فصل: الْآدَابُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.الْآدَابُ:

تَرْكُ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ وَكَلَامِ النَّاسِ وَالِاسْتِعَانَةِ. وَعَنْ الْوَبَرِيِّ لَا بَأْسَ بِصَبِّ الْخَادِمِ، كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصُبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ، وَالتَّمَسُّحِ بِخِرْقَةٍ يَمْسَحُ بِهَا مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ. وَمِنْهَا اسْتِقَاءُ مَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَنَزْعُ خَاتَمٍ عَلَيْهِ اسْمُهُ تَعَالَى أَوْ اسْمُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَكَوْنُ آنِيَتِهِ مِنْ خَزَفٍ، وَأَنْ يَغْسِلَ عُرْوَةَ الْإِبْرِيقِ ثَلَاثًا وَوَضْعُهُ عَلَى يَسَارِهِ، وَإِنْ كَانَ إنَاءً يَغْتَرِفُ مِنْهُ فَعَنْ يَمِينِهِ، وَوَضْعُ يَدِهِ حَالَةَ الْغَسْلِ عَلَى عُرْوَتِهِ لَا رَأْسِهِ، وَالتَّأَهُّبُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَاسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَتَعَاهُدُ الْمُوقَيْنِ وَمَا تَحْتَ الْخَاتَمِ، وَالذِّكْرُ الْمَلْفُوظُ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ، وَأَنْ لَا يَلْطِمَ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، وَإِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، وَالتَّأَنِّي، وَالدَّلْكُ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ، وَتَجَاوُزُ حُدُودِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِيَسْتَيْقِنَ غَسَلَهُمَا، وَيُطِيلَ الْغُرَّةَ، وَقول: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ إلَخْ، وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا مُسْتَقْبِلًا، قِيلَ وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا، وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَهُ، وَمِلْءُ آنِيَتِهِ اسْتِعْدَادًا، وَحِفْظُ ثِيَابِهِ مِنْ الْمُتَقَاطَرِ، وَالِامْتِخَاطِ بِالشِّمَالِ عِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ وَيُكْرَهُ بِالْيَمِينِ، وَكَذَا إلْقَاءُ الْبُزَاقِ فِي الْمَاءِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثِ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ، وَبِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ.
تَتِمَّةٌ:
شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَعَلَ مَا شَكَّ فِيهِ إنْ كَانَ أَوَّلَ شَكٍّ وَإِلَّا فَلَا عَلَيْهِ وَإِنْ شَكَّ بَعْدَهُ فَلَا مُطْلَقًا.

.(فَصْلٌ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ):

(الْمَعَانِي النَّاقِضَةُ لِلْوُضُوءِ كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ) لِقولهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} «وَقِيلَ لِرَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْحَدَثُ؟ قَالَ: مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ» وَكَلِمَةُ مَا عَامَّةٌ فَتَتَنَاوَلُ الْمُعْتَادَ وَغَيْرَهُ (وَالدَّمُ وَالْقَيْحُ إذَا خَرَجَا مِنْ الْبَدَنِ فَتَجَاوَزَا إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ)، (وَالْقَيْءُ مِلْءَ الْفَمِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَلِأَنَّ غَسْلَ غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ، وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ مَعْقول، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقول لَكِنَّهُ يَتَعَدَّى ضَرُورَةَ تَعَدِّي الْأَوَّلِ، غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالسَّيَلَانِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، وَبِمِلْءِ الْفَمِ فِي الْقَيْءِ لِأَنَّ بِزَوَالِ الْقِشْرَةِ تَظْهَرُ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَتَكُونُ بَادِيَةً لَا خَارِجَةً، بِخِلَافِ السَّبِيلَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ فَيُسْتَدَلُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الِانْتِقَالِ وَالْخُرُوجِ، وَمِلْءُ الْفَمِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ السَّيَلَانُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، َلِإِطْلَاقِ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْقَلَسُ حَدَثٌ». وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ فِي الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ مِنْ الدَّمِ وُضُوءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا» وَقول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً: أَوْ دَسْعَةً تَمْلَأُ الْفَمَ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ قَدْ بَيَّنَّاهُ. وَلَوْ قَاءَ مُتَفَرِّقًا بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ يَمْلَأُ الْفَمَ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَثَيَانُ، ثُمَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجَسًا، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجَسٍ حُكْمًا حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِضْ بِهِ الطَّهَارَةُ (وَهَذَا إذَا قَاءَ مُرَّةً أَوْ طَعَامًا أَوْ مَاءً، فَإِنْ قَاءَ بَلْغَمًا فَغَيْرُ نَاقِضٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَاقِضٌ إذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُرْتَقِي مِنْ الْجَوْفِ. أَمَّا النَّازِلُ مِنْ الرَّأْسِ فَغَيْرُ نَاقِضٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ. لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَزِجٌ لَا تَتَخَلَّلُهُ النَّجَاسَةُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ قَلِيلٌ وَالْقَلِيلُ فِي الْقَيْءِ غَيْرُ نَاقِضٍ (وَلَوْ قَاءَ دَمًا وَهُوَ عَلَقٌ) (يُعْتَبَرُ فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ لِأَنَّهُ سَوْدَاءُ مُحْتَرِقَةٌ) وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، وَعِنْدَهُمَا إنْ سَالَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لِأَنَّ الْمَعِدَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ الدَّمِ فَيَكُونُ مِنْ قُرْحَةٍ فِي الْجَوْفِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ):
النَّقْضُ فِي الْأَجْسَامِ: إبْطَالُ تَرْكِيبِهَا، وَفِي الْمَعَانِي: إخْرَاجُهَا عَنْ إفَادَةِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا.
قولهُ: (كُلُّ مَا يَخْرُجُ) قِيلَ يَعْنِي خُرُوجَ مَا يَخْرُجُ لِيَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَعَانِي، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّجَسُ الْخَارِجُ لَا خُرُوجُ الْمُخْرَجِ لِلنَّجَسِ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا لِلنَّقْضِ، مَعَ أَنَّ الضِّدَّ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ ضِدِّهِ. وَصِفَةِ النَّجَاسَةِ الرَّافِعَةِ لِلطَّهَارَةِ إنَّمَا هِيَ قَائِمَةٌ بِالْخَارِجِ، وَغَايَةِ الْخُرُوجِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تُحَقِّقُهَا صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ: أَعْنِي صِفَةَ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ إذْ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا عَنْ عِلَّتِهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةِ لِلنَّقْضِ. ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيه: «مَا الْحَدَثُ؟ قَالَ: مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ»، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ صَرْفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لَا إصْلَاحَ عِبَارَةِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ إذْ الْمَعْنَى قَدْ لَا يُقَابِلُ الْجَوْهَرَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ جَوْهَرًا كَانَ أَوْ عَرَضًا، وَإِنَّمَا يُقَابِلُهُ الْعَرَضُ. فَالنَّاقِضُ الْخَارِجُ النَّجَسُ، وَالْخُرُوجُ شَرْطُ عَمَلِ الْعِلَّةِ وَعِلَّةٌ لَهَا نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ عِلَّةُ تَحَقُّقِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ النَّجَاسَةُ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ طَهَارَةٌ، فَإِضَافَةُ النَّقْضِ إلَى الْخُرُوجِ إضَافَةٌ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ.
قولهُ: (لِقولهِ تَعَالَى) وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي عُمُومِ مَا يَخْرُجُ دُودَةً كَانَتْ أَوْ حَصَاةً أَوْ رِيحًا إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْ الْقُبُلِ، وَالدُّودَةُ مِنْهُ. وَأَمَّا الرِّيحُ مِنْ الذَّكَرِ فَهُوَ اخْتِلَاجٌ لَا رِيحٌ فَلَا يَنْقُضُ كَالرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ جِرَاحَةٍ فِي الْبَطْنِ أَنَّ الْغَائِطَ الْمُطْمَئِنَّ مِنْ الْأَرْضِ يُقْصَدُ لِلْحَاجَةِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسُ الْمَجِيءِ مِنْهُ نَاقِضًا بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ الْخَارِجِ، وَإِذَا لَزِمَ فِيهِ كَوْنُهُ فِي لَازِمِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى أَعَمِّ اللَّوَازِمِ وَهُوَ الْخَارِجُ النَّجَسُ أَوْلَى خُصُوصًا مَعَ مُنَاسَبَةِ النَّجَسِ مُطْلَقًا لِهَذَا الْحُكْمِ، كَذَا فِي شَرَحَ الْجَمْعِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى إرَادَةِ أَعَمِّ اللَّوَازِمِ لِلْمَجِيءِ، وَالْخَارِجُ النَّجَسُ مُطْلَقًا لَيْسَ مِنْهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْغَائِطَ لَا يُقْصَدُ قَطُّ لِمُجَرَّدِ الرِّيحِ فَضْلًا عَنْ جُرْحِ إبْرَةٍ وَنَحْوِهِ، فَالْأَوْلَى كَوْنُهُ فِيمَا يَحِلُّهُ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الرِّيحِ بِالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ بِالْخَبَرِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ. رَوَى مَعْنَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ» وَضُعِّفَ بِشُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ فِي الْكَامِلِ: بَلْ بِالْفَضْلِ بْنِ الْمُخْتَارِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: إنَّمَا يُحْفَظُ هَذَا مِنْ قول ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قولهِ، وَبِهَذَا «وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» عَيَّنَا حِينَئِذٍ أَصْلَ قِيَاسِ الْخَارِجِ النَّجَسِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاعْتِيَادِ، وَفَرْعُهُ الْخَارِجُ النَّجَسُ مِنْ غَيْرِهِمَا فَيُحْتَجُّ عَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ نَاقِضِيَّةِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ وَالْخَارِجِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاعْتِيَادِ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ الْخُرُوجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَتَحَقَّقُ بِالظُّهُورِ، فَلَوْ حُشِيَ الذَّكَرُ فَالِانْتِقَاضُ بِمُحَاذَاةِ بِلَّةِ الْحَشْوَةِ رَأْسُ الذَّكَرِ لَا بِنُزُولِهِ إلَى الْقَصَبَةِ وَإِلَى الْقُلْفَةِ فِيهِ خِلَافٌ. وَالصَّحِيحُ النَّقْضُ فِيهِ: قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا بَوْلٌ وَلَمْ يَظْهَرْ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خِلْقَةٌ كَقَصَبَةِ الذَّكَرِ اهـ. لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ إنَّمَا عَلَّلَهُ بِالْحَرَجِ لَا بِالْخِلْقَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلَا يُرَدُّ الْإِشْكَالُ، وَلَوْ احْتَشَتْ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَالنَّقْضُ بِمُحَاذَاةِ حَرْفِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فِي قولهِ إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُحْشِهِ لَخَرَجَ نَقَضَ، وَلَوْ أَدْخَلَتْ أُصْبُعَهَا فِيهِ نَقَضَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ، وَكَذَا الْعُودُ فِي الدُّبُرِ كَالْمِحْقَنَةِ وَغَيْرِهَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْبِلَّةُ إذَا كَانَ طَرَفٌ مِنْهُ خَارِجًا وَلَوْ غَيَّبَهُ نَقَضَ إذَا أَخْرَجَ بِلَا تَفْصِيلٍ فِي الْفَتَاوَى وَالتَّجْنِيسِ. وَكَذَا الْقُطْنَةُ إذَا غَيَّبَهَا فِي الْإِحْلِيلِ ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَوْ ابْتَلَّتْ بِالْبَوْلِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَأْسَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْلَاهَا خَرَجَ لَمْ يَنْقُضْ، وَالْمَجْبُوبُ إذَا ظَهَرَ بَوْلُهُ بِمَوْضِعِ الْجَبِّ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِهِ مَتَى شَاءَ نَقَضَ، وَإِلَّا فَحَتَّى يَسِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَالْجُرْحِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ حَصَاةٌ فَبَطَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَأَخْرَجَهَا فَاسْتَمَالَ الْبَوْلُ إلَيْهِ فَكَالْجُرْحِ، وَإِنْ كَانَ بِذَكَرِهِ بَطٌّ، أَيْ شَقٌّ لَهُ رَأْسَانِ أَحَدُهُمَا يَخْرُجُ مِنْهُ مَاءٌ يَسِيلُ فِي مَجْرَى الذَّكَرِ وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ، فَفِي الْأَوَّلِ يَنْقُضُ بِالظُّهُورِ، وَفِي الثَّانِي بِالسَّيَلَانِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ الْخُنْثَى أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَذَكَرُهُ كَالْجُرْحِ أَوْ رَجُلٌ فَفَرْجُهُ كَالْجُرْحِ وَيَنْتَقِضُ فِي الْآخَرِ بِالظُّهُورِ، وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا فَسَالَ مِنْهُ لَا يُنْقَضُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَقَنَ بِالدُّهْنِ ثُمَّ سَالَ حَيْثُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالنَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ الْإِحْلِيلِ لِلْحَائِلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ احْتَشَتْ فِي فَرْجِهَا الْخَارِجَ فَمَا لَمْ تَبْتَلَّ أَوْ تَصِلْ الْبِلَّةُ إلَى حَرْفِ الدَّاخِلِ لَا يَنْقُضُ، أَوْ فِي الدَّاخِلِ فَسَدَ الصَّوْمُ وَلَا يَنْقُضُ.
قولهُ: (فَتَجَاوَزَا) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ هُوَ تَجَاوُزُ النَّجَاسَةِ إلَى مَوْضِعِ التَّطْهِيرِ، فَالْمَعْنَى إذَا خَرَجَا بِأَنْ تَجَاوَزَا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْخُرُوجُ عَلَى الظُّهُورِ فَلَيْسَ بِهِ، وَالْمَعْنَى إذَا ظَهَرَا فَتَجَاوَزَا، فَلَوْ خَرَجَ مِنْ جُرْحٍ فِي الْعَيْنِ دَمٌ فَسَالَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهَا لَا يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ حُكْمٌ هُوَ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ أَوْ نَدْبُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَزَلَ مِنْ الرَّأْسِ إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْجَنَابَةِ وَمِنْ النَّجَاسَةِ فَيُنْقَضُ، وَلَوْ رَبَطَ الْجُرْحَ فَنَفَذَتْ الْبِلَّةُ إلَى طَاقٍ لَا إلَى الْخَارِجِ نَقَضَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْلَا الرَّبْطُ سَالَ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَوْ تَرَدَّدَ عَلَى الْجُرْحِ فَابْتَلَّ لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ فِيهِ دَمٌ قَدْرَ الرِّيقِ نَقَضَ لَا إنْ كَانَ الرِّيقُ غَالِبًا، وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ قَبْلَ أَنْ يَسِيلَ مَرَّةً فَمَرَّةً إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تَرَكَهُ سَالَ نَقَضَ وَإِلَّا لَا.
وَفِي الْمُحِيطِ: حَدُّ السَّيْلَانِ أَنْ يَعْلُوَ وَيَنْحَدِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ إذَا انْتَفَخَ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَصَارَ أَكْبَرَ مِنْ رَأْسِهِ نَقَضَ، وَالصَّحِيحُ لَا يُنْقَضُ.
وَفِي الدِّرَايَةِ جَعَلَ قول مُحَمَّدٍ أَصَحَّ، وَمُخْتَارُ السَّرَخْسِيِّ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَوْلَى.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: تَوَرَّمَ رَأْسُ الْجُرْحِ فَظَهَرَ بِهِ قَيْحٌ وَنَحْوُهُ لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْوَرَمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَوْضِعِ الْوَرَمِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، ثُمَّ الْجُرْحُ وَالنُّقْطَةُ وَمَاءُ الثَّدْيِ وَالسُّرَّةُ وَالْأُذُنُ إذَا كَانَ لِعِلَّةٍ سَوَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: مَنْ رَمِدَتْ عَيْنُهُ وَسَالَ الْمَاءُ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ. فَإِذَا اسْتَمَرَّ فَلِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.
وَفِي التَّجْنِيسِ الْغَرَبُ فِي الْعَيْنِ إذَا سَالَ مِنْهُ مَاءٌ نَقَضَ؛ لِأَنَّهُ كَالْجُرْحِ وَلَيْسَ بِدَمْعٍ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ سُرَّتِهِ مَاءٌ أَصْفَرُ وَسَالَ نَقَضَ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَدْ نَضِجَ فَاصْفَرَّ وَصَارَ رَقِيقًا. وَالْغَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ: وَرَمٌ فِي الْمَآقِي، وَفِي الْمُحِيطِ: مَصَّ الْقُرَادَ فَامْتَلَأَ إنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُنْقَضُ كَمَا لَوْ مَصَّ الذُّبَابُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا نَقَضَ كَمَصِّ الْعَلَقَةِ.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إلَخْ) حَاصِلُ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ لَا يُنْقَضُ مُطْلَقًا، وَيَنْقُضُ عِنْدَ زُفَرَ مُطْلَقًا سَالَ أَوْ لَا، امْتَلَأَ الْفَمُ مِنْ الْقَيْءِ أَوْ لَا، وَعِنْدَنَا يَنْقُضُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَكُلٌّ رَوَى لِمَذْهَبِهِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا. أَمَّا حَدِيثُ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَلَمْ يُعْرَفْ. وَأَمَّا حَدِيثُ «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ أُخْرَى وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ فَرُّوخَ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُبُ، فَإِنَّ النَّاسَ مَعَ ضَعْفِهِ قَدْ احْتَمَلُوا حَدِيثَهُ. اهـ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: قَدْ كَتَبْنَا عَنْهُ وَمَحَلُّهُ عِنْدَنَا الصِّدْقُ، وَقَدْ تَظَافَرَ مَعَهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ لَا: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ» قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: قَالَ أَبِي: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ» وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ كَلَامُ عُرْوَةَ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لَقَالَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا قَالَ تَوَضَّئِي عَلَى مُشَاكَلَةِ الْأَوَّلِ الْمَنْقول لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ قَائِلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ اغْسِلِي خِطَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ وَلَيْسَ عُرْوَةُ مُخَاطِبًا لَهَا لِيَكُونَ قوله: «ثُمَّ تَوَضَّئِي» خِطَابًا مِنْهُ لَهَا فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ الْمُخَاطِبِ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَفْظُه: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ» وَصَحَّحَهُ. وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ» فَضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ» إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ». وَلَفْظُ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ: يَرْوُونَهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا انْتَهَى. وَقَدْ تُكَلِّمَ فِي ابْنِ عَيَّاشٍ. وَجُمْلَةُ الْحَاصِلِ فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَجُّ مِنْ حَيْثُ الشَّامِيِّينَ لَا الْحِجَازِيِّينَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَقَالَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ يُحْمَلُ عَلَى غَسْلِ الدَّمِ لَا وُضُوءِ الصَّلَاةِ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ. وَابْنُ عَيَّاشٍ قَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَعَادَهُ فِيهِ، وَالْأَفْصَحُ فِي رَعَفَ الْفَتْحُ، وَالْقَلْسُ: الْخَارِجُ مِنْ الْغَثَيَانِ. وَالْقَيْءُ مَعَ سُكُونِ النَّفَسِ يَكُونُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ بِسَنَدِهِ إلَى مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَلَقِيت ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَعَلَّهُ الْخَصْمُ بِالِاضْطِرَابِ. فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ يَعِيشَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَوْزَاعِيَّ. وَأُجِيبَ أَنَّ اضْطِرَابَ بَعْضِ الرُّوَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ضَبْطِ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ قَدْ اضْطَرَبُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. فَقَالَ: قَدْ جَوَّدَهُ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي مُصَنِّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ رُزْءًا أَوْ رُعَافًا أَوْ قَيْئًا فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ، فَإِنْ تَكَلَّمَ اسْتَقْبَلَ وَلَا اعْتَدَّ بِمَا مَضَى وَالْحَارِثُ ضُعِّفَ، وَمِثْلُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُضِيِّ فِي الصَّلَاةِ لِذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي جُرِحَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا مِرْيَةٍ وَقول مَنْ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ بِالدَّمِ وَالْقَيْءِ وَالضَّحِكِ حَدِيثٌ إنْ سَلِمَ لَمْ يَقْدَحْ؛ لِأَنَّ الْحُجِّيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الصِّحَّةِ بَلْ الْحَسَنُ كَافٍ عَلَى أَنَّهُ رَأَى هَذَا الْقَائِلَ، فَأَمَّا مُجْتَهِدٌ عَلِمَ بِالِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَغَلَبَ عَلَى رَأْيِهِ صِحَّتُهُ فَهُوَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، إذْ مُجَرَّدُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّرْجِيحِ وَثُبُوتِ الصِّحَّةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَلَسِ حَدَثَ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي الْإِطْلَاقِ الْكَائِنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ غُنْيَةً عَنْهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ «لَيْسَ فِي الْفِطْرَةِ» إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ وَفِي الْآخَرِ حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ وَقَدْ ضُعِّفَا، وَلَفْظَةُ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ كِنَايَةٌ عَلَى الْقِلَّةِ، وَلَفْظُ سَائِلًا كِنَايَةٌ عَنْ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الْقَطْرَةِ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْقِلَّةُ وَضِدُّهُ مَاءٌ سَائِلٌ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْقَطْرَةِ إذَا وُجِدَتْ نُقِضَ اتِّفَاقًا فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِطَرِيقٍ صِنَاعِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قول عَلِيٍّ أَوْ دَسْعَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ فَلَمْ يُعْرَفْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعَادُ الْوُضُوءُ مِنْ سَبْعٍ: مِنْ إقْطَارِ الْبَوْلِ وَالدَّمِ السَّائِلِ وَالْقَيْءِ، وَمِنْ دَسْعَةٍ تَمْلَأُ الْفَمَ، وَنَوْمِ الْمُضْطَجِعِ، وَقَهْقَهَةِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ، وَخُرُوجِ الدَّمِ». وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ عَفَّانَ وَالْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، فَحَصَلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حُجِّيَّةُ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءَ فَلَا يُعَارِضُهَا غَيْرُهَا مِمَّا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ أَرْخَيْنَا الْعِنَانَ وَجَعَلْنَاهَا تَتَعَارَضُ فَإِنْ جَمَعْنَا، وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَانَ مَحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَلِيلِ فِي الْقَيْءِ وَمَا لَمْ يَسِلْ، وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ عَلَى الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَاهَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ بِقولهِ: إنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ شَرْعًا، وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ مَعْقول: أَيْ عُقِلَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَنَّ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ مِنْ الْبَدَنِ إذْ لَمْ يَظْهَرْ لِكَوْنِهِ مِنْ خُصُوصِ السَّبِيلَيْنِ تَأْثِيرٌ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِهِمَا فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَيْهِ، فَالْأَصْلُ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَحُكْمُهُ زَوَالُ طَهَارَةٍ يُوجِبُهَا الْوُضُوءُ، وَعِلَّتُهُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ الْبَدَنِ، وَخُصُوصُ الْمَحَلِّ مُلْغَى. وَالْفَرْعُ الْخَارِجُ النَّجَسُ مِنْ غَيْرِهِمَا وَفِيهِ الْمَنَاطُ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ زَوَالُ الطَّهَارَةِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْوُضُوءُ فَثَبَتَ أَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْقِيَاسِ ثُبُوتُ زَوَالِ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ، وَإِذَا صَارَ زَائِلُ طَهَارَتِهِ فَعِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابُ الْوُضُوءِ وَهُوَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ تَعْدِيَةِ الِاقْتِصَارِ ضِمْنًا أَصْلًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَقْرِيرِهِ كَمَا فِي الشُّرُوحِ، وَإِذَا صَارَ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَخُرُوجِهَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَرِدُ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ اشْتَرَطْتُمْ لِلنَّقْضِ فِي غَيْرِهِمَا السَّيَلَانَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِمَا؟ فَأَجَابَ بِقولهِ: غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى آخِرِهِ: أَيْ النَّقْضَ بِالْخُرُوجِ، وَحَقِيقَتُهُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَذَلِكَ بِالظُّهُورِ فِي السَّبِيلَيْنِ يَتَحَقَّقُ لَا بِالظُّهُورِ فِي غَيْرِهِمَا وَبَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَاشْتِرَاطُ مِلْءِ الْفَمِ بِأَنْ لَا يُمْكِنَهُ ضَبْطُهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا مُلَاحَظَةً لِبُطُونِ الْفَمِ فَإِنَّ لَهُ بُطُونًا مُعْتَبَرًا شَرْعًا، حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ الصَّائِمُ رِيقَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ فِي الْجَوْفِ وَظُهُورًا حَتَّى لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِإِدْخَالِ الْمَاءِ فِيهِ فَرَاعَيْنَا الشَّبَهَيْنِ، فَلَا يَنْقُضُ الْقَلِيلُ مُلَاحَظَةً لِلْبُطُونِ وَيَنْقُضُ الْكَثِيرُ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَضْبِطْهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَقِيلَ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ الْفَمِ.
وَقِيلَ: أَنْ يَعْجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَمْنَعَهُ الْكَلَامَ، وَقِيلَ أَنْ يُجَاوِزَ الْفَمَ، وَالْأَصَحُّ مَا فِي الْكِتَابِ.
قولهُ: (بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ) يَعْنِي السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرَهُمَا.
قولهُ: (وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قول مُحَمَّدٍ: إنَّهُ نَجِسٌ، وَكَانَ الْإِسْكَافُ وَالْهِنْدُوانِيُّ يُفْتِيَانِ بِقولهِ، وَجَمَاعَةٌ اعْتَبَرُوا قول أَبِي يُوسُفَ رِفْقًا بِأَصْحَابِ الْقُرُوحِ حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَمْتَنِعُ الصَّلَاةُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ يُسَاعِدُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَارِجَ بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ، وَأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَبْلَ الْخُرُوجِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِإِنْسَانٍ طَهَارَةٌ، فَلَزِمَ أَنَّ مَا لَيْسَ حَدَثًا لَمْ يُعْتَبَرْ خَارِجًا شَرْعًا، وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ خَارِجًا لَمْ يُعْتَبَرْ نَجِسًا، فَلَوْ أَخَذَ مِنْ الدَّمِ الْبَادِي فِي مَحَلِّهِ بِقُطْنَةٍ وَأَلْقَى فِي الْمَاءِ لَمْ يَتَنَجَّسْ.
قولهُ: (وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ قَلِيلٌ وَالْقَلِيلُ فِي الْقَيْءِ غَيْرُ نَاقِضٍ) وَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ مَا فِي الْمُجْتَبَى عَنْ الْحَسَنِ لَوْ تَنَاوَلَ طَعَامًا أَوْ مَاءً ثُمَّ قَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يَسْتَحِلْ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ بِهِ قَلِيلُ الْقَيْءِ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا فَلَا يَكُونُ نَجِسًا، وَكَذَا الصَّبِيُّ إذَا ارْتَضَعَ وَقَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ. قِيلَ: هُوَ الْمُخْتَارُ، وَمَا فِي الْقُنْيَةِ: لَوْ قَاءَ دُودًا كَثِيرًا أَوْ حَيَّةً مَلَأَتْ فَاهُ لَا يُنْقَضُ، وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا وَطَعَامًا إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّعَامِ وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ انْفَرَدَ يَبْلُغُ مِلْءَ الْفَمِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ انْفَرَدَ الْبَلْغَمُ مَلَأَهُ فَعَلَى الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَا يُنْقَضُ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي صَلَاةِ الْمُحْسَنِ قَالَ: الْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ، وَلَوْ اسْتَوَيَا يُعْتَبَرُ كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ. وَعَجْزُ هَذَا أَوْلَى مِنْ عَجْزِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ. هَذَا وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَمِيلُ إلَى قول أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ كَالدَّمِ وَالصَّفْرَاءِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِطَرَفِ كُمِّهِ. وَأُلْحِقَ بِالْقَيْءِ مَاءُ فَمِ النَّائِمِ إذَا صَعِدَ مِنْ الْجَوْفِ بِأَنْ كَانَ أَصْفَرَ أَوْ مُنْتِنًا عَنْ أَبِي نَصْرٍ، وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ هُوَ كَالْبَلْغَمِيِّ، وَقِيلَ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَهَذَا مَعْنَى قول أَبِي اللَّيْثِ: وَلَوْ نَزَلَ مِنْ الرَّأْسِ فَطَاهِرٌ اتِّفَاقًا.
فَرْعٌ:
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَاءَ طَعَامًا أَوْ مَاءً فَأَصَابَ إنْسَانًا شِبْرًا فِي شِبْرٍ لَا يَمْنَعُ، قَالَ الْمُحْسِنُ: مَا لَمْ يَفْحُشْ اهـ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ نَجَاسَةَ الْقَيْءِ مُخَفَّفَةٌ، وَلَا يَعْرَى عَنْ إشْكَالٍ؛ إذْ لَا خِلَافَ وَلَا تَعَارُضَ فِيهِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا قَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إذَا فَحَشَ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ الْمُتَّصِلِ بِهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ، وَبِمَا دُونَهُ مَا دُونَهُ. (وَلَوْ نَزَلَ) مِنْ الرَّأْسِ (إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ) (نَقَضَ بِالِاتِّفَاقِ) لِوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَيَتَحَقَّقُ الْخُرُوجُ (وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ) لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ بِهِ، وَالِاتِّكَاءُ يُزِيلُ مَسْكَةَ الْيَقَظَةِ لِزَوَالِ الْمَقْعَدِ عَنْ الْأَرْضِ، وَيَبْلُغُ الِاسْتِرْخَاءُ غَايَتَهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِنَادِ، غَيْرَ أَنَّ السَّنَدَ يَمْنَعُهُ مِنْ السُّقُوطِ، بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِرْخَاءُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَبْلُغُ الِاسْتِرْخَاءُ إلَخْ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ النَّقْضِ بِهَذَا الِاسْتِنَادِ مَا دَامَتْ الْمَقْعَدَةُ مُسْتَمْسِكَةً لِلْأَمْنِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالِانْتِقَاضُ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْقُدُورِيُّ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ النَّقْضِ الْحَدَثُ لَا عَيْنُ النَّوْمِ، فَلَمَّا خَفِيَ بِالنَّوْمِ أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَنْتَهِضُ مَظِنَّةً لَهُ، وَلِذَا لَمْ يُنْقَضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، وَنُقِضَ فِي الْمُضْطَجِعِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ مِنْهُ مَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الِاسْتِرْخَاءُ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ فِي الْمُضْطَجِعِ لَا فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِنَادِ إذْ لَا يُمْسِكُهُ إلَّا السَّنَدُ، وَتَمَكُّنِ الْمَقْعَدَةِ مَعَ غَايَةِ الِاسْتِرْخَاءِ لَا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ، إذْ قَدْ يَكُونُ الدَّافِعُ قَوِيًّا خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا لِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فَلَا يَمْنَعُهُ إلَّا مَسْكَةُ الْيَقَظَةِ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَبِيًا وَرَأْسُهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَا يَنْقُضُ.
قولهُ: (فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا) هَذَا إذَا نَامَ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ الْمَسْنُونِ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِأَنْ جَافَى، أَمَّا إذَا لَصِقَ بَطْنُهُ بِفَخِذَيْهِ فَيَنْقُضُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ.
وَفِي الْأَسْرَارِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَكُونُ النَّوْمُ حَدَثًا فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ. وَكَذَا قَاعِدًا خَارِجَ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَرِّكًا؛ لِأَنَّهَا جِلْسَةٌ تَكْشِفُ عَنْ الْمَخْرَجِ انْتَهَى. وَلَا يُخَالِفُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْمُتَوَرِّكِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَبْسُطَ قَدَمَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ.
وَفِي الْأَسْرَارِ عَلَّلَهُ بِأَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْمُقْعَدَةِ فَهَذَا اشْتِرَاكٌ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ التَّوَرُّكِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: مَنْ نَامَ وَاضِعًا أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَصَارَ شَبَهَ الْمُنْكَبِّ عَلَى وَجْهِهِ وَاضِعًا بَطْنَهُ عَلَى فَخِذَيْهِ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ.
وَفِي غَيْرِهَا لَوْ نَامَ مُتَرَبِّعًا وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذَيْهِ نَقَضَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ: ثُمَّ أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ قولهُ فِي الصَّلَاةِ فَشَمَلَ مَا كَانَ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمَا عَنْ غَلَبَةٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا تَعَمَّدَ النَّوْمَ فِي الصَّلَاةِ نَقَضَ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.
وَفِي فَصْلٍ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: لَوْ نَامَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ إنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ فَسَدَتْ فِي السُّجُودِ دُونَ الرُّكُوعِ اهـ. كَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قِيَامِ الْمَسْكَةِ حِينَئِذٍ فِي الرُّكُوعِ دُونَ السُّجُودِ. وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يُفَصَّلَ فِي ذَلِكَ السُّجُودِ إنْ كَانَ مُتَجَافِيًا لَا يُفْسِدُ لِلْمَسْكَةِ وَإِلَّا يُفْسِدُ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قول ابْنِ شُجَاعٍ: إنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ حَدَثًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي الصَّلَاةِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ. وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا فَسَقَطَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ الْأَرْضَ أَوْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ بِلَا فَصْلٍ لَمْ يُنْتَقَضْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُنْتَقَضُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لَمْ يُنْتَقَضْ، وَإِنْ زَالَ قَبْلَهُ نُقِضَ. وَالْفَتْوَى عَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قِيلَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَسَوَاءٌ سَقَطَ أَوْ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِنْ نَامَ جَالِسًا يَتَمَايَلُ رُبَّمَا يَزُولُ مَقْعَدُهُ وَرُبَّمَا لَا. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ اهـ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي أَبِي دَاوُد «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» وَأَمَّا مَا فِي سُنَنِ الْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَيَضَعُونَ جَنُوبَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الصَّلَاةِ» فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى النُّعَاسِ. وَقَدْ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَا ذِكْرَ لِلنُّعَاسِ مُضْطَجِعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ؛ لِأَنَّهُ نَوْمٌ قَلِيلٌ.
وَقَالَ الدَّقَّاقُ: إنْ كَانَ لَا يَفْهَمُ عَامَّةَ مَا قِيلَ حَوْلَهُ كَانَ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ يَسْهُو حَرْفًا أَوْ حَرْفَيْنِ فَلَا وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «نِمْتُ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ إلَى أَنْ قَالَ: فَتَأَمَّلْتُ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي الْقُنْيَةِ: نَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ.
قولهُ: (وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ) أَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا أَوْ سَاجِدًا حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّالَانِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ يَزِيدَ الدَّالَانِيِّ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ وَصَلَّى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ قَدْ نِمْتَ، قَالَ: إنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قولهُ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا مُنْكَرٌ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا يَزِيدُ الدَّالَانِيُّ. وَرَوَى أَوَّلَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا، مِنْ هَذَا اهـ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الدَّالَانِيِّ: كَثِيرُ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا وَافَقَ الثِّقَاتِ، فَكَيْفَ إذَا انْفَرَدَ عَنْهُمْ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ: صَدُوقٌ لَكِنَّهُ يَهِمُ فِي الشَّيْءِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: فِيهِ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَمَعَ لِينِهِ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ مَهْدِيُّ بْنُ هِلَالٍ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ بَحْرِ بْنِ كَثِيرٍ السَّقَّاءِ عَنْ مَيْمُونٍ الْخَيَّاطِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قال: «كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَخْفِقُ، فَاحْتَضَنَنِي رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَبَ عَلِيَّ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لَا حَتَّى تَضَعَ جَنْبَكَ عَلَى الْأَرْضِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ بَحْرُ بْنُ كَثِيرٍ السَّقَّاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ لَمْ يَنْزِلْ عِنْدَكَ الْحَدِيثُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَالْحَدِيثُ الَّذِي عَيَّنَّاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ عَيْنَ النَّوْمِ لَيْسَ حَدَثًا فَاعْتُبِرَتْ مَظِنَّتُهُ إلَخْ يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ، هَذَا وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي هَذَا كَالصُّلْبِيَّةِ، وَكَذَا سَجْدَةُ الشُّكْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ كَذَا قِيلَ، وَقِيَاسُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْخِلَافِ فِي عَدَمِ الِانْتِقَاضِ بِالنَّوْمِ فِيهَا. نَعَمْ يُنْتَقَضُ عَلَى مُقَابِلِ الصَّحِيحِ وَخِلَافُ الْمَشَايِخِ الْمَنْقول فِي الِانْتِقَاضِ بِهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْخِلَافِ بِالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُنْقَضُ، وَلَوْ صَلَّى الْمَرِيضُ مُضْطَجِعًا فَنَامَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَصُحِّحَ النَّقْضُ.

متن الهداية:
(وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ) لِأَنَّهُ فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا فِي الِاسْتِرْخَاءِ، وَالْإِغْمَاءِ حَدَثٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْمِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْجُنُونُ) بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَلَبَةً عَلَى الْعَقْلِ بَلْ زَوَالُهُ.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: لَمْ يَنْقُضْ لِغَلَبَةِ الِاسْتِرْخَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ أَقْوَى مِنْ الصَّحِيحِ، بَلْ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ الْحَدَثَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: السُّكْرُ حَدَثٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: إذَا دَخَلَ فِي مِشْيَتِهِ تَمَايُلٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قولهُ: (وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْمِ) قَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الْخَارِجِ نَاقِضٌ، وَثُبُوتُ النَّاقِضِ بِالنَّوْمِ لَيْسَ إلَّا إقَامَةٌ لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِخَفَائِهِ، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِيهِ لَيْسَ إلَّا إقَامَةَ الْمُفْضِي الَّذِي يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الْخُرُوجُ غَالِبًا، وَذَلِكَ مَا يَتِمُّ بِهِ الِاسْتِرْخَاءُ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ بِكُلِّ نَوْمٍ، فَلَيْسَ الْقِيَاسُ فِي كُلِّ نَوْمٍ النَّقْضَ.

متن الهداية:
(وَالْقَهْقَهَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ) وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ. وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ نَجَسٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ جَمِيعًا» وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ. وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ مُطْلَقَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا. وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ دُونَ جِيرَانِهِ وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ دُونَ الْوُضُوءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَلَا مَنْ ضَحِكَ إلَخْ) حَدِيثُ الْقَهْقَهَةِ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا. وَاعْتَرَفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِصِحَّتِهِ مُرْسَلًا، وَمَدَارُ الْمُرْسَلِ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَإِنْ رَوَاهُ غَيْرُهُ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَخْرَجَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَنَا حَدَّثْت بِهِ الْحَسَنَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ: أَنَا حَدَّثْت بِهِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي كِتَابِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْحَسَنِ اهـ. يَعْنِي وَالْحَسَنُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بَيْنَمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ إذْ أَقْبَلَ أَعْمَى يُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَوَقَعَ فِي زُبْيَةٍ فَاسْتَضْحَكَ الْقَوْمُ فَقَهْقَهُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَهْقَهَ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» قِيلَ وَمَعْبَدٌ هَذَا لَا صُحْبَةَ لَهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَعْبَدًا الَّذِي لَا صُحْبَةَ لَهُ هُوَ مَعْبَدٌ الْبَصْرِيُّ الْجُهَنِيُّ كَانَ الْحَسَنُ يَقول فِيهِ: إيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَمَعْبَدٌ هَذَا هُوَ الْخُزَاعِيُّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا شَكَّ فِي صُحْبَتِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَرَوَيَا لَهُ أَيْضًا حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّهُ قال: «لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّا بِخِبَاءِ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْبَدًا وَكَانَ صَغِيرًا فَقَالَ لَهُ: اُدْعُ هَذِهِ الشَّاةَ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَإِذَا صَحَّ الْمُرْسَلُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقول بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ اسْمُهُ رُفَيْعٌ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ. وَأَمَّا رِوَايَتُهُ مُسْنَدًا فَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَأَغْرَبُهَا طَرِيقٌ عَنْ أَنَسٍ رَوَاهَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ فِي تَارِيخِ جُرْجَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ شِهَابِ بْنِ طَارِقٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فُورَكٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً شَدِيدَةً فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ» وَأَسْلَمُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ بْنِ بَقِيَّةَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» وَمَا طُعِنَ بِهِ مِنْ أَنَّ بَقِيَّةَ مُدَلِّسٌ فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ فَحَذَفَ اسْمَهُ، دُفِعَ بِأَنَّ بَقِيَّةَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَالْمُدَلِّسُ إذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ وَكَانَ صَدُوقًا زَالَتْ تُهْمَةُ التَّدْلِيسِ، وَبَقِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
قولهُ: (وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ) أَمَّا الْوَارِدُ عَلَى وَاقِعَةِ الْحَالِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا نَحْوُ حَدِيثِ بَقِيَّةَ هَذَا فَلِانْصِرَافِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا إلَى ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَهُوَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ النَّقْضُ عَلَيْهَا. وَالْمُرَادُ مَا أَصْلُهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ فِيمَا يُصَلِّيهِ بِالْإِيمَاءِ لِعُذْرٍ أَوْ رَاكِبًا يُومِئُ بِالنَّفْلِ أَوْ الْفَرْضِ لِعُذْرٍ انْتَقَضَ، وَكَذَا أَيْضًا لَا تَنْقُضُ قَهْقَهَةُ النَّائِمِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَقِيلَ تَنْقُضُ وَتُبْطِلُ. وَعَنْ شَدَّادٍ: تَنْقُضُ وَلَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَقِيلَ عَكْسُهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ حَدَثًا بِشَرْطِ كَوْنِهَا جِنَايَةً، وَلَا جِنَايَةَ مِنْ النَّائِمِ، بِخِلَافِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ فَيُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَهْقَهَةِ سَاهِيًا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ، وَأَمَّا قَهْقَهَةُ الصَّبِيِّ فَقِيلَ تُبْطِلُهُمَا، وَقِيلَ لَا تَنْقُضُ.
وَفِي قَهْقَهَةِ الْبَانِي فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ الْوُضُوءِ رِوَايَتَانِ وَلَوْ نَسِيَ. وَتَنْقُضُ بَعْدَ الْعُقُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْقَوْمُ بَطَلَ وُضُوءُهُ دُونَهُمْ لِخُرُوجِهِمْ بِقَهْقَهَتِهِ بِخِلَافِ سَلَامِهِ فَلَوْ قَهْقَهُوا بَعْدَ سَلَامِهِ، بَطَلَ وُضُوءُهُمْ، وَجَعَلَ الْأَصَحَّ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا. مُحْدِثٌ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَفَنِيَ الْمَاءُ فَتَيَمَّمَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فَقَهْقَهَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَغْسِلُ بَاقِيَ الْأَعْضَاءِ وَيُصَلِّي، وَعِنْدَهُمَا يَغْسِلُ جَمِيعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ هَلْ تُبْطِلُ مَا غُسِلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؟ عِنْدَهُ لَا وَعِنْدَهُمَا نَعَمْ. وَلَوْ اغْتَسَلَ جُنُبٌ وَصَلَّى فَقَهْقَهَ هَلْ تَبْطُلُ وَيُعِيدُ الْوُضُوءَ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي ضِمْنِ الْغُسْلِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلُ الْمُتَضَمِّنُ، لَا يَبْطُلُ الْمُتَضَمَّنُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ إعَادَتَهُ وَاجِبَةٌ عُقُوبَةً كَذَا فِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ قَهْقَهَ بَعْدَ كَلَامِ الْإِمَامِ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ كَسَلَامِهِ عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ حَدَثِهِ عَمْدًا.

متن الهداية:
(وَالدَّابَّةُ تَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ نَاقِضَةٌ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ أَوْ سَقَطَ اللَّحْمُ لَا تَنْقُضُ) وَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الدُّودَةُ وَهَذَا لِأَنَّ النَّجَسَ مَا عَلَيْهَا وَذَلِكَ قَلِيلٌ وَهُوَ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَأَشْبَهَ الْجُشَاءَ وَالْفُسَاءَ، بِخِلَافِ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ وَذَكَرِ الرَّجُلِ لِأَنَّهَا لَا تَنْبَعِثُ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُفْضَاةً يُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الدُّبُرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ النَّجَسَ مَا عَلَيْهَا) الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَا بِحَيْثُ يَكُونُ نَجِسًا هُوَ مَا عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِهِ عَلَى قول مُحَمَّدٍ.
قولهُ: (حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُفْضَاةً إلَخْ) الْمُفْضَاةُ الَّتِي اخْتَلَطَ سَبِيلَاهَا، وَقِيلَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ وَالْحَيْضِ.
وَفِي التَّعْلِيلِ وَهُوَ قولهُ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهِ مِنْ الدُّبُرِ إشَارَةٌ إلَى الْأَوَّلِ، وَالْوُضُوءُ مُسْتَحَبٌّ فِي حَقِّهَا لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَظُهُورُ أَثَرِهِ أَيْضًا فِيمَا لَوْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ مَا لَمْ تَحْبَلْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ فِي دُبُرِهَا.
وَفِي حُرْمَةِ جِمَاعِهَا عَلَى الزَّوْجِ.
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْيَانُهَا فِي قُبُلِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ وُجُوبُ الْوُضُوءِ. وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَفْصٍ لِلِاحْتِيَاطِ، وَمَنَعَ أَنَّهَا مُتَوَضِّئَةٌ بِيَقِينٍ وَكَوْنُ الرِّيحِ مِنْ الدُّبُرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الرِّيحِ كَوْنُهَا مِنْ الدُّبُرِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِكَوْنِهَا مِنْ الْقُبُلِ بِهِ فَيُفِيدُ غَلَبَةَ ظَنٍّ تَقْرُبُ مِنْ الْيَقِينِ وَهُوَ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لَهُ حُكْمُ الْيَقِينِ فَيَتَرَجَّحُ الْوُجُوبُ.
فَرْعٌ:
شَكَّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ سَبْقَ أَحَدِهِمَا بَنَى عَلَى السَّابِقِ إلَّا إنْ تَأَيَّدَ اللَّاحِقُ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلِمَ الْمُتَوَضِّئُ دُخُولَهُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ وَشَكَّ فِي قَضَائِهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، أَوْ عَلِمَ جُلُوسَهُ لِلْوُضُوءِ بِإِنَاءٍ وَشَكَّ فِي إقَامَتِهِ قَبْلَ قِيَامِهِ لَا وُضُوءَ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ فِي وُجُوبِ وُضُوءِ الْمُفْضَاةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي السَّائِلِ مِنْ ذَكَرِهِ أَمَاءٌ هُوَ أَمْ بَوْلٌ، إنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْمَاءِ أَوْ تَكَرَّرَ مَضَى وَإِلَّا أَعَادَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَحَدُهُمَا وَلَوْ تَيَقَّنَ تَرْكَ عُضْوٍ وَشَكَّ فِيهِ فَفِي النَّوَازِلِ يَغْسِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ إذَا كَانَ الشَّكُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ يَغْسِلُ الْأَخِيرَ مَثَلًا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ عَيْنًا وَعَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مِمَّا قَبْلَهُمَا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَا هُوَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّتِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَيَقُّنَ بِتَرْكِ شَيْءٍ هُنَاكَ أَصْلًا.

متن الهداية:
(فَإِنْ قُشِرَتْ نَفْطَةٌ فَسَالَ مِنْهَا مَاءٌ أَوْ صَدِيدٌ أَوْ غَيْرُهُ إنْ سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ نَقَضَ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَا يَنْقُضُ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُضُ فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْقُضُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نَجِسَةٌ لِأَنَّ الدَّمَ يَنْضَجُ فَيَصِيرُ قَيْحًا ثُمَّ يَزْدَادُ نُضْجًا فَيَصِيرُ صَدِيدًا ثُمَّ يَصِيرُ مَاءً، هَذَا إذَا قَشَرَهَا فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، أَمَّا إذَا عَصَرَهَا فَخَرَجَ بِعَصْرِهِ لَا يَنْقُضُ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نَجِسَةٌ) يَعْنِي الْمَاءَ وَالْقَيْحَ وَالصَّدِيدَ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ) لَا تَأْثِيرَ يَظْهَرُ لِلْإِخْرَاجِ وَعَدَمِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، بَلْ النَّقْضُ لِكَوْنِهِ خَارِجًا نَجِسًا، وَذَاكَ يَتَحَقَّقُ مَعَ الْإِخْرَاجِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِهِ فَصَارَ كَالْفَصْدِ وَقَشْرِ النَّفْطَةِ فَلِذَا اخْتَارَ السَّرَخْسِيُّ فِي جَمَاعَةٍ النَّقْضَ.
وَفِي الْكَافِي: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُخْرَجَ نَاقِضٌ انْتَهَى. وَكَيْفَ وَجَمِيعُ الْأَدِلَّةِ الْمُورَدَةِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ تُفِيدُ تَعْلِيقَ النَّقْضِ بِالْخَارِجِ النَّجَسِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمُخْرَجِ.
فُرُوعٌ:
يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ. وَهِيَ أَنْ يَتَجَرَّدَا مَعًا مُتَعَانِقَيْنِ مُتَمَاسِّي الْفَرْجَيْنِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ خُرُوجَ شَيْءٍ. قُلْنَا يَنْدُرُ عَدَمُ مَذْيٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي مَقَامِ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: وَكَذَا الْمُبَاشَرَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْغُلَامِ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُوجِبُ الْوُضُوءُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَجِبُ مِنْ مُجَرَّدِ مَسِّهَا وَلَوْ بِشَهْوَةٍ وَلَوْ فَرْجَهَا، وَلَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأُولَى مُطْلَقًا، وَفِي الثَّانِيَةِ إذَا مَسَّ بِبَاطِنِ الْأَصَابِعِ، وَلِمَالِكٍ فِي الثَّانِيَةِ مُطْلَقًا، وَفِي الْأُولَى إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ. لَنَا فِي الْأُولَى عَدَمُ دَلِيلِ النَّقْضِ بِشَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَيَبْقَى الِانْتِقَاضُ عَلَى الْعَدَمِ، وقوله تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} مُرَادٌ بِهِ الْجِمَاعُ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَوْنُهُ مُرَادًا بِهِ الْيَدُ قول جَمَاعَةٍ آخَرِينَ، وَرَجَّحْنَا قول الطَّائِفَةِ الْأُولَى بِالْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفَاضَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَدَثَيْنِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ بِقولهِ تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} إلَى قوله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْغُسْلُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْحَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِقولهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} إلَى آخِرِهِ، وَلَفْظُ لَامَسْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْجِمَاعِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ بَيَانًا لِحُكْمِ الْحَدَثَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُمَا عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَتِمُّ الْغَرَضُ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ بِالْيَدِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ «مَسِّ عَائِشَةَ قَدَمَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَقَدَتْهُ لَيْلًا، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ فِي السُّجُودِ وَلَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ لِذَلِكَ»، وَعَنْهَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ فَلَا يَتَوَضَّأُ»، رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَلَنَا فِي الثَّانِيَةِ مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، عَنْ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيه: «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَحْسَنُ شَيْءٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ. وَأَيُّوبُ وَمُحَمَّدٌ تَكَلَّمَ فِيهِمَا بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو أَصَحُّ وَأَحْسَنُ، وَبِهِ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ غَيْرُ مُضْطَرِبٍ فِي إسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ انْتَهَى. فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الطَّعْنِ مَرَّةً فِي بُسْرَةَ بِالْجَهَالَةِ، وَمَرَّةً بِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ بُسْرَةَ بَلْ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَوْ الشَّرْطِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَمَرَّةً بِالتَّكَلُّمِ فِي مُلَازِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا لَا يَنْزِلَانِ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، لَكِنْ يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ طَلْقٍ بِأَنَّ حَدِيثَ الرِّجَالِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُمْ أَحْفَظُ لِلْعِلْمِ وَأَضْبَطُ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ. وَقَدْ أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْقَلَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ طَلْقٍ عِنْدَنَا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ. وَمَا رُجِّحَ بِهِ حَدِيثُ بُسْرَةَ مِنْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِأَنَّ طَلْقًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ سِنِي الْهِجْرَةِ وَهُوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قَرِّبُوا الْيَمَانِيَّ مِنْ الطِّينِ فَإِنَّهُ مِنْ أَحْسَنِكُمْ لَهُ مَسًّا» وَمَتْنُ حَدِيثِ بُسْرَةَ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ وُرُودَ طَلْقٍ إذْ ذَاكَ ثُمَّ رُجُوعَهُ لَا يَنْفِي عَوْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ قَدْ رَوَوْا عَنْهُ حَدِيثًا ضَعِيفًا «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَقَالَ سَمِعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُضَعَّفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ حَدِيثِ بُسْرَةَ بَاطِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّوَاقِضِ مِمَّا يَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ النَّقْضَ مِنْهُ وَإِنْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ، عَلَى أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عُمَرَ نَظَرًا لِمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ سَلَكْنَا طَرِيقَ الْجَمْعِ جُعِلَ مَسُّ الذَّكَرِ كِنَايَةً عَمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ يَسْكُتُونَ عَنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ وَيَرْمِزُونَ عَلَيْهِ بِذَكَرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَسُّ الذَّكَرِ غَالِبًا يُرَادِفُ خُرُوجَ الْحَدَثِ مِنْهُ وَيُلَازِمُهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ كَمَا عَبَّرَ تَعَالَى بِالْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ عَمَّا يَقْصِدُ الْغَائِطَ لِأَجْلِهِ وَيَحِلُّ فِيهِ، فَيَتَطَابَقُ طَرِيقَا الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي التَّعْبِيرِ فَيُصَارُ إلَى هَذَا الدَّفْعِ التَّعَارُضُ.

.(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ):

(وَفَرْضُ الْغُسْلِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُمَا سُنَّتَانِ فِيهِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ» أَيْ مِنْ السُّنَّةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَلِهَذَا كَانَا سُنَّتَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَلَنَا قوله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَهُوَ أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، إلَّا أَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ النَّصِّ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْمُوَاجِهَةُ فِيهِمَا مُنْعَدِمَةٌ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ حَالَةَ الْحَدَثِ بِدَلِيلِ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إنَّهُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ».
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ):
قولهُ: (الْمَضْمَضَةُ إلَخْ) وَلَوْ شَرِبَ الْمَاءَ عَبًّا أَجْزَأَ عَنْهَا لَا مَصًّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا إلَّا أَنْ يَمُجَّهُ، وَلَوْ كَانَ سِنُّهُ مُجَوَّفًا أَوْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ أَوْ دَرَنٌ رَطْبٌ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَطِيفٌ يَصِلُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ غَالِبًا، كَذَا فِي التَّجْنِيسِ ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ الصَّدْرَ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إذَا كَانَ فِي أَسْنَانِهِ كُوَّاتٌ يَبْقَى فِيهَا الطَّعَامُ لَا يُجْزِئُهُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ وَيُجْرِي الْمَاءَ عَلَيْهَا.
وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ وَالْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ خِلَافُ هَذَا، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْعَلَ انْتَهَى. وَالدَّرَنُ الْيَابِسُ فِي الْأَنْفِ كَالْخُبْزِ الْمَمْضُوغِ وَالْعَجِينِ يَمْنَعُ، وَلَا يَضُرُّ مَا انْتَضَحَ مِنْ غَسْلِهِ فِي إنَائِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِرَ كُلُّهُ فِي الْإِنَاءِ. وَيَجُوزُ نَقْلُ الْبِلَّةِ فِي الْغُسْلِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ، وَيَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ إذَا تَمَضْمَضَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، قَالَ فِي الْمُبْتَغَى: إلَّا إذَا احْتَلَمَ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِ أَهْلَهُ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ.
قولهُ: (وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ) فَيَجِبُ تَحْرِيكُ الْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ الضَّيِّقَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قُرْطٌ فَدَخَلَ الْمَاءُ الثَّقْبَ عِنْدَ مُرُورِهِ أَجْزَأَ كَالسُّرَّةِ وَإِلَّا أَدْخَلَهُ، وَيُدْخِلُهُ الْقُلْفَةَ اسْتِحْبَابًا، وَفِي النَّوَازِلِ لَا يُجْزِئُهُ تَرْكُهُ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِلْحَرَجِ لَا لِكَوْنِهِ خِلْقَةً، وَتَغْسِلُ فَرْجَهَا الْخَارِجَ لِأَنَّهُ كَالْفَمِ، وَلَا يَجِبُ إدْخَالُهَا الْأُصْبُعَ فِي قُبُلِهَا وَبِهِ يُفْتَى. وَدَرَنُ الْأَظْفَارِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْوُضُوءِ، وَلَا يَجِبُ الدَّلْكُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَكَانَ وَجْهُهُ خُصُوصَ صِيغَةِ اطَّهَّرُوا، فَإِنَّ (فَعُلَ) لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَصْلُهُ وَذَلِكَ بِالدَّلْكِ.
قولهُ: (عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ» قَالَ مَصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ: وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ: الِاسْتِنْجَاءُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَمَّارٍ، وَذَكَرَ الْخِتَانَ بَدَلَ إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، وَذَكَرَ الِانْتِضَاحَ بَدَلَ انْتِفَاضِ الْمَاءِ.
قولهُ: (وَلَنَا قوله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَهُوَ أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّطْهِيرَ إلَى مُسَمَّى الْوَاوِ وَهُوَ جُمْلَةُ بَدَنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ فَيَدْخُلُ كُلُّ مَا يُمْكِنُ الْإِيصَالُ إلَيْهِ إلَّا مَا فِيهِ حَرَجٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقولهِ يَتَعَذَّرُ، وَذَلِكَ كَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ وَالْقُلْفَةِ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فَشَمِلَهُمَا نَصُّ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ كَمَا شَمِلَهُمَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، إذْ كَوْنُهُمَا مِنْ الْفِطْرَةِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهَا الدِّينُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فَلَا يُعَارِضُهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» وَالْمُرَادُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى الْأَقْوَالِ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ الْمَرْوِيِّ عَلَى حَالَةِ الْحَدَثِ بِدَلِيلِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّهُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ» كَأَنَّهُ يَعْنِي مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً»، لَكِنْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خُرُوجِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُمَا وَهُوَ ضَعِيفٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَسُنَّتُهُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُغْتَسِلُ فَيَغْسِلَ يَدَيْهِ وَفَرْجَهُ وَيُزِيلَ نَجَاسَةً إنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ إلَّا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَنْتَحِي عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ) هَكَذَا حَكَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اغْتِسَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُمَا فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يُفِيدُ الْغَسْلُ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ لَا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَيْ لَا تَزْدَادَ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ (وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُضَ ضَفَائِرَهَا فِي الْغُسْلِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ الشَّعْرِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَمَا يَكْفِيكِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِكِ» وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَلُّ ذَوَائِبِهَا هُوَ الصَّحِيحُ، بِخِلَافِ اللِّحْيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي إيصَالِ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَسُنَّتُهُ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَهَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فِي هَذَا الْوُضُوءِ؟ نَعَمْ فِي الصَّحِيحِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا، وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الصَّبِّ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: يُفِيضُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ ثَلَاثًا ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثَلَاثًا ثُمَّ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ. وَقِيلَ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَنِ ثُمَّ بِالرَّأْسِ ثُمَّ بِالْأَيْسَرِ. وَقِيلَ يَبْدَأُ بِالرَّأْسِ، وَهُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الْكِتَابِ وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ الَّذِي سَيُذْكَرُ وَلَوْ انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي مَاءِ جَارٍ إنْ مَكَثَ فِيهِ قَدْرَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَقَدْ أَكْمَلَ السُّنَّةَ وَإِلَّا فَلَا.
قولهُ: (هَكَذَا حَكَتْ مَيْمُونَةُ) رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْهَا قَالت: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ».
قولهُ: (وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُضَ ضَفَائِرَهَا) هَذَا فَرْعُ قِيَامِ الضَّفِيرَةِ، فَلَوْ كَانَتْ ضَفَائِرُهَا مَنْقُوضَةً فَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ نَقْضِ ضَفَائِرِ الرَّجُلِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ. وَالِاحْتِيَاطُ الْوُجُوبُ، وَثَمَنُ مَاءِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ وَوُضُوئِهَا عَلَى الرَّجُلِ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ) فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْهَا «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ لَا إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» وَمُقْتَضَى هَذَا عَدَمُ وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْأُصُولِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ «أَنَّهُ بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤْسَهُنَّ فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤْسَهُنَّ أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُؤْسَهُنَّ لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَزِيدُ أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إفْرَاغَاتٍ». وَكَذَا مَا فِي أَبِي دَاوُد «أَنَّهُمْ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا الرَّجُلُ فَلْيَنْشُرْ رَأْسَهُ فَلْيَغْسِلْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الشَّعْرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا عَلَيْهَا أَنْ لَا تَنْقُضَهُ لِتَغْرِفْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِكَفَّيْهَا» وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْقُضُ رَأْسَهَا فِي الْحَيْضِ، وَذَكَرَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْحَجِّ «أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكُنْت مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ» الْحَدِيثَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا اغْتَسَلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حَيْضِهَا نَقَضَتْ شَعْرَهَا نَقْضًا وَغَسَلَتْهُ بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْجَنَابَةِ صَبَّتْ عَلَى رَأْسِهَا الْمَاءَ وَعَصَرَتْهُ» اهـ. وَلَا أَعْلَمُ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الْمَذْهَبِ وَأَجَابَ مُتَأَخِّرٌ بِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ السَّابِقِ، فَإِنَّ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ «أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ؟ قَالَ لَا» الْحَدِيثَ. وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغُسْلَ كَانَ لِلتَّنْظِيفِ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ لَا لِلتَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثِ الْحَيْضِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا، هَذَا وَأُورِدَ أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ مُعَارِضٌ لِلْكِتَابِ. وَأُجِيبَ تَارَةً بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ مُؤَدَّى الْكِتَابِ غَسْلُ الْبَدَنِ، وَالشَّعْرُ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مُتَّصِلٌ بِهِ نَظَرًا إلَى أُصُولِهِ، فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَى الِاتِّصَالِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَبِمُقْتَضَى الِانْفِصَالِ فِي النِّسَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ إذْ لَا يُمْكِنُهُنَّ حَلْقُهُ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ مَوَاضِعُ الضَّرُورَةِ كَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ فَيُخَصُّ بِالْحَدِيثِ بَعْدَهُ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قول بَعْضِهِمْ يَجِبُ بَلُّهَا ثَلَاثًا مَعَ كُلِّ بَلَّةٍ عَصْرَةٌ.
وَفِي صَلَاةِ الْبَقَّالِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الذَّوَائِبِ وَإِنْ جَاوَزَتْ الْقَدَمَيْنِ، وَفِي مَبْسُوطِ بَكْرٍ فِي وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى شُعَبِ عِقَاصِهَا اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ اهـ. وَالْأَصَحُّ نَفْيُهُ لِلْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ إنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَالَةَ النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خُرُوجُ الْمَنِيِّ كَيْفَمَا كَانَ يُوجِبُ الْغُسْلَ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» أَيْ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ، وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ الْجُنُبَ، وَالْجَنَابَةُ فِي اللُّغَةِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، يُقَالُ أَجْنَبَ الرَّجُلُ إذَا قَضَى شَهْوَتَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ انْفِصَالُهُ عَنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظُهُورُهُ أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْخُرُوجِ بِالْمُزَايَلَةِ إذْ الْغُسْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَلَهُمَا أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ مِنْ وَجْهٍ فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ) قِيلَ هِيَ تَنْقُضُهُ فَكَيْفَ تُوجِبُهُ.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إرَادَةُ مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ بِالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَقِيلَ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْغُسْلِ بِوَاسِطَةِ الْجَنَابَةِ كَقولنَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ سَبَبُهُ وُجُوبُ مَا لَا يَحِلُّ مَعَ الْجَنَابَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ. وَحَاصِلُ مَا يُوجِبُ الْجَنَابَةَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْإِيلَاجُ فِي الْآدَمِيِّ الْحَيِّ لَا الْمَيِّتِ وَالْبَهِيمَةِ مَا لَمْ يُنْزِلْ. لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: بَال فَخَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ إنْ كَانَ ذَكَرُهُ مُنْكَسِرًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَشِرًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ. وَهَذَا بَعْدَ مَا عُرِفَ مِنْ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الشَّهْوَةِ فِي الْإِنْزَالِ فِيهِ نَظَرٌ. بِخِلَافِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مُسْتَيْقِظٍ وَجَدَ مَاءً وَلَمْ يَتَذَكَّرْ احْتِلَامًا، إنْ كَانَ ذَكَرُهُ مُنْتَشِرًا قَبْلَ النَّوْمِ لَا يَجِبُ وَإِلَّا فَيَجِبُ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَنِيٌّ عَنْ شَهْوَةٍ لَكِنْ ذَهَبَ عَنْ خَاطِرِهِ، وَمَحْمَلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ وَجَدَ الشَّهْوَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ فِي التَّجْنِيسِ بِقولهِ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي حَالَةَ الِانْتِشَارِ وُجِدَ الْخُرُوجُ وَالِانْفِصَالُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِيلَاجِ فِي الْآدَمِيِّ يَتَنَاوَلُ إيلَاجَ الذَّكَرِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَإِيلَاجُ الْأُصْبُعِ.
وَفِي إدْخَالِ الْأُصْبُعِ الدُّبُرَ خِلَافٌ فِي إيجَابِ الْغُسْلِ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ الْجُنُبَ) وَالْجَنَابَةُ فِي اللُّغَةِ إنَّمَا تُقَالُ مَعَ الشَّهْوَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ بِلَا شَهْوَةٍ فَلَا يُوجِبُ فِيهِ حُكْمًا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَالْحَدِيثُ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ لِأَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ: أَيْ الْمَاءُ الْمَعْهُودُ وَاَلَّذِي بِهِ الْعَهْدُ لَهُمْ هُوَ الْخَارِجُ عَنْ شَهْوَةٍ كَيْفَ وَرُبَّمَا يَأْتِي عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ جَمِيعَ عُمُرِهِ وَلَا يَرَى هَذَا الْمَاءَ مُجَرَّدًا عَنْهَا، عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمَنِيِّ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ عَائِشَةَ أَخَذَتْ فِي تَفْسِيرِهَا إيَّاهُ الشَّهْوَةَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ الْمَذْيِ فَقَالَتْ: إنَّ كُلَّ فَحْلٍ يَمْذِي، وَإِنَّهُ الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَالْمَنِيُّ، فَأَمَّا الْمَذْيُ فَالرَّجُلُ يُلَاعِبُ امْرَأَتَهُ فَيَظْهَرُ عَلَى ذَكَرِهِ الشَّيْءُ فَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَغْتَسِلُ وَأَمَّا الْوَدْيُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبَوْلِ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَغْتَسِلُ، وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَإِنَّهُ الْمَاءُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ الشَّهْوَةُ وَفِيهِ الْغُسْلُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ نَحْوَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنِيٌّ إلَّا مِنْ خُرُوجِهِ بِشَهْوَةٍ، وَإِلَّا يَفْسُدُ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَتْهُ لِتَمْيِيزِ الْمِيَاهِ لِتُعْطَى أَحْكَامَهَا.
قولهُ: (ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ إلَخْ) لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إذَا انْفَصَلَ عَنْ مَقَرِّهِ مِنْ الصُّلْبِ بِشَهْوَةٍ إلَّا إذَا خَرَجَ عَلَى رَأْسِ الذَّكَرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الشَّهْوَةِ لِلْخُرُوجِ؟ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَعَمْ، وَعِنْدَهُمَا لَا، فَافْهَمْ مَقْصُودَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مَزْلَقَةٌ. وَقَدْ أَخْطَأَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْ خَارِجٍ، وَلَوْ تَأَمَّلَ قولهُ فِي دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ إذْ الْغُسْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا لَزَالَ الرَّيْبُ عَنْهُ، وَمِنْ فُرُوعِ تَعَلُّقِهِ بِهِمَا لَوْ احْتَلَمَ فَوَجَدَ اللَّذَّةَ وَلَمْ يُنْزِلْ حَتَّى تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَنْزَلَ اغْتَسَلَ وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا لَوْ احْتَلَمَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُنْزِلْ حَتَّى أَتَمَّهَا فَأَنْزَلَ لَا يُعِيدُهَا وَيَغْتَسِلُ. وَقولهُمَا أَحْوَطُ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْإِنْزَالِ، فَإِذَا وُجِدَتْ مَعَ الِانْفِصَالِ صَدَقَ اسْمُهَا، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا ثُبُوتَ حُكْمِهَا وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ، لَكِنْ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَّا بِالْخُرُوجِ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ الِانْفِصَالُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَقْوَى مِمَّا بَقِيَ، وَالِاحْتِيَاطُ وَاجِبٌ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَوَجَبَ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ اسْتَمْنَى بِكَفِّهِ أَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ أَوْ احْتَلَمَ، فَلَمَّا انْفَصَلَ أَخَذَ إحْلِيله حَتَّى سَكَنَتْ فَأَرْسَلَ فَخَرَجَ بِلَا شَهْوَةٍ يَجِبُ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ. وَمِنْهَا اغْتَسَلَ بَعْدَ الْجِمَاعِ قَبْلَ النَّوْمِ أَوْ الْبَوْلِ أَوْ الْمَشْيِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ يُعِيدُ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ، وَبَعْدَ أَحَدِهَا يُعِيدُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا بَعْدَ الْغُسْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِ مَا تَأَخَّرَ مِنْ الْمَنِيِّ اتِّفَاقًا. قِيلَ وَمِنْهَا مُسْتَيْقِظٌ وَجَدَ بِثَوْبِهِ أَوْ فَخِذِهِ بَلَلًا وَلَمْ يَتَذَكَّرْ احْتِلَامًا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَذْيٌ أَوْ مَنِيٌّ يَجِبُ عِنْدَهُمَا لِاحْتِمَالِ انْفِصَالِهِ عَنْ شَهْوَةٍ ثُمَّ نَسِيَ وَرَقَّ هُوَ بِالْهَوَاءِ خِلَافًا لَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ ثَابِتٌ فِي الْخُرُوجِ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الِانْفِصَالِ كَذَلِكَ فَالْحَقُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ يَقول لَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْغُسْلِ بِالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُمَا احْتَاطَ لِقِيَامِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ وَرَأَى مَاءً رَقِيقًا حَيْثُ يَجِبُ اتِّفَاقًا حَمْلًا لِلرِّقَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقولهُ أَقْيَسُ وَأَخَذَ بِهِ خَلْفُ بْنُ أَيُّوبَ وَأَبُو اللَّيْثِ، وَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مَذْيٌ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا لَكِنَّ التَّيَقُّنَ مُتَعَذِّرٌ مَعَ النَّوْمِ. وَقولهُمَا أَحْوَطُ قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الِاحْتِلَامِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَنِيًّا فَرَقَّ بِوَاسِطَةِ الْهَوَاءِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: أُغْشِيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا أَوْ كَانَ سَكْرَانَ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ، وَلَا يُشْبِهُ النَّائِمَ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَذْيًا حَيْثُ كَانَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إنْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنِيَّ وَالْمَذْيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي النَّوْمِ تَذَكُّرٌ أَوْ لَا لِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الِاحْتِلَامِ فَيُحَالُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَنِيٌّ رَقَّ بِالْهَوَاءِ، وَلِلْغِذَاءِ فَاعْتَبَرْنَاهُ مَنِيًّا احْتِيَاطًا، وَلَا كَذَلِكَ السَّكْرَانُ وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمَا هَذَا السَّبَبُ، وَلَوْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ وَالشَّهْوَةَ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجَانِ بَيْنَهُمَا مَاءً دُونَ تَذَكُّرٍ وَلَا مُمَيَّزٌ بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ غِلَظُهُ وَرِقَّتُهُ وَلَا بَيَاضُهُ وَصُفْرَتُهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ، صَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقَيْدَ فَقَالُوا يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَقِيلَ إذَا كَانَ غَلِيظًا أَبْيَضَ فَعَلَيْهِ، أَوْ رَقِيقًا أَصْفَرَ فَعَلَيْهَا فَيُفِيدُونَهُ بِصُورَةِ نَقْلِ الْخِلَافِ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَقْيِيدُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمَا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا خِلَافَ إذًا. وَلَوْ احْتَلَمَتْ وَوَجَدَتْ لَذَّةَ الْإِنْزَالِ لَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَاؤُهَا إلَى فَرْجِهَا الظَّاهِرِ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: وَبِهِ يُؤْخَذُ. وَقِيلَ يَجِبُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ حَدِيثُ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» وَجْهُ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْهَا «أَنَّهَا سَأَلَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ» وَالْأَوَّلُ أَصْرَحُ فِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَا يَرَى الرَّجُلُ الِاحْتِلَامَ وَالْمَاءَ فَيُوَافِقُ الْأَوَّلَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ إذْ الْغَالِبُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مَعَ الِاحْتِلَامِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِوُجُودِ الْمَنِيِّ فِي احْتِلَامِهَا، وَالْقَائِلُ بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ إنَّمَا يُوجِبُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِهِ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ فِي التَّجْنِيسِ احْتَلَمَتْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا الْمَاءُ إنْ وَجَدَتْ شَهْوَةَ الْإِنْزَالِ كَانَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَإِلَّا لَا لِأَنَّ مَاءَهَا لَا يَكُونُ دَافِقًا كَمَاءِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ صَدْرِهَا، فَهَذَا التَّعْلِيلُ يُفْهِمُك أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ فِي قولهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لَمْ تَرَهُ خَرَجَ. فَعَلَى هَذَا الْأَوْجَهُ وُجُوبُ الْغُسْلِ فِي الْخِلَافِيَّةِ، وَالِاحْتِلَامُ يَصْدُقُ بِرُؤْيَتِهَا صُورَةَ الْجِمَاعِ فِي نَوْمِهَا وَهُوَ يَصْدُقُ بِصُورَتَيْ وُجُودِ لَذَّةِ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ، فَلِذَا لَمَّا أَطْلَقَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ السُّؤَالَ عَنْ احْتِلَامِ الْمَرْأَةِ قَيَّدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابَهَا بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ فَقال: «إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ مُطْلَقًا فَإِنَّهَا لَوْ تَيَقَّنَتْ الْإِنْزَالَ بِأَنْ اسْتَيْقَظَتْ فِي فَوْرِ الِاحْتِلَامِ فَأَحَسَّتْ بِيَدِهَا الْبَلَلَ ثُمَّ نَامَتْ فَمَا اسْتَيْقَظَتْ حَتَّى جَفَّ فَلَمْ تَرَ بِعَيْنِهَا شَيْئًا لَا يَسَعُ الْقول بِأَنْ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ بَصَرٍ بَلْ رُؤْيَةُ عِلْمٍ (وَرَأَى) يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي مَعْنَى (عَلِمَ) بِاتِّفَاقِ اللُّغَةِ. قَالَ: رَأَيْت اللَّهَ أَكْبَرَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَوْ جُومِعَتْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَسَبَقَ الْمَاءُ إلَى فَرْجِهَا، أَوْ جُومِعَتْ الْبِكْرُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا إلَّا إذَا ظَهَرَ الْحَبَلُ لِأَنَّهَا لَا تَحْبَلُ إلَّا إذَا أَنْزَلَتْ، وَلَوْ جُومِعَتْ فَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مَنِيُّ الرَّجُلِ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا. امْرَأَةٌ قَالَتْ مَعِي جِنِّيٌّ يَأْتِينِي فِي النَّوْمِ مِرَارًا وَأَجِدُ مَا أَجِدُ إذَا جَامَعَنِي زَوْجِي لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ تَرَ الْمَاءَ، فَإِنْ رَأَتْهُ صَرِيحًا وَجَبَ كَأَنَّهُ احْتِلَامٌ.

متن الهداية:
(وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ» وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ وَنَفْسُهُ يَتَغَيَّبُ عَنْ بَصَرِهِ وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقِلَّتِهِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي الدُّبُرِ لِكَمَالِ السَّبَبِيَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ وَمَا دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ نَاقِصَةٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ) الْخِتَانَانِ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنْ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ مَكْرُمَةٌ لَهَا، إذْ جِمَاعُ الْمَخْتُونَةِ أَلَذُّ، وَفِي نَظْمِ الْفِقْهِ سُنَّةٌ فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْهَلَاكِ، وَلَوْ تَرَكَتْهُ هِيَ لَا، وَالتَّعْبِيرُ بِغَيْبُوبَةِ الْحَشَفَةِ أَوْلَى لِتَنَاوُلِهِ الْإِيلَاجَ فِي الدُّبُرِ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْفَرْجِ مُحَاذَاتُهُمَا لَا الْتِقَاؤُهُمَا.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) مَعْنَى الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ كَثِيرًا، وَبِهَذَا اللَّفْظِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ». وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يُفْتُونَ إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ فَصَرَّحَ بِالنَّسْخِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ: الْوُجُوبُ بِالْإِيلَاجِ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَالْمَيْتَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَأَصْحَابُنَا مَنَعُوهُ إلَّا أَنْ يُنْزِلَ، لِأَنَّ وَصْفَ الْجَنَابَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ ظَاهِرًا أَوْ حُكْمًا عِنْدَ كَمَالِ سَبَبِهِ مَعَ خَفَاءِ خُرُوجِهِ لِقِلَّتِهِ وَتَكَسُّلِهِ فِي الْمَجْرَى لِضَعْفِ الدَّفْقِ لِعَدَمِ بُلُوغِ الشَّهْوَةِ مُنْتَهَاهَا كَمَا يَجِدُهُ الْمَجَامِعُ فِي أَثْنَاءِ الْجِمَاعِ مِنْ اللَّذَّةِ بِمُقَارَبَةِ الْمُزَايَلَةِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ إقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَهُ، وَهَذَا عِلَّةُ كَوْنِ الْإِيلَاجِ فِيهِ الْغُسْلُ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى الْإِيلَاجِ فِي الدُّبُرِ، وَعَلَى الْمُلَاطِ بِهِ إذْ رُبَّمَا يَلْتَذُّ فَيُنْزِلُ وَيَخْفَى لِمَا قُلْنَا، وَأَخْرَجُوا مَا ذَكَرْنَا لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْمَعْنَى ابْتِدَاءً. وَحَكَى فِي الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي فَرْجِهِ خِلَافًا فِي الْمُبْتَغَى.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْحَيْضُ لِقولهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ} بِالتَّشْدِيدِ وَ) كَذَا (النِّفَاسُ) لِلْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْحَيْضُ) أَيْ انْقِطَاعُهُ، وَكَذَا فِي النِّفَاسِ قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، إذْ انْقِطَاعُهُ طَهَارَةٌ وَإِنَاطَةُ الْغُسْلِ بِالْحَدَثِ: أَعْنِي النَّجَسَ الْخَارِجَ أَنْسَبُ، فَالْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْحَيْضُ نَفْسُهُ سَبَبٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ حَالَ قِيَامِهِ كَحَالِ جَرَيَانِ الْبَوْلِ، فَإِذَا انْقَطَعَ أَفَادَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَيْضَ مُوجِبٌ بِشَرْطِ انْقِطَاعِهِ، وَالْأُولَى مِنْهُمَا وِزَانُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْغُسْلِ وَبِهِمَا تَمَّتْ الِاغْتِسَالَاتُ الْمَفْرُوضَةُ وَشَرَعَ فِي الْمَسْنُونَةِ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ، بَقِيَ غُسْلٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ غَيْرَ جُنُبٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُنُبًا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ جَنَابَةٌ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْجَنَابَةِ السَّابِقَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا إلَّا بِهِ فَيُفْتَرَضُ. وَلَوْ حَاضَتْ الْكَافِرَةُ فَطَهُرَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَا غُسْلَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْجُنُبِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ أَجْنَبَ بَعْدَهُ، وَالِانْقِطَاعُ فِي الْحَيْضِ هُوَ السَّبَبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَهُ، فَلِذَا لَوْ أَسْلَمَتْ حَائِضًا ثُمَّ طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ. وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ هِيَ بِالْحَيْضِ قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ. قَالَ قَاضِي خَانْ: وَالْأَحْوَطُ وُجُوبُ الْغُسْلِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا اهـ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ إذَا أَسْلَمَ مُحْدِثًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ، فَإِنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ حَالُ الْبُلُوغِ أَوَانَ انْعِقَادَ أَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ فَهُوَ كَحَالِ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ أَوْ إنْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ حَتَّى اتَّحَدَ زَمَانُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا.
وَالْحَيْضُ إمَّا حَدَثٌ أَوْ يُوجِبُ حَدَثًا فِي رُتْبَةِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ لِمَا سَنُحَقِّقُهُ فِي بَابِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَّحِدَ حُكْمُهُ بِاَلَّذِي أَسْلَمَ جُنُبًا. وَجَوَابُهُ أَنَّ السَّبَبَ فِي الْحَيْضِ الِانْقِطَاعُ وَثُبُوتُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِتَحَقُّقِ الْبُلُوغِ بِابْتِدَاءِ الْحَيْضِ كَيْ لَا يَثْبُتَ الِانْقِطَاعُ إلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ، بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: («وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ») نَصَّ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَقِيلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَسَمَّى مُحَمَّدٌ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَسَنًا فِي الْأَصْلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ وَاجِبٌ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ» وَبِهَذَا يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ هَذَا الْغُسْلُ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهَا عَلَى الْوَقْتِ وَاخْتِصَاصِ الطَّهَارَةِ بِهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الْحَسَنِ، وَالْعِيدَانِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فِيهِمَا الِاجْتِمَاعُ فَيُسْتَحَبُّ الِاغْتِسَالُ دَفْعًا لِلتَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ. وَأَمَّا فِي عَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ فَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْمَنَاسِكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقِيلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ) وَهُوَ النَّظَرُ، فَإِنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَا مَرَدَّ لِشَرْعِيَّتِهِ، وَكَانَ وَاجِبًا عَلَى مَا يُفِيدُهُ دَلِيلُ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» فَإِنْ عُوِّلَ فِي الْجَوَابِ عَلَى النَّسْخِ مَعَ مَا دُفِعَ بِهِ مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ فِيهِ تَارِيخٌ أَيْضًا، فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُقَدَّمُ الْمُوجِبُ، فَإِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ لَا يَبْقَى حُكْمٌ آخَرُ بِخُصُوصِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ يُفِيدُ الِاسْتِحْبَابَ، وَكَذَا إنْ عُوِّلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ طَهُورٌ، وَخَيْرٌ لِمَنْ اغْتَسَلَ وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ: كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ إنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ حَتَّى صَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ حَتَّى آذَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا وَجَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرِّيَاحَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا، وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَمْثَلَ مَا يَجِدُهُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَكُفُوا الْعَمَلَ وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمْ وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ الْعَرَقِ». وَإِنْ عُوِّلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ النَّدْبُ وَبِالْوُجُوبِ الثُّبُوتُ شَرْعًا عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ بِالْقَرِينَةِ الْمُنْفَصِلَةِ: أَعْنِي قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ» فَدَلِيلُ النَّدْبِ يُثْبِتُ الِاسْتِحْبَابَ، إذْ لَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمُ النَّدْبِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهِ بَاقِي الِاغْتِسَالِ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ الِاسْتِحْبَابُ. وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَه: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ» وَعَنْ الْفَاكِهِ بْنِ سَعْدٍ الصَّحَابِيِّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ» فَضَعِيفَانِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ» فَوَاقِعَةُ حَالٍ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمُوَاظَبَةَ، فَاللَّازِمُ الِاسْتِحْبَابُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إهْلَالُهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَعُمُّ لَفْظُهُ كُلَّ إهْلَالٍ صَدَرَ مِنْهُ فَيُثْبِتُ سُنِّيَّةَ هَذَا الْغُسْلِ، هَذَا وَمِنْ الْأَغْسَالِ الْمَنْدُوبَةِ: الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَدُخُولِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَلِلْحِجَامَةِ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ، وَلِلَيْلَةِ الْقَدْرِ إذَا رَآهَا، وَلِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ بِالسِّنِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْغَايَةِ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ. قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: بِذَلِكَ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَظَاهِرُهُ وَكَذَا وَاقِعَةُ ابْنِ أُثَالٍ تُفِيدُ أَنَّ الْغُسْلَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِلْإِسْلَامِ، وَيَكْفِي غُسْلٌ وَاحِدٌ لِسُنَّتَيْ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ إذَا اجْتَمَعَا كَمَا لِفَرْضَيْ جَنَابَةٍ وَحَيْضٍ. وَبَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ نَقَلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ مِنْهُمَا أَوْ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ السَّابِقِ مِنْهُمَا، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُوجِبَانِهِ فَيَكُونُ مِنْهُمَا، وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَهُ لِلنَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِالْحَدَثِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ لَا يُؤَثِّرُ السَّبَبُ الثَّانِي إيَّاهَا، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ تَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ لَا مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ بِأَحَدِهِمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَثْبُتَ بِالثَّانِي حَالَ قِيَامِهَا، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ لَا تَغْتَسِلُ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ جَنَابَةٍ فَحَاضَتْ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ اغْتَسَلَتْ تَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي.
قولهُ: (لِلصَّلَاةِ إلَخْ). تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ هَلْ يُسَنُّ لَهُ الْغُسْلُ أَوْ لَا، وَفِيمَنْ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ لَا يَكُونُ لَهُ فَضْلُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَفِيمَنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَفِي الْكَافِي لَوْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِ لِلْجُمُعَةِ نَالَ فَضْلَ الْغُسْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُف، وَعِنْدَ الْحَسَنِ لَا. وَاسْتَشْكَلَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ وُجُودَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا سُنَّ الِاغْتِسَالُ لِأَجْلِهِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُتَطَهِّرًا بِطَهَارَةِ الْغُسْلِ فَلَا يَحْسُنُ نَفْيُ الْحَسَنِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَيْسَ فِي الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ غُسْلٌ وَفِيهِمَا الْوُضُوءُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ الْوُضُوءُ» وَالْوَدْيُ: الْغَلِيظُ مِنْ الْبَوْلِ يَتَعَقَّبُ الرَّقِيقَ مِنْهُ خُرُوجًا فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ، وَالْمَنِيُّ: خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ، وَالْمَذْيُ: رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ. وَالتَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَفِيهِمَا الْوُضُوءُ) أُورِدَ: لَا يُتَصَوَّرُ الْوُضُوءُ مِنْ الْوَدْيِ لِأَنَّهُ يَتَعَقَّبُ الْبَوْلَ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ مِنْ النَّاقِضِ السَّابِقِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ فُرِضَ خُرُوجُهُ ابْتِدَاءً كَانَ فِيهِ الْوُضُوءُ، وَبِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيمَا لَوْ تَوَضَّأَ عَلَى إثْرِ بَوْلِهِ بِلَا مُهْلَةٍ ثُمَّ مَشَى فَتَحَلَّلَ وَدْيٌ وَخَرَجَ حَتَّى لَوْ كَانَ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَوَجَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَبِأَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِالْبَوْلِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ بِالْوَدْيِ بَلْ يَجِبُ بِهِمَا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ فَبَالَ ثُمَّ رَعَفَ ثُمَّ تَوَضَّأَ حَنِثَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ. فَعُلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُوجِبٌ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْتَ أَنَّ النَّاقِضَ يُثْبِتُ الْحَدَثَ ثُمَّ تَجِبُ إزَالَتُهُ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَشْرُوطِ وَأَنَّ الْحَدَثَ مَانِعِيَّةٌ اُعْتُبِرَتْ قَائِمَةٌ بِالْأَعْضَاءِ شَرْعًا إلَى غَايَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُزِيلِ، أَوْ وَصْفٌ اعْتِبَارِيٌّ شَرْعًا يَمْنَعُ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ إلَّا فِي أَسْبَابِهِ. فَالثَّابِتُ بِكُلِّ سَبَبٍ هُوَ الثَّابِتُ بِالْآخَرِ، إذْ لَا دَلِيلَ يُوجِبُ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْوُضُوءِ فِي مِثْلِهِ عَنْ الْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَى السَّبَبِ الثَّانِي، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا لِاسْتِحَالَةِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. نَعَمْ لَوْ وَقَعَتْ الْأَسْبَابُ دُفْعَةً كَأَنْ رَعَفَ وَبَالَ وَفَسَا مَعًا أُضِيفَ ثُبُوتُهُ إلَى كُلِّهَا فَلَا يَنْفِي ذَلِكَ كَوْنُ كُلٍّ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ كَوْنُ الْوَصْفِ يَحْدُثُ لَوْ انْفَرَدَ أَثَرٌ وَهَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ ثَابِتَةٌ لِكُلٍّ فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ، كَذَا قَرَّرَ فِي فُصُولِ الْآمِدِيِّ، وَهُوَ مَعْقول يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهَذَا قول الْجُرْجَانِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا وَإِنْ كَانَ قول مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنَّ الثَّانِيَ أَثَرُ الْحَدَثِ أَيْضًا كَالْأَوَّلِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوُهُ. وَالْحَقُّ أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَدَثِ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ فَقَطْ وَبَيْنَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَاؤُهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَدَثِ بَلْ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ بَوْلٍ وَرُعَافٍ تَوَضَّأَ مِنْهُمَا. وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ عَنْ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَمِنْهُمَا.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ الْوُضُوءُ») أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَأَصْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَهِيرٌ وَأَمَّا قولهُ وَالتَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ عَائِشَةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ.
فَرْعٌ:
الْجُنُبُ أَوْلَى بِالْمَاءِ الْمُبَاحِ إذَا وَجَدَهُ هُوَ وَحَائِضٌ أَوْ وَمَعَهُ مَيِّتٌ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ وَالْحَائِضُ وَكَذَا مِنْ الْمُحْدِثِ بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ وَمَا لَا يَجُوزُ (الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَحْدَاثِ جَائِزٌ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْبِحَارِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَالْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ:
قولهُ: (لِقولهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}) يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَى إنْ كَانَتْ كُلُّ الْمِيَاهِ أَصْلُهَا مِنْ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا سَلَكَتْ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} وَعَلَى بَعْضِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى هِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهَذِهِ الْمِيَاهِ، وَلَيْسَ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ وَلَا الْأَحَادِيثِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ، بَلْ إنَّمَا أَفَادَتْ وَصْفَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِيَّةِ، وَالْأَصْحَابُ مُصَرِّحُونَ بِأَنْ لَيْسَ مَعْنَى الطَّهُورِ لُغَةً مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، بَلْ إنَّمَا هُوَ الْمُبَالَغُ فِي طَهَارَتِهِ، أَيْ طَهَارَتُهُ قَوِيَّةٌ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَوْنَهُ يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ مَعَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَوْنُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِلَفْظِ طَهُورٍ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ دَلِيلٌ آخَرُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ. وَأَمَّا النَّصُّ الْمَذْكُورُ بِاسْتِقْلَالِهِ لَا يُوجِبُهُ، فَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقولهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَحَدِيثُ «الْمَاءُ طَهُورٌ» حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِيهِ أَنَّهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ ضَعِيفٌ بِرِشْدِينِ بْنِ سَعْدٍ وَبِدُونِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بِسَبَبِ الْخِلَافِ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ أَهْلِ السَّنَدِ، وَقَدْ قَالَ: وَلَهُ إسْنَادٌ صَحِيحٌ فَذَكَرَهُ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَدَلُّ بِالْقَدْرِ الصَّحِيحِ عَلَى طُهُورِيَّةِ الْمَاءِ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِتَغَيُّرِ وَصْفِهِ بِالنَّجَاسَةِ. وَأَمَّا إنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ إذًا لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِالتَّغَيُّرِ يُفِيدُ أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ. نَعَمْ لَهُ طَرِيقٌ نَذْكُرُهَا عِنْدَ الْكَلَامِ مَعَ الْإِمَامِ مَالِكٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَدِيثُ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَتَتَوَضَّأُ مِنْ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ هَذَا. وَأَمَّا مَا أُعِلَّ بِهِ مِنْ جَهَالَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ وَالِاخْتِلَافِ فِي سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ هَلْ هُوَ هَذَا أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ فَمَدْفُوعَانِ بِإِظْهَارِ مَعْرِفَتِهِمَا، وَإِقَامَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ السَّنَدَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ الْجُلَاحِ بْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْجُلَاحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فَلَا يَضُرُّ الْخِلَافُ بَعْدَ هَذَا. وَأَمَّا الْإِعْلَالُ بِالْإِرْسَالِ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ رَوَاهُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَحْفَظُ مِنْ صَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ وَأَثْبَتُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ اللَّذَيْنِ رَوَيَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إرْسَالَ الْأَحْفَظِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصْلِ مِنْ الثِّقَةِ دُونَهُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَذَا الْإِعْلَالُ بِاضْطِرَابِ هُشَيْمٍ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَأَمَّا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ هُشَيْمٍ عَلَى الصَّوَابِ فَلَا. وَأَمَّا قولهُ السُّنَّةُ وَرَدَتْ بِغَسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الَّذِي أُغْلِيَ فِيهِ السِّدْرُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُه: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ غَلْيٌ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بِمَا اُعْتُصِرَ مِنْ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ وَالْحُكْمُ عِنْدَ فَقْدِهِ مَنْقول إلَى التَّيَمُّمِ وَالْوَظِيفَةُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَعَبُّدِيَّةٌ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ الْكَرْمِ فَيَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ، ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ شَرَطَ الِاعْتِصَارَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْوَظِيفَةُ فِي هَذِهِ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُعْتَصَرَ مِنْ الشَّجَرِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ لَكِنْ لِمَ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُطْلَقِ فِي إزَالَةِ الْحُكْمِيَّةِ كَمَا أَلْحَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِهِ فِي إزَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؟ فَأَجَابَ بِامْتِنَاعِ الْإِلْحَاقِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ: أَعْنِي إزَالَةَ الْحُكْمِيَّةِ غَيْرُ مَعْقول، إذْ لَا نَجَاسَةَ عَلَى الْأَعْضَاءِ مَحْسُوسَةً يُزِيلُهَا الْمَاءُ لِيَلْحَقَ بِهِ الْمَانِعُ فِي ذَلِكَ، بَلْ الْكَائِنُ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ مَحْضٌ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ إذْ مُنِعَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ، وَقَدْ عُيِّنَ لِإِزَالَتِهِ شَرْعًا آلَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ غَيْرِهَا بِهَا فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ إنَاطَةِ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ لَمَّا عُقِلَ اعْتِبَارُ خُرُوجِهَا مُؤَثِّرًا فِي ذَلِكَ دَارَ مَعَهُ سَوَاءً كَانَتْ مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَلَا يُنَافِي كَلَامُهُ هَذَا قولهُ فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقول. قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ (بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلَّا وَالْمَرَقِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الزَّرْدَجِ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلَّا وَغَيْرِهِ مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ.
قَالَ: (وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الصَّابُونُ أَوْ الْأُشْنَانُ).
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: أَجْرَى فِي الْمُخْتَصَرِ مَاءَ الزَّرْدَجِ مَجْرَى الْمَرَقِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَذَا اخْتَارَهُ النَّاطِفِيُّ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ التَّوَضِّي بِمَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُقَيَّدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَاءُ الزَّعْفَرَانِ بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ؟ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَخْلُو عَنْهَا عَادَةً وَلَنَا أَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَإِضَافَتُهُ إلَى الزَّعْفَرَانِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْخَلْطَ الْقَلِيلَ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَالْغَلَبَةُ بِالْأَجْزَاءِ لَا بِتَغَيُّرِ اللَّوْنِ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ بَعْدَ مَا خُلِطَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مَعْنَى الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ إذْ النَّارُ غَيَّرَتْهُ إلَّا إذَا طُبِخَ فِيهِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ كَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ الَّذِي أُغْلِيَ بِالسِّدْرِ، بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، إلَّا أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ فَيَصِيرَ كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) اعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ تُزَالُ بِهِ الْأَحْدَاثُ أَعْنِي مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَاءٌ، وَالْمُقَيَّدُ لَا يُزِيلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَنْقول إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمُطْلَقِ فِي النَّصِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَقَيَّدَ بِذَلِكَ أَوْ لَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: تَقَيَّدَ لِأَنَّهُ يُقَالُ مَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ مَا دَامَ الْمُخَالِطُ مَغْلُوبًا أَنْ يَقول الْقَائِلُ فِيهِ هَذَا مَاءٌ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَقَدْ رَأَيْنَاهُ يُقَالُ فِي مَاءِ الْمَدِّ وَالنِّيلِ حَالَ غَلَبَةِ لَوْنِ الطِّينِ عَلَيْهِ، وَتَقَعُ الْأَوْرَاقُ فِي الْحِيَاضِ زَمَنَ الْخَرِيفِ فَيَمُرُّ الرَّفِيقَانِ وَيَقول أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ هُنَا مَاءٌ تَعَالَ نَشْرَبْ نَتَوَضَّأْ، فَيُطْلِقُهُ مَعَ تَغَيُّرِ أَوْصَافِهِ بِانْتِفَاعِهَا، فَظَهَرَ لَنَا مِنْ اللِّسَانِ أَنَّ الْمُخَالِطَ الْمَغْلُوبَ لَا يَسْلُبُ الْإِطْلَاقَ فَوَجَبَ تَرْتِيبُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ. وَقَدْ «اغْتَسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالْمَاءُ بِذَلِكَ يَتَغَيَّرُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ لِلْمَغْلُوبِيَّةِ.
قولهُ: (وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ لَا تَمْنَعُ الْإِطْلَاقَ كَمَا لَا تَمْنَعُهُ الْإِضَافَةُ إلَى الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، فَالتَّشْبِيهُ لَيْسَ إلَّا فِي عَدَمِ امْتِنَاعِ الْإِطْلَاقِ وَحَيْثُ قُبِلَ الْمُطْلَقُ كَانَ مُطْلَقًا وَلَزِمَهُ حُكْمُهُ مِنْ إزَالَةِ الْحُكْمِيَّةِ شَرْعًا، إذْ زَوَالُهُ بِارْتِفَاعِهِ وَهُوَ بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَلُزُومُ التَّقْيِيدِ يَنْدَرِجُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَاءُ مَغْلُوبًا إذْ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَجْمُوعِ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ الْغَالِبِ عَدَمًا وَهُوَ عَكْسُ الثَّابِتِ لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا، بَقِيَ تَحْقِيقُ الْغَلَبَةِ بِمَاذَا يَكُونُ فَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهَا بِالْأَجْزَاءِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الصَّاحِبِينَ، وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُهُ بِاللَّوْنِ وَأَبَا يُوسُفَ بِالْأَجْزَاءِ، وَفِي الْمُحِيطِ عَكْسُهُ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَجْنَاسِ نَقَلَ قول مُحَمَّدٍ نَصَّا بِمَعْنَاهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُطْبَخُ فِيهِ الرَّيْحَانُ وَالْأُشْنَانُ: إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ حَتَّى يَحْمَرَّ بِالْأُشْنَانِ أَوْ يَسْوَدَّ. بِالرَّيْحَانِ وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِهِ. فَمُحَمَّدٌ يُرَاعِي لَوْنَ الْمَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ غَلَبَةَ الْأَجْزَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِمَاءِ السَّيْلِ مُخْتَلِطًا بِالْعَيْنِ إنْ كَانَتْ رِقَّةُ الْمَاءِ غَالِبَةً، فَإِنْ كَانَ الطِّينُ غَالِبًا فَلَا. وَصَرَّحَ فِي التَّجْنِيسِ بِأَنَّ مِنْ التَّفْرِيعِ عَلَى اعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ بِالْأَجْزَاءِ قول الْجُرْجَانِيِّ إذَا طُرِحَ الزَّاجُّ أَوْ الْعَفْصُ فِي الْمَاءِ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إنْ كَانَ لَا يَنْقُشُ إذَا كُتِبَ بِهِ، فَإِنْ نَقَشَ لَا يَجُوزُ وَالْمَاءُ هُوَ الْمَغْلُوبُ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ لَوْ نُقِعَ الْحِمَّصُ وَالْبَاقِلَاءُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ وَرِيحُهُ يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ فَإِنْ طُبِخَ، فَإِنْ كَانَ إذَا بَرَدَ ثَخُنَ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، أَوْ لَمْ يَثْخُنْ وَرِقَّةُ الْمَاءِ بَاقِيَةٌ جَازَ. وَعِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ تُعْطِي أَنَّ تَغَيُّرَ وَصْفَيْنِ يَمْنَعُ لَا وَصْفٌ. وَاقْتَحَمَ شَارِحُ الْكَنْزِ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ بِإِعْطَاءِ ضَابِطٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ التَّقْيِيدَ الْمُخْرِجَ عَنْ الْإِطْلَاقِ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ كَمَالُ الِامْتِزَاجِ وَهُوَ بِالطَّبْخِ مَعَ طَاهِرٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ أَوْ بِتَشَرُّبِ النَّبَاتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ إلَّا بِعِلَاجٍ، فَخَرَجَ الْمَاءُ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ الْكَرْمِ بِنَفْسِهِ. الثَّانِي غَلَبَةُ الْمُخَالِطِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَبِانْتِفَاءِ رِقَّةِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا مُوَافِقًا لِلْمَاءِ فِي أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَهَارَتِهِ فَبِالْأَجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُهُ فِيهَا فَبِتَغْيِيرِهِ أَكْثَرَهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا فَبِغَلَبَةِ مَا بِهِ الْخِلَافُ، كَاللَّبَنِ يُخَالِفُ فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ، فَإِنْ غَلَبَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ مُنِعَ وَإِلَّا جَازَ، وَكَذَا مَاءُ الْبِطِّيخِ يُخَالِفُهُ فِي الطَّعْمِ فَتُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِيهِ بِالطَّعْمِ. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْأَقْسَامِ مَا خَالَطَ جَامِدًا فَسَلَبَ رِقَّتَهُ وَجَرَيَانَهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ مُقَيَّدٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ، بَلْ لَيْسَ بِمَاءٍ أَصْلًا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قول الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي الْمُخْتَلَطِ بِالْأُشْنَانِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ فَيَصِيرَ كَالسَّوِيقِ لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ.

متن الهداية:
(وَكُلُّ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ قَلِيلًا كَانَتْ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثِيرًا) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ لِمَا رَوَيْنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» وَلَنَا حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ، وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَاؤُهَا كَانَ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ يَضْعُفُ عَنْ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ، إلَى قولهِ: لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي الْمَاءُ طَهُورٌ إلَخْ، وَتَقَدَّمَ عَدَمُ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ. وَلْنَذْكُرْ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ الْمَوْعُودَةَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ: مِنْ غَرِيبِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَخْرَجَاهُ عَنْهُ قال: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «إنَّا نُجَاوِرُ قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمْ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمْ الْخَمْرَ» فَذَكَرَهُ. وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَزَادَةِ الْمُشْرِكَةِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ وَالثَّانِي عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ، فَجَمْعُهُمَا بِأَنَّ النَّجَاسَةَ مَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْمَاءِ لَمْ تُغَيِّرْهُ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِلْكَرَاهَةِ. وَالْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلنَّدَبِ لَا لِلنَّجَاسَةِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَكْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَهُ الْيَهُودِيُّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ» فَإِنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ مَعَ عَدَمِ تَنَجُّسِ الْمَأْكُولِ عَدَمَ تَنَجُّسِ الْإِنَاءِ، إذْ لَا يُقَالُ فِي الطَّعَامِ إنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ طَرِيقَيْنِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ رِشْدِينَ لِلْبَيْهَقِيِّ: أَحَدُهُمَا عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بَقِيَّةِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ» الثَّانِي عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا ثَوْرٌ بِه: «الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْحَدِيثُ غَيْرُ قَوِيٍّ.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد، قِيلَ لَعَلَّهُ فِي غَيْرِ سُنَنِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاضْطِرَابَ الَّذِي وَقَعَ فِي سَنَدِهِ حَيْثُ اُخْتُلِفَ عَلَى أَبِي أُسَامَةَ، فَمَرَّةً يَقول عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِبَادِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَمَرَّةً عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنْ دُفِعَ بِأَنَّ الْوَلِيدَ رَوَاهُ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْمُحَمَّدَيْنِ فَحَدَّثَ مَرَّةً عَنْ أَحَدِهِمَا وَمَرَّةً عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَا دُفِعَ تَغْلِيظُ أَبِي أُسَامَةَ فِي آخِرِ السَّنَدِ إذْ جَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِأَنَّهُمَا ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَوَيَا عَنْهُ، بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابٌ كَثِيرٍ فِي مَتْنِهِ، فَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَرِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ: سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلَاةِ وَتَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ فَذَكَرَ الْأَوَّلَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْكِلَابُ وَالدَّوَابُّ. وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْهُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ هُوَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: دَخَلْت مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بُسْتَانًا فِيهِ مَقْرَى مَاءٍ فِيهِ جِلْدُ بَعِيرٍ مَيِّتٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ. فَقُلْت لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَفِيهِ جِلْدُ بَعِيرٍ مَيِّتٍ؟ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَرَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيّ عَنْ يَزِيدَ فَلَمْ يَقُلْ أَوْ ثَلَاثًا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ» وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْقَاسِمِ. وَذَكَرَ أَنَّ الثَّوْرِيَّ وَمَعْمَرَ بْنَ رَاشِدٍ وَرَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي الْمُنْكَدِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قال: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يَنْجُسْ» وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ سُفْيَانَ مِنْ جِهَةِ وَكِيعٍ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْه: «إذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ جِهَةِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قال: «إذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا قَالَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ رَوَوْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالُوا أَرْبَعِينَ غَرْبًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرْبَعِينَ دَلْوًا.
وَهَذَا الِاضْطِرَابُ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَإِنْ وُثِّقَتْ الرِّجَالُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ أَوْ هُوَ يَضْعُفُ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ النَّجَاسَةِ فَيَتَنَجَّسُ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ لَا يَحْمِلُ الْكَلَّ: أَيْ لَا يُطِيقُهُ، لَكِنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ أَجَابَ السُّؤَالَ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَنُوبُهُ السِّبَاعُ وَنَجَاسَتُهُ بِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فِي الْقُلَّةِ يَنْجُسُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمَّا عَدَمُ تَمَامِ الْجَوَابِ إنْ لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ شَرْطِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ إذَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ وَالسُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ الْمَاءِ كَيْفَ كَانَ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَفْهُومِ لِيَتِمَّ الْجَوَابُ. وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: إذَا كَانَ قُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ لَا إنْ زَادَ، فَإِنْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ هُنَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ إخْلَاءُ السُّؤَالِ عَنْ الْجَوَابِ الْمُطَابِقُ كَانَ الثَّابِتُ بِهِ خِلَافَ الْمَذْهَبِ، إذَا لَمْ نَقُلْ بِأَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى قُلَّتَيْنِ شَيْئًا مَا لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاضْطِرَابُ فِي مَعْنَى الْقُلَّةِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ يُقَالُ عَلَى الْحِرَّة وَالْقِرْبَةِ وَرَأْسِ الْجَبَلِ. وَقول الشَّافِعِيِّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُنِي «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: بِقِلَالِ هَجَرَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُجْعَلَ قِرْبَتَيْنِ وَنِصْفًا، فَإِذَا كَانَ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ كَقِرَبِ الْحِجَازِ لَمْ يَنْجُسْ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ مُنْقَطِعٌ لِلْجَهَالَةِ. ثُمَّ سَبْرُ الْحَدِيثِ لِاسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ السَّنَدِ أَفَادَ وُجُودَ رَفْعِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سَنَدٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ مُغِيرَةَ بْنِ سِقْلَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَيُذْكَرُ أَنَّهُمَا فِرْقَانِ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: قولهُ فِي مَتْنِهِ: مِنْ قِلَالِ هَجَرَ. غَيْرُ مَحْفُوظٍ لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ بْنِ سِقْلَابٍ، يُكَنَّى أَبَا بِشْرٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ فِيهِ مَا هُوَ أَقْطَعُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَفِيهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: قُلْت لِيَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ: أَيُّ قِلَالٍ؟ قَالَ: قِلَالُ هَجَرَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَرَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ فَأَظُنُّ كُلَّ قُلَّةٍ تَسَعُ فِرْقَيْنِ. فَهَذَا لَوْ كَانَ رَفْعًا لِلْكَلِمَةِ كَانَ مُرْسَلًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُلَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رِطْلًا، وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا وَهُوَ لَا يَقول بِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَالْقُلَّةُ أَرْبَعَةُ آصُعٍ. هَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ فِي الْإِمَامِ، وَبِهِ تَرَجَّحَ ضَعْفُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْإِلْمَامِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّونَ، وَفِي الْبَدَائِعِ عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ: لَا يَثْبُتُ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ لِلْمَذْهَبِ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» كَمَا هُوَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد، «أَوْ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ أَوْ فِيهِ» كَمَا هُوَ رِوَايَتَا الصَّحِيحَيْنِ لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ تَنَجُّسُهُ عَلَى تَغَيُّرِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَحِينَئِذٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّجَاسَةِ فِي الْكَمِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلَّتَانِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْبَرُ رَأْيِ الْمُبْتَلَى إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ بِحَيْثُ تَصِلُ النَّجَاسَةُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَإِلَّا جَازَ، وَعَنْهُ اعْتِبَارُهُ بِالتَّحْرِيكِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْيَدِ رِوَايَاتٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْكَرْخِيُّ وَصَاحِبُ الْغَايَةِ وَالْيَنَابِيعِ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِأَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَعْنِي عَدَمَ التَّحَكُّمِ بِتَقْدِيرٍ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّفْوِيضُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ثُبُوتِ تَقْدِيرِهِ شَرْعًا. وَالتَّقْدِيرُ بِعَشْرٍ فِي عَشْرٍ وَثَمَانٍ فِي ثَمَانٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَرْجِيحُ الْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ حَرِيمِ الْبِئْرِ غَيْرُ مَنْقول عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْمَذْهَبُ الظَّاهِرُ التَّحَرِّي وَالتَّفْوِيضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ بِالتَّقْدِيرِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُهَا تَنَجَّسَ، وَإِنْ غَلَبَ عَدَمُ وُصُولِهَا لَمْ يَنْجُسْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.اهـ. وَمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ إنْ كَانَ مِثْلَ مَسْجِدِي هَذَا فَكَثِيرٌ، فَقِيسَ حِينَ قَامَ فَكَانَ اثْنَيْ عَشَرَ فِي مِثْلِهَا، فِي رِوَايَةٍ: وَثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ فِي أُخْرَى لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَهُ بِهِ إلَّا فِي نَظَرِهِ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ كَوْنُهُ مَا اسْتَكْثَرَهُ الْمُبْتَلَى فَاسْتِكْثَارُ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِ كُلٍّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ. ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ عَنْ هَذَا قَالَ الْحَاكِمُ: قَالَ أَبُو عِصْمَةَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ عَشْرَةً فِي عَشْرَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ: لَا أُوَقِّتُ فِيهِ شَيْئًا، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» إنَّمَا يُفِيدُ تَنَجُّسَ الْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا كُلَّ مَاءٍ، فَلَيْسَتْ اللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِتَغَيُّرِهِ بِالنَّجَاسَةِ فَيَقول الْخَصْمُ إذًا بِمُوجِبِهِ نَقول، الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَ الْمَاءِ يَنْجُسُ، وَأَنَا أَقول إنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ، وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ لِقولنَا الْمَاءُ يَنْجُسُ فِي الْجُمْلَةِ. فَالتَّحْقِيقُ فِي سَوْقِ الْخِلَافِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ قول الْخَصْمِ بَلْ فِيهِ الْمُدْرَكُ وَهُوَ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ قُلْنَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَقول مَالِكٍ: بَلْ فِيهِ وَهُوَ حَدِيثُ «الْمَاءُ طَهُورٌ» حَيْثُ أَنَاطَ الْكَثْرَةَ بِعَدَمِ التَّغَيُّرِ. قُلْنَا وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَاؤُهَا كَانَ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ كَمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ بِالْمُثَلَّثَةِ عَنْ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: كَانَتْ بِئْرُ بُضَاعَةَ طَرِيقًا لِلْمَاءِ إلَى الْبَسَاتِينِ، وَهَذَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَنَا إذَا وَثَّقْنَا الْوَاقِدِيَّ، أَمَّا عِنْدَ الْمُخَالِفِ فَلَا لِتَضْعِيفِهِ إيَّاهُ مَعَ أَنَّهُ أَرْسَلَ هَذَا خُصُوصًا مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ حَالِ بِئْرِ بُضَاعَةَ فِي الْحِجَازِ غَيْرُ هَذَا، ثُمَّ لَوْ تَنَزَّلُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ كَانَ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَالْجَوَابُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَمْلِ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ لَا يَنْتَهِضُ، إذْ لَا تَعَارُضَ لِأَنَّ حَاصِلَ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ تَنَجُّسُ الْمَاءِ الدَّائِمِ فِي الْجُمْلَةِ. وَحَاصِلُ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ عَدَمُ تَنَجُّسٍ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِحَسَبِ مَا هُوَ الْمُرَادُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ هُنَا مُعَارِضٌ آخَرُ يُوجِبُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ وَقَدْ خَرَّجْنَاهُ. قُلْنَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَنَجُّسِ الْمَاءِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْيَدِ نَجِسَةً، بَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلٌ مِنَّا لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ: أَعْنِي تَعْلِيلَهُ بِتَنَجُّسِ الْمَاءِ عَيْنًا بِتَقْدِيرِ نَجَاسَتِهَا لِجَوَازِ كَوْنِهِ الْأَعَمَّ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْكَرَاهَةِ فَنَقول: نَهَى لِتَنَجُّسِ الْمَاءِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُتَنَجِّسَةً بِمَا يُغَيِّرُ أَوْ الْكَرَاهَةِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا بِمَا لَا يُغَيِّرُ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ لَكِنْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُعَارِضِ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ» الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَلَا تَغَيُّرَ بِالْوُلُوغِ فَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الْحَمْلُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ مَعَ جَرَيَانِ الْمَاءِ) وَالْأَثَرُ هُوَ الرَّائِحَةُ أَوْ الطَّعْمُ أَوْ اللَّوْنُ، وَالْجَارِي مَا لَا يَتَكَرَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، وَقِيلَ مَا يَذْهَبُ بِتِبْنِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (إذَا لَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ) وَهُوَ الطَّعْمُ وَأَخَوَاهُ، فَلَوْ بَالَ إنْسَانٌ فِيهِ فَتَوَضَّأَ آخَرُ مِنْ أَسْفَلِهِ جَازَ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْجِرْيَةِ أَثَرُهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ كُسِرَتْ خَابِيَةٌ خَمْرٍ فِي الْفُرَاتِ وَرَجُلٌ يَتَوَضَّأُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَمَا لَمْ يَجِدْ فِي الْمَاءِ طَعْمَ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ جَازَ، هَذَا فَلَوْ اسْتَقَرَّتْ الْمَرْئِيَّةُ فِيهِ بِأَنْ كَانَتْ جِيفَةً مَثَلًا إنْ أَخَذَتْ الْجِرْيَةَ أَوْ نِصْفَهَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَسْفَلِهَا وَإِنْ لَمْ يُرَ أَثَرٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ الْجِرْيَةِ فِي مَكَان طَاهِرٍ جَازَ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مُخَصِّصٍ لِحَدِيثِ «الْمَاءُ طَهُورٌ» بَعْدَ حَمْلِهِ عَلَى الْجَارِي، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضِّي مِنْ أَسْفَلِهِ وَإِنْ أَخَذَتْ الْجِيفَةُ أَكْثَرَ الْمَاءِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، وَيُوَافِقُهُ مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي سَاقِيَةٍ صَغِيرَةٍ فِيهَا كَلْبٌ مَيِّتٌ سَدَّ عَرْضَهَا فَيَجْرِي الْمَاءُ فَوْقَهُ وَتَحْتَهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، نَقَلَهُ فِي الْيَنَابِيعِ عَنْهُ. وَالْعَذِرَاتُ فِي السَّطْحِ كَالْمَيِّتَةِ فِي الْمَاءِ إنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا نِصْفُهُ أَوْ كَانَتْ عَلَى رَأْسِ الْمِيزَابِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً وَأَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَكَذَا مَاءُ الْمَطَرِ إذَا جَرَى عَلَى عَذِرَاتٍ وَاسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا التَّوَضِّي فِي عَيْنٍ وَالْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ خُرُوجِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْرُهُ أَرْبَعًا فِي أَرْبَعٍ فَأَقَلَّ، فَإِنْ كَانَ خَمْسًا فِي خَمْسٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَاخْتَارَ السُّغْدِيُّ جَوَازَهُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَخْرُجُ الْمُسْتَعْمَلُ قَبْلَ تَكْرِيرِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمِسَاحَةِ أَوْ لَا، وَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ.
قولهُ: (وَالْجَارِي إلَخْ) وَقِيلَ فِيهِ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا قِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَلْحَقُوا بِالْجَارِي حَوْضَ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ الْمَاءُ يَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهُ حَتَّى لَوْ أُدْخِلَتْ الْقَصْعَةُ النَّجِسَةُ وَالْيَدُ النَّجِسَةُ فِيهِ لَا يَنْجُسُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ تَدَارُكُ اغْتِرَافِ النَّاسِ مِنْهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْيَةِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ جَرَيَانِهِ لِمَدَدٍ لَهُ كَمَا فِي الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَمَا قِيلَ لَوْ اسْتَنْجَى بِقُمْقُمَةٍ فَلَمَّا صَبَّ مِنْهَا لَاقَى الْمَصْبُوبُ الْبَوْلَ قَبْلَ يَدِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا اسْتَنْجَى لَا يَصِيرُ نَجِسًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا أَوْرَدَهُ الْمَشَايِخُ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ مِيزَابٌ وَاسِعٌ وَإِدَاوَةُ مَاءٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَا يَتَيَقَّنُ وُجُودَ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَلَى طَمَعِهِ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا مِنْ رُفَقَائِهِ حَتَّى يَصُبَّ الْمَاءَ فِي طَرَفِ الْمِيزَابِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ وَعِنْدَ الطَّرَفِ الْآخَرِ إنَاءٌ طَاهِرٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا وَطَهُورًا لِأَنَّهُ جَارٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْجَارِيَ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا كَانَ لَهُ مَدَدٌ كَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمِمَّا أَشْبَهَهُ حَوْضَانِ صَغِيرَانِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْخُلُ فِي الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ جَارٍ، وَكَذَا إذَا قُطِعَ الْجَارِي مِنْ فَوْقَ وَقَدْ بَقِيَ جَرْيُ الْمَاءِ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَا يَجْرِي فِي النَّهْرِ. وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَقَالَ: وَالْمَاءُ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي الْحُفَيْرَةِ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ، وَهَذَا مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجِسًا، وَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا، فَأَمَّا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ فَلَا فَلْتُحْفَظْ لِيُفَرَّعَ عَلَيْهَا وَلَا يُفْتَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْفُرُوعِ. وَقولهُمْ فِي الْحُفَيْرَةِ الثَّانِيَةِ إنَّ الْمُجْتَمِعَ فِيهَا نَجِسٌ بَعْدَ إلْحَاقِ مَحَلِّ الْوُضُوءِ الْجَارِي فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ يُتَوَضَّأُ بِهِ كَمَا يَتَوَضَّأُ الْأَسْفَلُ مِنْ جِرْيَةِ الْمُتَوَضِّي الْأَعْلَى، وَمِثْلُهُ يَجِبُ فِيمَا قُطِعَ أَعْلَاهُ وَتَوَضَّأَ إنْسَانٌ بِالْجَارِي فِي النَّهْرِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْغَدِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ إذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ) إذْ أَثَرُ التَّحْرِيكِ فِي السِّرَايَةِ فَوْقَ أَثَرِ النَّجَاسَةِ. ثُمَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّحْرِيكَ بِالِاغْتِسَالِ، وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَنْهُ التَّحْرِيكُ بِالْيَدِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالتَّوَضِّي. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْحِيَاضِ أَشَدُّ مِنْهَا إلَى التَّوَضِّي، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرُوا بِالْمِسَاحَةِ عَشْرًا فِي عَشْرٍ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ بِالِاغْتِرَافِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقولهُ فِي الْكِتَابِ وَجَازَ الْوُضُوءُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ مَوْضِعُ الْوُقُوعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِظُهُورِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَالْمَاءِ الْجَارِي.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْغَدِيرُ الْعَظِيمُ) تَقَدَّمَ فِي الْخِلَافِيَّةِ مَا يُغْنِي فِي الْكَلَامِ هُنَا. وَذِرَاعُ الْكِرْبَاسِ سِتُّ قَبَضَاتٍ لَيْسَ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةٍ أُصْبُعٌ قَائِمَةٌ وَجَعَلَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ سَبْعًا، وَذِرَاعُ الْمِسَاحَةِ سَبْعٌ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةٍ أُصْبُعٌ قَائِمَةٌ، وَهَلْ الْمُعْتَبَرِ ذِرَاعُ الْمَسَّاحَةِ أَوْ الْكِرْبَاسِ أَوْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ذُرْعَانُهُمْ أَقْوَالٌ كُلٌّ مِنْهَا صَحَّحَهُ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ، وَالْكُلُّ فِي الْمُرَبَّعِ، فَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ مُدَوَّرًا فَقُدِّرَ بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْمُخْتَارُ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي الْحِسَابِ يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْهَا بِكَسْرٍ لِلنِّسْبَةِ لَكِنْ يُفْتَى بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ كَيْ لَا يَتَعَسَّرَ رِعَايَةُ الْكَسْرِ، وَالْكُلُّ تَحَكُّمَاتٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ إنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَدَمِ التَّحَكُّمِ بِتَقْدِيرٍ مَعِينٍ.
وَفِي الْفَتَاوَى: غَدِيرٌ كَبِيرٌ لَا يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ فِي الصَّيْفِ وَتَرُوثُ فِيهِ الدَّوَابُّ وَالنَّاسُ ثُمَّ يَمْتَلِئُ فِي الشِّتَاءِ وَيُرْفَعُ مِنْهُ الْجَمْدُ إنْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَدْخُلُهُ يَدْخُلُ عَلَى مَكَان نَجِسٍ فَالْمَاءُ وَالْجَمْدُ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِي مَكَان طَاهِرٍ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ حَتَّى صَارَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ ثُمَّ انْتَهَى إلَى النَّجَاسَةِ فَالْمَاءُ وَالْجَمْدُ طَاهِرَانِ. اهـ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ إذَا دَخَلَ عَلَى مَاءِ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ لَا يُنَجِّسُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ النَّجِسُ غَالِبًا عَلَى الْحَوْضِ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْحَوْضِ الْكَبِيرِ يَصِيرُ مِنْهُ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَاءُ بِرْكَةِ الْفِيلِ بِالْقَاهِرَةِ طَاهِرٌ إذَا كَانَ مَمَرُّهُ طَاهِرًا أَوْ أَكْثَرُ مَمَرِّهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَاءِ السَّطْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لِأَنَّهَا لَا تَجِفُّ كُلُّهَا بَلْ لَا يَزَالُ بِهَا غَدِيرٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ أَنَّ الدَّاخِلَ اجْتَمَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِهَا فِي مَكَان نَجِسٍ حَتَّى صَارَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ كَانَ الْكُلُّ طَاهِرًا، هَذَا إذَا كَانَ الْغَدِيرُ الْبَاقِي مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهِ، وَلَوْ سَقَطَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ دُونَ عَشْرٍ ثُمَّ انْبَسَطَ فَصَارَ عَشْرًا فَهُوَ نَجِسٌ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ مَاءٌ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى صَارَ عَشْرًا، وَلَوْ سَقَطَتْ فِي عَشْرٍ ثُمَّ صَارَ أَقَلَّ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِذَا تَنَجَّسَ حَوْضٌ صَغِيرٌ فَدَخَلَهُ مَاءٌ حَتَّى امْتَلَأَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ نَجِسٌ، أَوْ خَرَجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ جَمَدَ حَوْضٌ كَبِيرٌ فَنَقَبَ فِيهِ إنْسَانٌ نَقْبًا فَتَوَضَّأَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُتَّصِلًا بِبَاطِنِ النَّقْبِ لَا يَجُوزُ وَإِلَّا جَازَ، وَكَذَا الْحَوْضُ الْكَبِيرُ إذَا كَانَ لَهُ مَشَارِعُ فَتَوَضَّأَ فِي مَشْرَعَةٍ، أَوْ اغْتَسَلَ وَالْمَاءُ مُتَّصِلٌ بِأَلْوَاحِ الْمَشْرَعَةِ وَلَا يَضْطَرِبُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا جَازَ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ كَالْحَوْضِ الصَّغِيرِ فَيَغْتَرِفُ وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا فِيهِ، وَفِي الثَّانِي حَوْضٌ كَبِيرٌ مُسَقَّفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ التَّفَارِيعِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي الْعَشْرِ، فَأَمَّا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ اعْتِبَارِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَيُوضَعُ مَكَانَ لَفْظِ عَشْرٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَفْظُ كَثِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ثُمَّ تَجْرِي التَّفَارِيعُ.
قولهُ: (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ إلَى آخِرِهِ) وَقِيلَ ذِرَاعٌ، وَقِيلَ شِبْرٌ بِزِيَادَةٍ عَلَى عَرْضِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ. قِيلَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ وَجْهَ الْأَرْضِ يَكْفِي، وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاتِّصَالُ الْقَصَبِ بِالْقَصَبِ لَا يَمْنَعُ اتِّصَالَ الْمَاءِ وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ غَدِيرًا عَظِيمًا فَيَجُوزُ لِهَذَا التَّوَضِّي فِي الْأَجَمَةِ وَنَحْوِهَا.
فُرُوعٌ:
لَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ وَخَرَجَ حَالَ دُخُولِهِ طَهُرَ وَإِنْ قَلَّ، وَقِيلَ لَا حَتَّى يُخْرِجَ قَدْرَ مَا فِيهِ، وَقِيلَ حَتَّى يُخْرِجَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ. وَسَائِرُ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ: يَعْنِي كُلَّ مِقْدَارٍ لَوْ كَانَ مَاءً تَنَجَّسَ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَهُ تَنَجَّسَ وَلَوْ كَانَ لِلْمَاءِ طُولٌ دُونَ عَرْضٍ. قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ وَغَيْرِهِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ ضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَصِيرُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى التَّقْدِيرِ بِعَشْرٍ، وَلَوْ فَرَّعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ لَوْ ضُمَّ، وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ عُمْقٌ بِلَا سِعَةٍ وَلَوْ بُسِطَ بَلَغَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ جَعْلَهُ كَثِيرًا، وَالْأَوْجَهُ خِلَافُهُ لِأَنَّ مَدَارَ الْكَثْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فِي عَدَمِ خُلُوصِ النَّجَاسَةِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ تَقَارُبِ الْجَوَانِبِ لَا شَكَّ فِي غَلَبَةِ الْخُلُوصِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَقَعُ مِنْ السَّطْحِ لَا مِنْ الْعُمْقِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا اخْتَارَهُ فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَرْضٌ فَأَقْرَبُ الْأُمُورِ الْحُكْمُ بِوُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ عَرْضِهِ، وَبِهِ خَالَفَ حُكْمَ الْكَثِيرِ إذْ لَيْسَ حُكْمُ الْكَثِيرِ تَنَجُّسَ الْجَانِبِ الْآخَرِ بِسُقُوطِهَا فِي مُقَابِلِهِ بِدُونِ تَغَيُّرٍ، وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت الْأَصْلَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ قَبِلْت مَا وَافَقَهُ وَتَرَكْت مَا خَالَفَهُ.
قولهُ: (إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ مَكَانُ الْوُقُوعِ) وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ وَالْبَدَائِعِ وَجَعَلَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ الْأَصَحَّ وَمَشَايِخُ بُخَارَى وَبَلْخٍ قَالُوا فِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ يَتَوَضَّأُ مِنْ جَانِبِ الْوُقُوعِ.
وَفِي الْمَرْئِيَّةِ لَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَالْجَارِي لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي تَصْحِيحُهُ، فَيَنْبَغِي عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا يَقْتَضِي عِنْدَ الْكَثْرَةِ عَدَمَ التَّنَجُّسِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهُوَ أَيْضًا الْحُكْمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُبْتَغَى: قَوْمٌ يَتَوَضَّئُونَ صَفًّا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ جَازَ، فَكَذَا فِي الْحَوْضِ لِأَنَّ مَاءَ الْحَوْضِ فِي حُكْمِ مَاءٍ جَارٍ. اهـ. وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَوْضَ الْكَبِيرَ بِالضَّرُورَةِ.
فُرُوعٌ:
يُتَوَضَّأُ مِنْ الْحَوْضِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ قَذَرٌ وَلَا يُتَيَقَّنُ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ إذْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَالْأَصْلُ دَلِيلٌ يُطْلِقُ الِاسْتِعْمَالَ.
وَقَالَ عُمَرُ حِينَ سَأَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ صَاحِبَ الْحَوْضِ: أَتَرِدُهُ السِّبَاعُ يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ؟ لَا تُخْبِرْنَا ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ. وَكَذَا إذَا وُجِدَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ نَجَاسَةٍ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ قَدْ يَكُونُ بِطَاهِرٍ وَقَدْ يَنْتُنُ الْمَاءُ لِلْمُكْثِ، وَكَذَا الْبِئْرُ الَّتِي يُدْلَى فِيهَا الدِّلَاءُ وَالْجِرَارُ الدَّنِسَةُ يَحْمِلُهَا الصِّغَارُ وَالْعَبِيدُ لَا يَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ وَيَمَسُّهَا الرُّسْتَاقِيُّونَ بِالْأَيْدِي الدَّنِسَةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينًا النَّجَاسَةُ، وَلَوْ ظَنَّ الْمَاءَ نَجِسًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ جَازَ.
وَفِي فَوَائِدِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ: التَّوَضِّي بِمَاءِ الْحَوْضِ أَفْضَلُ مِنْ النَّهْرِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُجِيزُونَهُ مِنْ الْحِيَاضِ فَيُرْغِمُهُمْ بِالْوُضُوءِ مِنْهَا.اهـ. وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ الْأَفْضَلِيَّةَ لِهَذَا الْعَارِضِ، فَفِي مَكَان لَا يَتَحَقَّقُ النَّهْرُ أَفْضَلُ. قَالُوا: وَلَا بَأْسَ بِالتَّوَضِّي مِنْ حُبٍّ يُوضَعُ كُوزُهُ فِي نَوَاحِي الدَّارِ وَيُشْرَبُ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ قَذَرٌ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ لِنَفْسِهِ إنَاءً يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ غَيْرُهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَوْتُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ كَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُفْسِدُهُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ دُودِ الْخَلِّ وَسُوسِ الثِّمَارِ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيه: «هَذَا هُوَ الْحَلَالُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ» وَلِأَنَّ الْمُنَجَّسَ هُوَ اخْتِلَاطُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِأَجْزَائِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، حَتَّى حَلَّ الْمُذَكَّى لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهِ وَلَا دَمَ فِيهَا، وَالْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مِنْ ضَرُورَتِهَا النَّجَاسَةُ كَالطِّينِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا هُوَ الْحَلَالُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ» إلَى آخِرِهِ) عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يَا سَلْمَانُ كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَوَضُوءُهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ إلَّا بَقِيَّةٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الزُّبَيْدِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.اهـ. وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِجَهَالَةِ سَعِيدٍ وَدُفِعَا بِأَنَّ بَقِيَّةَ هَذَا هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ الْحَمَّادَيْنِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَشُعْبَةَ، وَنَاهِيكَ بِشُعْبَةَ وَاحْتِيَاطِهِ. قَالَ يُحْيِي: كَانَ شُعْبَةُ مُبَجِّلًا لِبَقِيَّةِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَقَدْ رَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا فَذَكَرَهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَكَانَ ثِقَةً فَانْتَفَتْ الْجَهَالَةُ، وَالْحَدِيثُ مَعَ هَذَا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ.
قولهُ: (حَتَّى حَلَّ الْمُذَكَّى لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهِ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّةِ الذَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ سَبَبًا لِلْحِلِّ زَوَالُ الدَّمِ بِهَا. ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ أَقَامَ نَفْسَ الْفِعْلِ مِنْ الْأَهْل مَقَامَ زَوَالِهِ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْخُرُوجُ بِمَانِعٍ كَأَنْ أَكَلَتْ وَرَقَ الْعُنَّابِ حَلَّ اعْتِبَارًا لَهُ خَارِجًا. قَالَ: (وَمَوْتُ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُفْسِدُهُ إلَّا السَّمَكُ لِمَا مَرَّ. وَلَنَا أَنَّهُ مَاتَ فِي مَعْدِنِهِ فَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَبَيْضَةٍ حَالَ مُحُّهَا دَمًا، وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا، إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالدَّمُ هُوَ الْمُنَجِّسُ، وَفِي غَيْرِ الْمَاءِ قِيلَ غَيْرُ السَّمَكِ يُفْسِدُهُ لِانْعِدَامِ الْمَعْدِنِ. وَقِيلَ لَا يُفْسِدُهُ لِعَدَمِ الدَّمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالضُّفْدَعُ الْبَحْرِيُّ وَالْبَرِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ. وَقِيلَ الْبَرِّيُّ مُفْسِدٌ لِوُجُودِ الدَّمِ وَعَدَمِ الْمَعْدِنِ، وَمَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ مَا يَكُونُ تَوَلُّدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ، وَمَائِيُّ الْمَعَاشِ دُونَ مَائِيِّ الْمَوْلِدِ مُفْسِدٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَوْتُ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ إلَخْ) هَذِهِ دَاخِلَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا دَمَ فِيهِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْمَاءِ أَوْ خَارِجَهُ ثُمَّ يُنْقَلُ إلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَغَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ لِأَنَّ الْمُنَجِّسَ هُوَ الدَّمُ وَلَا دَمَ لِلْمَائِيِّ، وَلِذَا لَوْ شُمِّسَ دَمُ السَّمَكِ يَبْيَضُّ وَلَوْ كَانَ دَمًا لَاسْوَدَّ. نَعَمْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا تَفَتَّتَ الضُّفْدَعُ فِي الْمَاءِ كَرِهْتُ شُرْبَهُ لَا لِلنَّجَاسَةِ بَلْ لِحُرْمَةِ لَحْمِهِ وَقَدْ صَارَتْ أَجْزَاؤُهُ فِيهِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ كَرَاهَةَ شُرْبِهِ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي التَّجْنِيسِ فَقَالَ يَحْرُمُ شُرْبُهُ.
قولهُ: (وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا) هَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْأَصَحُّ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ سَبُعٌ فِي الْبِرِّ لَا يَنْجُسُ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي مَعْدِنِهِ كَذَا قِيلَ، وَكَوْنُ الْبَرِّيَّةِ مَعْدِنًا لِلسَّبُعِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ فِي مَعْنَى مَعْدِنِ الشَّيْءِ، وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الشَّيْءُ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَرْعُ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْبَيْضَةُ مِنْ الدَّجَاجَةِ فِي الْمَاءِ رَطْبَةً أَوْ يَبِسَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ، وَكَذَا السَّخْلَةُ إذَا سَقَطَتْ مِنْ أُمِّهَا رَطْبَةً أَوْ يَبِسَتْ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَعْدِنِهَا. وَقولنَا النَّجَاسَةُ فِي مَحِلِّهَا لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى حَامِلُ فَأْرَةٍ حَيَّةٍ جَازَتْ لَا مَيِّتَةٍ لِانْصِبَابِ الدَّمِ عَنْ مَجْرَاهُ بِالْمَوْتِ، وَلِذَا لَوْ قُطِعَ عِرْقٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مِثْلَ هَذَا.
قولهُ: (وَالضُّفْدَعُ الْبَحْرِيُّ) هُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ سُتْرَةٌ بِخِلَافِ الْبَرِّيِّ.
قولهُ: (لِوُجُودِ الدَّمِ) إنْ ثَبَتَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ مُفْسِدٌ، وَفِي التَّجْنِيسِ لَوْ كَانَ لِلضُّفْدَعِ دَمٌ سَائِلٌ يُفْسِدُ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ لَوْ مَاتَتْ حَيَّةٌ بَرِّيَّةٌ لَا دَمَ فِيهَا فِي إنَاءٍ لَا يَنْجُسُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا دَمٌ يَنْجُسْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقولانِ إنَّ الطَّهُورَ مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْقَطُوعِ.
وَقَالَ زُفَرُ، وَهُوَ أَحَدُ قوليْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَهُوَ طَهُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ لِأَنَّ الْعُضْوَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً، وَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا لَكِنَّهُ نَجِسٌ حُكْمًا، وَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا فَقُلْنَا بِانْتِفَاءِ الطَّهُورِيَّةِ وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَلِأَنَّ مُلَاقَاةَ الطَّاهِرِ لِلطَّاهِرِ لَا تُوجِبُ التَّنَجُّسَ، إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ فَتَغَيَّرَتْ بِهِ صِفَتُهُ كَمَالِ الصَّدَقَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ نَجِسٌ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ بِمَاءٍ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، ثُمَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قولهُ إنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيَّةً لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ) تَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ فِي حُكْمِهِ وَصِفَتِهِ وَسَبَبِ ثُبُوتِهَا لَهُ وَوَقْتِ ذَلِكَ، قَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ مَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَالْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُغَلِّظُ النَّجَاسَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ عَنْهُ مُخَفِّفُهَا، وَمُحَمَّدٌ عَنْهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَكُلٌّ أَخَذَ بِمَا رَوَاهُ.
وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَهَارَتَهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ أَنَّ الْآلَةَ الَّتِي تُسْقِطُ الْفَرْضَ وَتُقَامُ بِهَا الْقُرْبَةُ تَتَدَنَّسُ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْعَيْنِ شَرْعًا فَلَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ تَدَنَّسَ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ حَتَّى جَعَلَ مِنْ الْأَوْسَاخِ فِي لَفْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَرُمَ عَلَى مَنْ شَرُفَ بِقَرَابَتِهِ النَّاصِرَةِ لَهُ وَلَمْ تَصِل مَعَ هَذَا إلَى النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى حَامِلُ دَرَاهِمِ الزَّكَاةِ صَحَّتْ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِلُ إلَى التَّنْجِيسِ، وَهُوَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ إلَّا أَنْ يَقُومَ فِيهِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ غَيْرُ هَذَا الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَجَدْنَاهُ فَإِنَّ الْخَطَايَا تَخْرُجُ مَعَ الْمَاءِ، وَهِيَ قَاذُورَاتٌ يَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ بَعْضُ الْقَاذُورَاتِ يَخْرُجُ مَعَ الْمَاءِ وَبِذَلِكَ يَنْجُسُ. أَمَّا الصُّغْرَى فَلِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا تَوَضَّأَ الْمُؤْمِنُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» فَالْجَوَابُ مَنْعُ أَنَّ إطْلَاقَ الْقَاذُورَاتِ عَلَى الْخَطَايَا حَقِيقِيٌّ، أَمَّا لُغَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِجَوَازِ صَلَاةِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَا عَقِيبَ وُضُوئِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ النَّوَاقِضِ دُونَ غَسْلِ بَدَنِهِ. وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» فَغَايَةُ مَا يُفِيدُ نَهْيُ الِاغْتِسَالِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِكَيْ لَا تَسْلُبَ الطَّهُورِيَّةَ فَيَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَيُصَلِّي. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِهِ يَتَنَجَّسُ فَيَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِحَالِهِ فِي لُزُومِ الْمَحْذُورِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مَعَ الْمُنَافِي فَيَصْلُحُ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُشِيرًا لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ. وَجْهُ رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ، قِيَاسُ أَصْلِهِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْفَرْعُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحُكْمِيَّةِ بِجَامِعِ الِاسْتِعْمَالِ فِي النَّجَاسَةِ بِنَاءً عَلَى إلْغَاءِ وَصْفِ الْحَقِيقِيِّ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ، ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَقِيقِيَّةِ لَيْسَ إلَّا كَوْنُ النَّجَاسَةِ مَوْصُوفًا بِهَا جِسْمٌ مَحْسُوسٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ، لَا أَنَّ وَصْفَ النَّجَاسَةِ حَقِيقَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ كَذَلِكَ.
وَفِي غَيْرِهِ مَجَازٌ بَلْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَاحِدٌ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ وَفِي الْحَدَثِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُتَحَقِّقُ لَنَا مِنْ مَعْنَاهَا سِوَى أَنَّهَا اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ حَالَ قِيَامِهِ لِمَنْ قَامَ بِهِ إلَى غَايَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ قَطَعَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ كُلَّ ذَلِكَ ابْتِلَاءً لِلطَّاعَةِ، فَأَمَّا أَنَّ هُنَاكَ وَصْفًا حَقِيقِيًّا عَقْلِيًّا أَوْ مَحْسُوسًا فَلَا، وَمَنْ ادَّعَاهُ لَا يَقْدِرُ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى غَيْرِ الدَّعْوَى فَلَا يُقْبَلُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اعْتِبَارٌ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ مَحْكُومٌ بِنَجَاسَتِهِ فِي شَرِيعَتِنَا وَبِطَهَارَتِهِ فِي غَيْرِهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ سِوَى اعْتِبَارٍ شَرْعِيٍّ أَلْزَمَ مَعَهُ كَذَا إلَى غَايَةِ كَذَا ابْتِلَاءً، وَفِي هَذَا لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْحَدَثِ فَإِنَّهُ أَيْضًا لَيْسَ إلَّا نَفْسَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ نَفْسُ وَصْفِ النَّجَاسَةِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَثَبَتَ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحَدَثِ فَيَكُونُ نَجِسًا إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ كَوْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ ذَلِكَ كَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَنْ يَشْتَرِطُ فِي نَجَاسَتِهِ خُرُوجَهُ مِنْ الثَّوْبِ مُتَغَيِّرًا بِلَوْنِ النَّجَاسَةِ كَالشَّافِعِيِّ فَلَا فَعِنْدَهُ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي لَا لَوْنَ لَهَا يُغَايِرُ لَوْنَ الْمَاءِ كَالْبَوْلِ طَاهِرٌ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَغَسْلُ الثَّوْبِ بِهِ دُونَ إزَالَةِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مُسْتَعْمَلٌ، وَهُوَ لَا يُقْصِرُ وَصْفَ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى رَافِعِ الْحَدَثِ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي نَفْسِ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهُوَ سَهْلٌ، غَيْرَ أَنَّا لَسْنَا إلَّا بِصَدَدِ تَوْجِيهِ رِوَايَةِ نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أُصُولِنَا فَإِنْ قِيلَ: لَوْ تَمَّ مَا ذَكَرْت كَانَ لِلْبَلْوَى تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ حُكْمِهِ. فَالْجَوَابُ الضَّرُورَةُ لَا يَعْدُو حُكْمُهَا مَحَلَّهَا، وَالْبَلْوَى فِيهِ إنَّمَا هِيَ فِي الثِّيَابِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ ثَوْبِ الْمُتَوَضِّئِ وَتَبْقَى حُرْمَةُ شُرْبِهِ وَالطَّبْخِ مِنْهُ وَغَسْلِ الثَّوْبِ مِنْهُ وَنَجَاسَةِ مِنْ يُصِيبُهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقوله: (وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ) إلَخْ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كُلٌّ مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ وَالتَّقَرُّبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّقَرُّبُ كَانَ مَعَهُ رَفْعٌ أَوْ لَا، وَعِنْدَ زُفَرَ الرَّفْعُ كَانَ مَعَهُ تَقَرُّبٌ أَوْ لَا، وَالتَّقَرُّبُ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْوُضُوءَ حَتَّى تَصِيرَ عِبَادَةً.
لَا يُقَال: مَا ذُكِرَ لَا يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ، إذْ يَقول: مُجَرَّدُ الْقُرْبَةِ لَا يُدَنِّسُ بَلْ الْإِسْقَاطُ، فَإِنَّ الْمَالَ لَمْ يَتَدَنَّسْ بِمُجَرَّدِ التَّقَرُّبِ بِهِ، وَلِذَا جَازَ لِلْهَاشِمِيِّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِالْإِسْقَاطِ مَعَ التَّقَرُّبِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ: أَعْنِي مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَنْفَرِدُ فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَنْهُ، إذْ لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَيْسَ هُوَ قول وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّا نَقول: غَايَةُ الْأَمْرِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مَعَ الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْمَجْمُوعُ بَلْ ذَلِكَ دَائِرٌ مَعَ عَقْلِيَّةِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ. فَإِنْ عُقِلَ اسْتِقْلَالُ كُلِّ حُكْمٍ بِهِ أَوْ الْمَجْمُوعِ حُكِمَ بِهِ، وَاَلَّذِي نَعْقِلُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ التَّقَرُّبِ الْمَاحِي لِلسَّيِّئَاتِ وَالْإِسْقَاطِ مُؤَثِّرٌ فِي التَّغَيُّرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ انْفَرَدَ وَصْفُ التَّقَرُّبِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَأَثَّرَ التَّغَيُّرُ حَتَّى حَرُمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَأَيْنَا الْأَثَرَ عِنْدَ سُقُوطِ وَصْفِ الْإِسْقَاطِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَشَدُّ فَحَرُمَ عَلَى قَرَابَتِهِ النَّاصِرَةِ لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلًّا أَثَّرَ تَغَيُّرًا شَرْعِيًّا، وَبِهَذَا يَبْعُدُ قول مُحَمَّدٍ إنَّهُ التَّقَرُّبُ فَقَطْ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ هَذَا مَذْهَبَهُ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْهُ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّ إزَالَةَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ مُفْسِدٌ لَهُ وَمِثْلُهُ عَنْ الْجُرْجَانِيِّ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُنْغَمِسِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ حَيْثُ قَالَ مُحَمَّدٌ الرَّجُلُ طَاهِرٌ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ، جَوَابُهُ أَنَّ الْإِزَالَةَ عِنْدَهُ مُفْسِدَةٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ كَقولنَا جَمِيعًا لَوْ أَدْخَلَ الْمُحْدِثُ أَوْ الْجُنُبُ أَوْ الْحَائِضُ الَّتِي طَهُرَتْ الْيَدَ فِي الْمَاءِ لِلِاغْتِرَافِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِلْحَاجَةِ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اغْتِسَالَهَا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَكِلَاهُمَا جُنُبٌ، عَلَى أَنَّ الضَّرُورَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْخَلَ الْمُحْدِثُ رِجْلَهُ أَوْ رَأْسَهُ حَيْثُ يَفْسُدُ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا مَا فِي كِتَابِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ غَمَسَ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ أَوْ إحْدَى رِجْلَيْهِ فِي إجَّانَةٍ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ مِنْهُ لِأَنَّهُ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي الْإِدْخَالِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَتْ بِأَنْ وَقَعَ الْكُوزُ فِي الْحُبِّ فَأَدْخَلَ يَدَهُ إلَى الْمِرْفَقِ لِإِخْرَاجِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ، قَالَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ لِلتَّبَرُّدِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، فَهَذَا يُوجِبُ حَمْلَ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِهِ ثُمَّ إدْخَالُ مُجَرَّدِ الْكَفِّ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا لَمْ يُرِدْ الْغُسْلَ فِيهِ بَلْ أَرَادَ رَفْعَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ الْغُسْلَ إنْ كَانَ أُصْبُعًا أَوْ أَكْثَرَ دُونَ الْكَفِّ لَا يَضُرُّ مَعَ الْكَفِّ بِخِلَافِهِ ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ حَاجَتِهِ، إلَى تَأَمُّلِ وَجْهِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ كَوْنِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِدْخَالِ لِلتَّبَرُّدِ مَحْمَلُهُ مَا إذَا كَانَ مُحْدِثًا، أَمَّا إنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا فَلَا، إذْ لَا بُدَّ عِنْدَ عَدَمِ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ مِنْ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ لِثُبُوتِ الِاسْتِعْمَالِ. وَكَذَا إطْلَاقُ ثُبُوتِ الِاسْتِعْمَالِ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ أَقْرَبُ فِي هَذَا، وَكَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا لَا نَجِسًا، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ سِوَى الزِّيَادَةِ وَالْغَسْلِ تَبَرُّدًا لَا تَقَرُّبًا وَاسْتِنَانًا يَجِبُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ. قَالَ فِي الْمُبْتَغَى وَغَيْرِهِ: بِتَبَرُّدِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إنْ كَانَ مُحْدِثًا وَإِلَّا فَلَا، وَبِغَسْلِ ثَوْبٍ طَاهِرٌ أَوْ دَابَّةٍ تُؤْكَلُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَكَذَا بِغَسْلِ بَدَنِهِ أَوْ رَأْسِهِ لِلطِّينِ أَوْ الدَّرَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِظُهُورِ قَصْدِ إزَالَةِ ذَلِكَ. وَوُضُوءُ الصَّبِيِّ كَالْبَالِغِ، وَبِتَعْلِيمِ الْوُضُوءِ إذَا لَمْ يُرِدْ سِوَى مُجَرَّدِ التَّعْلِيمِ لَا يُسْتَعْمَلُ، وَبِوُضُوءِ الْحَائِضِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ وُضُوءَهَا مُسْتَحَبٌّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَلَا يَخْفَى انْتِهَاضُ الْوَجْهِ عَلَى مَالِكٍ فِي قولهِ إنَّ الطَّهُورَ يَطْهُرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقولهُ هُوَ كَالْقُطُوعِ لَا يُجْدِيهِ شَيْئًا وَكَشْفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الطَّهُورِ أَنْ يَطْهُرَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَضْلًا عَنْ التَّكَرُّرِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ لَيْسَ إلَّا الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّاهِرِ، كَذَا كُلُّ مَا كَانَ عَلَى صِيغَةِ فَعُولٍ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ سِوَى الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَطْهِيرَ غَيْرِهِ، بَلْ رَفْعُ مَانِعِ الْغَيْرِ لَيْسَ إلَّا أَمْرًا شَرْعِيًّا لَوْلَا اسْتِفَادَتُهُ مِنْ قوله تَعَالَى: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} لَمَا أَفَادَهُ الْمَاءُ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ فَعُولٍ، وَتَكَرُّرُ الْقَطْعِ لِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ قَطُوعٌ لَيْسَ إلَّا لِخُصُوصِ الْمَادَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُبَالَغَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَطْعَ تَأْثِيرٌ فِي الْغَيْرِ بِالْإِبَانَةِ، وَهَذَا يُسْتَفَادُ مِنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ فَإِنَّ صِحَّةَ إطْلَاقِ قَاطِعٍ مَا دَامَ قَائِمًا كَانَ ثُبُوتُ الْقَطْعِ قَائِمًا وَيَلْزَمُهُ تَكَرُّرُ الْقَطْعِ فَقَدْ ثَبَتَ التَّكَرُّرُ بِدُونِ صِيغَةِ فَعُولٍ فَالْمُبَالَغَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ كَثْرَتِهِ وَجَوْدَتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فَعُولًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُتَعَدِّيًا كَانَ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ قَاصِرًا فِي نَفْسِهِ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يُصَيِّرُهُ مُتَعَدِّيًا وَصِفَةُ طَاهِرٍ قَاصِرَةٌ فَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ جَوْدَتِهِ فِي نَفْسِهِ، أَمَّا إفَادَةُ الْمُبَالَغَةِ تَعَلُّقَهُ بِالْغَيْرِ فَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَانْظُرْ إلَى قول جَرِيرٍ:
عَذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ

فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ بِرَافِعٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقِيلَ هُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِانْتِقَالِ نَجَاسَةِ الْآثَامِ إلَيْهِ وَإِنَّهَا تُزَالُ بِالْقُرَبِ، وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول: إسْقَاطُ الْفَرْضِ مُؤَثِّرٌ أَيْضًا فَيَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالْأَمْرَيْنِ، وَمَتَى يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا زَايَلَ الْعُضْوَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا، لِأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقِيلَ هُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قول أَبِي حَنِيفَةَ لِمَسَائِلَ نُقِلَتْ، وَذَكَرَ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كِتَابِ الْحَسَنِ وَذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُرِدْ رَفْعَ شَيْءٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِنَاءَ قَيْدٌ، حَتَّى لَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْبِئْرِ أَوْ يَدَهُ لَا يُفْسِدُهُ وَلَوْ أَدْخَلَ الْجُنُبُ فِي الْبِئْرِ غَيْرَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ الْجَسَدِ أَفْسَدَهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِمَا، وَقولنَا مِنْ الْجَسَدِ يُفِيدُ الِاسْتِعْمَالَ بِإِدْخَالِ بَعْضِ عُضْوٍ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الطَّاهِرِ إذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ وَابْتَلَّ بَعْضُ رَأْسِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. أَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِبَعْضِ الْعُضْوِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَاءَ بِمَاذَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إذَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ تُقُرِّبَ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ لَا غَيْرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي التَّفْرِيعِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ عَنْ بَعْضِ عُضْوٍ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ لَمْعَةٌ فَهُوَ بِحَدَثِهِ وَرَفْعُهُ هُوَ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِعْمَالِ أَوْ الْقُرْبَةِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ يُشْكِلُ عَلَى قول الْمَشَايِخِ إنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ رَفْعًا كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا، وَالْمَخْلَصُ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ تَتَبُّعَ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُلَاقَاةِ يُفِيدُ أَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: رَفْعُ الْحَدَثِ تَقَرُّبًا أَوْ غَيْرَ تَقَرُّبٍ، وَالتَّقَرُّبُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ رَفْعُ حَدَثٍ أَوْ لَا. وَسُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْعُضْوِ وَعَلَيْهِ تَجْرِي فُرُوعُ إدْخَالِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لَا لِحَاجَةٍ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ سُقُوطِ الْفَرْضِ وَارْتِفَاعِ الْحَدَثِ، فَسُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْيَدِ مَثَلًا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجِبَ إعَادَةُ غَسْلِهَا مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَيَكُونُ ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ مَوْقُوفًا عَلَى غَسْلِ الْبَاقِي، وَسُقُوطُ الْفَرْضِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ أَصْلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَالثَّابِتُ فِيهِ لَيْسَ إلَّا سُقُوطُ الْفَرْضِ حَيْثُ جُعِلَ بِهِ دَنَسًا شَرْعًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. هَذَا وَالْمُفِيدُ لِاعْتِبَارِ الْإِسْقَاطِ مُؤَثِّرًا فِيهِ صَرِيحُ التَّعْلِيلِ الْمَنْقول مِنْ لَفْظِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْحَسَنِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قولهِ لِأَنَّهُ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقولهِ: (وَمَتَى يَصِيرُ الماء مُسْتَعْمَلًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا زَايَلَ الْعُضْوَ) احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قول كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ قول سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي مَكَان مُسْتَدِلِّينَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْبِلَّةِ مِنْ مَكَان مِنْ الْعُضْوِ إلَى آخَرَ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ آخَرَ إلَّا فِي الْجَنَابَةِ لِأَنَّ الْبَدَنَ فِيهَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلٍ فِي يَدِهِ لَا بَلَلٍ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ سُقُوطَ الِاسْتِعْمَالِ حَالَ تَرَدُّدِهِ عَلَى الْعُضْوِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَغَايَةُ مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ مَكَان آخَرَ مُسْتَعْمَلٌ، وَلَا كَلَامَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ اتِّفَاقٌ، بَلْ فِيمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمَسُّهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ.

متن الهداية:
وَالْجُنُبُ إذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الرَّجُلُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ الصَّبِّ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ وَالْمَاءُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كِلَاهُمَا طَاهِرَانِ: الرَّجُلُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَالْمَاءُ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَاهُمَا نَجِسَانِ: الْمَاءُ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَالرَّجُلُ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ. وَقِيلَ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ الرَّجُلِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَعَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَهُوَ أَوْفَقُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْجُنُبُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي خَرَّجَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ اخْتِلَافَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي عِلَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنْهَا فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ الِاسْتِعْمَالُ بِرَفْعِ الْحَدَثِ وَبِالِاسْتِعْمَالِ تَقَرُّبًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ يَنْوِ الْقُرْبَةَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَجْهُهُ فِي قول مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ. قَالَ وَصَارَ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ لِلِاغْتِرَافِ زَالَ الْحَدَثُ عَنْ الْيَدِ وَلَمْ يَصِرْ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهُوَ بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِذَا انْغَمَسَ وَحَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا، وَلَوْ حَكَمْنَا بِاسْتِعْمَالِهِ لَكَانَ نَجِسًا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ فَلَا تَحْصُلُ لَهُ الطَّهَارَةُ، فَكَانَ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، فَقُلْنَا الرَّجُلُ بِحَالِهِ وَالْمَاءُ بِحَالِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا نَجِسَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ الرَّجُلِ عِنْدَهُ، فَقِيلَ نَجَاسَةُ الْجَنَابَةِ فَلَا يَقْرَأُ، وَقِيلَ نَجَاسَةُ الْمُسْتَعْمَلِ فَيَقْرَأُ. وَعَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ لِعَدَمِ أَخْذِ الْمَاءِ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَالْكُلُّ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ أَخْذَ اشْتِرَاطِ مُحَمَّدٍ الْقُرْبَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَكَذَا قول أَبِي يُوسُفَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الرَّجُلِ بِحَالِهِ لِاشْتِرَاطِهِ الصَّبَّ فَإِنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ فِي التَّطْهِيرِ فِي غَيْرِ الْمَاءِ الْجَارِي وَالْمُلْحَقِ بِهِ فِي الْعُضْوِ لَا الثَّوْبِ لَا لِمَا ذُكِرَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ الْمَاءُ حَالَ الِانْغِمَاسِ وَالْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الرَّجُلِ مُسْتَعْمَلًا نَجِسًا وَلَا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكُلُّ إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَجَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَهُوَ بِعُمُومِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَلَا يُعَارَضُ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ وَحُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِ الْكَلْبِ وَلَيْسَ الْكَلْبُ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا، بِخِلَافِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، إذْ الْهَاءُ فِي قوله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ لِقُرْبِهِ وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ فَخَرَجَا عَمَّا رَوَيْنَا ثُمَّ مَا يَمْنَعُ النَّتْنَ وَالْفَسَادَ فَهُوَ دِبَاغٌ وَإِنْ كَانَ تَشْمِيسًا أَوْ تَتْرِيبًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكُلُّ إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) يَتَنَاوَلُ كُلَّ جِلْدٍ يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ لَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ بِهِ كَاللَّحْمِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَوْ أَصْلَحَ مَصَارِينَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ أَوْ دَبَغَ الْمَثَانَةَ وَأَصْلَحَهَا طَهُرَتْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ كَاللَّحْمِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ فَيَدْخُلُ جِلْدُ الْفِيلِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي قول إنَّ الْفِيلَ نَجِسُ الْعَيْنِ. وَعِنْدَهُمَا هُوَ كَسَائِرِ السِّبَاعِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ عَامٌّ، فَإِخْرَاجُ الْخِنْزِيرِ مِنْهُ لِمُعَارَضَةِ الْكِتَابِ إيَّاهُ فِيهِ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} بِنَاءً عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِعَوْدِهِ، وَعِنْدَ صَلَاحِيَّةِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَضَايِفَيْنِ لِذَلِكَ يَجُوزُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ جُوِّزَ عَوْدُ ضَمِيرِ مِيثَاقِهِ فِي قوله تَعَالَى: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلَى كُلٍّ مِنْ الْعَهْدِ وَلَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَتَعَيَّنَ عَوْدُهُ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي قوله تَعَالَى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ضَرُورَةُ صِحَّةِ الْكَلَامِ وَإِلَى الْمُضَافِ فِي قولك رَأَيْت ابْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمْته لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ، رَتَّبَ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَنْهُ الْحَدِيثَ الثَّانِي فَتَعَيَّنَ هُوَ مُرَادًا بِهِ وَإِلَّا اخْتَلَّ النَّظْمُ، وَإِذَا جَازَ كُلٌّ مِنْهُمَا لُغَةً، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ احْتِيَاطٍ وَجَبَ إعَادَتُهُ عَلَى مَا فِيهِ الِاحْتِيَاطُ، وَهُوَ بِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا جِلْدُ الْآدَمِيِّ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا كَرَامَتُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقولهِ وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَقَامٌ آخَرُ غَيْرُ طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ وَعَدَمِهَا فَلِذَا صَرَّحَ فِي الْعِنَايَةِ بِأَنَّهُ إذَا دُبِغَ جِلْدُ الْآدَمِيِّ طَهُرَ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَبَقِيَ جِلْدُ الْكَلْبِ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ إذْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ نَجَاسَةَ عَيْنِهِ بَلْ نَجَاسَةُ لَحْمِهِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ اللُّعَابُ فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ لَا يَطْهُرُ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فُرُوعٌ عَلَيْهِ: مِنْهَا وَقَعَ الْكَلْبُ فِي بِئْرٍ تَنَجَّسَ، أَصَابَ فَمُهُ الْمَاءَ أَوْ لَمْ يُصِبْ وَلَوْ ابْتَلَّ فَأَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمِ أَفْسَدَهُ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي التَّصْحِيحِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْعُمُومُ طَهَارَةَ عَيْنِهِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا فَوَجَبَ أَحَقِّيَّةُ تَصْحِيحِ عَدَمِ نَجَاسَتِهَا فَيَطْهُرُ بِالدَّبَّاغِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُتَّخَذُ دَلْوًا لِلْمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إهَابُ الْمَيِّتَةِ أَيْضًا بِطَرِيقِ النَّسْخِ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ بِشَهْرَيْنِ. قُلْنَا الِاضْطِرَابُ فِي مَتْنِهِ وَسَنَدِهِ يَمْنَعُ تَقْدِيمَهُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ النَّاسِخَ أَيْ مُعَارَضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَاكَلَتِهِ فِي الْقُوَّةِ. وَلِذَا قَالَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ: هُوَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِلِاضْطِرَابِ فِيهِ. أَمَّا فِي السَّنَدِ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ عُكَيْمٍ كَمَا قَدَّمْنَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ جِهَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ انْطَلَقَ هُوَ وَنَاسٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: فَدَخَلُوا وَوَقَفْت عَلَى الْبَابِ فَخَرَجُوا إلَيَّ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُكَيْمٍ أَخْبَرَهُم: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ» الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ الدَّاخِلِينَ وَهُمْ مَجْهُولُونَ. وَأَمَّا فِي الْمَتْنِ فَفِي رِوَايَةٍ بِشَهْرٍ، وَفِي أُخْرَى بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَفِي أُخْرَى بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي صُحْبَةِ ابْنِ عُكَيْمٍ، ثُمَّ كَيْفَ كَانَ لَا يُوَازِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحَ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ التَّرْجِيحِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا فِي مُعَارَضَتِهِ لِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ وَبَعْدَهُ يُسَمَّى شَنًّا وَأَدِيمًا. وَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ «هَكَذَا كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيِّتَةِ فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيِّتَةِ بِجِلْدٍ وَلَا عَصَبٍ» فِي سَنَدِهِ فَضْلَةُ بْنُ مِفْضَلٍ مُضَعَّفٌ: وَالْحَقُّ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُكَيْمٍ ظَاهِرٌ فِي النَّسْخِ لَوْلَا الِاضْطِرَابُ، فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْتَفِعُ بِجِلْدِ الْمَيِّتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُسْتَقْذَرٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ بِهِ ظَاهِرًا.

متن الهداية:
قولهُ: (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ) فَخَرَجَ مَا جَفَّ وَلَمْ يَسْتَحِلْ فَلَا يَطْهُرُ، وَالْإِلْقَاءُ فِي الرِّيحِ كَالتَّشْمِيسِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا هِيَ دُبِغَتْ تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمَادًا أَوْ مِلْحًا أَوْ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يَزِيدَ صَلَاحُهُ» وَفِيهِ مَعْرُوفُ بْنُ حَسَّانٍ مَجْهُولٌ، وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ كَافٍ، ثُمَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدَّبَّاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الدَّبَّاغِ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ، وَكَذَلِكَ يَطْهُرُ لَحْمُهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ) إنَّمَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالذَّكَاةِ إذَا كَانَتْ فِي الْمَحِلِّ مِنْ الْأَهْلِ، فَذَكَاةُ الْمَجُوسِيِّ لَا يَطْهُرُ بِهَا الْجِلْدُ بَلْ بِالدَّبْغِ لِأَنَّهَا إمَاتَةٌ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ لَا لَحْمُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّارِحُونَ كَصَاحِبِ الْغَايَةِ وَصَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّ سُؤْرَهُ نَجِسٌ وَنَجَاسَةُ السُّؤْرِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِ اللَّحْمِ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَطْهُرَ الْجِلْدُ بِالذَّكَاةِ لِأَنَّهُ وِعَاءُ اللَّحْمِ النَّجِسِ، لَكِنْ قَالُوا بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ جُلَيْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَمْنَعُ الْمُمَاسَّةَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَتَنَجَّسُ بِرُطُوبَاتِهِ، لَكِنْ عَلَى هَذَا قَدْ يُقَالُ فَلَا يَظْهَرُ عَمَلُ الذَّكَاةِ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ عَنْ الْجِلْدِ لِتَتَوَقَّفَ طَهَارَتُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عَدَمَ طَهَارَةِ لُحُومِ السِّبَاعِ بِالذَّكَاةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ بَازِيًا مَذْبُوحًا أَوْ الْفَأْرَةُ أَوْ الْحَيَّةُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ لَحْمِهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكُونُ سُؤْرُهُ نَجِسًا انْتَهَى. وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ عَدَمَ طَهَارَةِ لُحُومِ السِّبَاعِ بِالذَّكَاةِ لَيْسَ لِذَاتِ نَجَاسَةِ السُّؤْرِ بَلْ لِنَجَاسَةِ اللَّحْمِ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَوْضَحَ نَجَاسَتَهُ بِنَجَاسَةِ السُّؤْرِ، وَعَدَمُ نَجَاسَةِ سُؤْرِ مَا ذَكَرَ لَيْسَ لِطَهَارَةِ لَحْمِهَا بَلْ لِعَدَمِ اخْتِلَاطِ اللُّعَابِ بِالْمَاءِ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ يَشْرَبُ بِمِنْقَارِهِ وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمَاءِ مِنْهُ شَيْءٌ لِيُنَجِّسَهُ، بِخِلَافِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَسُقُوطُ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ لِلضَّرُورَةِ اللَّازِمَةِ مِنْ الْمُخَالَطَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَقْتَضِي طَهَارَةَ اللَّحْمِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ نَفْسِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَجِسٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِمَا وَلِهَذَا لَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِهِمَا فَلَا يَحُلُّهُمَا الْمَوْتُ، إذْ الْمَوْتُ زَوَالُ الْحَيَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ) كُلُّ مَا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ مِنْ أَجْزَاءِ الْهُوِيَّةِ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ مَوْتِ مَا هِيَ جُزْؤُهُ كَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْحَافِرِ وَالظِّلْفِ وَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ الضَّعِيفِ الْقِشْرِ وَالْإِنْفَحَةِ، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْإِنْفَحَةِ وَاللَّبَنِ هَلْ هُمَا مُتَنَجِّسَانِ؟ فَقَالَا نَعَمْ لِمُجَاوَرَتِهِمَا الْغِشَاءَ النَّجِسِ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِنْفَحَةُ جَامِدَةً تَطْهُرْ بِالْغَسْلِ وَإِلَّا تَعَذَّرَ طُهْرُهُمَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَا بِمُتَنَجِّسَيْنِ، وَعَلَى قِيَاسِهِمَا قَالُوا فِي السَّخْلَةِ إذَا سَقَطَتْ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ رَطْبَةٌ فَيَبِسَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ لَا يَنْجُسُ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَعْدِنِهَا، فَهَاتَانِ خِلَافِيَّتَانِ مَذْهَبِيَّةٌ وَخَارِجَةٌ. لَنَا فِيهَا أَنَّ الْمَعْهُودَ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ النَّجَاسَةَ فِيمَا تَحُلُّهُ وَلَا تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ فَلَا يَحُلُّهَا الْمَوْتُ، وَإِذَا لَمْ يَحُلَّهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ، وَفِي السُّنَّةِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي شَاةِ مَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ حِينَ مَرَّ بِهَا مَيِّتَةً إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي لَفْظٍ «إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا» وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «إنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَلَا بَأْسَ بِهِ» وَأَعَلَّهُ بِتَضْعِيفِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ فَلَا يَنْزِلُ الْحَدِيثُ عَنْ الْحَسَنِ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «{قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَيْتَةِ حَلَالٌ إلَّا مَا أُكِلَ مِنْهَا» فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْقُرُونُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالسِّنُّ وَالْعَظْمُ فَكُلُّهُ حَلَالٌ لِأَنَّهُ لَا يُذَكَّى، وَأَعَلَّهُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هَذَا مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ، وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَلَا شَعْرِهَا وَقُرُونِهَا إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ» وَضَعَّفَهُ بِأَنَّ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّفْرِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ» قَالَ: وَرِوَايَةُ بَقِيَّةَ عَنْ شُيُوخِهِ الْمَجْهُولِينَ ضَعِيفَةٌ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعَاجُ الذَّبِلُ وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ. وَأَمَّا الْعَاجُ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ عَظْمُ أَنْيَابِ الْفِيلِ فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ انْتَهَى. وَفِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّ الْوَاسِطِيَّ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْآخَرُ إيهَامُهُ بِقولهِ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ اللُّغَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: الْعَاجُ أَنْيَابُ الْفِيَلَةِ، وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ النَّابِ عَاجًا.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَاجُ عَظْمُ الْفِيلِ الْوَاحِدَةُ عَاجَةٌ فَبِهَذَا يَكُونُ إنْ صَحَّ مَا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ تَأْوِيلًا لِلْمُرَادِ لَمَّا اعْتَقَدَ نَجَاسَةَ عَظْمِ الْفِيلِ. فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَوْ كَانَتْ ضَعِيفَةً حُسِّنَ الْمَتْنُ فَكَيْفَ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ وَلَهُ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ، ثُمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُبْطِلُ قول مُحَمَّدٍ مِنْ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفِيلِ، َوَجْهُ قولهِمَا فِي الْمَذْهَبِيَّةِ التَّنَجُّسُ بِالْمُجَاوِرَةِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلتَّنَجُّسِ شَرْعًا مَا دَامَتْ فِي الْبَاطِنِ النَّجَاسَةُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ شَرْعًا حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ إلَّا إذَا ثَبَتَ شَرْعًا أَنَّ الْمَوْتَ يُزِيلُهُ، لَكِنَّ الثَّابِتَ لِلْمَوْتِ لَيْسَ إلَّا عَمَلُهُ فِي تَنَجُّسِ مَا يَحُلُّهُ فَيَسْتَلْزِمُ تَنَجُّسَ غِشَائِهِمَا وَبَقَاؤُهُمَا عَلَى طَهَارَتِهِمَا بِحُكْمِ عَدَمِ إعْطَاءِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ مَا دَامَ فِي الْبَاطِنِ، وَلَا يَزُولُ هَذَا الْبَقَاءُ إلَّا بِمُزِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ. فَرْعٌ الْأَصَحُّ فِي قَمِيصِ الْحَيَّةِ الطَّهَارَةُ، وَكَذَا فِي نَافِجَةِ الْمَسْكِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ ابْتَلَّتْ لَا تَفْسُدُ. (وَشَعْرُ الْإِنْسَانِ وَعَظْمُهُ طَاهِرٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: نَجِسٌ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ لِكَرَامَتِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.