فصل: كِتَابُ الرَّضَاعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْقَسْمِ:

(وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ وَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ. وَكَانَ يَقول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ: يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ» وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا.
وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْقَسْمِ):
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَأَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْكُفَّارِ وَحُكْمِهِ اللَّازِمِ لَهُ مِنْ الْمَهْرِ شَرَعَ فِي حُكْمِهِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ وَهُوَ الْقَسْمُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَدُّدِ الْمَنْكُوحَاتِ وَنَفْسُ النِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَلَا هُوَ غَالِبٌ فِيهِ.
وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمَ، وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَنْكُوحَاتِ وَيُسَمَّى الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ أَيْضًا، وَحَقِيقَتُهُ مُطْلَقًا مُمْتَنِعَةٌ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ قَال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} بَعْدَ إحْلَالِ الْأَرْبَعِ بِقولهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ حِلَّ الْأَرْبَعِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ وَثُبُوتَ الْمَنْعِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عِنْدَ خَوْفِهِ، فَعُلِمَ إيجَابُهُ عِنْدَ تَعَدُّدِهِنَّ.
وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» فَلَا يَخُصُّ حَالَةَ تَعَدُّدِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُنَّ رَعِيَّةُ الرَّجُلِ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَإِنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبْهَمٍ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مُطْلَقًا لَا يُسْتَطَاعُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، وَكَذَا السُّنَّةُ جَاءَتْ مُجْمَلَةً فِيهِ.
رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ: يَعْنِي الْقَلْبَ» أَيْ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِيهِ، وَمِنْهُ عَدَدُ الْوَطَآتِ وَالْقُبُلَاتِ وَالتَّسْوِيَةُ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ إجْمَاعًا، وَكَذَا مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» أَيْ مَفْلُوجٌ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى» فَلَمْ يُبِنْ فِي مَاذَا، وَأَمَّا مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ زِيَادَةِ قولهِ فِي الْقَسْمِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَدْلَ الْوَاجِبَ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَالتَّأْنِيسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَضْبِطَ زَمَانَ النَّهَارِ فَيُقَدِّرُ مَا عَاشَرَ فِيهِ إحْدَاهُمَا فَيُعَاشِرُ الْأُخْرَى بِقَدْرِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَفِي الْجُمْلَةِ.
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا) التَّقْيِيدُ بِحُرَّتَيْنِ لِإِخْرَاجِ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَمَةً وَالْأُخْرَى حُرَّةً لَا لِإِخْرَاجِ الْأَمَتَيْنِ.
ثُمَّ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّهُ يُعْطِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَكُونَا حُرَّتَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَكِنَّ مَعْنَى الْعَدْلِ هُنَا التَّسْوِيَةُ لَا ضِدَّ الْجَوْرِ، فَإِذَا كَانَتَا حُرَّتَيْنِ أَوْ أَمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا حُرَّةً وَأَمَةً فَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا: أَيْ لَا يُسَوِّي بَلْ يَعْدِلُ بِمَعْنَى لَا يَجُورُ، وَهُوَ أَنْ يَقْسِمَ لِلْحُرَّةِ ضِعْفَ الْأَمَةِ فَالْإِيهَامُ نَشَأَ مِنْ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ.
قولهُ: (وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ مَعْنَى قولهِ لَا فَصْلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِمَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي مِنْ قولهِ وَلَا فَصْلَ إلَخْ: يَعْنِي أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ، وَكَذَلِكَ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ فَنَحْتَجُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقِيمُ عِنْدَ الْبِكْرِ الْجَدِيدَةِ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهَا سَبْعًا يَخُصُّهَا بِهَا ثُمَّ يَدُورُ وَعِنْدَ الثَّيِّبِ الْجَدِيدَةِ ثَلَاثًا إلَّا إنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُبْطِلُ حَقَّهَا وَيَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الْمُدَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثًا» وَعَنْهُ قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «لَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي» وَهَذَا دَلِيلُ اسْتِثْنَاءِ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّهَا وَيَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِالْمُدَّةِ إنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى الثَّلَاثِ وَلِأَنَّهَا لَمْ تَأْلَفْ صُحْبَتَهُ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ نَفْرَةٌ فَكَانَ فِي الزِّيَادَةِ إزَالَتُهَا.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا تَلَوْنَا وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ قولهُ (وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ) فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ فَمُعَارَضٌ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقَدِيمَةِ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَحْشَةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْجَدِيدَةِ مُتَوَهَّمَةٌ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ النَّفْرَةِ تُمْكِنُ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا السَّبْعَ ثُمَّ يُسَبِّعَ لِلْبَاقِيَاتِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ تَخْصِيصُهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْوِيَّ إنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فِي التَّخْصِيصِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّخْصِيصِ بِالزِّيَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُمَا الْعَدْلُ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّخْصِيصُ شَرْعًا كَانَ هُوَ الْعَدْلُ فَإِنَّا نَرَاهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي التَّسْوِيَةِ بَلْ يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِهَا لِعَارِضٍ وَهُوَ رِقُّ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى كَانَ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ لِإِحْدَاهُمَا يَوْمًا وَلِلْأُخْرَى يَوْمَيْنِ، فَلْيَكُنْ أَيْضًا بِتَخْصِيصِ الْجَدِيدَةِ الدَّهِشَةِ بِالْإِقَامَةِ سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِتَأْلَفَ بِالْإِقَامَةِ وَتَطْمَئِنَّ.
هَذَا وَكَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّتَيْنِ وَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي لَا يُخَافُ مِنْهَا وَالْمَرِيضَةِ وَالصَّحِيحَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَالْمُحَرَّمَةِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَمُقَابِلَاتِهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَسْتَوِي وُجُوبُهُ عَلَى الْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ وَمُقَابِلَيْهِمْ.
قَالَ مَالِكٌ: وَيَدُورُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ».
قولهُ: (وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ) إنْ شَاءَ يَوْمًا يَوْمًا وَإِنْ شَاءَ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ عَلَى صِرَافَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَدُورَ سَنَةً سَنَةً مَا يُظَنُّ إطْلَاقُ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلَقَ لَهُ مِقْدَارُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ لِلتَّأْنِيسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ وَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ الْقَرِيبَةُ، وَأَظُنُّ أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ مُضَارَّةً إلَّا أَنْ تَرْضَيَا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ) وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ وَالِانْتِشَارِ فَهُوَ عُذْرٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ لَكِنَّ دَاعِيَتَهُ إلَى الضَّرَّةِ أَقْوَى فَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَإِنْ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْهُ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ جِمَاعِهَا مُطْلَقًا لَا يَحِلُّ لَهُ، صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ جِمَاعَهَا أَحْيَانًا وَاجِبٌ دِيَانَةً لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْإِلْزَامِ إلَّا الْوَطْأَةُ الْأُولَى وَلَمْ يُقَدِّرُوا فِيهِ مُدَّةً، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إلَّا بِرِضَاهَا وَطِيبِ نَفْسِهَا بِهِ.
هَذَا وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ مِنْ الْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ، وَكَذَا بَيْنَ الْجَوَارِي وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِيُحْصِنَهُنَّ عَنْ الِاشْتِهَاءِ لِلزِّنَا وَالْمَيْلِ إلَى الْفَاحِشَةِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَأَفَادَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ لَيْسَ وَاجِبًا.
هَذَا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالْعِبَادَةِ أَوْ السَّرَارِي اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَبَاقِيهَا لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا فِي الثَّلَاثِ بِتَزَوُّجِ ثَلَاثِ حَرَائِرَ، فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ مِقْدَارٌ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ مَعْنًى نِسْبِيٌّ وَإِيجَابُهُ طَلَبُ إيجَادِهِ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمُنْتَسِبِينَ فَلَا يُطْلَبُ قَبْلَ تَصَوُّرِهِ بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيَصْحَبَهَا أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْمُكْثِ أَيْضًا بَعْدَ الْبَيْتُوتَةِ، فَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ فِي مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنَّا مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الَّتِي هُوَ فِي يَوْمِهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا» وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّوْبَةَ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْأُخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم: «أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْتَمِعْنَ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا» وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَا صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إذْ قَدْ تَتَضَيَّقُ لِذَلِكَ وَتَنْحَصِرُ لَهُ.
وَلَوْ تَرَكَ الْقَسْمَ بِأَنْ أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ شَهْرًا مَثَلًا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَدْلَ لَا بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ جَارَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً، كَذَا قَالُوا.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ إذَا طُلِبَتْ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ) بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ.
وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ) قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِالْقَضَاءِ عَنْ عَلِيٍّ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدَ، وَتَضْعِيفُ ابْنِ حَزْمٍ إيَّاهُ بِالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَبِابْنِ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا ثَبْتَانِ حَافِظَانِ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مُدَبَّرَةَ رَجُلٍ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَهِيَ كَالْأَمَةِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِنَّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» إلَّا أَنَّا نَقول: إنَّ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ مُسَافَرَةِ الزَّوْجِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِمَا رَوَى) الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ» مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا بِحَدِيثِ الْإِفْكِ.
قُلْنَا ذَلِكَ كَانَ اسْتِحْبَابًا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَكَيْفَ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} وَمِمَّنْ أَرْجَأَ سَوْدَةَ وَجُوَيْرِيَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ وَصَفِيَّةَ وَمَيْمُونَةَ، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ، وَمِمَّنْ آوَى عَائِشَةَ وَالْبَاقِيَاتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَاهُمَا فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ، وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، أَوْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إحْدَاهُمَا كَثْرَةُ سِمَنِهَا فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ بِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ.
وَأَمَّا قول الْمُصَنِّفِ: أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَظَاهِرٌ فِيهِ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ وَاحِدَةً بِالسَّفَرِ بِهَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ السَّفَرِ بِالْكُلِّ تَسْوِيَةٌ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ إحْدَاهُنَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ التَّسْوِيَةُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً يَبِيتُ عِنْدَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ لَا عَلَى مَعْنَى وُجُوبِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَائِمًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْكُلِّ بَعْضَ اللَّيَالِي وَانْفَرَدَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ)؛ لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِرِشْوَةٍ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ زَادَهَا فِي مَهْرِهَا لِتَفْعَلَ أَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى فَيُقِيمَ عِنْدَهَا يَوْمَيْنِ وَعِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ يَوْمًا فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا دَفَعَتْ إلَيْهِ أَوْ حَطَّتْ عَنْهُ مَالًا لِيَزِيدَهَا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي مَالِهَا قولهُ: (لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ) بِفَتْحَتَيْنِ («سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا» إلَخْ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ «اعْتَدِّي» فَسَأَلَتْهُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ لَأَنْ تُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ وَاَلَّذِي وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، بَلْ إنَّهَا جَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاَلَّذِي فِي الْمُسْتَدْرِكِ يُفِيدُ عَدَمَهُ، وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ قَالت: «قَالَتْ سَوْدَةُ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا» قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَفِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ} الْآيَةَ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَيُوَافِقُ مَا فِي الْكِتَابِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ سَوْدَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ أَمْسَكَتْ بِثَوْبِهِ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَالِي إلَى الرِّجَالِ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْشَرَ فِي أَزْوَاجِكَ، قَالَ: فَرَاجَعَهَا وَجَعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ» اهـ. وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ بَلْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَمَعْنَى قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَافَتْ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْحَالُ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ فَيُفَارِقُهَا، وَلَا يُنَافِيهِ بَلَاغُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ فِي الْكِنَايَاتِ اعْتَدِّي، وَالْوَاقِعُ بِهَذِهِ الرَّجْعِيُّ لَا الْبَائِنُ.
وَفَرَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِ، وَإِذَا جَعَلَتْهُ لِضَرَّتِهَا الْمُعَيَّنَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ حَقُّهَا فَإِذَا صَرَفَتْهُ لِوَاحِدَةٍ تَعَيَّنَ.
وَفَرَّعُوا إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْوَاهِبَةِ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ قَسَمَ لَهَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا فَهَلْ لَهُ نَقْلُهَا فَيُوَالِي لَهَا لَيْلَتَيْنِ عَلَى قوليْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الَّتِي تَلِيهَا فِي النَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ.
قولهُ: (وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ) قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَإِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُعَاوَضَةِ: يَعْنِي عَنْ الطَّلَاقِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى صُلْحًا: يَعْنِي قوله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} فَيَلْزَمُ كَمَا يَلْزَمُ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ، وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْ طَلَبِ حَقِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الضَّرَرِ إلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ صُلْحًا بَلْ مِنْ أَقْرَبِ أَسْبَابِ الْمُعَادَاةِ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ.اهـ.
وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْمُطَالَبَةِ بِمَا مَضَى فِيهِ وَبِهِ نَقول، إذْ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ أَمَّا فِيمَا بَعْدَهُ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فَكَيْفَ يَسْقُطُ؟ فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ ثُبُوتُ الضَّرَرِ وَالْمُعَادَاةِ، قُلْنَا: لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْخَلَاصِ وَقَدْ كَانَ يُرِيدُ طَلَاقَهَا لَوْلَا مَا صَالَحَتْهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَتْلَفَتْ مَا دَفَعَتْ بِهِ الْمَكْرُوهَ عَنْهَا فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ يُرِيدُ فِعْلَهُ وَيَحْصُلُ الْخَلَاصُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ نَخْتِمُ بِهَا كِتَابَ النِّكَاحِ:
لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الضَّرَائِرِ إلَّا بِالرِّضَا، وَيُكْرَهُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا بِحَضْرَةِ الْأُخْرَى فَلَهَا أَنْ لَا تُجِيبَهُ إذَا طَلَبَ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ، وَمِنْ الْغَزْلِ، وَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّزَيُّنِ بِمَا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ كَأَنْ يَتَأَذَّى بِرَائِحَةِ الْحِنَّاءِ الْمُخَضَّرِ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ ضَرْبُهَا بِتَرْكِ الزِّينَةِ إذَا كَانَ يُرِيدُهَا وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ وَالصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذِمِّيَّةً فَلَيْسَ لَهُ جَبْرُهَا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِنْدَنَا، وَيَضْرِبُهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِلَا إذْنٍ إلَّا إنْ احْتَاجَتْ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ فِي حَادِثَةٍ وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ لَهَا وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ، وَمَا لَمْ تَقَعْ حَاجَةٌ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ الْخُرُوجِ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهَا زَمِنًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْصِيَ الزَّوْجَ فِي الْمَنْعِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ شَابَّةٌ تَخْرُجُ إلَى الْوَلِيمَةِ وَالْمُصِيبَةِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا لَا يَمْنَعُهَا ابْنُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ خُرُوجَهَا لِلْفَسَادِ فَحِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْمَنْعِ مَنَعَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الرَّضَاعِ:

قَالَ: (قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ».
وَلَنَا قوله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الْآيَةَ وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُوءِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِمَا نُبَيِّنُ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الرَّضَاعِ:
لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدَ وَهُوَ لَا يَعِيشُ غَالِبًا فِي ابْتِدَاءِ نَشْأَتِهِ إلَّا بِالرَّضَاعِ وَكَانَ لَهُ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ بِمُدَّةٍ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ أَحْكَامِهِ.
قِيلَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّهُ أَفْرَدَهُ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَسَائِلَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَخَلْطِ اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مَا تَتَعَلَّقُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ هُنَا التَّفَاصِيلَ الْكَثِيرَةَ.
وَالرَّضَاعُ وَالرَّضَاعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِيهِمَا وَفَتْحِهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ وَالرُّضَّعُ الْخَامِسَةُ، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ مَعَ الْهَاءِ، وَفَعَلَهُ فِي الْفَصِيحِ مِنْ حَدِّ عَلِمَ يَعْلَمُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ قَالُوا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلَيْهِ قول السَّلُولِيِّ يَذُمُّ عُلَمَاءَ زَمَانِهِ: وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضِعُونَهَا ثُمَّ قِيلَ: كِتَابُ الرَّضَاعِ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا أَلَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ لِيُرَوِّجَهُ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَافِي مَعَ الْتِزَامِهِ إيرَادَ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ مَحْذُوفَةَ التَّعَالِيلِ.
وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ مُصَنَّفَاتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَصُّ اللَّبَنِ مِنْ الثَّدْيِ، وَمِنْهُ قولهُمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ: أَيْ يَرْضِعُ غَنَمَهُ وَلَا يَحْلُبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ صَوْتُ حَلْبِهِ فَيُطْلَبُ مِنْهُ اللَّبَنُ.
وَفِي الشَّرْعِ: مَصَّ الرَّضِيعِ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَيْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَقْدِيرِهَا.
قولهُ: (قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا تَحَقَّقَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ أَمَّا لَوْ شَكَّ فِيهِ بِأَنْ أَدْخَلَتْ الْحَلَمَةَ فِي فَمِ الصَّغِيرِ وَشَكَّتْ فِي الِارْتِضَاعِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ صَبِيَّةً أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا يَدْرِي مَنْ هِيَ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ مِنْ خُصُوصِيَّةِ امْرَأَةٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ كُلَّ صَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِذَا أَرْضَعْنَ فَلْيَحْفَظْنَ ذَلِكَ وَيُشْهِرْنَهُ وَيَكْتُبْنَهُ احْتِيَاطًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مُشْبِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَةٍ عُرْفًا.
وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ كَقولنَا وَكَقولهِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» الْحَدِيثَ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثَيْنِ صَدَّرَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» وَآخِرُهُ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالت: «دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى، فَزَعَمَتْ امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ» فَقول شَارِحٍ فِي قوله: «وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ» إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَالْإِمْلَاجَةُ: الْإِرْضَاعَةُ، وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، وَالْإِمْلَاجُ: الْإِرْضَاعُ، وَأَمْلَجَتْهُ أَرْضَعَتْهُ، وَمَلَجَ هُوَ أُمَّهُ: رَضَعَهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ مَذْهَبَهُ بِطَرِيقٍ هُوَ أَنَّ الْمَصَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَصَّتَيْنِ فَحَاصِلُهُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ، فَنُفِيَ التَّحْرِيمُ عَنْ أَرْبَعٍ فَلَزِمَ أَنْ يَثْبُتَ بِخَمْسٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَيْسَ التَّحْرِيمُ بِخَمْسِ مَصَّاتٍ بَلْ بِخَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ فِي أَوْقَاتٍ، وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ الْمَصَّةَ غَيْرُ الْإِمْلَاجَةِ، فَإِنَّ الْمَصَّةَ فِعْلُ الرَّضِيعِ، وَالْإِمْلَاجَةُ الْإِرْضَاعَةُ فِعْلُ الْمُرْضِعَةِ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى كَوْنَ الْفِعْلَيْنِ مُحَرَّمَيْنِ مِنْهُ وَمِنْهَا، وَعَلَى هَذَا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى حَدِيثًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِمْلَاجَ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْمُحَرَّمِ بَلْ لَازِمَهُ مِنْ الِارْتِضَاعِ، فَنَفْيُ تَحْرِيمِ الْإِمْلَاجِ نَفْيُ تَحْرِيمِ لَازِمِهِ، فَلَيْسَ الْحَاصِلُ مِنْ «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَتَانِ» إلَّا لَا تُحَرِّمُ لَازِمَهُمَا: أَعْنِي الْمَصَّتَيْنِ فَلَوْ جُمِعَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ كَانَ الْحَاصِلُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّتَانِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ يُرَادَ إلَّا الْمَصَّتَانِ لَا الْأَرْبَعُ.
فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ ذَكَرْت آنِفًا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْت: يَجِبُ كَوْنُ الرَّاوِي وَهُوَ الزُّبَيْرُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْهُ فِي وَقْتَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» وَقَالَ أَيْضًا «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» وَقُبِلَ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ نَافٍ لِمَذْهَبِنَا فَيَثْبُتُ بِهِ مَذْهَبُهُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ بِالْفَصْلِ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، قَالُوا: الْمُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قولهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِقُوَّةِ وَجْهِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَجْهِ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ مَذْهَبَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ».
قَالُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ النَّسْخِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى إرَادَةِ نَسْخِ الْكُلِّ وَإِلَّا لَزِمَ ضَيَاعُ بَعْضِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ وَعَدَمُهُ كَمَا عَنْ الرَّوَافِضِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يُتْلَى خَمْسُ رَضَعَاتٍ إلَخْ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِنَسْخِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التِّلَاوَةِ الْآنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ وَعَدَمُهُ فَيَثْبُتُ قول الرَّوَافِضِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِذَا بَطَلَ التَّمَسُّكُ بِهِ وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ صَحِيحًا لِانْقِطَاعِهِ بَاطِنًا وَثَبَتَ نَفْيُ تَحْرِيمِ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَانِ وَالرَّضَاعُ مُحَرِّمٌ وَجَبَ التَّحْرِيمُ بِالثَّلَاثِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ فَدَخَلَتْ دَوَاجِنُ فَأَكَلَتْهَا لَا يَنْفِي ذَلِكَ النَّسْخَ: يَعْنِي كَانَ مَكْتُوبًا وَلَمْ يُغْسَلْ بَعْدُ لِلْقُرْبِ حَتَّى دَخَلَتْ الدَّوَاجِنُ.
وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَلَا النَّقْصُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَمَا قِيلَ لِيَكُنْ نَسْخُ الْكُلِّ وَيَكُونُ النَّسْخُ التِّلَاوَةَ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ عَنْهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ بَقَاءَ حُكْمِ الدَّالِّ بَعْدَ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ نَسْخَ الدَّالِّ يَرْفَعُ حُكْمَهُ، وَأَمَّا مَا نَظَرَ بِهِ مِنْ: الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا. فَلَوْلَا مَا عُلِمَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ وَإِذَا احْتَاجَ إلَى ثُبُوتِ كَوْنِ الْمُحَرِّمِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ مُثْبِتًا لَهُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُسْتَأْنَفٌ، وَمَا ذَكَرَ لَهُ أَوَّلًا قَدْ سَمِعْت مَا فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَمَسُّكُهُمْ فِي الثَّلَاثِ أَظْهَرُ مِنْ مُتَمَسِّكِهِ فِي الْخَمْسِ وَنَحْنُ إلَى جَوَابِهِ أَحْوَجُ فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ؟ نَعَمْ أَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ لَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالت: «جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِي بِهَا عَلَيْهِ» إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، وَكَذَا السُّنَنُ الْمَشْهُورَةُ، بَلْ نُقِلَ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالِفًا لَهَا عَلَى مَا فِيهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُطْلَقًا مَنْسُوخٌ صَرِيحٌ بِنَسْخِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَقولونَ إنَّ الرَّضْعَةَ لَا تُحَرِّمُ، فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: آلَ أَمْرُ الرَّضَاعِ إلَى أَنَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْقَلِيلَ يُحَرِّمُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقول: لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ.
فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلرِّوَايَةِ لِنَسْخِهَا أَوْ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا أَوْ لِعَدَمِ إجَازَتِهِ تَقْيِيدَ إطْلَاقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِفِعْلِ الرَّضَاعَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُشْبِعَ سَالِمًا خَمْسَ شَبْعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَاتٍ جَائِعًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُشْبِعُهُ مِنْ اللَّبَنِ رِطْلٌ وَلَا رِطْلَانِ فَأَيْنَ تَجِدُ الْآدَمِيَّةُ فِي ثَدْيِهَا قَدْرَ مَا يُشْبِعُهُ؟ هَذَا مُحَالٌ عَادَةً، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْدُودَ خَمْسًا فِيهِ الْمَصَّاتُ، ثُمَّ كَيْفَ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ عَوْرَتَهَا بِشَفَتَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ تَحْلُبَ لَهُ شَيْئًا مِقْدَارُهُ خَمْسُ مَصَّاتٍ فَيَشْرَبُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ.
هَذَا وَهُوَ مَنْسُوخٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَلَنَا قوله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}) تَقَدَّمَ فِي اسْتِدْلَالِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فَحَدِيثٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَشْهُورٌ.
قولهُ: (وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِاخْتِلَاطِ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ النُّشُوءِ الْكَائِنِ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ.
أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَفِيٌّ وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا لِخَفَائِهَا بَلْ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ وَهُوَ فِعْلُ الِارْتِضَاعِ، فَلَوْ قَالَ: الظَّاهِرُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَظِنَّةً لِلْحِكْمَةِ وَمُطْلَقُهُ لَيْسَ مَظِنَّةَ النُّشُوءِ فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِ.
قُلْنَا: وَلَا يَتَوَقَّفُ النُّشُوءُ عَلَى خَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ بَلْ وَاحِدَةٌ تُفِيدُهُ، فَالتَّعَلُّقُ بِخَمْسٍ زِيَادَةٌ تَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ الْحُرْمَةِ عَنْ وَقْتِ تَعَلُّقِهَا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّضَاعَ وَإِنْ قَلَّ يَحْصُلُ بِهِ نُشُوءٌ بِقَدْرِهِ فَكَانَ الرَّضَاعُ مُطْلَقًا مَظِنَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّغِيرِ.
وَقولنَا قول جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَسْنَدَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا بِهِ النَّسَائِيّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ، هَذَا وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِلْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ إنَّمَا هِيَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، أَمَّا فِي الرَّضَاعِ فَحَقِيقَةُ الْجُزْئِيَّةِ بِاللَّبَنِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّحْرِيمُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ اللَّبَنِ فِي الْجَوْفِ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ كَانَ الْمُحَرَّمُ شُبْهَتَهَا: أَيْ مَا يَئُولُ إلَى الْجُزْئِيَّةِ.

متن الهداية:
(ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا سَنَتَانِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ زُفَرٌ: ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ فَيُقَدَّرُ بِهِ.
وَلَهُمَا قوله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» وَلَهُ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقِصُ فِي أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ فِي الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ فَقُدِّرَتْ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهَا مُغَيَّرَةٌ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ كَمَا يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ.
الشَّرْحُ:
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ قولهُ (ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ) الَّتِي إذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: سَنَتَانِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ زُفَرُ: ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سَنَتَانِ وَشَهْرٌ، وَفِي أُخْرَى شَهْرَانِ، وَفِي أُخْرَى مَا دَامَ مُحْتَاجًا إلَى اللَّبَنِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَدَّ لَهُ لِلْإِطْلَاقَاتِ فَيُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَلَوْ فِي حَالِ الْكِبَرِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ إلَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ آخَرُونَ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَيْنِ الْقوليْنِ قولهُ: (لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ إلَخْ) هَذَا وَجْهُ قول زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ غَيْرَ اللَّبَنِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ تَغَيُّرَ الْغِذَاءَ وَالْحَوْلُ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فَقُدِّرَ بِالثَّلَاثَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقولهِ لِمَا نُبَيِّنُ: أَيْ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَهُمَا قوله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ هَكَذَا «لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَوْلَيْنِ» وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْأَحْكَامِ وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ إلَّا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ.اهـ.
وَكَذَا وَثَّقَهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعِجْلِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِلَا رَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَلَى عُمَرَ.
وَأَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ لَهُمَا قوله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَجَعَلَ التَّمَامَ بِهِمَا وَلَا مَزِيدَ عَلَى التَّمَامِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصَيْنِ بِأَنْ قَالَ أَجَّلْت الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ وَالدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ سَنَةً يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّنَةَ بِكَمَالِهَا لِكُلٍّ، أَوْ عَلَى شَخْصٍ فَيَقول لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ إلَى سَنَةٍ فَصَدَّقَهُ الْمَقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ يُتِمُّ أَجَلَهُمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الْمُنْقَصَ فِي أَحَدِهِمَا: يَعْنِي فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهُوَ قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَوْ بِقَدْرِ ظِلِّ مِغْزَلٍ».
وَمِثْلُهُ مِمَّا لَا يُقَالُ إلَّا سَمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَيْهَا وَسَنُخَرِّجُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ» فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهَا، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ لَفْظِ ثَلَاثِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي مَدْلُولِ ثَلَاثِينَ وَفِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَكَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْئَيْنِ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ، وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ جَمْعٍ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْئَيْنِ.
وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ لَا يُتَجَوَّزُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الْآخِرِ، نَصَّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْلَامِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا حَتَّى مُنِعَتْ الصَّرْفَ مَعَ سَبَبٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا سِتَّةَ عَشْرَ ضِعْفُ ثَمَانِيَةٍ بِلَا تَنْوِينٍ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي فَصْلِ الْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ نَحْوَ عَشَرَةٍ إلَّا اثْنَيْنِ لَمْ يُرِدْ بِهِ ثَمَانِيَةً بَلْ عَشَرَةً فَأَخْرَجَ ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى ثَمَانِيَةٍ، وَهُوَ قول طَائِفَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مُطْلَقًا وَمُخْتَارُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَدٍ مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ خِلَافُ قول الْجُمْهُورِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقولهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتُ بِقَرِينَةِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فَإِنَّ الْفَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ نَفَقَتَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ظِئْرٌ أَوْجَهُ مِنْهَا فِي اعْتِبَارِهِ إيجَابَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَمِنْ قوله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} الْآيَةَ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَخْتَصُّ بِكَوْنِهَا وَالِدَةً مُرْضِعَةً بَلْ مُتَعَلِّقَةً بِالزَّوْجِيَّةِ، بِخِلَافِ اعْتِبَارِهَا نَفَقَةَ الظِّئْرِ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ أُجْرَةً لَهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا بِاعْتِبَارِهَا ظِئْرًا غَيْرَ زَوْجَةٍ لَا تَكُونُ إلَّا أُجْرَةً لَهَا، وَاللَّامُ مِنْ لِمَنْ أَرَادَ مُتَعَلِّقٌ بِيُرْضِعْنَ: أَيْ يُرْضِعْنَ لِلْآبَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا إتْمَامَ الرَّضَاعَةِ وَعَلَيْهِمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أُجْرَةً لَهُنَّ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ الْوَاوُ مِنْ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ لِلْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُتِمَّ كَانَ أَظْهَرَ فِي تَقْيِيدِ الْأُجْرَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْآبَاءِ أُجْرَةً لِلْمُطَلَّقَةِ لِحَوْلَيْنِ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَعَلَيْهِ أَوْ وَعَلَيْهِمْ لَكِنْ تُرِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْآبَاءِ.
وَالْحَاصِلُ حِينَئِذٍ: يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ الْآبَاءِ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ بِالْأُجْرَةِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ مُطْلَقًا بِالْحَوْلَيْنِ، بَلْ مُدَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بِالْإِرْضَاعِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي الْجُمْلَةِ قوله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} عَطْفًا بِالْفَاءِ عَلَى يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ فَعَلَّقَ الْفِصَالَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا.
وَقَدْ يُقَالُ: كَوْنُ الدَّلِيلِ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِهَائِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ أَرْضَعَ بَعْدَهَا لَا يَقَعُ التَّحْرِيمُ.
وَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ زِيَادَتِهَا لَا يُفِيدُ سِوَى أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ الْفِطَامُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِيُعَوَّدَ فِيهَا غَيْرَ اللَّبَنِ قَلِيلًا قَلِيلًا لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ دَفْعَةً.
فَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ مُدَّةِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُحَرِّمْ إطْعَامَهُ غَيْرَ اللَّبَنِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لِيَلْزَمَ زِيَادَةُ مُدَّةِ التَّعَوُّدِ عَلَيْهِمَا، فَجَازَ أَنْ يُعَوَّدَ مَعَ اللَّبَنِ غَيْرَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ بِحَيْثُ تَكُونُ الْعَادَةُ قَدْ اسْتَقَرَّتْ مَعَ انْقِضَائِهِمَا فَيُفْطَمُ عِنْدَهُ عَنْ اللَّبَنِ بِمَرَّةٍ فَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ بِلَازِمَةٍ فِي الْعَادَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ، فَكَانَ الْأَصَحُّ قولهُمَا وَهُوَ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَقول زُفَرَ عَلَى هَذَا أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحِينَئِذٍ فَقولهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} الْمُرَادُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ التَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ يَضُرُّ بِالْوَلَدِ أَوْ لَا فَيَتَشَاوَرَانِ لِيَظْهَرَ وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهِ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ الضَّرَرِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَقَلَّ أَنْ يَقَعَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِطَامٌ بَلْ إنْ كَانَ فَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَتَمْنَعُهُ الْعُمُومَاتُ الْمَانِعَةُ مِنْ إدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ النُّشُوءِ وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ إذْ الْكَبِيرُ لَا يَتَرَبَّى بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَوَجْهُهُ انْقِطَاعُ النُّشُوءِ بِتَغَيُّرِ الْغِذَاءِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ فَقِيلَ لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِكَوْنِهِ جُزْءُ الْآدَمِيِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ) فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، حَتَّى لَوْ ارْتَضَعَ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ أَبَدًا لِلْإِطْلَاقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسًا، وَلِحَدِيثِ سَهْلَةَ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ تُفِيدُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ.
فَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي اسْتِدْلَالِهِمَا مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَوْلَيْنِ» وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ هَوِيَّتُهُ بَعْدَهُ، وَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُه: «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ» يُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ أَحْيَاهُ.
وَمِنْهُ قوله تَعَالَى: {ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وَبِالزَّايِ: أَيْ رَفَعَهُ وَبِزِيَادَةِ الْحَجْمِ يَرْتَفِعُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةَ مَنْ هَذَا؟ قُلْت: أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةَ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَتُكُنَّ فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ مَنْ الْمَجَاعَةِ» يَعْنِي اعْرِفْنَ إخْوَتَكُنَّ لِخَشْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ.
فَإِنْ قُلْت: عُرِفَ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى يُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَسْخِ مَا رَوَى فَلَا يُعْتَبَرُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ قوله: «إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَمَلُهَا بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا بِنَسْخِ كَوْنِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ مُحَرَّمًا.
قُلْنَا: الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْ الْحَالِ سِوَى أَنَّهُ خَالَفَ مَرْوِيَّهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُخْطِئُ فِي ظَنِّ غَيْرِ النَّاسِخِ نَاسِخًا لَا قَطْعًا.
فَلَوْ اتَّفَقَ فِي خُصُوصِ مَحَلٍّ بِأَنَّ عَمَلَهُ بِخِلَافِ مَرْوِيِّهِ كَانَ لِخُصُوصِ دَلِيلٍ عَلِمْنَاهُ وَظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ غَلَطُهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِنَسْخِ مَرْوِيِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ إلَّا لِإِحْسَانِ الظَّنِّ بِنَظَرِهِ، فَأَمَّا إذَا تَحَقَّقْنَا فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ خِلَافِ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ مَرْوِيِّهِ بِالضَّرُورَةِ دُونَ رَأْيِهِ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: إنِّي مَصَصْت عَنْ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا فَذَهَبَ فِي بَطْنِي، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا أَرَاهَا إلَّا قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْك، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اُنْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَا تَقول أَنْتَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «لَا رَضَاعَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ» فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ.
هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُوَطَّإِ فَرُجُوعُهُ إلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّصُوصِ الْمُطْلِقَةِ وَعَمَّا أَفْتَاهُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِذِكْرِهِ لِلنَّاسِخِ لَهُ أَوْ لِتَذَكُّرِهِ عِنْدَهُ، وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ: لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً، وَلَعَلَّ سَبَبَهُ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا يُخَالِفُ أُصُولَ الشَّرْعِ حَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَسَّ عَوْرَتِهَا بِشَفَتَيْهِ فَحَكَمْنَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ.
وَقِيلَ سَبَبُهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَجَعَتْ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ فَكُنْت أُصِيبُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: دُونَكَ قَدْ وَاَللَّهِ أَرْضَعْتُهَا، قَالَ عُمَرُ: أَوْجِعْهَا وَائْتِ جَارِيَتَك فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ.
قولهُ: (وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ) حَتَّى لَوْ فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِيهَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَصَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِغَيْرِ اللَّبَنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إذَا رَضَعَ فِيهَا، رَوَاهَا الْحَسَنُ عَنْهُ.
وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، أَنَّهَا تَثْبُتُ مَا لَمْ تَمْضِ إقَامَةٌ لِلْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ، فَإِنَّ مَا قَبْلَ الْمُدَّةِ مَظِنَّةُ عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ (وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ قِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِلضَّرُورَةِ) وَقَدْ انْدَفَعَتْ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي، وَأَهْلُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ لِلَبَنِ الْبِنْتِ أَيْ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِ بِنْتٍ مُرْضِعَةٍ نَفْعًا لِوَجَعِ الْعَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ يَجُوزُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الرَّمَدُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَهُ الْعِلْمِ مُتَعَذِّرَةٌ فَالْمُرَادُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْنَى الْمَنْعِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا (إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ)؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ) وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ.
قولهُ: (إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ) يَصِحُّ اتِّصَالُ قولهِ مِنْ الرَّضَاعِ بِكُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَبِهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ لَهَا أُمٌّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ تَكُنْ أَرْضَعَتْهُ تَحِلُّ لَهُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَهَا أُمٌّ مِنْ النَّسَبِ تَحِلُّ لَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُرْضَعَةُ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُرْضِعَ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ امْرَأَةٌ وَلِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ الرَّضَاعِ يَحِلُّ لِلصَّبِيِّ تِلْكَ الْأُمُّ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمِّ حَالًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مَعْرِفَةٌ فَيَجِيءُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْهُ لَا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَلَيْسَ صِفَةً؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ: أَعْنِي أُمَّ أُخْتِهِ، بِخِلَافِ أُخْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٍ مِنْ مُسَوِّغَاتِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَجِيءُ فِي أُخْتِ ابْنِهِ، وَلَوْ قَالَ أُخْتُ وَلَدِهِ كَانَ أَشْمَلَ، فَالْأَوَّلُ لَهُ ابْنٌ مِنْ النَّسَبِ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِأَنْ ارْتَضَعَ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ مَنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَلَّتْ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَبِيبَتُهُ، وَالثَّانِي لَهُ ابْنٌ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ ارْتَضَعَ زَوْجَةَ الرَّجُلِ حَلَّتْ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ النَّسَبِ، وَالثَّالِثُ لَهُ ابْنٌ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا ذَكَرْنَا لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ ارْتَضَعَ ذَلِكَ الْوَلَدُ امْرَأَتَيْنِ حَلَّتْ أُخْتُهُ لِأَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
وَعَلَّلَ اسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلِ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُحَرَّمِ مِنْ النَّسَبِ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى قولهِ بِخِلَافِ الرَّضَاعِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ الْحُرْمَةَ فِي أُمِّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ بِكَوْنِهَا أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، وَكَذَا فِي تَعْلِيلِهِ إخْرَاجَ أُخْتِ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ بِقولهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ حُرْمَةَ أُخْتِ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ بِقولهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ لِوُضُوحِ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَفَادَ بِالتَّعْلِيلَيْنِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الرَّضَاعِ وُجُودُ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ فِي النَّسَبِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ الرَّضَاعِ انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ فَيُسْتَفَادُ أَنَّهُ لَا حَصْرَ فِيمَا ذَكَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ الِانْتِفَاءُ فِي صُوَرٍ أُخْرَى: الْأُولَى أُمُّ النَّافِلَةِ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ نَافِلَتُك أَجْنَبِيَّةً يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهَا لِانْتِفَاءِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِي النَّسَبِ وَهِيَ كَوْنُهَا بِنْتًا أَوْ حَلِيلَةَ الِابْنِ.
الثَّانِيَةُ جَدَّةُ وَلَدِك مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ وَلَدَك أَجْنَبِيَّةٌ لَهَا أُمٌّ يَجُوزُ تَزَوُّجُك بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّك، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أُمَّ الْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَأُمَّ الْخَالِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَا عَمَّةَ وَلَدِك؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّسَبِ أُخْتُك وَلَيْسَتْ أُخْتًا مِنْ الرَّضَاعِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِابْنِ أُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَبِأَخِي وَلَدِهَا وَبِأَبِي حَفِيدِهَا مِنْهُ وَبِجَدِّ وَلَدِهَا مِنْهُ وَخَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي النَّسَبِ لِمَا قُلْنَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي قولهِ:
يُفَارِقُ النَّسَبُ الرَّضَاعَ فِي صُوَرْ ** كَأُمِّ نَافِلَةٍ وَجَدَّةِ الْوَلَدْ

وَأُمِّ عَمٍّ وَأُخْتِ ابْنٍ وَأُمِّ أَخٍ ** وَأُمِّ خَالٍ وَعَمَّةِ ابْنٍ اُعْتُمِدْ

وَاسْتُشْكِلَ إلْحَاقُ أُمِّ الْعَمِّ وَأُمِّ الْخَالِ بِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدَّتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مَوْطُوءَةَ جَدِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ فِي النَّسَبِ، إلَّا إنْ أَرَادَ بِالْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ مَنْ رَضَعَ مَعَ أَبِيهِ، وَبِالْخَالِ مِنْهُ مَنْ رَضَعَ مَعَ أُمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الْحَصْرَ لِجَوَازِ كَوْنِهِمَا لَمْ تُرْضِعْ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ فَلَا تَكُونُ جَدَّتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَا مَوْطُوءَةَ جَدِّهِ بَلْ أَجْنَبِيَّةً أَرْضَعَتْ عَمَّهُ مِنْ النَّسَبِ وَخَالَهُ، ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا الْإِخْرَاجُ تَخْصِيصٌ لِلْحَدِيثِ: أَعْنِي «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَخْصِيصًا؛ لِأَنَّهُ أَحَالَ مَا يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ عَلَى مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، وَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ تَحْرِيمِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} فَمَا كَانَ مِنْ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَحَقِّقًا فِي الرَّضَاعِ حُرِّمَ فِيهِ، وَالْمَذْكُورَاتُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مُسَمَّى تِلْكَ فَكَيْفَ تَكُونُ مُخَصَّصَةً وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ؟ وَلِذَا إذَا خَلَا تَنَاوُلُ الِاسْمِ فِي النَّسَبِ جَازَ النِّكَاحُ، كَمَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِكُلٍّ مِنْهَا بِنْتٌ جَازَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ أُخْتَ وَلَدِهِ مِنْ النَّسَبِ.
وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت مَنَاطَ الْإِخْرَاجِ أَمْكَنَك تَسْمِيَةَ صُوَرٍ أُخْرَى، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا: أَعْنِي قوله: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ إلَخْ، وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ بِقوله: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ النَّسَبِ بَلْ بِسَبَبِ الصِّهْرِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ وَهُنَّ اللَّاتِي عَدَدْنَاهُنَّ آنِفًا كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا بَعْدَهُنَّ فِيهَا فَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ وَالصِّهْرِيَّةِ؛ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ أُمًّا مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ بِنْتَ أَخٍ إلَخْ تُحَرَّمُ، فَإِثْبَاتُ تَحْرِيمِ حَلِيلَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قول بِلَا دَلِيلٍ بَلْ الدَّلِيلُ يُفِيدُ حِلَّهَا وَهُوَ قَيْدُ الْأَصْلَابِ فِي الْآيَةِ وَكَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنِّي لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِإِخْرَاجِ حَلِيلَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِذَلِكَ فَكَانَ لِإِخْرَاجِهِمَا أَيْضًا وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَلْ يُوَفِّرُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْحَدِيثِ وَالنَّصِّ مُقْتَضَى لَفْظِهِ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ مَنْعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُ فَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ.
فَإِنْ قُلْت: فَلْيَثْبُتْ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِجَامِعِ الْجُزْئِيَّةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُزْئِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي حُرْمَةِ الرَّضَاعِ هِيَ الْجُزْئِيَّةُ الْكَائِنَةُ عَنْ النُّشُوءِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَا مُطْلَقُ الْجُزْئِيَّةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ الْجُزْئِيَّةُ الْكَائِنَةُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ إذْ لَا إنْبَاتَ لِلَّحْمِ مِنْ الْمَنِيِّ الْمُنْصَبِّ فِي الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاصِلٍ مِنْ الْأَعْلَى فَهُوَ بِالْحُقْنَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمَشْرُوبِ حَيْثُ يَخْرُجُ كُلُّهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا يَسْتَحِيلُ إلَى جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَنِيُّ وَلَدًا فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الْمَرْأَةِ شَيْءٌ اسْتَحَالَ إلَى جَوْهَرِهَا.

متن الهداية:
(وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي النَّصِّ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ) أَيْ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ، كَذَا لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: ذِكْرُ الْأَصْلَابِ فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ يُخْرِجُهُمَا.
أُجِيبَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِسْقَاطِ طَعْنِهِمْ بِسَبَبِ تَزَوُّجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَةَ الْمُتَبَنِّي فَالْقَيْدُ لِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ زَوْجَتِهِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُمَا؟ وَيُجَابُ بِعُمُومِ حَدِيثِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَقَدْ عَلِمْت مَا فِي الْجَوَابَيْنِ.
وَمِنْ فُرُوعِهِمَا فَرْعٌ لَطِيفٌ: وَهُوَ رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ مِنْ رَضِيعٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَتْ إلَى الرَّضِيعِ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا فَأَرْضَعَتْهُ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ صَارَ ابْنًا لَهُ، فَلَوْ بَقِيَ النِّكَاحُ صَارَ مُتَزَوِّجًا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
قولهُ: (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) أَيْ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ.

متن الهداية:
(وَلَبَنُ الْفَحْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ أَنْ تُرْضِعَ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً فَتَحْرُمُ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ أَبًا لِلْمُرْضَعَةِ) وَفِي أَحَدِ قوليْ الشَّافِعِيِّ: لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَاللَّبَنُ بَعْضُهَا لَا بَعْضُهُ.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَا بِالرَّضَاعِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ» وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ)؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ جَازَ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَبَنُ الْفَحْلِ) هُوَ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ (يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ) يَعْنِي اللَّبَنَ الَّذِي نَزَلَ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ وِلَادَتِهَا مِنْ رَجُلٍ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ يَكُونَ أَبًا لِلرَّضِيعِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ إنْ كَانَتْ صَبِيَّةً؛ لِأَنَّهُ أَبُوهَا وَلَا لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهَا وَلَا لِآبَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَادُهَا وَلَا لِأَعْمَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ وَلَا لِأَوْلَادِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأَبِيهَا وَلَا لِأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّةَ عَمَّتُهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مِنْ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ فَمِنْهَا أَوْلَى فَلَا تَتَزَوَّجُ أَبَاهَا؛ لِأَنَّهُ جَدُّهَا لِأُمِّهَا وَلَا أَخَاهَا؛ لِأَنَّهُ خَالُهَا وَلَا عَمَّهَا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِ أَخِيهِ وَلَا خَالَهَا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِ أُخْتِهِ وَلَا أَبْنَاءَهَا وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأُمِّهَا.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ أَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنْتًا لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ مِنْ الرَّضَاعِ لِأَبٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ لِآخَرَ قَبْلَهُ فَأَرْضَعَتْ صَبِيَّةً فَإِنَّهَا رَبِيبَةٌ لِلثَّانِي وَبِنْتٌ لِلْأَوَّلِ فَيَحِلُّ تَزَوُّجُهَا بِأَبْنَاءِ الثَّانِي، وَلَوْ كَانَ الْمُرْضِعُ صَبِيًّا حَلَّ لَهُ تَزَوُّجُهُ بِبَنَاتِهِ هَذَا مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي، فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ أَرْضَعَتْ رَضِيعًا فَهُوَ وَلَدٌ لِلثَّانِي، وَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَمَا لَمْ تَلِدْ، اللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالرَّضِيعُ بِهِ وَلَدٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَثْبُتُ مِنْهُ الْحُرْمَةُ خَاصَّةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَدٌ لَهُمَا فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ عُلِمَ أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ الثَّانِي بِأَمَارَةٍ كَزِيَادَةٍ فَهُوَ وَلَدُ الثَّانِي، وَإِلَّا فَهُوَ وَلَدُ الْأَوَّلِ.
وَعَنْهُ: إنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ غَالِبًا فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي غَالِبًا فَهُوَ لِلثَّانِي، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَلَهُمَا، وَبِقول أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ هَكَذَا: إنْ زَادَ اللَّبَنُ بِالْحَبَلِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَهُمَا وَابْنُ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَوْنُهُ ابْنَهُمَا بِزِيَادَةِ اللَّبَنِ مُطْلَقًا أَنْسَبُ بِقول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ كَمَا سَيُعْلَمُ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلَدَتْ لِلزَّوْجِ فَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ ثُمَّ جَفَّ لَبَنُهَا ثُمَّ دَرَّ لَهَا فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيَّةً، فَإِنَّ لِوَلَدِ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ مِنْ غَيْرِهَا التَّزَوُّجَ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ لَبَنَ الْفَحْلِ لِيَكُونَ هُوَ أَبَاهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَلِدْ مِنْ الزَّوْجِ أَصْلًا وَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِإِرْضَاعِهَا تَحْرِيمٌ بَيْنَ ابْنِ زَوْجِهَا وَمَنْ أَرْضَعَتْهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ مِنْهُ، فَإِذَا انْتَفَتْ انْتَفَتْ النِّسْبَةُ فَكَانَ كَلَبَنِ الْبِكْرِ، وَلَبَنِ الزِّنَا كَالْحَلَالِ فَإِذَا أَرْضَعَتْ بِهِ بِنْتًا حُرِّمَتْ عَلَى الزَّانِي وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَفِي التَّجْنِيسِ: مِنْ عَلَامَةِ أَجْنَاسِ النَّاطِفِيِّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ كَانَ يَقول فِي الدَّرْسِ: لَا يَجُوزُ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالصَّبِيَّةِ الْمُرْضَعَةِ وَلَا لِأَبِيهِ وَلَا لِأَجْدَادِهِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ، وَلِعَمِّ الزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالصَّبِيَّةِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ الزَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنْ الزَّانِي حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا حُكْمُ الْقَرَابَةِ، وَالتَّحْرِيمُ عَلَى آبَاءِ الزَّانِي وَأَوْلَادِهِ لِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَلَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَمِّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الزِّنَا فَكَذَا فِي حَقِّ الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ الزِّنَا.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَكَذَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ مِنْ الزِّنَا وَأَرْضَعَتْ لَا بِلَبَنِ الزَّانِي تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّسَبِ.
وَذَكَرَ الْوَبَرِيُّ أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ خَاصَّةً مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ حِينَئِذٍ تَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ وَصَاحِبُ الْيَنَابِيعِ، وَهُوَ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ الزِّنَا لِلْبَعْضِيَّةِ وَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ دُونَ اللَّبَنِ، إذْ لَيْسَ اللَّبَنُ كَائِنًا عَنْ مَنِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ التَّغَذِّي بِخِلَافِ الْوَلَدِ، وَالتَّغَذِّي لَا يَقَعُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ لَا مِنْ أَسْفَلِ الْبَدَنِ كَالْحُقْنَةِ فَلَا إنْبَاتَ فَلَا حُرْمَةَ، بِخِلَافِ ثَابِتِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ مِنْهُ، وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى إبْطَالِ قول ضَعِيفٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الزَّوْجِ.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ زَوْجَتُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْهُ صَغِيرَةٌ حَلَّتْ لَهُ فَكَيْفَ تَحْرُمُ بِلَبَنٍ هُوَ سَبَبٌ بَعِيدٌ فِيهِ.
وَلَنَا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ وَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَإِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَدَاكِ» وَفِي رِوَايَةٍ «تَرِبَتْ يَمِينُكِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الشَّاهِدَةِ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِحَيْثُ يَتَضَاءَلُ مَعَهَا ذَلِكَ الْمَعْقول.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَتَغَذَّى الْوَلَدُ بِهِ، وَأَمَّا لَبَنُ الرَّجُلِ فَسَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِذَا تَرَجَّحَ عَدَمُ حُرْمَةِ الرَّضِيعَةِ بِلَبَنِ الزَّانِي عَلَى الزَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا فَعَدَمُ حُرْمَتِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ اللَّبَنُ مِنْهُ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْمَسْطُورَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ إذْ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ بِنْتِ الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ غَيْرِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي دَلَالَةِ حَدِيثِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ مِنْ الرَّضَاعِ قولهُ: (وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولٍ اللَّبَنِ مِنْهَا فَتُضَافُ الْحُرْمَةُ إلَيْهِ احْتِيَاطًا) كَالْمُصَاهَرَةِ؛ وَأَنْتَ عَلِمْت الْفَرْقَ بَلْ حَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تَثْبُتُ بَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّضِيعِ فَأُثْبِتَتْ حُرْمَةُ الْأَبْنِيَةِ ثُمَّ انْتَشَرَتْ لَوَازِمُ تَحْرِيمِ الْوَلَدِ.

متن الهداية:
(وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا وَاحِدَةٌ فَهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ)؛ لِأَنَّهُ أَخُوهَا (وَلَا وَلَدُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَخِيهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ) يُرِيدُ صَبِيًّا وَصَبِيَّةً فَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ فِي التَّثْنِيَةِ كَالْقَمَرَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّغْلِيبِ كَالْخِفَّةِ فِي الْعُمَرَيْنِ فَإِنَّ عُمَرَ أَخَفُّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ ثَنَّى نَحْوَ أَبِي بَكْرٍ فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ فَيُقَالُ أَبَوَا بَكْرٍ وَالْكُوفِيُّونَ يُثَنُّونَ الْجُزْأَيْنِ فَيَقولونَ أَبَوَا بَكْرَيْنِ، وَالشُّهْرَةُ كَالْأَقْرَعَيْنِ لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَخِيهِ.
قولهُ: (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ) بِفَتْحِ الضَّادِ تُوُورِثَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فَاعِلًا فَيُنْصَبُ أَحَدٌ وَمَفْعُولًا فَيُرْفَعُ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ رَضَعَ مَعَ الرَّضْعَةِ أَوْ كَانَ سَابِقًا بِالسِّنِّ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ أَوْ مَسْبُوقًا بِارْتِضَاعِهَا بِأَنْ وُلِدَ بَعْدَهَا بِسِنِينَ، وَكَذَا لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهَا خَالَتُهُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَتَزَوَّجُ الصَّبِيُّ الْمُرْضَعُ أُخْتَ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ يَقول: إنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نَقول الْمَغْلُوبُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَظْهَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَمَا فِي الْيَمِينِ (وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قولهُمَا فِيمَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، حَتَّى لَوْ طَبَخَ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا.
لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَقْصُودِ فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي بِالطَّعَامِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) فَإِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّبَنُ قَدْرَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ حَرَّمَ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا الْخَلْطُ بِلَبَنِ الْبَهِيمَةِ وَالدَّوَاءِ عِنْدَهُ وَبِكُلِّ مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ.
وَاعْتَبَرَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ مُسْتَهْلَكًا.
قولهُ: (هُوَ) أَيْ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يَقول إنَّهُ) أَيْ اللَّبَنَ عَلَى ظَاهِرِ نَقْلِ الْمُصَنِّفِ عَنْهُ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْقَدْرُ الْمُحَرِّمُ (مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً) فَيَسْتَلْزِمُ حُكْمَهُ مِنْ التَّحْرِيمِ.
قولهُ: (وَنَحْنُ نَقول) حَاصِلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَشْرَبَ لَبَنًا فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِشُرْبِهِ مَغْلُوبًا بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُكْمُ الْغَالِبِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِيَاسِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَغْلُوبِ شَرْعًا لَا عَدَمُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ حُرْمَةُ شُرْبِ اللَّبَنِ بِلَا ضَرُورَةٍ لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْفَرْعِ حَلَّ الشُّرْبُ وَالسَّقْيُ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَحِينَئِذٍ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَقول: بَلْ هُنَاكَ فَارِقٌ وَهُوَ بِنَاءُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَغْلُوبَ، فَلَا يُقَالُ لِشَارِبِ مَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ مَغْلُوبٌ شَرِبَ لَبَنًا إلَّا أَنْ يُقَالَ مَخْلُوطًا فَيُقَيِّدُونَهُ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْحُرْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ وَالْوَضْعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ وَلَا مَدْفَعَ لِهَذَا، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا بِالْمَاءِ فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْبِتٍ لِذَهَابِ قُوَّتِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَظِنَّةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْخُلُوِّ عَنْ الْمَئِنَّةِ هَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ، أَمَّا لَوْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا عَقِيبَ هَذِهِ، وَقولهُمَا فِيهَا كَقولهِمْ فِي الِاخْتِلَاطِ بِالْمَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ وَإِنْ غَلَبَ اللَّبَنُ هَذَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، أَمَّا إنْ طَبَخَ فَلَا تَحْرِيمَ مُطْلَقًا بِالِاتِّفَاقِ (لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ فَصَارَ كَالْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ) وَهُوَ التَّغَذِّي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ خَلْطَ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ لَا يَكُونُ لِلرَّضِيعِ إلَّا بَعْدَ تَعَوُّدِهِ بِالطَّعَامِ وَتَغَذِّيهِ بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقِلُّ تَغَذِّيهِ بِاللَّبَنِ وَنُشُوئِهِ مِنْهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي جَوْفِهِ مَا يُنْبِتُ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَهُوَ الطَّعَامُ فَيَصِيرُ الْآخَرُ الرَّقِيقُ مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّبَنَ غَالِبٌ فِي الْقَصْعَةِ، أَمَّا عِنْدَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ إلَى فِيهِ فَأَكْثَرُ الْوَاصِلِ إلَى جَوْفِهِ الطَّعَامُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ رَقِيقًا يُشْرَبُ اعْتَبَرْنَا غَلَبَةَ اللَّبَنِ إنْ غَلَبَ وَأَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا مِنْ قول مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ عَدَمَ إثْبَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحُرْمَةَ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَاطِرًا عِنْدَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ، أَمَّا مَعَهُ فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقَطْرَةَ إذَا دَخَلَتْ الْجَوْفَ أَثْبَتَتْ التَّحْرِيمَ، وَالصَّحِيحُ إطْلَاقُ عَدَمِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي حِينَئِذٍ بِالطَّعَامِ وَالتَّغَذِّي مَنَاطُ التَّحْرِيمِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ، إذْ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ، وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَهُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (وَإِنْ غَلَبَ لَبَنُ الشَّاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ اخْتَلَطَ) أَيْ اللَّبَنُ بِالدَّوَاءِ.
حَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إذَا كَانَ غَالِبًا مَعَ الدَّوَاءِ ظَهَرَ قَصْدَانُ الدَّوَاءِ لِتَنْفِيذِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالدُّهْنِ أَوْ النَّبِيذِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ سَوَاءٌ أُوجِرَ بِذَلِكَ أَمْ اسْتَعَطَ.
قولهُ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ شَاةٍ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِشُرْبِ الصَّغِيرِ إيَّاهُ) أَوْ لَبَنُ الشَّاةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الشَّاةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَانَ كَالْمَاءِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَلَوْ تَسَاوَيَا وَجَبَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا.

متن الهداية:
(وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ)؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ شَيْئًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرٌ (يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ قول زُفَرَ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ كَقول أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةٌ كَقول مُحَمَّدٍ.
وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ جَعْلُ الْأَقَلِّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ.
وَوَجْهُ قول مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ جِنْسَهُ فَلَا يُسْتَهْلَكُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَبَعًا لِلْآخِرِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِقْلَالًا.
قَالَ: (وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ) إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخَلَطَ لَبَنَهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى فَشَرِبَهُ وَلَبَنُ الْبَقَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا مَغْلُوبٌ فَفِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا.
وَقَالَ شَارِحٌ: عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْخِلَافِ إذَا كَانَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَكَانَ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ إلَى قول مُحَمَّدٍ حَيْثُ أَخَّرَ دَلِيلَهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ كَلَامُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَانَ الْقَاطِعُ لِلْآخَرِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ السُّكُوتَ ظَاهِرٌ فِي الِانْقِطَاعِ، وَرَجَّحَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قول مُحَمَّدٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ.

متن الهداية:
(وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ) وَعَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَأَشْبَهَ لَبَنَ الرَّجُلِ.
قُلْنَا نُدْرَةُ الْوُجُودِ لَا تَمْنَعُ عَمَلَ الدَّلِيلِ إذَا وُجِدَ، وَسَنَذْكُرُ لَهُ تَتِمَّةً.

متن الهداية:
(وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقول: الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا، وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ.
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ لِمَعْنَى الْإِنْشَازِ وَالْإِنْبَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتَةِ دَفْنًا وَتَيَمُّمًا.
أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِمَحَلِّ الْحَرْثِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ بِهِ صَبِيٌّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقول الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا، وَلِهَذَا) أَيْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ (لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ الْجُزْئِيَّةُ) وَحَاصِلُهُ إلْغَاءُ الْفَارِقِ بَيْنَ الْإِجْمَاعِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً، وَالْخِلَافِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ مَيِّتَةً وَهُوَ مَوْتُهَا؛ لِأَنَّ حَيَاتَهَا لَيْسَ جُزْءَ السَّبَبِ لِتَنْتَفِيَ الْحُرْمَةُ بِانْتِفَائِهِ بَلْ حُصُولُ الْجُزْئِيَّةِ تَمَامُ الْحِكْمَةِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ» إلَخْ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِلَبَنِ الْمَيِّتَةِ وَالِارْتِضَاعُ تَمَامُ الْعِلَّةِ، وَمَوْتُهَا غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ إنْ أُضِيفَتْ إلَى انْتِفَاءِ مَحَلِّيَّتِهَا مُطْلَقًا لِلْحُكْمِ مَنَعْنَاهُ لِثُبُوتِ بَعْضِهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ فِي الْحَالِ حَلَّ لَهُ دَفْنُ الْمَيِّتَةِ وَيَمَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أُمُّ زَوْجَتِهِ، وَأَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا، حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّضِيعَةِ وَبِنْتِ الْمَيِّتَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُرْمَةِ نِكَاحِهَا فَقَطْ مَنَعْنَا تَأْثِيرَهُ فِي إفَادَةِ الْمَانِعِيَّةِ بَلْ يُفْسِدُهَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا، فَإِنْ بَيَّنَ الْمَانِعِيَّةَ بِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ أَوَّلًا فِيهَا ثُمَّ يَتَعَدَّى.
قُلْنَا إنْ أَرَدْت أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا مَنَعْنَاهُ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ اتِّفَاقِ مَحَلِّيَّتِهَا حِينَئِذٍ مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْكُلِّ مَعًا شَرْعًا، وَالتَّقَدُّمُ فِي الْأُمِّ ذَاتِيٌّ لَا زَمَانِيٌّ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَانِعُ فِي حَقِّهَا ثَبَتَ فِيمَنْ سِوَاهَا، وَلَوْ عَلَّلَ ابْتِدَاءً بِنَجَاسَةِ اللَّبَنِ أَوْ الْحُرْمَةِ كَرَامَةً إذْ فِيهِ تَكْثِيرُ الْأَعْوَانِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالسَّكَنِ وَبِالْمَوْتِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ أَرَادَ عَيْنًا مَنَعْنَاهُ، بَلْ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ الطَّاهِرَةِ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا تَوْجِيهَهُ بِأَنَّ التَّنَجُّسَ بِالْمَوْتِ لَمَّا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ قَبْلَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي اللَّبَنِ وَقَدْ كَانَ طَاهِرًا فَيَبْقَى كَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُنَجِّسِ إذْ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ سِوَى الْخُرُوجُ مِنْ بَاطِنٍ إلَى ظَاهِرٍ، وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ الشَّرْعِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ وَصْفِهِ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنَّمَا قَالَا: تَنَجُّسُهُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِلْوِعَاءِ النَّجِسِ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الْحُرْمَةِ، كَمَا لَوْ حَلَبَ فِي إنَاءٍ نَجِسٍ وَأَوْجَرَ بِهِ الصَّبِيَّ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ أَرَادَ التَّنَجُّسَ مَنَعْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالْوَجُورُ: الدَّوَاءُ يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ قَسْرًا بِفَتْحِ الْوَاوِ.
وَالسَّعُوطُ صَبُّهُ فِي الْأَنْفِ.
وَيُقَالُ أَوْجَرْته وَوَجْرَتهُ.
قولهُ: (أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى عَدَمِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ فِي الرَّضَاعِ الْإِنْبَاتُ وَالنُّشُوءُ بِوَاسِطَةِ التَّغَذِّي وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَلَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تُتَصَوَّرُ الْجُزْئِيَّةُ، بِخِلَافِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي ارْتِضَاعِ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الصَّوْمِ إصْلَاحُ الْبَدَنِ وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاءِ.
فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فِي الرَّضَاعِ فَمَعْنَى النُّشُوءِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاحْتِقَانِ؛ لِأَنَّ الْمُغَذِّي وُصُولُهُ مِنْ الْأَعْلَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا احْتَقَنَ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الصَّوَابُ حَقَنَ إذَا عُولِجَ بِالْحُقْنَةِ وَاحْتُقِنَ بِالضَّمِّ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَكِنْ ذَكَرَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الِاحْتِقَانُ حَقَنَهُ فَدَرَنَ فَجَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ انْتَهَى.
يُرِيدُ أَنَّ مَنْعَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي وَإِذْ قَدْ نَصَّ صَاحِبُ تَاجِ الْمَصَادِرِ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَمْ يَكُنْ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ خَطَأً، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ مِنْ التَّفْسِيرِ لَا يُفِيدُ تَعْدِيَةَ الِافْتِعَالِ مِنْهُ لِلْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ كَالصَّبِيِّ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بَلْ إلَى الْحُقْنَةِ وَهِيَ آلَةُ الِاحْتِقَانِ وَالْكَلَامُ فِي بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ الصَّبِيُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قَاصِرٍ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْرُورِ وَالظَّرْفِ كَجَلَسَ فِي الدَّارِ وَمَرَّ بِزَيْدٍ.
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ الْآلَةِ وَالظَّرْفِ جَوَازُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفْعُولِ، بَلْ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ الِاحْتِقَانُ بِاللَّبَنِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ وَالْأُذُنِ وَالْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ كَذَا أَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ.
وَنَصَّ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْحُقْنَةِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَنَاطَ طَرِيقُ الْجُزْئِيَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْوَاصِلِ مِنْ السَّافِلِ بَلْ إلَى الْمَعِدَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْأَعْلَى فَقَطْ، وَالْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ غَايَةُ مَا يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ فَلَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا فِي الْأُذُنِ لِضِيقِ الثُّقْبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِمْ بِالْفِطْرِ بِإِقْطَارِ الدُّهْنِ فِي الْأُذُنِ لِسَرَيَانِهِ فَيَصِلُ إلَى بَاطِنِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ضِيقٌ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ لَيْسَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ وَيُنْبِتُ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ رِفْقٌ مِنْ تَرْطِيبٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمُفْسِدُ فِي الصَّوْمِ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَصَى وَالْحَدِيدِ، وَالْوَجُورُ وَالسَّعُوطُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ اتِّفَاقًا.

متن الهداية:
(وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيَّةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ) وَقَدْ يُذْكَرُ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِرَجُلٍ إرْضَاعُ صَغِيرٍ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِبِكْرٍ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْبُلُوغِ لَبَنٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَبَنًا، كَمَا لَوْ نَزَلَ لِلْبِكْرِ مَاءٌ أَصْفَرُ لَا يَثْبُتُ مِنْ إرْضَاعِهِ تَحْرِيمٌ.
وَالْوَجْهُ الْفَرْقُ بِعَدَمِ التَّصَوُّرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ لَبَنًا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ دَائِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ فَلَا رَضَاعَ مُحَرِّمٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا) اعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِلْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّ الْوَطْءَ ابْتِذَالٌ وَامْتِهَانٌ وَإِرْقَاقٌ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ» وَلَا يَحْسُنُ صُدُورُهُ مِنْ مُسْتَفِيدِ جُزْءٍ بِنَفْسِهِ وَحَيَاتِهِ لِمُفِيدِهَا إذَا كَانَ الرَّضِيعُ صَبِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرْضِعَةِ تَكْرِمَةً لَهَا، وَجُعِلَتْ فِي الشَّرْعِ أُمًّا لَهُ بِسَبَبِ أَنَّ جُزْأَهَا صَارَ جُزْأَهُ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ مِنْ النَّسَبِ كَذَلِكَ إذْ جُزْؤُهُ جُزْأَهَا وَجُزْؤُهُ الْآخَرُ جُزْءَ الْأَبِ، وَالْبَهَائِمُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي اعْتِبَارِ خَالِقِهَا جَلَّ ذِكْرُهُ فَإِنَّمَا خَلَقَهَا لِابْتِذَالِ الْآدَمِيِّ لَهَا عَلَى إنْحَاءِ الِابْتِذَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ مَالِكِهَا سُبْحَانَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَالْحَكِيمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعَلِيمُ بِالْقَوَابِلِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ التَّفْضِيلُ الدُّنْيَوِيُّ، فَلَمْ يُثْبِتْ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِهَا، بَلْ وَلَحْمِهَا وَحُصُولُ الْجُزْءِ مِنْهُ مَزِيَّةٌ لَهَا عَلَى الْآدَمِيِّ تُوجِبُ مِثْلَ مَا تُوجِبُ لِمُسَاوِيهِ فِي نَوْعِهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ، فَلَمْ تُعْتَبَرُ الشَّاةُ أُمَّ الصَّبِيِّ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَبْشُ أَبَاهُ، وَالْأُخْتِيَّةُ فَرْعُ الْأُمِّيَّةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُرُمِ بَعْدَهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِتَبَعِيَّةِ الْأُمِّيَّةِ حَتَّى الْأَبَوِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا جُزْءَ فِي الرَّضِيعِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَبِ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ جُزْأَهُ انْفَصَلَ فِي وَلَدِهِ الَّذِي نَزَلَ اللَّبَنُ بِسَبَبِهِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْهُ بِحَيْثُ يَكُونُ فِي لَبَنِهَا جُزْءٌ مِنْهُ فَكَيْفَ وَاللَّبَنُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْغِذَاءِ، وَالْكَائِنُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ إنَّمَا يَصِلُ مِنْ أَسْفَلَ وَالتَّغَذِّي لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ وَالْجُزْءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّا يَصِلُ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْمَعِدَةِ وَلَكِنْ لَمَّا أَثْبَتَ الشَّرْعُ أُمِّيَّةَ زَوْجَتِهِ عَنْ إرْضَاعِ لَبَنٍ هُوَ سَبَبٌ فِيهِ أَثْبَتَ لَهُوِيَّةِ الرَّجُلِ الْأُبُوَّةَ وَحِينَ لَا أُمَّ وَلَا أَبَ فَلَا إخْوَةَ وَلَا تَحْرِيمَ.
وَنُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الصَّحِيحِ أَفْتَى فِي بُخَارَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ صَبِيَّيْنِ ارْتَضَعَا شَاةً فَاجْتَمَعَ عُلَمَاؤُهَا عَلَيْهِ وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ لَمْ يَدِقَّ نَظَرُهُ فِي مُنَاطَاتِ الْأَحْكَامِ وَحِكَمِهَا كَثُرَ خَطَؤُهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَمَوْلِدُهُ مَوْلِدُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا مَعًا وُلِدَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ عَامُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ.

متن الهداية:
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا (ثُمَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا (وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا كَمَا إذَا قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا (وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ بِهِ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَلِمَتْ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَتُهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَكِنَّهَا مُسَبَّبَةٌ فِيهِ إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ لِلنِّكَاحِ وَضْعًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ، أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ، إلَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ إبْطَالَ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبَّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ ثُمَّ إنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَقَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ الْفَسَادَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَكِنَّهَا قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ وَالْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ دُونَ الْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْضًا، وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً رَضِيعَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا) ثُمَّ حُرْمَةُ الْكَبِيرَةِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ.
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي أَرْضَعَتْهَا بِهِ الْكَبِيرَةُ نَزَلَ لَهَا مِنْ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ لِلرَّجُلِ كَانَتْ حُرْمَتُهَا أَيْضًا مُؤَبَّدَةً كَالْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَبًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ قَبْلَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ هَذَا الرَّجُلَ وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ الْأَوَّلِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لِانْتِفَاءِ أُبُوَّتِهِ لَهَا، إلَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَيَتَأَبَّدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَلَا يَجِبُ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِنِصْفِ الْمَهْرِ كَرِدَّتِهَا وَتَقْبِيلِهَا ابْنَ الزَّوْجِ، وَتَعْلِيلُ السُّقُوطِ بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهَا يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَارْتَضَعَتْهَا الصَّغِيرَةُ أَوْ أَخَذَ شَخْصٌ لَبَنَهَا فَأَوْجَرَ بِهِ الصَّغِيرَةَ أَوْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ مَجْنُونَةً كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِانْتِفَاءِ إضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ لَكِنْ لَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ لَهَا لِجِنَايَتِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مَجْنُونَةً وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ بِالرَّضِيعَةِ فَعَلَيْهِ لَهَا نِصْفُ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلَهَا وَبِهِ وَقَعَ الْفَسَادُ لَكِنَّ فِعْلَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا لِعَدَمِ خِطَابِهَا بِالْأَحْكَامِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَلَا يَكُونُ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِحِرْمَانِهَا شَرْعًا، وَلِأَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِحُكْمِ الطَّبْعِ عَلَى الِارْتِضَاعِ، وَالْكَبِيرَةُ فِي إلْقَامِهَا الثَّدْيَ مُخْتَارَةٌ فَصَارَ كَمَنْ أَلْقَى حَيَّةً عَلَى إنْسَانٍ فَلَسَعَتْهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ اللَّسْعَ لَهَا طَبْعٌ فَأُضِيفَ إلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ ارْتَدَّ أَبَوَا صَغِيرَةٍ مَنْكُوحَةٍ وَلَحِقَا بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهَا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ وُجِدَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّدَّةَ مَحْظُورَةٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ، وَإِضَافَةُ الْحُرْمَةِ إلَى رِدَّتِهَا التَّابِعَةِ لِرِدَّةِ أَبَوَيْهَا، بِخِلَافِ الِارْتِضَاعِ لَا حَاظِرَ لَهُ فَتَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ.
وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ؟ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا وَإِلَّا لَا يَرْجِعُ، وَتَعَمُّدُهُ بِأَنْ تَعْلَمَ قِيَامَ النِّكَاحِ وَأَنَّ الرَّضَاعَ مِنْهَا مُفْسِدٌ وَتَتَعَمَّدُهُ لَا لِدَفْعِ الْجُوعِ أَوْ الْهَلَاكِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ النِّكَاحَ أَوْ عَلِمَتْهُ وَلَمْ تَعْلَمْهُ مُفْسِدًا أَوْ عَلِمَتْهُ مُفْسِدًا وَلَكِنْ خَافَتْ الْهَلَاكَ أَوْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ لَا يَرْجِعُ، وَالْقول قول الْكَبِيرَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَا إذَا قَصَدَتْ الْفَسَادَ وَمَا إذَا لَمْ تَقْصِدْهُ.
وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ قولهُمَا؛ لِأَنَّهَا: أَيْ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ بِأَنْ تَكْبَرَ الصَّغِيرَةُ فَتَفْعَلَ مَا يُسْقِطُهُ، وَذَلِكَ أَيْ تَأَكُّدُ مَا هُوَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا يَضْمَنُونَ نِصْفَ الْمَهْرِ لِذَلِكَ لَكِنَّهَا مُسَبِّبَةٌ فِيهِ لَا مُبَاشِرَةٌ؛ لِأَنَّ إلْقَامَ الثَّدْيِ شَرْطٌ لِلْفَسَادِ لَا عِلَّةٌ لَهُ، بَلْ الْعِلَّةُ فِعْلُ الصَّغِيرَةِ الِارْتِضَاعَ فَكَانَتْ الْكَبِيرَةُ مُبَاشِرَةً لِلشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، غَيْرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ كَوْنَهَا مُسَبِّبَةً بِأَنَّ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِإِفْسَادِ النِّكَاحِ بَلْ لِتَغْذِيَةِ الصَّغِيرِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِاتِّفَاقِ صَيْرُورَتِهِمَا أُمًّا وَبِنْتًا تَحْتَ رَجُلٍ.
وَإِمَّا لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ الْكَائِنِ بِصُنْعِهَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ شَرْعًا بَلْ لِإِسْقَاطِهِ، ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ وُجُوبَهُ لَا بِقِيَاسٍ بَلْ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً جَبْرًا لِلْإِيحَاشِ وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِهِ بُطْلَانُ النِّكَاحِ، وَقَدْ وُجِدَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّرْدِيدَ بِعَيْنِهِ يَجْرِي فِي مُبَاشَرَةِ الْعِلَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: الِارْتِضَاعُ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا، وَالْإِفْسَادُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ شَرْعًا بَلْ لِإِسْقَاطِهِ إلَخْ، وَلَيْسَ هُوَ مُسَبِّبًا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبِّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ: أَيْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ تَسْبِيبٌ لِلْهَلَاكِ، فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ضَمِنَهُ لِلتَّعَدِّي فِيهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً بِمَجْمُوعِ الْعِلْمَيْنِ وَالْقَصْدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَوْجِيهَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ وَلِهَذَا جَعَلَ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلِّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا أَنَّهُ مُسَبِّبٌ فَيُشْتَرَطُ التَّعَدِّي وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ اشْتِرَاطَ التَّعَدِّي فِيهِ وَإِنَّمَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الْمُسَبِّبَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُبَاشِرِ.
هَذَا وَاسْتُشْكِلَ التَّغْرِيمُ بِقَصْدِ الْفَسَادِ بِمَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ زَوْجَةَ آخَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَتْلَهُ مُسْتَعْقِبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ بِقَتْلِ وَاحِدٍ، وَلِلزَّوْجِ نَصِيبٌ مِمَّا هُوَ الْوَاجِبُ فَلَا يُضَاعَفُ عَلَيْهِ، وَبِمَا إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّتَانِ لَهُمَا لَبَنٌ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ صَغِيرَتَيْنِ تَحْتَ رَجُلٍ حُرِّمَتَا عَلَى زَوْجِهِمَا وَلَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا وَإِنْ تَعَمَّدَتَا الْفَسَادَ.
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ فِعْلَ الْكَبِيرَةِ هُنَا مُسْتَقِلٌّ بِالْإِفْسَادِ فَيُضَافُ الْإِفْسَادُ إلَيْهَا، وَفِعْلُ كُلٍّ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَهُوَ يَقُومُ بِالْكَبِيرَةِ، وَقَدْ حُرِّفَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَوَقَعَ فِيهَا الْخَطَأُ وَذَلِكَ بِأَنْ قِيلَ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَتَانِ لَهُمَا مِنْهُ لَبَنٌ مَكَانَ قولنَا لَهُمَا لَبَنٌ مِنْ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الصَّوَابُ الضَّمَانُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْسَدَتْ لِصَيْرُورَةِ كُلٍّ بِنْتًا لِلزَّوْجِ.
قولهُ: (وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَكُمْ لَيْسَ عُذْرًا، فَقَالَ هَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ الَّذِي هُوَ الْمَحْظُورُ الدِّينِيُّ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا انْدَفَعَ قَصْدُ الْفَسَادِ انْتَفَى الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ التَّعَدِّي كَمَا قُلْنَا وَالتَّعَدِّي بِهِ يَكُونُ وَلَا يُتَصَوَّرُ قَصْدُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِلْجَهْلِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قول مَنْ قَالَ تَضْمَنُ إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْذَرُ بِجَهْلِ الْحُكْمِ، وَمِنْ فُرُوع هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ فَأَرْضَعَتْهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ حُرِّمَتَا، فَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ بِأَنْ أَلْقَمَتْ ثِنْتَيْنِ ثَدْيَيْهَا وَأَوْجَرَتْ الْأُخْرَى مَا حَلَبَتْهُ حُرِّمْنَ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ بَانَتْ الْأُولَيَانِ وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُنَّ حِينَ ارْتَضَعَتَا حُرِّمَتَا فَحِينَ ارْتَضَعَتْ الثَّالِثَةُ لَمْ يَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ سِوَاهَا، وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ الثَّلَاثَ مَعًا حُرِّمْنَ، وَكَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُخْرَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهُمَا، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ عَلَى التَّعَاقُبِ بَقِيَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا، وَالسَّابِقُ عَقْدٌ مُجَرَّدٌ عَلَى الْأُمِّ فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ، وَلَوْ كُنَّ كَبِيرَتَيْنِ وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ صَغِيرَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأَرْبَعُ لِلُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمَّيْنِ وَبِنْتَيْهِمَا، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْكَبِيرَتَيْنِ، فَالْكُبْرَى الْأُولَى مَعَ الصُّغْرَى الْأُولَى بَانَتَا مِنْهُ لِمَا قُلْنَا، وَالصُّغْرَى الثَّانِيَةُ لَمْ تَبِنْ بِإِرْضَاعِ الْكُبْرَى الْأُولَى، وَالْكُبْرَى الثَّانِيَةُ إنْ ابْتَدَأَتْ بِإِرْضَاعِ الصُّغْرَى الثَّانِيَةِ بَانَتَا مِنْهُ، أَوْ بِالصُّغْرَى الْأُولَى فَالصُّغْرَى الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ أُمًّا لَهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الصُّغْرَى الْأُولَى فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا.

متن الهداية:
وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ.
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ تَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَاعْتُبِرَ أَمْرًا دِينِيًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ) أَيْ عَنْ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
وَاَلَّذِي فِي كُتُبِهِمْ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ثَدْيِ الْأَجْنَبِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَهِيَ أَمْرٌ دِينِيٌّ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ بِإِخْبَارِهِ، ثُمَّ يَثْبُتُ زَوَالُ الْمِلْكِ فِي ضِمْنِهِ، كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا بِطَرِيقٍ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا قَصْدًا، وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا» وَعُقْبَةُ هَذَا يُكْنَى أَبَا سِرْوَعَةَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ تُقْبَلُ الْوَاحِدَةُ الْمُرْضِعَةُ وَاعْتِبَارُ ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا يُوجِبُ جَوَازَ قَبُولِ الْأَمَةِ.
وَرُوِيَ مُطَوَّلًا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَفِيهِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَفِيهِ قول عُقْبَةَ «فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْتُ إنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: وَكَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكِ» وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ بِالْحَيْضِ وَنَحْوِهِ وَالْأَمْلَاكُ لَا تُزَالُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ اللَّحْمِ حَيْثُ يَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ كَالْخَمْرِ مَمْلُوكِيَّتُهُ مُحَرَّمَةٌ وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَالشَّهَادَةُ قَائِمَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُرْمَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ، أَمَّا الْحَدِيثُ فَكَانَ لِلتَّوَرُّعِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ لَأَجَابَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، إذَا الْإِعْرَاضُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّائِلِ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَفِيهِ تَقْرِيرٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِظُهُورِ اطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِخَبَرِهَا لَا مِنْ بَابِ الْحُكْمِ، وَكَوْنُهَا كَاذِبَةً حَمْقَاءَ عَلَى مَا قِيلَ لَا يَنْفِي اطْمِئْنَانَ النَّفْسِ بِخَبَرِهَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْبَلَاهَةِ يُقَارِنُهَا بِحَسَبِ الْغَالِبِ عَدَمُ الْخُبْثِ الَّذِي عَنْهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا فِي الْجُنُونِ.
وَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهَا يُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ وَلَوْ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَقولهُمْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ الرِّجَالِ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا الرَّضَاعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إلْقَامِ الثَّدْيِ لِجَوَازِ حُصُولِهَا بِالْوَجُورِ وَالسَّعُوطِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ قولنَا.
وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْعَقْدِ، قِيلَ يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةٍ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةٍ.
فُرُوعٌ:
قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي مِنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيَتْ، إنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ بَعْدَهُ هُوَ حَقٌّ أَوْ كَمَا قُلْت فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالنِّكَاحُ بَاقٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ إنَّمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِشَرْطِ الثَّبَاتِ، وَتَفْسِيرُ الثَّبَاتِ مَا ذَكَرْنَا، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ مِمَّا يَخْفَى عَنْ الْإِنْسَانِ فَالتَّنَاقُضُ فِيهِ مُطْلَقًا لَا يَمْنَعُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بَعْدَ التَّرَوِّي فَيُعْذَرُ قَبْلَهُ وَلَا يُعْذَرُ بَعْدَهُ، وَهَذَا فِي النَّسَبِ فِيمَنْ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ هُوَ ثُمَّ قَالَتْ أَخْطَأْت فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى الْعِلْمِ فِي قول وَعَلَى الْبَتَاتِ فِي قول، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَهَا جَازَ وَلَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ عَلَى قولهَا.
بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَقَرَّتْ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ رَجُلٍ حَلَّ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ انْتَهَى.
وَكَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ فِي غَيْبَتِهَا وَحُضُورِهَا فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخَفَاءُ فَصَحَّ رُجُوعُهَا عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ قَبْلَ التَّرَوِّي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.