فصل: كِتَابُ الْوَكَالَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ الْوَكَالَةِ:

الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْوَكَالَةِ):
أَعْقَبَ الشَّهَادَةَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّاهِدِ وَالْوَكِيلِ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْمُدَّعِي مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا.
وَالْوَكَالَةُ لُغَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلتَّوْكِيلِ وَهُوَ تَفْوِيضُ أَمْرِك إلَى مَنْ وَكَّلْته اعْتِمَادًا عَلَيْهِ فِيهِ تَرَفُّهًا مِنْك أَوْ عَجْزًا عَنْهُ.
وَالْوَكَالَةُ أَبَدًا إمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلتَّرَفُّهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لِلضَّعْفِ، وَلِذَا كَانَ مَعْنَى الْوَكِلِ مَنْ فِيهِ ضَعْفٌ، وَفُسِّرَ قول لَبِيدٍ:
وَكَأَنِّي مُلْجِمٌ سَوْذَانِقًا ** أَجْدَلِيًّا كَرُّهُ غَيْرُ وَكِلْ

وَالسَّوْذَانِقُ وَالسَّوْذَقُ وَالسَّوْذَنِيقُ: الشَّاهِينُ، وَالْأَجْدَلُ: الصَّقْرُ نَسَبَ فَرَسَهُ إلَيْهِ وَوَكَّلَهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا: أَيْ مُفَوَّضًا إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَمِنْهُ وَكَلَ أَمْرَهُ إلَى فُلَانٍ، وَمِنْ هَذَا قول الْحُطَيْئَةِ:
فَلَأْيًا قَصَرْت الطَّرَفَ عَنْهُمْ بِحُرَّةِ ** أَمُونٍ إذَا وَاكَلْتُهَا لَا تَوَاكَلُ

يَعْنِي إذَا فَوَّضْت أَمْرَهَا إلَيْهَا لَا تُوَكِّلُ نَفْسَهَا إلَى أَنْ أَحُثَّهَا عَلَى السَّيْرِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى جَدِّهَا فِي السَّيْرِ وَلَا تَضْعُفُ فِيهِ، أَوْ تَوَكَّلُ قَبْلَ الْوَكَالَةِ وَاتَّكَلْت عَلَيْهِ اعْتَمَدْت وَأَصْلُهُ وَاتَّكَلْت قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ أُبْدِلَتْ تَاءً فَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ.
وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَهُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ: أَيْ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْأَمْرِ قَادِرًا عَلَيْهِ نَصُوحًا تَمَّ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا رَضِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَنْك وَاعْتَمَدْت عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الْحِرْمَانُ الْعَظِيمُ، فَكَيْفَ إذَا أَوْجَبَهُ عَلَيْك لِتَحَقُّقِ مَصْلَحَتِك فَضْلًا مِنْهُ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاِتَّخِذْهُ وَكِيلًا} وَعَلَى هَذَا اسْتِمْرَارُ إحْسَانِهِ وَبِرِّهِ لَا إلَهَ غَيْرُهُ.
وَأَمَّا شَرْعًا فَالتَّوْكِيلُ إقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ مَعْلُومًا ثَبَتَ بِهِ أَدْنَى تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْحِفْظُ فَقَطْ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُك بِمَالِي: إنَّهُ يَمْلِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْحِفْظَ فَقَطْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَنْتَ وَكِيلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ وَأَمَّا سَبَبُهَا فَدَفْعُ الْحَاجَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ إلَيْهَا كَمَا سَيَظْهَرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ مِنْ قولهِ وَكَّلْتُك بِبَيْعِ هَذَا أَوْ شِرَائِهِ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِقَبُولِ الْمُخَاطَبِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فِيمَا إذَا سَكَتَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَوْ يَرُدَّ ثُمَّ عَمِلَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَيَظْهَرُ بِالْعَمَلِ قَبُولُهُ.
وَرَوَى بِشْرُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ عَبْدِي هَذَا أَوْ قَالَ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ وَافِقْنِي أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت أَوْ وَدِدْت وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ تَوْكِيلٌ.
وَلَوْ قَالَ لَا أَنْهَاك عَنْ طَلَاقِ زَوْجَتِي لَا يَكُونُ تَوْكِيلًا، فَلَوْ طَلَّقَ لَا يَقَعُ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا أَنْهَاك عَنْ التِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: الْجَوَابُ فِي الْوَكَالَةِ كَذَلِكَ، أَمَّا فِي الْإِذْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي قول عُلَمَائِنَا لِأَنَّ الْعَبْدَ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى يَصِيرُ مَأْذُونًا وَهَذَا فَوْقَ السُّكُوتِ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَعْنَى أَنَّ قولهُ لَا أَنْهَاك فِي حَالِ عَدَمِ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ الْبَيْعَ فَوْقَ سُكُوتِهِ إذَا رَآهُ يَبِيعُ، وَتَقَدَّمَ عَنْ الْمَحْبُوبِيِّ أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ بِالْحِفْظِ، قَالُوا: فَلَوْ زَادَ فَقَالَ أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزٌ صُنْعَك أَوْ أَمْرَك؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَتَّى مَلَكَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَقَطْ، وَلَا يَلِي الْعِتْقَ وَالتَّبَرُّعَ.
وَفِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت امْرَأَتَك وَوَقَفْت أَرْضَك الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ أُمُورِي.
وَلَوْ قَالَ فَوَّضْت أَمْرَ مَالِي إلَيْك يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ فَقَطْ، وَكَذَا فَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِثْلُهُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: إذَا وَكَّلَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ وَكِيلٌ بِالْحِفْظِ لَا بِتَقَاضِي بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ، وَفَوَّضْت لَك أَمْرَ مُسْتَغَلَّاتِي وَكَانَ أَجْرُهَا مِلْكَ تَقَاضِي الْأُجْرَةِ وَقَبْضِهَا، وَكَذَا أَمْرَ دُيُونِي مِلْكَ التَّقَاضِي، وَأَمْرَ دَوَابِّي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالرَّعْيِ وَالتَّعْلِيفِ، وَأَمْرَ مَمَالِيكِي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالنَّفَقَةِ، وَفَوَّضَتْ إلَيْك أَمْرَ امْرَأَتِي مِلْكَ طَلَاقِهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَكَّلْتُك.
وَالْوِصَايَةُ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَكَالَةٌ كَالْوَكَالَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وِصَايَةٌ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْمَعَانِي.
وَكَّلْتُك فِي كُلِّ أُمُورِي وَأَقَمْتُك مَقَامَ نَفْسِي لَيْسَ تَوْكِيلًا عَامًّا، فَإِنْ كَانَ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ كَالتِّجَارَةِ مَثَلًا يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ وَمُعَامَلَاتُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا فَتَوْكِيلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْبِيَاعَاتِ وَالْأَنْكِحَةَ.
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قولهِ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ.
وَأَمَّا صِفَتُهَا فَإِنَّهَا مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِلَا رِضَا الْآخَرِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِكَوْنِ شَرْعِيَّتِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ قول بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلٌ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ تَتَجَدَّدُ وَكَالَتُهُ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْوَكَالَةِ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ لَا الْجَائِزَةِ فَالْحَقُّ إمْكَانُ عَزْلِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ الْعَزْلِ؛ فَقِيلَ أَنْ يَكُونَ عَزَلْتُك عَنْ جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَجَّزِ.
وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَرْعُ قِيَامِ الْوَكَالَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنَجَّزِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَمُ قَبُولِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقول عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُنَفَّذَةِ وَرَجَعْت عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا صَحِيحٌ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَظَهِيرُ الدِّينِ: يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ الرُّجُوعَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْعَزْلِ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْعَزْلَ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ تَتَنَجَّزُ وَكَالَةٌ أُخْرَى مِنْ الْمُعَلَّقَةِ.
وَقِيلَ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ لَفْظُ الرُّجُوعِ يَخُصُّ الْمُعَلَّقَةَ احْتِرَازًا عَنْ قول أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْإِخْرَاجَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ بِلَفْظِ الْعَزْلِ لَا يَصِحُّ.
وَأَمَّا عَلَى قول مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَجُوزُ فَلَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَأَمَّا حُكْمُهَا فَجَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا وُكِّلَ بِهِ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِلْمُوَكِّلِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكَوْنِهِ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُوَكَّلِ بِهِ، وَإِلَّا فَمِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ) هَذَا ضَابِطٌ لَا حَدٌّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ وَيَمْلِكُ تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ بِهِ لِأَنَّ إبْطَالَ الْقَوَاعِدِ بِإِبْطَالِ الطَّرْدِ لَا الْعَكْسَ، وَلَا يُبْطِلُ طَرْدُهُ عَدَمَ تَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا بِبَيْعِ خَمْرِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوَصُّلَ بِهِ بِتَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ، فَصَدَقَ الضَّابِطُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ عَقْدٍ يَمْلِكُهُ يَمْلِكُ تَوْكِيلَ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ بَلْ التَّوَصُّلُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ تَوْكِيلَهُ الْوَكِيلُ الَّذِي لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ أَهْلِيَّتِهِ اسْتِبْدَادًا لَا بِنَاءً عَلَى إذْنِ غَيْرِهِ.
قولهُ: (صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ) أَمَّا وَكَالَةُ حَكِيمٍ فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُول: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ لَهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَرَجَعَ وَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ وَأُضْحِيَّةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَصَدَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي تِجَارَتِهِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ حَكِيمٍ وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحَبِيبٌ عِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ حَكِيمٍ إلَّا أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ عِنْدَنَا فَيُصَدَّقُ قول الْمُصَنِّفِ صَحَّ إذَا كَانَ حَبِيبٌ إمَامًا ثِقَةً.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَيُّ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ: «أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا يَشْتَرِي أُضْحِيَّةً أَوْ شَاةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا رَبِحَ فِيهِ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ وَاسْمُهُ لُمَازَةُ بْنُ زَبَّارٍ عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَهُ، وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ هَذَا ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ وَقَعَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حَكِيمٍ أَوْ مَعَ عُرْوَةَ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ فَتَثْبُتُ شَرْعِيَّةُ الْوَكَالَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَأَمَّا أَنَّهُ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ: التَّزْوِيجَ فَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ إنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، وَإِنِّي غَيْرَى، وَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا كَوْنُك غَيْرَى فَسَأَدْعُو اللَّهَ فَتَذْهَبُ غَيْرَتُك، وَأَمَّا كَوْنُك مُصْبِيَةً فَإِنَّ اللَّهَ سَيَكْفِيك صِبْيَانَك، وَأَمَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِك لَيْسَ شَاهِدًا فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِك لَا شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ إلَّا سَيَرْضَى بِهِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَاسْمُ ابْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدٌ سَمَّاهُ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِعِلَّةٍ بَاطِنَةٍ وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذْ ذَاكَ: يَعْنِي حِينَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِنُّهُ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَيْفَ يُقَالُ لِمِثْلِهِ زَوِّجْ.
وَاسْتَبْعَدَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ إنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ.
وَيُقَوِّي هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ هَذِهِ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا.
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا عَنْ أُمِّهِ لِأَنَّهَا هِيَ الْقَائِلَةُ لَهُ قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ لَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ إلَى ابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ صَغِيرٌ» إلَّا أَنَّهُمْ يُضَعِّفُونَ الْوَاقِدِيَّ خِلَافًا لَنَا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ خِلَافًا لَهُمْ، إنْ نَظَرْنَا إلَى حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ فَظَاهِرٌ، وَإِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُزَوِّجْهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ عَلَى أُمِّهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ فَيَكُونُ تَزْوِيجُهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.
وَقَدْ قِيلَ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْمَقول لَهُ زَوِّجْ وَالْمُزَوِّجُ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقول: «أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ وَقُلْت: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إذَا أَتَيْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ» وَابْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَنَا مِنْ الثِّقَاتِ.
وَأَمَّا عَلَى تَوْكِيلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَقِيلًا فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَكْرَهُ الْخُصُومَةَ، فَكَانَ إذَا كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ وَكَّلَ فِيهَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا كَبِرَ عَقِيلٌ وَكَّلَنِي.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْخُصُومَةِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ إلَى آخِرِهِ.
بَيَانُ حِكْمَةِ شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ:

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ) لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ، وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ.
فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا) وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي غَيْبَتِهِ دُونَ حَضْرَتِهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ.
لَهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ (كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ.
وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ، غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ الَّتِي بِهَا يَثْبُتُ حَقُّهُ أَوْ يَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ.
وَكَذَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِإِيفَائِهَا وَلَا بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ فَالنَّفْيُ مُطْلَقٌ، إذْ الْإِيفَاءُ لَيْسَ إلَّا بِتَسْلِيمِ ظَهْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مِنْ الْجَانِي وَلَيْسَ هُوَ الْوَكِيلُ، فَكَانَ ذَلِكَ قَيْدًا فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِيفَاءُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهَا: أَيْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ، قَالَ تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ مَعَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَيْسَ إلَّا الرُّجُوعُ، وَلَيْسَ قَرِيبًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا ظَاهِرَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ وَلَا الْغَالِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّدْقُ خُصُوصًا مَعَ الْعَدَالَةِ وَالرُّجُوعُ لَيْسَ غَالِبًا، بَلْ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِمِائَةِ عَامٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هَلْ نَدَرَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَمْ لَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً يُدَارُ بِاعْتِبَارِهَا حُكْمٌ (بِخِلَافِ) الِاسْتِيفَاءِ (حَالَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ بِهِ تَجُوزُ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ قَدْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، فَلَوْ امْتَنَعَ التَّوْكِيلُ بِهِ بَطَلَ هَذَا الْحَقُّ وَهَذَا فِي الْقِصَاصِ.
وَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّ الَّذِي يَلِي اسْتِيفَاءَهَا الْإِمَامُ، وَقَدْ لَا يُحْسِنُ فَجَازَ تَوْكِيلُ الْجَلَّادِ وَإِلَّا امْتَنَعَ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ النَّفْيَ حَالَةَ الْغَيْبَةِ بِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِصَاصِ دُونَ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْعَفْوَ فِيهَا لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا كَمَا أَسْلَفْنَاهُ فِي الْحُدُودِ، وَلَوْ كَانَ حَدُّ قَذْفٍ وَسَرِقَةٍ لِأَنَّ الْحَقَّ صَارَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، حَتَّى لَوْ عَفَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَيَقْطَعُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَضُمَّ مَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ إمْكَانِ ظُهُورِ شُبْهَةٍ أَوْ غَلَطٍ، فَبَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ نَفْسُ الْمُسْتَحِقِّ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ.
قولهُ: (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) أَيْ مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ: أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَقْذُوفِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى السَّبَبِ (قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِهَا) وَقول مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ تَارَةً يُضَمُّ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَتَارَةً إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُهُ، وَكَذَا فَعَلَ فِي الْمَبْسُوطِ (وَقِيلَ هَذَا الْخِلَافُ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ) فَلَوْ وُكِّلَ بِإِثْبَاتِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ جَازَ اتِّفَاقًا (لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُحْتَرَزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَصَارَ كَالتَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَالِ الْغَيْبَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ) لِثُبُوتِ الْحَدِّ (لِأَنَّ وُجُوبَهُ) إنَّمَا (يُضَافُ إلَى) نَفْسِ (الْجِنَايَةِ) لَا إلَى الْخُصُومَةِ (وَالظُّهُورِ) أَيْ ظُهُورِ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يُضَافُ (إلَى) نَفْسِ (الشَّهَادَةِ) لَا إلَى السَّعْيِ فِي إثْبَاتِهَا فَكَانَ السَّعْيُ فِي ذَلِكَ حَقًّا (كَسَائِرِ الْحُقُوقِ) فَيَجُوزُ لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
وَقولهُ سَائِرُ الْحُقُوقِ: أَيْ بَاقِيهَا: أَيْ فَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِهَذَا الْحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ مُعَوِّلًا عَلَى مَا فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ ثُمَّ تَخْطِئَتِهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْبَاقِي لَا الْجَمِيعِ.
هَذَا وَقَدْ يُمْنَعُ انْتِفَاءُ الْمَانِعِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخُصُومَةَ لَيْسَ إلَّا السَّعْيَ فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْحَدِّ وَالِاحْتِيَالِ فِيهِ وَوَضَعَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ نَفْسَهُ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ سَاعٍ إلَى آخِرِهِ وَذَلِكَ يُخِلُّ بِالْإِجْمَاعِ.
قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا زِيَادَةُ تَحَيُّلٍ وَزِيَادَةُ تَكَلُّفٍ لِإِثْبَاتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُوَكِّلُ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِ هُوَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالشَّرْعُ أَطْلَقَ فِي إثْبَاتِهِ لَا بِذَلِكَ التَّكَلُّفِ الزَّائِدِ وَالتَّهَالُكِ فِيهِ، بَلْ إذَا عَجَزَ تَرَكَ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الدَّرْءِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَاعِزًا حِينَ هَرَبَ لَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ؟» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
قولهُ: (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ) أَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ (وَ) لَا شَكَّ أَنَّ (كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ) مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ بِإِثْبَاتِهَا (لِأَنَّ الشُّبْهَةَ) الَّتِي بِهَا مَنَعَ أَبُو يُوسُفَ هُنَاكَ (لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ) بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَقول بِجَوَازِ الْوَكَالَةِ بِدَفْعِهِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِلْمُوَكَّلِ الْإِقْرَارُ عَلَى مُوَكِّلِهِ كَمَا هُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ فَخِلَافُهُ هَذَا عَجِيبٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ وَجْهُ عَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ هُنَا وَجَوَازُهُ فِي غَيْرِهِ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ انْصَرَفَتْ إلَى الْجَوَابِ مُطْلَقًا نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ فَنَعْتَبِرُ عُمُومَهُ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَنَخُصُّ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشَّرْعِ الْعَامِّ فِي الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَفِي اعْتِرَافِهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ.

متن الهداية:
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا. وَقَالَا: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ.
لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ.
وَلَهُ أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا هُنَالِكَ، ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَالَ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا.
قَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ) مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ) إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا (وَقَالَا: يَجُوزُ) ذَلِكَ (بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ) قَالُوا: فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قولنَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إلَخْ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ.
وَأَنْكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ عِبَارَةِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ وَالطَّحَاوِيِّ وَكَثِيرٍ خِلَافُ ذَلِكَ، وَسَاقَ عِبَارَاتِهِمْ فَلَمْ تَرُدَّ عَلَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ نَحْوِ قول الْقُدُورِيِّ الْمَسْطُورِ هُنَا، وَهُوَ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ، وَإِنَّمَا فَسَرُّوهُ بِذَلِكَ.
وَسَبَقَ الْمُصَنِّفُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ: التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ صَحِيحٌ، لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَطْلُبَ الْخَصْمَ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُجِيبَ، وَنَحْوُ هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِمَّا ذَكَرُوهُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَرِّفْ لِأَحَدٍ الْقول بِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فَعَلِمَ خَصْمُهُ فَرَضِيَ لَا يَكُونُ رِضَاهُ كَافِيًا فِي تَوَجُّهِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ وَلَا تُسْمَعُ حَتَّى يُجَدِّدَ لَهُ وَكَالَةً أُخْرَى عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ الَّتِي سَاقَهَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِلَا تَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ أَنَّهَا لَا تَمْضِي عَلَى الْآخَرِ وَتَلْزَمُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى، وَمَعْنَى هَذَا لَيْسَ إلَّا أَنَّ اللُّزُومَ عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهُ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ الْعِبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا أَقْبَلُ وَكَالَةً مِنْ حَاضِرٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى خَصْمُهُ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ حَتَّى أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فَرَضِيَ الْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ فِي سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَى تَجْدِيدِ وَكَالَةٍ كَمَا هُوَ لَازِمُ مَا اُعْتُبِرَ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ (تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ حَقَّهُ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْهُ فَاسْتِنَابَتُهُ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ (فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ) وَصَارَ (كَالتَّوْكِيلِ): بِغَيْرِ ذَلِكَ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ.
وَلَهُ أَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى خَصْمِهِ.
وَلِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ يَسْتَحْضِرُهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيُجِيبَهُ عَمَّا يَدَّعِيه عَلَيْهِ.
وَغَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يُنَفَّذُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ (وَ) لَا شَكَّ أَنَّ (النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ) كَمَا صَرَّحَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَقْصِدُ عَادَةً لِاسْتِخْرَاجِ الْحِيَلِ وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لِيَغْلِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ مَعَهُ، كَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ.
وَفِي هَذَا ضَرَرٌ بِالْآخَرِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، وَصَارَ (كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ) فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا الْإِضْرَارَ بِالْآخَرِ كَانَ لَهُ فَسْخُهَا، وَكَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إجَارَتُهُ إيَّاهَا تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِ وَمَمْلُوكِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُؤَجِّرِ إذْ كَانَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي الرُّكُوبِ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ يَقْبِضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْآخَرِ فِيهِ فَإِنَّ الْقَبْضَ مَعْلُومٌ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، وَلِلتَّقَاضِي حَدٌّ مَعْلُومٌ إذَا جَاوَزَهُ مُنِعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا أَشَدُّ مِنْ شِدَّةِ التَّقَاضِي، وَعَدَمُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْقَبْضِ لِتَضَمُّنِهَا التَّحَيُّلَ عَلَى إثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ أَوْ دَفْعِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فَلَا يُقْبَلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا وَذَلِكَ بِسَفَرِهِ فَإِنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَتَوْكِيلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ بِالْخُصُومَةِ إنْ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ اسْتِرْضَاءُ الْخَصْمِ لَمْ يُنْقَلْ عَدَمُهُ فَهُوَ جَائِزُ الْوُقُوعِ فَلَا يَدُلُّ لِأَحَدٍ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَائِهِ التَّوْكِيلَ يَقْبَلُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالتَّوْكِيلِ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ فَيَتَضَاءَلُ وَقْعُ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِّ الْمَرَضِ: إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْمَشْيَ وَيَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَوْ عَلَى إنْسَانٍ لَكِنْ يَزْدَادُ مَرَضُهُ صَحَّ التَّوْكِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَزْدَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِأَنَّ نَفْسَ الْخُصُومَةِ مَظِنَّةُ زِيَادَةِ سُوءِ الْمِزَاجِ فَلَا يُلْزَمُ بِهِ (وَكَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ) مِنْ الْحَاضِرِ (عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ) غَيْر أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ فِي دَعْوَاهُ بِإِرَادَتِهِ فَيَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ وَيَسْأَلُهُ مَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَسْأَلُ رُفَقَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا إذَا أَرَادَ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِعُذْرِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْآجِرُ فَيَسْأَلُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ تَحَقَّقَ الْعُذْرُ فِي فَسْخِهَا.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً) قَالَ الرَّازِيّ وَهُوَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ (يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ) مِنْهَا (لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا) أَوْ يُضَيِّعُ حَقُّهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ يَعْنِي إمَّا عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِ الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ.
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ الْمُخَدَّرَةِ وَالْبَرْزَةِ، وَالْفَتْوَى عَلَى مَا اخْتَارُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ الرَّازِيّ ثُمَّ تَعْمِيمُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسَ إلَّا لِفَائِدَةِ أَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِتَفْرِيعِ ذَلِكَ وَتَبِعُوهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَدَّرَةِ عَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهَا الَّتِي لَا يَرَاهَا غَيْرُ الْمَحَارِمِ مِنْ الرِّجَالِ.
أَمَّا الَّتِي جَلِيَتْ عَلَى الْمِنَصَّةِ فَرَآهَا الرِّجَالُ لَا تَكُونُ مُخَدَّرَةً، وَلَيْسَ هَذَا بِحَقٍّ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الْمِنَصَّةِ فَقَدْ يَكُونُ عَادَةَ الْعَوَامّ تَفْعَلُهُ بِهَا وَالِدَتُهَا ثُمَّ لَمْ يَعْهَدْ لَهَا بُرُوزٌ وَمُخَالَطَةٌ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهَا بَلْ يَفْعَلُهُ غَيْرُهَا لَهَا (يَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا) لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا بِالْجَوَابِ تَضْيِيعُ حَقِّهَا، وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
ثُمَّ إذَا وَكَّلَتْ فَلَزِمَهَا يَمِينٌ بَعَثَ الْحَاكِمُ إلَيْهَا ثَلَاثَةً مِنْ الْعُدُولِ يَسْتَحْلِفُهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ عَلَى يَمِينِهَا أَوْ نُكُولِهَا.
وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ: إذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ مَرِيضًا أَوْ مُخَدَّرَةً وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُعْهَدْ لَهَا خُرُوجٌ إلَّا لِضَرُورَةٍ.
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْذُونًا بِالِاسْتِخْلَافِ بَعَثَ نَائِبًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعَثَ أَمِينًا وَشَاهِدَيْنِ يَعْرِفَانِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرِيضَ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى إقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ إنْكَارِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِيَنْقُلَاهُ إلَى الْقَاضِي، وَلَا بُدَّ لِلشَّهَادَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا شَهِدَا عَلَيْهِمَا قَالَ الْأَمِينُ وَكُلُّ مَنْ يَحْضُرُ مَعَ خَصْمِك مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَيَحْضُرُ وَكِيلُهُ وَيَشْهَدَانِ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ أَوْ نُكُولِهِ لِتُقَامَ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ الْوَكِيلِ.
وَلَوْ تَوَجَّهَ يَمِينٌ عَلَى أَحَدِهِمَا عَرَضَهُ الْأَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى الْحَلِفَ عَرَضَهُ ثَلَاثًا، فَإِذَا نَكَلَ أَمَرَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَحْضُرُ الْمَجْلِسَ لِيَشْهَدَا عَلَى نُكُولِهِ بِحَضْرَتِهِ، فَإِذَا شَهِدَا بِنُكُولِهِ حَكَمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى بِنُكُولِهِ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: هَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَثَرِ النُّكُولِ.
فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ فَشَرَطُوهُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ النُّكُولِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَمِينُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِالنُّكُولِ ثُمَّ يَنْقُلُهُ الشَّاهِدَانِ إلَى الْقَاضِي مَعَ وَكِيلِهِمَا فَيَمْضِيه الْقَاضِي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقول الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي أَتُرِيدُ حَكَمًا يَحْكُمُ بَيْنَكُمَا بِذَلِكَ ثِمَّةً؟ فَإِذَا رَضِيَ بَعَثَ أَمِينًا بِالتَّحْكِيمِ إلَى الْخَصْمِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَحَكَمَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ نَفَذَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ خِلَافٌ تَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ الْقَاضِي.
وَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِذَا أَمْضَاهُ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُوجِبُ لُزُومَ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ.
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَيْضُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَتْ طَالِبَةً قُبِلَ مِنْهَا التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، أَوْ مَطْلُوبَةً إنْ أَخَّرَهَا الطَّالِبُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْقَاضِي مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُقْبَلُ تَوْكِيلُهَا بِغَيْرِ رِضَا الطَّالِبِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَحْبُوسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، إنْ كَانَ فِي حَبْسِ هَذَا الْقَاضِي لَا يُقْبَلُ التَّوْكِيلُ بِلَا رِضَاهُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ لِيُخَاصِمَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْوَالِي وَلَا يُمَكِّنُهُ الْوَالِي مِنْ الْخُرُوجِ لِلْخُصُومَةِ يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلُ.

متن الهداية:
(قَالَ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِيُمَلِّكَهُ مَنْ غَيْرَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُ الْأَحْكَامُ) فَهَذَانِ شَرْطَانِ لِلْوَكَالَةِ فِي الْمُوَكِّلِ.
قِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْأَوَّلُ عَلَى قولهِمَا، أَمَّا عَلَى قولهِ فَلَا لِأَنَّهُ يُجِيزُ تَوْكِيلَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا وَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُهُ، بَلْ الشَّرْطُ عِنْدَهُ كَوْنُ الْوَكِيلِ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِهِ لِلتَّصَرُّفِ أَنْ تَكُونَ لَهُ وَلَا شَرْعِيَّةَ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُ لِذَلِكَ وَهُوَ خَطَأٌ إذْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِعَدَمِ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ إذَا وُكِّلَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يَعْقِلَ مَعْنَى الْبَيْعِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا إذَا قَالَ بِعْ هَذَا بِعَبْدٍ أَوْ اشْتَرِ لِي بِهِ عَبْدًا صَحَّ التَّوْكِيلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الْمُوَكِّلِ لِمِثْلِ هَذَا، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِعَبْدٍ أَوْ اشْتَرَيْت هَذَا مِنْك بِعَبْدٍ لَا يَجُوزُ.
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ التَّوْكِيلِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْجَهَالَةِ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ فِي الْمُبَاشَرَةِ لَا التَّوْكِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا لِذَاتِهَا، وَلِذَا لَمْ تُمْنَعْ فِي بَعْضِ الْبُيُوعِ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ حَاضِرٍ أَوْ شِرَائِهِ، وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ لَا تُفْضِي إلَيْهَا فِي التَّوْكِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لَازِمٍ، بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِلُزُومِهَا، ثُمَّ إذَا صَحَّ التَّوْكِيلُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الثُّمُنَ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قولهُ فَإِنْ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِنَا فِي شِرَاءِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيُّهُمَا شَاءَ يَصِحُّ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ الْهِدَايَةِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ قولهُ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوَكِّلِ يَمْلِكُهُ.
ثُمَّ قِيلَ: هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ تَصَرُّفًا وَهُوَ الْمِلْكُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقِيلَ بَلْ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَا يَمْلِكَانِهِ فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُمَا وَصَحَّحَ.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ صِحَّةُ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مِلْكَهُ شَرْطُ جَوَازِ تَمْلِيكِهِ لَا عِلَّتُهُ لِيَلْزَمَ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ فَجَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ كَمَا مَعَ فَقْدِ الْعِلَّةِ.

متن الهداية:
(وَ) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ (الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ) لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُشْتَرَطُ إلَى آخِرِهِ) مَا تَقَدَّمَ شَرْطُ الْوَكَالَةِ فِي الْمُوَكِّلِ وَهَذَا شَرْطُهَا فِي الْوَكِيلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، أَيْ يَعْقِلُ مَعْنَاهُ: أَيْ مَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ مِنْ أَنَّهُ سَالِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَالِبٌ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَسْلُبُ عَنْ الْبَائِعِ مِلْكَ الْمَبِيعِ وَيَجْلِبُ لَهُ مِلْكَ الْبَدَلِ وَفِي الْمُشْتَرِي قَلْبَهُمَا وَيَقْصِدُهُ لِفَائِدَتِهِ وَقول بَعْضِهِمْ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ احْتِرَازٌ عَنْ الْهَزْلِ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ شَرَطَ الْوَكَالَةَ أَنْ لَا يَهْزِلَ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَيْ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَكَوْنِ الْوَكِيلِ هَزَلَ فِي بَيْعٍ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْعٍ وَكَّلَ بِبَيْعِهِ غَايَتَهُ أَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ، وَخَرَجَ بِهِ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَالْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ أَحَدِهِمَا وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ، وَالْمُوَكِّلُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ وَعِبَارَتُهُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ يَعْقِلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ عَقْلِيَّةِ الْغَبَنِ الْفَاحِشِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي اشْتِرَاطُهُ.
نَعَمْ إنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ لَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ.
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْوَكِيلِ أَنْ يَتَعَرَّفَهُ قَبْلَ بَيْعِهِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ) لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ (وَإِنْ وَكَّلَا صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا جَازَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ وَيَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِمَا) لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ.
أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ كَمَا إذَا عَثَرَ عَلَى عَيْبٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ) وَأَطْلَقَ فِي الْمَأْذُونِ لِيَشْمَلَ كُلًّا مِنْ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونَيْنِ فِي التِّجَارَةِ لِاجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ وَهِيَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ التَّصَرُّفَ وَلُزُومَ الْأَحْكَامِ وَعَقْلِيَّةُ الْوَكِيلِ مَعْنَى الْعَقْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَقْلَ مَعَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَقْلِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ قولهُ مِثْلُهُمَا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلِهِمَا أَوْ أَعْلَى حَالًا مِنْهُمَا كَتَوْكِيلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ حُرًّا أَوْ دُونَهُمَا كَتَوْكِيلِ الْحُرِّ الْبَالِغِ عَبْدًا مَأْذُونًا.
قولهُ: (وَإِنْ وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ جَازَ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا بَلْ بِمُوَكِّلِهِمَا) هَذَا الْكَلَامُ لَهُ مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهُ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ (مِنْ أَنَّ الصَّبِيَّ) أَيْ الْعَاقِلَ (مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ) حَتَّى (نَفَذَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدُ) مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فِي (حَقِّ نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا) مِنْ الْمُوَكِّلِ (فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ، فَالصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ) وَيُعْرَفُ مِنْ كَوْنِ انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْعَبْدِ لِحَقِّ السَّيِّدِ أَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ بَعْدَ أَنْ بَاشَرَ الشِّرَاءَ لَزِمَتْهُ الْحُقُوقُ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لَوْ بَاشَرَ مَا وُكِّلَ بِهِ ثُمَّ بَلَغَ لَا تَرْجِعَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا مَفْهُومُهُ فَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَأْذُونًا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا تَعَلَّقَتْ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ ذَكَرَ فِيهِ تَفْصِيلًا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: إنْ كَانَ الْوَكِيلُ صَبِيًّا مَأْذُونًا، فَإِنْ وُكِّلَ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ فَبَاعَ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ أَوْ بِالشِّرَاءِ إنْ كَانَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَيُطَالِبُ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ الْآمِرُ لَا الصَّبِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ لَا ضَمَانُ ثَمَنٍ، لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرِي وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ إنَّمَا الْتَزَمَ مَا لَا عَلَى مُوَكِّلِهِ اسْتَوْجَبَ مِثْلُهُ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لَا ضَمَانُ كَفَالَةٍ.
وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنِ حَالٍّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْعُهْدَةُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ مِلْكًا حُكْمِيًّا فِي الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالثَّمَنِ عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ.
وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلٍ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَالْعَبْدُ إذَا تَوَكَّلَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَحْجُورَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ فَلِقَبْضِهِمَا الثَّمَنَ وَتَسْلِيمَهَا الْمَبِيعِ اعْتِبَارًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَقَالَ: وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضَ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنْ كَانَ الْمَأْذُونُ مُرْتَدًّا جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الْعُهْدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَعَلَى الْآمِرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ لِنَفْسِهِ بَيْعًا وَشِرَاءً، وَنَظِيرُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ الرَّسُولُ وَالْقَاضِي وَأَمِينُهُ.
قولهُ: (وَالْعَقْدُ).