فصل: كِتَابُ اللَّقِيطِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْبُغَاةِ:

الشَّرْحُ:
(بَابُ الْبُغَاةِ):
قَدَّمَ أَحْكَامَ قِتَالِ الْكُفَّارِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ.
وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ، وَهَذَا الْوَزْنُ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ اسْمِ فَاعِلٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ كَغُزَاةٍ وَرُمَاةٍ وَقُضَاةٍ.
وَالْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ، بَغَيْتُ كَذَا: أَيْ طَلَبْتُهُ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةَ ذَلِكَ {مَا كُنَّا نَبْغِ} ثُمَّ اُشْتُهِرَ فِي الْعُرْفِ فِي طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ.
وَالْبَاغِي فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ إمَامِ الْحَقِّ.
وَالْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا الْخَارِجُونَ بِلَا تَأْوِيلٍ بِمَنَعَةٍ وَبِلَا مَنَعَةٍ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْتُلُونَهُمْ وَيُخِيفُونَ الطَّرِيقَ وَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ.
وَالثَّانِي قَوْمٌ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ لَكِنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ الْمُسْلِمِينَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَحَمِيَّةٌ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلِ كُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ يُوجِبُ قِتَالَهُ بِتَأْوِيلِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ بِالْخَوَارِجِ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَسْبُونِ نِسَاءَهُمْ وَيُكَفِّرُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحُكْمُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُ الْبُغَاةِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا دَفْعًا لِفَسَادِهِمْ لَا لِكُفْرِهِمْ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ لَهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقولونَ مِنْ خَيْرِ قول الْبَرِيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّهُ رَأَى رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ: «كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ فَصَارُوا كُفَّارًا. قِيلَ يَا أَبَا أُمَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقولهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي نَقْلَ إجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَا يُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَبَعْضُهُمْ يُكَفِّرُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَهُوَ مَنْ خَالَفَ بِبِدْعَتِهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَنَسَبَهُ إلَى أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالنَّقْلُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ، نَعَمْ يَقَعُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ تَكْفِيرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْمُجْتَهِدُونَ بَلْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِغَيْرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَنْقول عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا ذَكَرْنَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَعْرَفُ بِنَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ.
وَهُوَ قول الْحَضْرَمِيِّ: دَخَلْت مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، فَإِذَا نَفَرٌ خَمْسَةٌ يَشْتِمُونَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ يَقول: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَتَعَلَّقْت بِهِ وَتَفَرَّقَتْ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، فَأَتَيْت بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْت: إنِّي سَمِعْت هَذَا يُعَاهِدُ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ: اُدْنُ وَيْحَك مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا سَوَّارُ الْمُنْقِرِيُّ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَلِّ عَنْهُ، فَقُلْت أُخَلِّي عَنْهُ وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ؟ قَالَ: أَفَأَقْتُلُهُ وَلَمْ يَقْتُلْنِي؟ قُلْت: فَإِنَّهُ قَدْ شَتَمَك، قَالَ: فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْت أَوْ دَعْهُ.
فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْخَارِجِينَ مَنَعَةٌ لَا نَقْتُلُهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا لَا بِشَتْمِ عَلِيٍّ وَلَا بِقَتْلِهِ.
قِيلَ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ مُسْلِمٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ عَنْ تَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْحُكْمِ بِحِلِّهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَحِلِّ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْفِيرُهُمْ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ يَسْتَحِلُّونَ الْقَتْلَ بِتَأْوِيلِهِمْ الْبَاطِلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا، ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ.
وَمَعْنَى قولهِ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ نِدَاؤُهُمْ بِقولهِمْ الْحُكْمُ لِلَّهِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلِيٌّ فِي الْخُطْبَةِ لِيُشَوِّشُوا خَاطِرَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالتَّحْكِيمِ فِي صِفِّينَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ: يَعْنِي تَكْفِيرَهُ.
وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْخَوَارِجَ إذَا قَاتَلُوا الْكُفَّارَ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ بِالتَّعْرِيضِ بِالشَّتْمِ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ شَتْمٌ عَرَّضُوا بِهِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا.
وَالرَّابِعُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَلَى إمَامِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَسْتَبِيحُوا مَا اسْتَبَاحَهُ الْخَوَارِجُ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَهُمْ الْبُغَاةُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ)؛ لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ.
وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ فَيُبْدَأُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ) النَّاسُ بِهِ فِي أَمَانٍ وَالطُّرُقَاتُ آمِنَةٌ (دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ) الَّتِي أَوْجَبَتْ خُرُوجَهُمْ (لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ) قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ ثَانِيًا وَتُسْتَحَبُّ.
وَحَرُورَاءُ: اسْمُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْكُوفَةِ، وَفِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ، وَمِنْهُ قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِمُعَاذَةَ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟.
أَسْنَدَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى فِي خَصَائِصِ عَلِيٍّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ. فَقُلْت لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، قَالَ: إنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْك. قُلْت كَلًّا. فَلَبِسْت ثِيَابِي وَمَضَيْت إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلْت عَلَيْهِمْ فِي دَارٍ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِيهَا. فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِك؟ قُلْت: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِهْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، جِئْت لِأُبَلِّغَكُمْ مَا يَقولونَ وَأُبَلِّغَهُمْ مَا تَقولونَ. فَانْتَحَى لِي نَفَرٌ مِنْهُمْ، قُلْت: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ عَمِّهِ وَخَتَنِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ، قَالُوا: ثَلَاثٌ. قُلْت: مَا هِيَ؟ قَالُوا: إحْدَاهُنَّ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تعالى: {إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} قُلْت: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ، قُلْت هَذِهِ أُخْرَى. قَالُوا: وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ، قُلْت: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ قَالُوا: حَسْبُنَا هَذَا، قُلْت لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إنْ قَرَأْت عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَرُدُّ قولكُمْ هَذَا تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْت أَمَّا قولكُمْ إنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَالَ تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلَى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ أَحْكُمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟ قَالُوا اللَّهُمَّ بَلْ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، قُلْت: أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْت: وَأَمَّا قولكُمْ إنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَأَنْتُمْ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، فَأَتَوْا مِنْهَا بِمَخْرَجٍ، أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْت: وَأَمَّا قولكُمْ إنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا فَقَالَ: اُكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاك عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاك، وَلَكِنْ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَبْتُمُونِي، يَا عَلِيُّ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُهُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنْ النُّبُوَّةِ، أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ فَقُتِلُوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ قَتَلَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ اسْتَحْكَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: لَمَّا كَانَتْ حَرْبُ مُعَاوِيَةَ وَحَكَّمَ الْحَكَمَيْنِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا حَرُورَاءَ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَخَرَجْت مَعَهُ، حَتَّى إذَا تَوَسَّطْنَا عَسْكَرَهُمْ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا يَعْرِفُهُ بِهِ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِه: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فَرُدُّوهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَامَ خُطَبَاؤُهُمْ وَقَالُوا وَاَللَّهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ، فَوَاضَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْكِتَابَ وَوَاضَعُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيهِمْ ابْنُ الْكَوَّاءِ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ الْكُوفَةَ عَلَى عَلِيٍّ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

متن الهداية:
(وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ مُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ عِنْدَهُ.
وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ) وَهُوَ عَيْنُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا (وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ نَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا حَقِيقَةً) وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ (لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ) أَيْ الْبُغَاةُ (مُسْلِمُونَ) رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ثُمَّ قَال: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} (وَنَحْنُ أَدَرْنَا الْحُكْمَ وَهُوَ حِلُّ الْقِتَالِ عَلَى دَلِيلِ قِتَالِهِمْ وَ) ذَلِكَ (هُوَ الِاجْتِمَاعُ) عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ (وَالِامْتِنَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ) لِتَقْوَى شَوْكَتُهُمْ وَتَكْثُرَ جَمْعُهُمْ خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ وَهُمْ الْأَكْثَرُ، وَالْكُفْرُ مَا أَبَاحَ الْقِتَالَ إلَّا لِلْحِرَابَةِ وَالْبُغَاةُ كَذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ إلَّا إنْ أَبْدَوْا مَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ كَأَنْ ظَلَمَهُمْ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُمْ ظُلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يُنْصِفَهُمْ وَيَرْجِعَ عَنْ جَوْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَالُ مُشْتَبَهًا أَنَّهُ ظُلْمٌ مِثْلُ تَحْمِيلِ بَعْضِ الْجِبَايَاتِ الَّتِي لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَعَمَّ مِنْهُ، وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ الْمَنْجَنِيقِ وَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ.
وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مَعْنَاهُ ابْنُ الْأُخْتِ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي ثَابِتٍ قَاضِي سَمَرْقَنْدَ وَاسْمُ خُوَاهَرْ زَادَهْ مُحَمَّدٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَاسْمُ أَبِيهِ حُسَيْنٌ النَّجَّارِيُّ وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَمُوَافِقٌ لَهُ فِي اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَتُوُفِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ الْآخَرُ وَهُوَ عَامُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا مُعَاصِرٌ لَهُمَا وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ إحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (فَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) مِنْ قولهِ: الْفِتْنَةُ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: «كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك» رَوَاهُ عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ (فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ) وَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ وَلَا غَنَاءٌ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَتَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطْلُبُ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَمَنَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كُنْت يَوْمَ صِفِّينَ؟ فَقَالَ: ابْغِنِي سَيْفًا أَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، فَقَالَ لَهُ: مَا قَالَ اللَّهُ هَذَا، وَإِنَّمَا قَال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَمَا رُوِيَ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَمَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً كَمَا يُتَّفَقُ بَيْنَ أَهْلِ قَرْيَتَيْنِ وَمَحَلَّتَيْنِ أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَالْمَمْلَكَةِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: صَحَّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: رَأَيْت كَأَنَّ قِبَابًا فِي رِيَاضٍ، فَقُلْت لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا لِذِي الْكُلَاعِ وَأَصْحَابِهِ، وَرَأَيْت قِبَابًا فِي رِيَاضٍ فَقُلْت لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ، قُلْت: وَكَيْفَ وَقَدْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: إنَّهُمْ وَجَدُوا اللَّهَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى. وَهَذَا؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ.

متن الهداية:
(فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ) أَيْ يُسْرَعُ فِي إمَاتَتِهِ (وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ (دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْتَحِقَا) أَيْ الْجَرِيحُ وَالْمُوَلِّي (بِهِمْ) أَيْ بِالْفِئَةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْمِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِ ذَلِكَ) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ أَيْضًا: (لَا يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ الْإِجْهَازُ وَالِاتِّبَاعُ (فِي الْحَالَيْنِ) حَالَتَيْ الْفِئَةِ وَعَدَمِهَا (لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ) بِالتَّوْلِيَةِ وَالْجِرَاحَةِ الْمُعْجِزَةِ عَنْهُ (لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا) وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ إلَّا دَفْعًا لِشَرِّهِمْ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
وَأَسْنَدَ أَيْضًا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ.
(وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ) فِي جَوَازِ الْقَتْلِ (دَلِيلُ قِتَالِهِمْ لَا حَقِيقَتُهُ) وَلِأَنَّ قَتْلَ مَنْ ذَكَرْنَا إذَا كَانَ لَهُ فِئَةٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّزُ إلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ، وَأَصْحَابُ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ.

متن الهداية:
(وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) لِقول عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَقولهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ) إذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ (وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ (لِقول عَلِيٍّ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا هَزَمَ طَلْحَةَ وَأَصْحَابَهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ: يَعْنِي بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ وَلَا يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَأْخُذُ مَالَ الْمَقْتُولِ وَيَقول: مَنْ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ.
وَفِي تَارِيخِ وَاسِطَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا.
وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ بِالْجَرِيدَةِ أَوْ بِالْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا هُوَ وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
هَذَا، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ كَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حَكَمَ اللَّهُ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا وَلَا يُقَسَّمُ فَيْؤُهَا» وَأَعَلَّهُ الْبَزَّارُ بِكَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ وَبِهِ تَعَقَّبَ الذَّهَبِيُّ عَلَى الْحَاكِمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْقَى مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي الرَّحْبَةِ، فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا أَخَذَهُ حَتَّى كَانَ آخِرَهُ قِدْرٌ حَدِيدٌ لِإِنْسَانٍ فَأَخَذَهُ (وَقول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسِيرَ) وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يُقَاتِلُ.
(وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ) وَالْعَبْدُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ بَلْ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ يُحْبَسُ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ دَفْعِهِ الشَّرَّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَفِيهِ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَمَعْنَى هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يُحَكِّمَ نَظَرَهُ فِيمَا هُوَ أَحْسَنُ الْأَمْرَيْنِ فِي كَسْرِ الشَّوْكَةِ مِنْ قَتْلِهِ وَحَبْسِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ لَا بِهَوَى النَّفْسِ وَالتَّشَفِّي، وَإِذَا أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَكَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ وَلَا تُقْتَلُ إلَّا فِي حَالِ مُقَاتَلَتِهَا دَفْعًا، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ لِلْمَعْصِيَةِ وَلِمَنْعِهَا مِنْ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْكُرَاعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ.
وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ أَهْلُ الْعَدْلِ إلَيْهِ) وَكَذَا الْكُرَاعُ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ) اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِتَالِ وَتُرَدُّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْهُمْ وَلَا تُرَدُّ قَبْلَهُ (لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا إلَخْ) يُرِيدُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُصَنَّفِهِ فِي بَابِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَّمَ يَوْمَ الْجَمَلِ فِي الْعَسْكَرِ مَا أَجَافَوْا عَلَيْهِ مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ) وَلَوْلَا أَنَّ فِيهِ إجْمَاعًا لَأَمْكَنَ التَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ فِي تَمَلُّكِهِ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَسْنَدَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْجَمَلِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَطْلُبُوا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ الْعَسْكَرِ، وَمَا كَانَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ أُمُّ وَلَدٍ، وَأَيُّ امْرَأَةٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فَلْتَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَحِلُّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ وَلَا تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ؟ فَخَاصَمُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا نِسَاءَكُمْ وَأَقْرِعُوا عَلَى عَائِشَةَ فَهِيَ رَأْسُ الْأَمْرِ وَقَائِدُهُمْ، قَالَ: فَخَصَمَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَرَفُوا وَقَالُوا: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ) أَيْ يَسْتَعِينُ بِكُرَاعِهِ وَسِلَاحِهِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ (فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى. وَالْمَعْنَى) الْمُجَوَّزُ (فِيهِ أَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى) وَهُوَ الضَّرَرُ الْمُتَوَقَّعُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (بِالضَّرَرِ الْأَدْنَى) وَهُوَ إضْرَارُ بَعْضِهِمْ.

متن الهداية:
(وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا.
الشَّرْحُ:
(وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ) لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَإِضْعَافِهِمْ بِذَلِكَ (وَلَا يَرُدُّهَا إلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِمْ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ، وَإِذَا حَبَسَهَا كَانَ بَيْعُ الْكُرَاعِ أَوْلَى (؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ) وَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَتَوَفَّرَ مُؤْنَتَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ بِهَا حَاجَةٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا)؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ وَلَمْ يَحْمِهِمْ (فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: قَالُوا الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ.
وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيهِمْ فِيهِ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا) إذَا ظَهَرَ عَلَى الْبُغَاةِ (لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ) إنَّمَا كَانَتْ (لَهُ لِحِمَايَتِهِ إيَّاهُمْ وَلَمْ يَحْمِهِمْ) وَمَا قِيلَ إنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَلَبُوا عَلَى بَلْدَةٍ فَأَخَذُوا جِبَايَاتِهَا.
قَالُوا: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَتَاهُ سَاعِي الْحَرُورَاء دَفَعَ إلَيْهِ زَكَاتَهُ، وَكَذَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، ثُمَّ (إنْ كَانُوا صَرَفُوهُ إلَى حَقِّهِ) أَيْ إلَى مَصَارِفِهِ (أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ) وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ (لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الْأَدَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) قَالَ الْمُصَنِّفُ: رَحِمَهُ اللَّهُ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (لَا إعَادَةَ عَلَى الْأَرْبَابِ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ) أَيْ الْبُغَاةَ (مُقَاتِلَةٌ) وَهُمْ مَصْرِفُ الْخَرَاجِ (وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَكَذَلِكَ) وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أُفْتُوا بِالْإِعَادَةِ، وَكَذَا فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا لَوْ أَخَذُوهَا وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَالْمَدْفُوعُ مُصَادَرَةً إذَا نَوَى الدَّافِعُ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي إذَا كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَةٌ، وَلَا قِصَاصٌ إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا يُبَاحُ قَتْلُهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ مُبَاحَ الْقَتْلِ لَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالْوِلَايَةِ وَهِيَ بِالْمَنَعَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِنَا عَلَيْهِمْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَصَارَ (كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا فَهُوَ كَدَارِ الْعَدْلِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ) مِنْ أَمْصَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ (فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْهُمْ عَمْدًا ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إنَّهُمْ غَلَبُوا وَلَمْ يَجْرِ فِيهَا حُكْمُهُمْ بَعْدُ حَتَّى أَزْعَجَهُمْ إمَامُ الْعَدْلِ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ: أَيْ أَخْرَجَهُمْ قَبْلَ تَقَرُّرِ حُكْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَوَجَبَ الْقَوَدُ، أَمَّا لَوْ جَرَتْ أَحْكَامُهُمْ حَتَّى صَارَتْ فِي حُكْمِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ فَلَا قَوَدَ وَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يَجِبُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا.
لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ الْمَنَعَةِ.
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ.
وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا، بِخِلَافِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقول: قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ.
وَلَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا، إذْ الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ) بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ فَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ بِهِ (وَإِنْ قَتَلَ الْبَاغِي) الْعَادِلَ (وَقَالَ: كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ وَرِثَهُ)، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي) الْعَادِلَ (فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ. وَأَصْلُهُ) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي (أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ) عِنْدَنَا (وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ) بَعْدَ قِيَامِ مَنَعَتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ (لَا يَجِبُ الضَّمَانُ) عَلَيْهِ (عِنْدَنَا) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قولهِ الْجَدِيدِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ اُقْتُصَّ مِنْهُ اتِّفَاقًا وَكَذَا يَضْمَنُونَ الْمَالَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ تَابَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا. وَلَنَا أَنَّهُ) إتْلَافٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي حَالِ عَدَمِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ الضَّمَانِ مَنُوطٌ بِالْمَنَعَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ، فَلَوْ تَجَرَّدَتْ الْمَنَعَةُ عَنْ التَّأْوِيلِ كَقَوْمٍ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ فَقَتَلُوا وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ بِلَا تَأْوِيلٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَوْ انْفَرَدَ التَّأْوِيلُ عَنْ الْمَنَعَةِ بِأَنْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا عَنْ تَأْوِيلٍ ضَمِنُوا إذَا تَابُوا أَوْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ إنَّهَا رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً، قَالَ: فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الْأُولَى ثَارَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا كَثِيرٌ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا بِرَدِّ مَالٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ إلَى زَوْجِهَا وَأَنْ يُحَدَّ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ وَالْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّافِعِ) أَيْ نَفْيُ الضَّمَانِ وَصَارَ (كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ وَهُوَ إلْحَاقُ الْفَاسِدِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَمْ يُسَوَّغْ حَتَّى ضُلِّلَ مُرْتَكِبُهُ بِالصَّحِيحِ بِشَرْطِ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ تَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَيَلْزَمُ السُّقُوطُ كُلُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْقول مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْإِلْزَامِ سُقُوطُهُ شَرْعًا، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْخِطَابِ بِهِ مَا دَامَ الْعَجْزُ عَنْ إلْزَامِهِ ثَابِتًا، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ تَعَلَّقَ خِطَابُ الْإِلْزَامِ كَمَا يَقولهُ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقول فِي صُورَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلًا شَرْعِيًّا ضَرُورَةَ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ.
إذَا عَرَفْت هَذَا فَيَقول أَبُو يُوسُفَ: إلْحَاقُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ بِقول الصَّحَابَةِ كَانَ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِلْحَاقُهُ بِهِ بِلَا دَلِيلٍ، وَهُمَا يَقولانِ الْمُتَحَقِّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلَ تِلْكَ الْمَنَعَةَ وَالِاعْتِقَادَ دَافِعًا مَا لَوْلَاهُ لَثَبَتَ لِثُبُوتِ أَسْبَابِ الثُّبُوتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْمَنَعَةُ وَالِاعْتِقَادُ لَثَبَتَ الضَّمَانُ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنْ الْقَتْلِ عَمْدًا، وَإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ فَيَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ قَائِمَةٌ، وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَانِعٍ وُجِدَ عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مَعَ الْمَنَعَةِ فَمُنِعَ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْمَنْعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ)؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسْكَرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ)؛ لِأَنَّهُ يُقَاتَلُ بِعَيْنِهِ (لَا مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ) تَحْدُثُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ كَرَاهَةُ بَيْعِ الْمَعَازِفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُقَامُ بِهَا عَيْنِهَا (وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ) الْمُتَّخَذَةِ هِيَ مِنْهُ (وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ) لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ بَيْعُ الْعِنَبِ.
وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقِيلَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَرْجِعُ إلَى الْعَامَّةِ وَهُنَاكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَاصَّةِ، ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.
فُرُوعٌ:
إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِمْ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْ التَّقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا مَلَكُوا ثُمَّ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَيُفْتَوْا بِهِ.
وَلَوْ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ فَأَعْطَى كُلُّ فَرِيقٍ رَهْنًا عَلَى أَنَّ أَيَّهمَا غَدَرَ يَقْتُلُ الْآخَرُونَ الرَّهْنَ فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ الرَّهْنِ، بَلْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمَنِينَ بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِإِعْطَائِنَا الْأَمَانَ لَهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا، وَالْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ لَكِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى فِئَتِهِمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ حُبِسَ رَهْنُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمَنِينَ.
وَحُكِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهِ مَعَ أَهْلِ الْمُوصِلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ، فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ يَسْتَشِيرُهُمْ فَقَالُوا: يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقول؟ قَالَ لَيْسَ لَك ذَلِكَ، فَإِنَّك شَرَطْتَ لَهُمْ مَا لَا يَحِلُّ وَشَرَطُوا لَك مَا لَا يَحِلُّ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ الْقول وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ: مَا دَعَوْتُك لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتنِي بِمَا أَكْرَهُ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ وَقَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْت فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ. قَالَ: سَلْ الْعُلَمَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، قَالَ: لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ. قَالَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، فَاسْتَحْسَنَ قولهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ.
وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى شِقَاقًا مِنْ الْكَافِرِ، وَهُنَاكَ يَجُوزُ فَكَذَا هُنَا؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُنَاظَرَتِهِ لِيَتُوبَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلٌّ مِنْ الْآخَرِ، وَمِنْهُ أَنْ يَقول: لَا بَأْسَ عَلَيْك وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا فِيهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ صَحَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، فَإِنْ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ، إنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُمْ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَجَازَهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْ لَا يَعْرِفُهُمْ لَا يَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَسْكُنُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ، وَيُكْرَهُ أَخْذُ رُءُوسِهِمْ فَيُطَافُ بِهَا فِي الْآفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ.
وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا كَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ.
وَيُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ.
بِخِلَافِ أَخِيهِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْبَاغِي حُرْمَتَانِ: حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الْقَرَابَةِ، وَفِي الْكَافِرِ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ فَقَطْ.
وَإِذَا كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ دِيَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَهُ حِينَ وَقَفَ فِي صَفِّهِمْ.
وَلَوْ دَخَلَ بَابًا بِأَمَانٍ فَقَتَلَهُ عَادِلٌ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا؛ وَهَذَا لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ.
وَإِذَا حَمَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي فَقَالَ تُبْت وَأَلْقَى السِّلَاحَ كَفَّ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَنْظُرَ لَعَلِّي أَتُوبَ وَأَلْقَى السِّلَاحَ.
وَمَا لَمْ يُلْقِ السِّلَاحَ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ، وَمَتَى أَلْقَاهُ كَفَّ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْهُ بِإِلْقَائِهِ السِّلَاحَ.
وَلَوْ غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْي عَلَى بَلَدٍ فَقَاتَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا دُونَ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُسْبَوْنَ فَوَجَبَ قِتَالُهُمْ.
وَإِذَا وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ غَزْوُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَأَمَانُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ فِي مَنَعَةٍ نَافِذٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ الْبُغَاةُ فَسُبُوا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ.
وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَلْجَئُوهُمْ إلَى دَارِ الشِّرْكِ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا الْبُغَاةَ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِالْبُغَاةِ وَالذِّمِّيِّينَ عَلَى الْخَوَارِجِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكِلَابِ.
وَإِذَا وَلَّى الْبُغَاةُ قَاضِيًا فِي مَكَانٍ غَلَبُوا عَلَيْهِ فَقَضَى مَا شَاءَ ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ فَرُفِعَتْ أَقْضِيَتُهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَ مِنْهَا مَا هُوَ عَدْلٌ، وَكَذَا مَا قَضَاهُ بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ قَاضِي الْعَدْلِ.
وَلَوْ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ سَبْينَا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا تَكُونُ اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِهِمْ أَمَانًا مِنْهُمْ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَنَا تَأْمِينُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَنْ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَارِكًا لِلْحَرْبِ وَهَؤُلَاءِ مَا دَخَلُوا إلَّا لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ.

.كِتَابُ اللَّقِيطِ:

اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ.
وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ.
قَالَ: (اللَّقِيطُ حُرٌّ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ اللَّقِيطِ:
أَعْقَبَ اللَّقِيطَ وَاللُّقَطَةَ الْجِهَادَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ تَصِيرُ عُرْضَةً لِلْفَوَاتِ وَقَدَّمَ اللَّقِيطَ عَلَى اللُّقَطَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ.
وَاللَّقِيطُ لُغَةً: مَا يُلْقَطُ: أَيْ يُرْفَعُ مِنْ الْأَرْضِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، سُمِّيَ بِهِ الْوَلَدُ الْمَطْرُوحُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ آيِلٌ إلَى أَنْ يُلْتَقَطَ فِي الْعَادَةِ كَالْقَتِيلِ فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» (وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ) إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ (فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ كَانَ وَاجِبًا) وَقول الشَّافِعِيِّ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إلَّا إذَا خَافَ هَلَاكَهُ فَفَرْضُ عَيْنٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْخَوْفِ.
نَعَمْ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ أَوْ هَلَاكُهُ فَكَمَا قَالُوا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا الْوُجُوبُ بِاصْطِلَاحِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إلْزَامُ الْتِقَاطِهِ إذَا خِيفَ هَلَاكُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَالثَّابِتُ إلْزَامُهُ بِقَطْعِيِّ فَرْضٍ قولهُ: (اللَّقِيطُ حُرٌّ وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يُحَدَّ قَاذِفُهُ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُرِّيَّتَهَا، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِ السُّقُوطِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ بِالْحُرِّيَّةِ (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ)؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الرِّقُّ بِعُرُوضِ الْكُفْرِ لِبَعْضِهِمْ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْعَارِضِ لَا يُحْكَمُ بِهِ (وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ) وَالْغَالِبَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الدُّنْيَا الْأَحْرَارُ.

متن الهداية:
(وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ فَأَشْبَهَ الْمُقْعَدَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيهِ.
وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.
وَأَصْلُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: فَجِئْت بِهِ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدْتهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتهَا، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ كَذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ اذْهَبْ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَغَيْرُ الشَّافِعِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَيَقول فِيهِ: وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ بِهِ فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُهُ لَك وَنَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَتُهْمَةُ عُمَرَ دَلَّ عَلَيْهَا مَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ بَاطِنِهِ.
وَأَوَّلُ مَنْ قَالَتْهُ الزَّبَّاءُ.
وَمَا قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ أَوَّلًا لَيْسَ بِلَازِمٍ.
نَعَمْ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْإِنْفَاقِ وَقَصَدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو جَمِيلَةَ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يُصَدِّقُهُ فَيُخْرِجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَتَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الِالْتِقَاطِ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ ابْنُهُ وَلِذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ إلَى مَا يُرَجِّحُ صِدْقَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَالَ عَرِيفُهُ إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَيْسَتْ عَلَى أَوْضَاعِ الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِيَتَرَجَّحَ صِدْقُهُ فِي إخْبَارِهِ بِالِالْتِقَاطِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذِهِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَالْبَيِّنَةُ لِكَشْفِ الْحَالِ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى خَصْمٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ إذَا أُتِيَ بِلَقِيطٍ فَرَضَ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ رِزْقًا يَأْخُذُهُ وَلِيُّهُ كُلَّ شَهْرٍ وَيُوصِي بِهِ خَيْرًا، وَيَجْعَلُ رَضَاعَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَنَفَقَتَهُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَجَدَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَلْحَقَهُ عَلِيٌّ عَلَى مَالِهِ (وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ) أَغْنِيَاءَ لِتَجِبَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ (وَالْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ) أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ غُنْمُهُ: أَيْ مِيرَاثُهُ وَدَيْنُهُ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ اللَّقِيطُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ كَانَتْ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَكَذَا إذَا قَتَلَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) وَبَدَأَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ، وَلَأَنْ أَكُونَ وَلَّيْتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وَلَّيْتَ مِنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
فَحَرَّضَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
قولهُ: (وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ) عَلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ؛ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَبُرَ وَاكْتَسَبَ (إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ) يَعْنِي بِهَذَا الْقَيْدِ بِأَنْ يَقول: أَنْفِقْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي قولهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ إنَّمَا يُوجِبُ ظَاهِرًا تَرْغِيبَهُ فِي إتْمَامِ الِاحْتِسَابِ وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ.
وَقِيلَ يُوجِبُ لَهُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِ اللَّقِيطِ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا (لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي) فَإِذَا أَنْفَقَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصَيِّرُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَبَلَغَ فَادَّعَى أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا فَإِنْ صَدَّقَهُ اللَّقِيطُ رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقول قول اللَّقِيطِ وَعَلَى الْمُلْتَقِطِ الْبَيِّنَةُ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الْحِفْظِ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ (فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقول قولهُ).
مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قولهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ.
ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ إبْطَالِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ.
وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
(قوله فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقول قولهُ:) وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ) يَعْنِي سَابِقًا عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي أَوْ مُقَارِنًا.
أَمَّا إذَا ادَّعَيَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ فَالسَّابِقُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ وَالْخَارِجِ أَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا وَالْخَارِجُ مُسْلِمًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى وَهُوَ الذِّمِّيُّ.
وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ، ثُمَّ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَارِجِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُوَ حَقُّ الْحِفْظِ الثَّابِتِ لِلْمُلْتَقِطِ وَحَقُّ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارُ الصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ) وَيَتَأَذَّى بِانْقِطَاعِهِ، إذْ يُعَيَّرُ بِهِ وَيَحْصُلُ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ رَاغِبًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهِ.
وَيَدُ الْمُلْتَقِطِ مَا اُعْتُبِرَتْ إلَّا بِحُصُولِ مَصْلَحَتِهِ هَذِهِ لَا لِذَاتِهَا وَلَا لِاسْتِحْقَاقِ مِلْكٍ، وَهَذَا مَعَ زِيَادَةِ مَا ذَكَرْنَا حَاصِلٌ بِهَذِهِ الدَّعْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَثْبُتُ بُطْلَانُ يَدِ الْمُلْتَقِطِ ضِمْنًا مُتَرَتِّبًا عَلَى وُجُوبِ إيصَالِ هَذَا النَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَصَارَ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ تَصِحُّ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَ هَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عِنْدَ الْبَعْضِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْ الْوَلَدِ وَالْمُلْتَقِطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فِي دَعْوَى ذِي الْيَدِ (فَقِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا) أَيْ لَيْسَ فِيهِ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا أَيْضًا فِيهِ إلَّا أَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي دَعْوَى الْخَارِجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ اسْتِلْزَامُهُ إبْطَالَ حَقٍّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُنَا هُوَ اسْتِلْزَامُهُ التَّنَاقُضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ لُقَطَةٌ كَانَ نَافِيًا نَسَبَهُ، فَلَمَّا ادَّعَاهُ تَنَاقَضَ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَضُرُّ فِي دَعْوَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى ثُمَّ يَظْهَرُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْأَصْلِ الَّذِي أَحَالَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِمُوَافَقَةِ الْعَلَامَةِ كَلَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ.
وَلَوْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ) خَارِجَانِ مَعًا (وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ) فَطَابَقَ (فَهُوَ أَوْلَى بِهِ) مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ فَيُقَدَّمَ عَلَى ذِي الْعَلَامَةِ أَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَذُو الْعَلَامَةِ ذِمِّيٌّ فَيُقَدَّمُ الْمُسْلِمُ؛ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا ذِمِّيٌّ كَانَ ابْنًا لِلْمُسْلِمِ (وَلَوْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً كَانَ ابْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ) وَهُوَ الدَّعْوَى، وَكَذَا لَوْ أَقَامَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا سَابِقَةً عَلَى الْأُخْرَى كَانَ ابْنَهُ، وَلَوْ وَصَفَ الثَّانِي عَلَامَةً لِثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ ذُو الْعَلَامَةِ لِلتَّرْجِيحِ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبَيْ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَكَذَا فِي دَعْوَى اللُّقَطَةِ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُنَاكَ لَيْسَ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى بَلْ الْبَيِّنَةُ، فَلَوْ قَضَى لَهُ لَكَانَ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً بِالْعَلَامَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، إنَّمَا حَالُ الْعَلَامَةِ تَرْجِيحُ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
وَلَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ خَارِجَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ لِظُهُورِ تَقَدُّمِ الْيَدِ، وَكُلَّمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ دَعْوَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ يَكُونُ ابْنًا لَهُمَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُرْجَعُ إلَى الْقَافَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ.
وَلَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَ إلَى خَمْسَةٍ.
وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ.
وَإِنْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ ابْنُهُمَا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ حَيَاةِ اللَّقِيطِ، فَلَوْ مَاتَ عَنْ مَالٍ فَادَّعَى إنْسَانٌ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّقِيطَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ وَبِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَبَقِيَ كَلَامُهُ مُجَرَّدَ دَعْوَى الْمِيرَاثِ، وَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضْمَنُ النَّسَبَ وَهُوَ نَافِعٌ لِلصَّغِيرِ، وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ يَضُرُّهُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا وُجِدَ) اللَّقِيطُ (فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ) فَهُوَ مُسْلِمٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمِصْرِ كَانَ مِصْرًا لِلْكُفَّارِ ثُمَّ أُزْعِجُوا وَظَهَرْنَا عَلَيْهِ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ كَوْنِهِ فِيهِ كُفَّارٌ كَثِيرُونَ أَوْ لَا (فَإِنْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا) اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ عَنْهُ نَفْيَ إسْلَامِهِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ) شَيْئَيْنِ (النَّسَبَ وَهُوَ نَفْعٌ لِلصَّغِيرِ وَنَفْيَ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ ضَرَرٌ بِهِ) وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْكَافِرِ الْكُفْرُ لِجَوَازِ مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ كَافِرٍ بِأَنْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ (فَصَحَّحْنَا دَعْوَتَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ) مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ (دُونَ مَا يَضُرُّهُ) إلَّا إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَسَبِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَافِرًا.
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَلْتَقِطُ اللَّقِيطَ فَيَدَّعِيهِ نَصْرَانِيٌّ وَعَلَيْهِ زِيُّ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي رَقَبَتِهِ صَلِيبٌ أَوْ عَلَيْهِ قَمِيصُ دِيبَاجٍ أَوْ وَسَطُ رَأْسِهِ مَجْزُوزٌ انْتَهَى.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَمِيصُ الدِّيبَاجِ عَلَامَةً فِي هَذِهِ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُونَهُ وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ ابْنُ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَجِبُ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ يَدِهِ إذَا قَارَبَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَدْيَانَ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَضَانَةِ إذَا كَانَتْ أُمَّهُ الْمُطَلَّقَةُ كَافِرَةً.

متن الهداية:
(وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا) وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ لِسَبْقِهِ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ حَتَّى إذَا سُبِيَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (كَانَ ذِمِّيًّا) هَكَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ) أَيْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ (أَوْ كَانَ) الْوَاجِدُ (ذِمِّيًّا) لَكِنْ وَجَدَهُ (فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ الْعِبْرَةُ بِالْمَكَانِ) فِي الْفَصْلَيْنِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي نَحْوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي غَيْرِهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْقُدُورِيُّ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ سَابِقٌ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ (وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى) اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ) فِي الْفَصْلَيْنِ (وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ) فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى مِنْ الْمَكَانِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَسْبِيَّ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ كَافِرًا حَتَّى لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ (وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ) أَيْ نُسَخِ كِتَابِ الدَّعْوَى مِنْ الْمَبْسُوطِ (اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ) أَيْ مَا يَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ مُسْلِمًا (نَظَرًا لِلصَّغِيرِ) وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَهُ كَافِرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مُسْلِمٌ فِي كَنِيسَةٍ كَانَ مُسْلِمًا فَصَارَتْ الصُّوَرُ أَرْبَعًا: اتِّفَاقِيَّتَانِ، وَهُوَ مَا إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ فِي نَحْوِ كَنِيسَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ.
واختلافيتان وَهُمَا مُسْلِمٌ فِي نَحْوِ كَنِيسَةٍ أَوْ كَافِرٌ فِي نَحْوِ قَرْيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ قِيلَ: يُعْتَبَرُ بِالسِّيمَا وَالزِّيِّ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ الْكُفَّارُ: يَعْنِي مَوْتَانَا بِمَوْتَاهُمْ الْفَصْلُ بِالزِّيِّ وَالْعَلَامَةِ، وَلَوْ فُتِحَتْ الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَوُجِدَ فِيهَا شَيْخٌ يُعَلِّمُ صِبْيَانًا حَوْلَهُ الْقُرْآنَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِقولهِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ (فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ (وَكَانَ حُرًّا)؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ) تَرْجِيحًا لِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ فِي حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ لِمَا قَدَّمْنَا (إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً) لَا يُقَالُ: هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ عَلَى خَصْمٍ فَلَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ خَصْمٌ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَلَا تَزُولُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ هُنَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا هُنَا كَيْ لَا يُنْقَضَ بِمَا إذَا ادَّعَى خَارِجٌ نَسَبَهُ فَإِنَّ يَدَهُ تَزُولُ بِلَا بَيِّنَةٍ عَلَى الْأَوْجَهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ يَدَهُ اُعْتُبِرَتْ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ، وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ مَنْفَعَةٌ تَفُوقُ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اعْتِبَارَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ فَتُزَالُ لِحُصُولِ مَا يَفُوقُ الْمَقْصُودَ مِنْ اعْتِبَارِهَا، وَهُنَا لَيْسَ دَعْوَى الْعَبْدِيَّةِ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِمَّا يَضُرُّهُ لِتَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ فَلَا تُزَالُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ قولهُ: (فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ، وَكَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ) فَيَكُونُ الْأَبُ عَبْدًا وَالْوَلَدُ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَيُقْبَلُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ رِقُّهُ (فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ) إذَا لَمْ تُضَفْ وِلَادَتُهُ إلَى امْرَأَةٍ أَمَةٍ، فَإِنْ أَضَافَ إلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَبْدٌ، فَمُحَمَّدٌ يَقول: فِي دَعْوَى الْعَبْدِ نَفْعٌ هُوَ النَّسَبُ وَضَرَرٌ هُوَ الرِّقُّ، وَأَحَدُهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فَيُعْتَبَرُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقول لَمَّا صَدَّقَهُ الشَّرْعُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ يُصَدِّقُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا فَيُحْكَمُ بِرِقِّهِ تَبَعًا، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ كُفْرِهِ لِجَوَازِ إسْلَامِ زَوْجَتِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ إنَّهُ مِنْ زَوْجَتِي الذِّمِّيَّةِ لَا يُصَدَّقُ قولهُ: (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ) يَعْنِي إذَا ادَّعَيَاهُ وَهُمَا خَارِجَانِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ ذِمِّيًّا ادَّعَاهُ مَعَ مُسْلِمٍ خَارِجٍ رُجِّحَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَالْمُسْلِمُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَهُوَ ابْنُ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي دَعْوَى رِقِّهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةَ رِقِّهِ فَيَكُونُ رَقِيقًا، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا ادَّعَاهُ ابْنًا لَهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ كَافِرًا.
وَلَوْ وُجِدَ طِفْلٌ فِي يَدِ عَبْدٍ مَحْجُورٍ ذَكَرَ أَنَّهُ الْتَقَطَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الِالْتِقَاطِ وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهُ.
وَقَالَ هُوَ عَبْدِي فَالْقول قول الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَا فِي يَدِهِ كَمَا فِي يَدِ الْمَوْلَى، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ فَالْقول قول الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ لِلْمَأْذُونِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى صَحَّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ لِغَيْرِ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الَّذِي فِي يَدِهِ حُرًّا إلَّا أَنْ يُقِيمَ سَيِّدُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ.
وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ.
وَقِيلَ يَصْرِفُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ظَاهِرًا (وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ أَوْ دَابَّةٌ هُوَ مَشْدُودٌ عَلَيْهَا فَالْكُلُّ لَهُ) بِلَا خِلَافٍ (اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ) أَيْ فِي دَفْعِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَنْهُ ثُمَّ يَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ بِقِيَامِ يَدِهِ مَعَ حُرِّيَّتِهِ الْمَحْكُومِ بِهَا.
وَقولهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يُرِيدُ قولهُ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ (ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ) أَيْ لَا حَافِظَ لَهُ، وَمَالِكُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْحِفْظِ.
(وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ) وَكَذَا لِغَيْرِ الْوَاجِدِ بِأَمْرِهِ وَالْقول قولهُ: فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ (وَقِيلَ لَهُ صَرْفُهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي) أَيْضًا (؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ) كَمَا حَكَمَنَا بِهِ (وَلِلْوَاجِدِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ) وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَطْفٌ عَلَى وِلَايَةٍ مِنْ قولهِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ: أَيْ لِلْوَاجِدِ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ، وَلَهُ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلَّقِيطِ مِنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ) لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ تَزْوِيجُ اللَّقِيطِ) وَاللَّقِيطَةِ (لِانْعِدَامِ سَبَبِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ) وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ: (وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْمُلْتَقِطِ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا) تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ (بِبَيْعٍ) وَلَا شِرَاءِ شَيْءٍ لِيَسْتَحِقَّ الثَّمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي إلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْحِفْظُ وَالصِّيَانَةُ، وَمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ (اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ) فَإِنَّهَا لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ كَالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ فَعَدَمُ مِلْكِهِ لِذَلِكَ أَوْلَى (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ تَصَرُّفِ كُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ (لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ إنَّمَا هُوَ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ) إنَّمَا (يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا)؛ لِأَنَّ فِي الْأُمِّ شَفَقَةً كَامِلَةً مَعَ قُصُورٍ فِي الرَّأْيِ، وَفِي الْمُلْتَقِطِ رَأْيٌ كَامِلٌ مَعَ قُصُورِ شَفَقَةٍ لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا مَا قَدَّمَهُ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلصَّغِيرَةِ إذَا بَلَغَتْ وَقَدْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ)؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ) أَيْ الْمُلْتَقِطُ (لِلَّقِيطِ الْهِبَةَ) وَالصَّدَقَةَ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ نَفْعٌ مُحَقَّقٌ وَلِذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا).

متن الهداية:
قَالَ: (وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ وَحِفْظِ حَالِهِ.
قَالَ: (وَيُؤَاجِرُهُ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَثْقِيفِهِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ.
بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (الْقُدُورِيُّ: وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْقِيفِ وَحِفْظِ حَالِهِ) عَنْ الشَّتَاتِ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْفَسَادِ.
ثُمَّ (قَالَ) الْقُدُورِيُّ (وَيُؤَاجِرُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّثْقِيفِ يَعْنِي التَّقْوِيمَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا (فَأَشْبَهَ الْعَمَّ، بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ) بِالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِعَارَةِ بِلَا عِوَضٍ، فَبِالْعِوَضِ بِالْإِجَارَةِ أَوْلَى.
فُرُوعٌ:
ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا لَهُ بَعْدَمَا عَرَفَ الِالْتِقَاطَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَالْخَارِجِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
وَأَثَرُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ.
وَلَوْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَتَنَازَعَا فِي كَوْنِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِحِفْظِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ.
وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَدَّعِيهِ.
إنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا لَا يُقْضَى بِهِ إلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ كَالْحَدِّ الْكَامِلِ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَصَارَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ وَلَا يَصِيرُ بِهِ عَبْدًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ شَرْعًا فِي ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ اللَّقِيطَةُ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَمَا كَبُرَتْ إنْ كَانَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ صَحَّ وَكَانَتْ أَمَةً لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَلَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءً فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِرِقِّهَا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ.
وَلَوْ بَلَغَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَلِامْرَأَتِهِ عَلَيْهِ صَدَاقٌ وَصَدَاقُهَا لَازِمٌ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ هَذَا، وَكَذَا إذَا اسْتَدَانَ دَيْنًا أَوْ بَايَعَ إنْسَانًا أَوْ كَفَلَ كَفَالَةً أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ وَسَلَّمَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَلَوْ أَنَّهُ وَالَى رَجُلًا بَعْدَمَا أَدْرَكَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ وَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِأَنْ جَنَى جِنَايَةً وَعَقَلَهُ بَيْتُ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ وَصَارَ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَجْنِيَ فَيَعْقِلَهُ بَيْتُ الْمَالِ.