
قولهُ: (وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ) وَعَقْدُ الشِّرْكَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مَعْمُولًا لِمَعْقُودٍ، وَكُلُّ صُوَرِ عُقُودِ الشِّرْكَةِ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَتَخْتَصُّ الْمُفَاوَضَةُ بِالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ (لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ عَقْدِ الشِّرْكَةِ (الْمَطْلُوبُ مِنْهُ) وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ وَأَصِيلًا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَا يَكُونُ الْمُسْتَفَادُ مُشْتَرَكًا لِاخْتِصَاصِ الْمُشْتَرَى بِالْمُشْتَرِي، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي التَّكَدِّي وَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ.

متن الهداية:
(ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ. فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ:
لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ ** وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

أَيْ مُتَسَاوِيِينَ.
فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَذَلِكَ فِي الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَكَذَا فِي التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ لَفَاتَ التَّسَاوِي، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى.
قَالَ: (فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا تَجُوزُ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا (وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ) لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
قَالَ: (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ) وَهَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ.
وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لَا يَصِحُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (ثُمَّ هِيَ) أَيْ شِرْكَةُ الْعُقُودِ عَلَى (أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ) قِيلَ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ إنَّ الْعَقْدَ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ مَالٌ أَوْ لَا، وَفِي الذِّكْرِ إمَّا أَنْ تُشْتَرَطَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَالِ وَرِبْحِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَنَفْعِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ وَإِلَّا فَهُوَ الْعِنَانُ.
وَفِي عَدَمِ ذِكْرِ الْمَالِ إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ الصَّنَائِعُ، وَالثَّانِي الْوُجُوهُ.
وَقِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّ شِرْكَةَ الصَّنَائِعِ وَالْوُجُوهِ لَا يَكُونَانِ مُفَاوَضَةً وَلَا عِنَانًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا يَأْتِي، فَوَجْهُ التَّقْسِيمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ حَيْثُ قَالَا: الشِّرْكَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: شِرْكَةٌ بِالْأَمْوَالِ، وَشِرْكَةٌ بِالْأَعْمَالِ، وَشِرْكَةٌ بِالْوُجُوهِ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: مُفَاوَضَةٍ وَعِنَانٍ، وَسَيَأْتِي الْبَيَانُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ عُهْدَةِ مَا يَشْتَرِيه كَمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ (لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ) يُفَوِّضُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْعُمُومِ (فِي التِّجَارَاتِ) وَالتَّصَرُّفَاتِ لِأَنَّ الْفَوْضَةَ الشِّرْكَةُ وَالْمُفَاوَضَةَ الْمُسَاوَاةُ، فَلَزِمَ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ فَعَمَّ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قول الْمُصَنِّفِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ تَسَاهُلٌ لِأَنَّهَا مَادَّةٌ أُخْرَى فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الِاشْتِقَاقُ، بَلْ هِيَ مِنْ التَّفْوِيضِ أَوْ الْفَوْضِ الَّذِي مِنْهُ فَاضَ الْمَاءُ: إذَا عَمَّ وَانْتَشَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمُسَاوَاةُ، وَاسْتَشْهَدَ بِقول الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:
لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ ** وَلَا سُرَاةَ إذَا جِهَالُهُمْ سَادُوا

وَبَعْدَهُ:
إذَا تَوَلَّى سُرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمْ ** نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَازْدَادُوا

وَقِيلَ بَعْدَهُ:
تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ ** فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْجُهَّالِ يَنْقَادُوا

وَمَعْنَى الْبَيْتِ: إذَا كَانَ النَّاسُ مُتَسَاوِينَ لَا كَبِيرَ لَهُمْ وَلَا سَيِّدَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا يُنَفِّذُ مُرَادَهُ كَيْفَ كَانَ تَحَقَّقَتْ الْمُنَازَعَةُ كَمَا فِي قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَالسُّرَاةُ جَمْعُ سَرَى، وَهُوَ السَّيِّدُ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ اسْمَ جَمْعٍ لَهُ كَرَكْبٍ فِي رَاكِبٍ.
وَالسَّرِيُّ فَعِيلٌ جُمِعَ عَلَى فَعِلَة بِالتَّحْرِيكِ، وَأَصْلُهُ سَرْوَة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ أَلِفًا فَصَارَ سُرَاةَ، وَأَصْلُ سَرَى سَرَيَو اجْتَمَعَتَا وَسُبِقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْمُسَاوَاةِ (فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً) عِنْدَ عَقْدِ الشِّرْكَةِ (وَانْتِهَاءً) أَيْ فِي مُدَّةِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرْكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا شَاءَ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، فَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالَانِ سَوَاءً يَوْمَ الْعَقْدِ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا تَغَيَّرَ سِعْرُ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ الشِّرْكَةِ فِيهِ.
وَلَوْ اشْتَرَيَا بِجَمِيعِ مَالِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَضَلَ مَالُ الْآخَرِ فَفِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ فَيَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ حَرَجٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَائِمَةٌ مَعْنًى لِأَنَّ الْآخَرَ لَمَّا مَلَكَ نِصْفَ الْمُشْتَرِي صَارَ نِصْفُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ وَنِصْفُ مَا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهِ لِصَاحِبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمَا صِفَةً، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ سُودٌ وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا بِيضٌ وَقِيمَتَاهُمَا مُتَسَاوِيَةٌ صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَتْ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ دِينَارٍ وَقِيمَتُهُمَا أَلْفٌ صَحَّتْ، فَإِنْ زَادَتْ صَارَتْ عِنَانًا، وَكَذَا لَوْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ أَوْ اتَّهَبَهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا.
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَالِ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ التَّسَاوِي مَا تَصِحُّ بِهِ الشِّرْكَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ عَلَى قولهِمَا دُونَ الْعُرُوضِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَدِيعَةٌ نَقْدٌ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ صَحَّتْ إلَى أَنْ يَقْبِضَهُ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَسَدَتْ وَصَارَتْ عِنَانًا، وَلِذَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخَرُ فَاتَ التَّسَاوِي، وَكَذَا فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ عَنْ قَرِيبٍ.
قولهُ: (وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ فِي قول أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ) وَهَذَا لَا يَلْزَمُ تَنَاقُضٌ بِهِ كَمَا قِيلَ: إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا فَكَيْفَ حَكَمَ بِفَسَادِهَا لِأَنَّ الْعَالِمَ يَقول مِثْلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ.
وَالْمَعْنَى: لَا وُجُودَ لِلْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي الشَّرْعِ، وَمَا لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا لَا صِحَّةَ لَهُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَجُوزُ وَهِيَ أَنْ يُفَوِّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ التَّصَرُّفَ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ كَيَدِهِ غَيْرَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْقول بِالْمُفَاوَضَةِ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ (وَجْهُ) قولهِمَا وَهُوَ وَجْهُ (الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِـ) شِرَاءٍ (مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةِ بِمَجْهُولٍ، وَكُلٌّ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ) وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ نَوْعَهُ وَصِفَتَهُ، وَلَوْ كَفَّلَ لِمَنْ سَيَدِينُهُ بِمَا يَلْزَمُهُ لَا يَصِحُّ فَاجْتِمَاعُهَا يَزِيدُ فَسَادًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِآخَر وَكَّلْتُك فِي مَالِي اصْنَعْ فِيهِ مَا شِئْت حَتَّى يُجَوِّزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَ.
قُلْنَا: الْعُمُومُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَكَالَةُ كُلٍّ فِي شِرَاءِ طَعَامِ أَهْلِ الْآخَرِ وَكِسْوَتِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَانَ تَوْكِيلًا بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا (مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ») أَيْ أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ، وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذَا فَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ صَالِحِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ: بَيْعٌ إلَى أَجْلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَإِخْلَاطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ».
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ: الْمُفَاوَضَةُ بَدَلُ الْمُقَارَضَةِ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَضَبْطُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعَيْنِ وَالضَّادِ وَفَسَّرَهَا بِبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ مِثْلِهِ (وَالْآخَرُ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ (أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ) لِأَنَّ التَّعَامُلَ كَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ مَنَعَ ظُهُورَ التَّعَامُلِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْ النُّقُودِ بَلْ عَلَى شَرْطِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ أَمْكَنَ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْقِيَاسِ فَقَالَ: (الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ) لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ (تَبَعًا) وَالتَّصَرُّفُ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا وَلَا يَصِحُّ مَقْصُودًا (كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ) فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ بِشِرَاءِ مَجْهُولِ الْجِنْسِ، وَكَذَا شِرْكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ، وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ وَهُوَ قولهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمِّلَةٌ تَبَعًا الْجَوَاب عَنْ إلْزَامِ الْكَفَالَةِ لِمَجْهُولٍ، وَفَصَّلَ الْجَوَابَ فِيهَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَأَمَّا الْجَهَالَةُ فَعَيْنُهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَلَكِنْ تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِهَا، وَهُوَ مُنْعَدِمٌ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ الْمَضْمُون لَهُ وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِمَجْهُولٍ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ عِنْدَ اللُّزُومِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَاكْتَفَى بِنَفْيِ الْإِلْزَامِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا لَا قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِم صِحَّةِ الْكَفَالَةِ كَذَلِكَ قَصْدًا عَدَمُ صِحَّتِهَا ضِمْنًا، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِحَّتِهَا شَرْعًا أَخْذًا مِنْ هَذَا الْجَوَابِ، هَكَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ لَا مَانِعَ فِيهِ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ صِحَّتُهُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولٍ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ يَمْنَعُ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ الشَّيْءِ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا مَنْعُهُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ؟ قُلْنَا: هَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَةَ فِي صُورَةٍ يَكُونُ الشَّرِيكَانِ مُتَسَاوِيَيْ الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ عَلَى الْعُمُومِ جَائِزَةٌ بِلَا مَانِعٍ كَمَا فِي صُورَةِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا.
فَقُلْنَا: إنْ عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ سَمَّيْنَا الشِّرْكَةَ مُفَاوَضَةً وَإِلَّا سَمَّيْنَاهَا عِنَانًا، غَيْرَ أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي ثُبُوتِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِجَعْلِنَا إيَّاهُ عِلْمًا عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشِّرْكَةِ، فَإِذَا ذَكَرَاهَا تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرَاهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ رِضَاهُمَا بِأَحْكَامِهَا إلَّا أَنْ يَذْكُرَا تَمَامَ مَعْنَاهَا، بِأَنْ يَقول أَحَدُهُمَا: وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ بَالِغَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ شَارَكْتُك فِي جَمِيعِ مَا أَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ وَقَدْرُ مَا تَمْلِكُ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ مِنْ كُلٍّ مِنَّا لِلْآخَرِ فِي التِّجَارَاتِ وَالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَعَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَّا ضَامِنٌ عَلَى الْآخَرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَمْرِ كُلِّ بَيْعٍ، وَهَذَا قول الْمُصَنِّفِ (وَتَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ فَهْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى) وَاللَّفْظُ وَسِيلَةٌ إلَى إفْهَامِهِ، وَلَوْ عَقَدَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ وَبَعْضُ شَرَائِطِهَا مُنْتَفٍ انْعَقَدَتْ عِنَانًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْتَفَى مِنْ شُرُوطِ الْعِنَانِ وَيَكُونُ تَعْبِيرًا بِالْمُفَاوَضَةِ عَنْ الْعِنَانِ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا) إنَّ فِيهِ لِلْوَصْلِ.
وَقولهُ (لِمَا قُلْنَا) أَيْ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
قولهُ: (وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ لِتَعَذُّرِ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ) أَصْلًا وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ (وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ: وَلَا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْكَافِرُ يَمْلِكُ زِيَادَةَ تَصَرُّفٍ لَا يَمْلِكُهُ الْآخَرُ كَالْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ بَعْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ مُبَاشَرَةً وَوَكَالَةً وَكَفَالَةً (وَصَارَ كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْعَقْدِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) أَيْ عَقْدُ الشِّرْكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
(لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ أَوْ لَا يَحْتَرِزُ مِنْ الرِّبَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِي أَكْلِ الْحَرَامِ) وَقولهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قولهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اسْتِعْمَالِ الْجَوَازِ فِي أَعَمَّ مِنْ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ مَا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَضِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عَمَّا بَعُدَ إلَّا فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ الْكَرَاهَةَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْجَوَازُ عَنْهُ فَلَا يَثْبُتُ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ الْجَوَازِ فَإِنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ الْمَكْرُوهِ فَاسْتَدْرَكَ مِنْهُ الْكَرَاهَةَ: أَيْ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبَعْضُ أَهْلِ الدَّرْسِ قَالُوا: يُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لِمَا رَأَوْهُ بِمَعْنَى لَكِنْ، هُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ مُخْرَجٌ مِنْ حُكْمِ الصَّدْرِ، فَالْحِمَارُ لَمْ يَجِئْ فِي قولك جَاءُوا إلَّا حِمَارًا فَيَقْتَضِي إخْرَاجَ الْكَرَاهَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْجَوَازِ فَلَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ مَالِهِ خُمُورًا وَخَنَازِير يَصِحُّ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا الْمُسْلِمُ لَا يَصِحُّ) لَكِنْ بَقِيَ قول أَبِي يُوسُفَ كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ التَّفَاوُتِ فِيمَا يَمْلِكَانِ لَمْ يَجِبْ عَنْهُ، وَكَذَا بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ مَالِيَّتَهَا دُونَ الْكِتَابِيِّ، وَكَذَا الْكِتَابِيُّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ دُونَ الْمَجُوسِيِّ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ فَلَا فَضْلَ بَيْنَ الْمَجُوسِيِّ وَالْكِتَابِيِّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي التَّصَرُّفِ، وَأَمَّا مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبُهُ وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ جَائِزَةٌ لِيَسْتَوْجِبَ بِهَا الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَأَمَّا الْحَنَفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فَالْمُسَاوَاةُ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَائِمٌ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ وَالِاعْتِقَادِ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ كَالْحَنَفِيِّ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ مَعَ الْمُرْتَدِّ فَلَا تَجُوزُ الشِّرْكَةُ بَيْنَهُمَا فِي قولهِمْ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ.
وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قِيَاسَ قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ) لِانْعِدَامِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْعِنَانِ، إذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ) يَعْنِي وَلَوْ أَذِنَ وَلِيُّهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُكَاتَبَيْنِ.
قولهُ: (وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا إلَخْ) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ عَقَدَ بَالِغٌ وَصَبِيٌّ أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ شَرَطَا عَدَمَ الْكَفَالَةِ تَصِيرُ عِنَانًا وَإِنْ عَمَّمَا التَّصَرُّفَ وَالْمَالَ وَتَسَاوَيَا فِيهِ، لِأَنَّ عَقْدَ شِرْكَةِ الْعِنَانِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا كَمَا يَكُونُ خَاصًّا، بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَامَّةً.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشِّرْكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ: فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوَاجِبِ التِّجَارَاتِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا.
قَالَ: (وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ) وَكَذَا كِسْوَتُهُ، وَكَذَا الْإِدَامُ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ الْمُفَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا التَّصَرُّفُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشِّرَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ضَرُورَةً.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ) الْمُشْتَرِي بِالْأَصَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْكَفَالَةِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.
قَالَ: (وَمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدُّيُونِ بَدَلًا عَمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَالْآخَرُ ضَامِنٌ لَهُ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَالِاسْتِئْجَارُ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ.
قَالَ: (وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَلْزَمُهُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْمَرِيضِ يَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةُ بَقَاءً لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَمْ تَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ وَتَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ إعَارَةٌ فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مُعَاوَضَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ.
وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً.
قَالَ: (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَوَصَلَ إلَى يَدِهِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا) لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ، وَلِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا فَهُوَ لَهُ وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ) وَكَذَا الْعَقَارُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتَنْعَقِدُ) أَيْ الْمُفَاوَضَةُ (عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ اللَّفْظِ فَيَثْبُتُ بِذِكْرِهِ: أَيْ وَكَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي نِصْفِ مَا يَشْتَرِيه وَكَفَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ (أَمَّا) انْعِقَادُهَا عَلَى (الْوَكَالَةِ فَلِتَحَقُّقِ غَرَضِ الشِّرْكَةِ) وَقولهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يُرِيدُ قولهُ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِهِ عَلَى الشِّرْكَةِ فَيَتَحَقَّقُ الِاشْتِرَاطُ فِي الرِّبْحِ (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ) الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا بِسَبَبِ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهَا وَمَا يُشْبِهُ مَا هُوَ تِجَارَةٌ (وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ) فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا عَنْهُ لَهُ حَتَّى كَانَ لِبَائِعِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ وَإِدَامِهِمْ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِمَا أَدَّى عَلَى الشَّرِيكِ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا جَارِيَةً لِلْوَطْءِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الشِّرْكَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الشِّرْكَةِ اسْتِحْسَانًا بِالضَّرُورَةِ (فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا) أَيْ الْمُسْتَمِرَّةَ مِنْ قولهِمْ رَتَبَ الشَّيْءُ إذَا دَامَ، وَمِنْهُ أَمْرٌ تُرْتَب: أَيْ دَائِمٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّهَا.
(وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نَفَقَةِ عِيَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ) فَكَانَ مُسْتَثْنًى ضَرُورَةً (وَالْقِيَاسُ وُقُوعُهُ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ، ثُمَّ كَفَالَةُ كُلٍّ الْآخَرَ إنَّمَا هِيَ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، أَمَّا مَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ شَرِيكُهُ، وَضَمَانُ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ وَقِيمَتُهُ فِي الْفَاسِدِ وَأُجْرَةُ مَا اسْتَأْجَرَهُ سَوَاءٌ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةِ التِّجَارَةِ، وَمَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ ضَمَانُ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ وَدِيعَةٌ إذَا جَحَدَهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا، كَذَا الْعَارِيَّةُ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُفِيدُ لَهُ تَمَلُّكَ الْأَصْلِ فَتَصِيرُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ، وَلَوْ لِحَقِّ أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ لَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَعَنْ هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشَّرِيكَ عَلَى الْعِلْمِ إذَا أَنْكَرَ الشَّرِيكُ الْجَانِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِهِمَا بَيْعَ خَادِمٍ فَأَنْكَرَ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْبَتَاتِ وَشَرِيكُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي يَلْزَمُهُمَا، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ الْآخَرَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ.
وَصُورَةُ الْخُلْعِ مَا لَوْ عَقَدَتْ امْرَأَةٌ شِرْكَةَ مُفَاوَضَةٍ مَعَ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ثُمَّ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهَا، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِبَدَلِ الْخُلْعِ أَوْ الْتَزَمَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ.
قولهُ: (وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلُ (مُتَبَرِّعٌ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ) الْكَفَالَةُ (مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا) أَيْضًا (لَوْ صَدَرَ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (مِنْ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ صَحَّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ) إذَا أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ لِإِنْسَانٍ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى صُدُورِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْمَرَضِ لَزِمَتْهُ فِي كُلِّ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يُلَاقِي حَالَ بَقَائِهَا وَهِيَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ.
وَكَوْنُ الْإِقْرَاضِ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَلَوْ أَخَذَ بِهِ سَفْتَجَةً هُوَ قول مُحَمَّدٍ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ إلَى الْإِيضَاحِ، وَعِبَارَةُ الْإِيضَاحِ نَقَلَهَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا هَكَذَا، قَالَ يَضْمَنُ: يَعْنِي الْمُقْرِضَ لِشَرِيكِهِ تَوَى الْمَالَ أَوْ لَمْ يَتْوِ، وَقِيَاسُ قول أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْمُقْرِضُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ.
قَالَ: وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْكَفَالَةِ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ ضَمَانُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ فَكَذَا الْمُقْرِضَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ يَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَالْكَفِيلَ فِي حُكْمِ الْمُقْرِضِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٍ بَقَاءً) كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ (يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا يُؤَدِّيه عَنْهُ) إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ (فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ) وَالْوَجْهُ أَنْ يَقول مِمَّنْ ذَكَرَاهُ: يَعْنِي الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِلَا ضَمِيرٍ وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ مَا يُشْبِهُ الْهَاءَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَامُهَا مُعَاوَضَةً لِأَنَّ التَّمَامَ بِنَاءٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
وَقَدْ يُقَالُ تَلَاقِي الذِّمَّةِ وَالذِّمَّةُ فِي الْمَأْذُونِ كَالْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى حَتَّى صَحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَلَمْ تُلَاقِ الْكَفَالَةُ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْبَالِغِ لِأَنَّهَا لَاقَتْ حَقَّهُ فَصَحَّتْ ثُمَّ تَمَّتْ مُعَاوَضَةً فَلَزِمَتْ الشَّرِيكَ لِأَنَّ لُزُومَهَا لَيْسَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ، لِأَنَّا إنَّمَا نَقول يَلْزَمُ شَرِيكَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَ الْكَفِيلَ.
بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، إذْ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الْمَالِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَإِنَّهُ إعَارَةٌ مَحْضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً لَا مُعَاوَضَةً، وَإِلَّا كَانَ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ (فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا) أَيْ لِمِثْلِ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ الْمَقْرُوضَةِ (حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ) أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ التَّأْجِيلِ فِي الْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَبْرُ فِيمَا فِيهِ تَبَرُّعٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، عَلَى أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّرِيكَ بِنَاءً عَلَى شِبْهِ الْمُعَاوَضَةِ بِلُزُومِ الْمِثْلِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَتْ) الْكَفَالَةُ (بِغَيْرِ أَمْرِهِ) أَيْ أَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ (لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ) انْتِهَاءً أَيْضًا، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَقولهُ فِي الصَّحِيحِ يُشِيرُ إلَى خِلَافِ الْمَشَايِخِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، وَحَمْلُ مُطْلَقِ جَوَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ، عَامَّةُ الْمَشَايِخِ جَرَوْا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَوْنِهَا بِأَمْرِهِ أَوْ لَا.
قولهُ: (وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ) وَكَذَا ضَمَانُ الْمُخَالَفَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْإِقْرَارُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْمُصَنِّفِ أَبَا حَنِيفَةَ هُنَا لِأَنَّ فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَفِي الْكَفَالَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا نَقَلَهُ آنِفًا.
لِأَبِي يُوسُفَ فِيهِمَا أَنَّهُ ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبٍ غَيْرِ تِجَارَةٍ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا تَحْتَمِلُهُ الشِّرْكَةُ.
وَلَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كَضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا حُرًّا، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ هُوَ بَدَلُ مَالٍ تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلتَّمَلُّكِ، وَكَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مُلْتَزِمًا لَهُ ضَرَرِهِ وَنَفْعِهِ وَفِي الْكَافِي: الْإِعَارَةُ لِلرَّهْنِ نَظِيرُ الْكَفَالَةِ خِلَافًا وَتَعْلِيلًا.
وَوَجْهُ كَوْنِهَا مُعَاوَضَةً عِنْدَهُ انْتِهَاءً أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ مَا سَقَطَ مِنْ دَيْنِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ عِنْدَهُمَا، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ مَعَ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَقَبَضَهُ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا) وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ فَقَبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ زَادَتْ قِيمَةُ دَرَاهِمِ أَحَدِهِمَا الْبِيضِ عَلَى دَرَاهِمِ الْآخَرِ السُّودِ أَوْ دَنَانِيرِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، كُلُّ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِهِ صَارَتْ عِنَانًا، وَلَوْ وَرِثَ مَالًا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ اخْتَصَّ بِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ، وَكَذَا فِي بَاقِي الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشِّرْكَةِ، إذْ هِيَ أَيْ الْمُسَاوَاةُ شَرْطٌ لِبَقَاءِ صِحَّتِهَا ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَإِنَّمَا كَانَ مَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَائِهَا شَرْطًا لِبَقَائِهَا لِكَوْنِهِ: أَيْ عَقْدِ الشِّرْكَةِ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ لَوْ أَرَادَ فَسْخَهَا فَسَخَهَا.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ بَلْ يُجْبِرُ الْقَاضِي الْمُمْتَنِعَ عَلَى الْمُضِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ لِدَوَامِهَا حُكْمَ الِابْتِدَاءِ حَتَّى لَا تَبْقَى بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَ الْعَقْدِ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ لَازِمًا كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تَكُونَ لَازِمَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ فَهُوَ كَالْعَارِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ وَاللُّزُومُ أَصْلٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَانْفِسَاخُهُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ بَلْ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ الدَّارَ تَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَزِمَ إرْثُ الْمَنْفَعَةِ الْمُجَرَّدَةِ وَهِيَ لَا تُورَثُ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُورَثُ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَازِمَةً، وَلَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ فُرُوعًا مِنْ شِرْكَةِ الْعَيْنِ إذْ قَلَّ ذِكْرُهَا فِي الْكِتَابِ: أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ بِشِرَاءِ نِصْفِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْخُرُوجَ مِنْ الشِّرْكَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا بِحُضُورِ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ.
وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى إخْرَاجِ الْوَكِيلِ عَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرْكَةِ؛ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَأْمُورُ فَالْعَبْدُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ.
وَقِيلَ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ ذَلِكَ النِّصْفِ لِنَفْسِهِ، فَكَذَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ مَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ وَقَدْ قَبِلَ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا بِذَلِكَ؛ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَطَلَبَ إلَيْهِ آخَرُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهِ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ فَلَهُ نِصْفُهُ بِمِثْلِ نِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الشِّرْكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} إلَّا أَنْ يَبِينُ خِلَافُهُ، وَلَوْ أَشْرَكَ اثْنَيْنِ فِيهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا فَأَشْرَكَا فِيهِ آخَرَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُهُ وَلِكُلٍّ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رُبُعُهُ لِأَنَّ كُلًّا صَارَ مُمَلَّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ ثُلُثُهُ، لِأَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ سَوَّيَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا وَكَانَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ مَعَهُمَا، وَلَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فِي نَصِيبِهِ وَنُصِبْ الْآخَرِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ كَانَ لِلرَّجُلِ نِصْفُهُ وَلِلشَّرِيكَيْنِ نِصْفُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَا لَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَلَمْ يُسَمِّ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ ثُمَّ أَشْرَكَهُ الْآخَرُ فِي نَصِيبِهِ كَانَ لَهُ النِّصْفُ.
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ قولهِ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ وَاحِدًا فَقَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ كَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ كَقولهِ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك فِي نَصِيبِي فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ بِإِقَامَةِ حَرْفٍ فِي مَقَامِ حَرْفِ الْبَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك بِنَصِيبِي كَانَ بَاطِلًا فَلِذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ نَصِيبِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ الشِّرْكَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا لِلَّذِي أَشْرَكَهُ وَهُوَ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْهُ، فَانْبَنَى عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَا لَمْ يُقْبَضْ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ إيَّاهُ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنٌ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الَّذِي أَشْرَكَهُ لِأَنَّ لَفْظَ أَشْرَكْتُك صَارَ إيجَابًا لِلْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك فِيهِ عَلَى أَنْ تَنْقُدَ عَنِّي الثَّمَنَ فَفَعَلَ كَانَتْ شِرْكَةً فَاسِدَةً لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ فَاسِدٌ وَهُوَ أَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ ثَمَنَ نِصْفِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ.
وَلَوْ نَقَدَ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ فَاسِدًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدُونِ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا؛ وَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ آخَرَ مَلَكَ الْآخَرُ نِصْفَ الْعَبْدِ لَا نِصْفَ النِّصْفِ الَّذِي قَبَضَهُ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا انْصَرَفَ إشْرَاكُهُ إلَى الْكُلِّ، ثُمَّ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ اللَّفْظَ، وَقَضِيَّةُ اللَّفْظِ إشْرَاكُهُ فِي كُلِّهِ؛ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ أَيُّنَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ صَاحِبَهُ أَوْ فَصَاحِبُهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الْعَبْدِ لَهُ، فَأَيُّهُمَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَهُوَ كَقَبْضِهِمَا لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا أَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ قَبْلَ صَاحِبِهِ ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ الْآخَرَ كَانَ بَيْنَهُمَا لِتَمَامِ مَقْصُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَوْ نَقَدَ أَحَدُهُمَا كُلَّ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ فَإِنْ أَذِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي بَيْعِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَهُ كَانَ بَائِعًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ.
وَلَوْ بَاعَهُ إلَّا نِصْفَهُ كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ فِي قِيَاسِ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قولهِمَا الْبَيْعُ عَلَى نِصْفِ الْمَأْمُورِ خَاصَّةً، وَمَبْنَاهُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ نِصْفِهِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ.
وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ قَالَ بِعْتُكَ هَذَا إلَّا نِصْفَهُ بِأَلْفٍ كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِأَلْفٍ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْتُك نِصْفَهُ بِأَلْفٍ، فَأَمَّا قولهُ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ فَحَاصِلُهُ ضَمَّ نَفْسَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا بَاعَهُ مِنْهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا تَصِحُّ كَمَا فِي شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ فَكَانَ كَالْمُشْتَرِي هُوَ مَالَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُشْتَرِي فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا فَيَسْقُطُ نِصْفُهُ عَنْهُ فَيَبْقَى نِصْفُ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(مَسْأَلَةٌ):
اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةٍ وَاشْتَرَى آخَرُ نِصْفَهُ الْآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ بَاعَاهُ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَتَيْنِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةٍ أَوْ بِالْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ يُقَابِلُ الْمِلْكَ فَيُعْتَبَرُ الْمِلْكُ فِي الْمَحِلِّ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضْعِيَّةِ فَبِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الْبُيُوعُ فِي الْمَغْصُوبِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ وَيَسْتَقِيمُ بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُشْتَرِي بِعِوَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَا الثَّانِي يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ الْمِلْكَ فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَوَضِيعَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّا عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي نَصِيبِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُسَاوَمَةِ، الْكُلُّ مِنْ الْمَبْسُوطِ.